شرح الموطأ -232- كتاب الجهاد: باب النَّهْيِ عن قتل النِّسَاء والوِلْدَان فِي الغَزْو

شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الجهاد، بَابُ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ فِي الْغَزْوِ.
فجر الأربعاء 3 محرم 1443هـ.
باب النَّهْي عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ فِي الْغَزْوِ
1292- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ ابْنٍ لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ -قَالَ: حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ- قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الَّذِينَ قَتَلُوا ابْنَ أبِي الْحُقَيْقِ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ، قَالَ: فَكَانَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يَقُولُ: بَرَّحَتْ بِنَا امْرَأَةُ ابْنِ أبِي الْحُقَيْقِ بِالصِّيَاحِ، فَأَرْفَعُ السَّيْفَ عَلَيْهَا، ثُمَّ أَذْكُرُ نَهْيَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَأَكُفُّ، وَلَوْلاَ ذَلِكَ اسْتَرَحْنَا مِنْهَا.
1293- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رَأَى فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ امْرَأَةً مَقْتُولَةً، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ وَنَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ.
1294- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ بَعَثَ جُيُوشاً إِلَى الشَّامِ، فَخَرَجَ يَمْشِي مَعَ يَزِيدَ بْنِ أبِي سُفْيَانَ -وَكَانَ أَمِيرَ رُبْعٍ مِنْ تِلْكَ الأَرْبَاعِ- فَزَعَمُوا أَنَّ يَزِيدَ قَالَ لأبِي بَكْرٍ: إِمَّا أَنْ تَرْكَبَ، وَإِمَّا أَنْ أَنْزِلَ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا أَنْتَ بِنَازِلٍ، وَمَا أَنَا بِرَاكِبٍ، إنِّي أَحْتَسِبُ خُطَايَ هَذِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: إِنَّكَ سَتَجِدُ قَوْماً زَعَمُوا أَنَّهُمْ حَبَّسُوا أَنْفُسَهُمْ لِلَّهِ، فَذَرْهُمْ وَمَا زَعَمُوا أَنَّهُمْ حَبَّسُوا أَنْفُسَهُمْ لَهُ، وَسَتَجِدُ قَوْماً فَحَصُوا عَنْ أَوْسَاطِ رُؤُوسِهِمْ مِنَ الشَّعَرِ، فَاضْرِبْ مَا فَحَصُوا عَنْهُ بِالسَّيْفِ، وَإِنِّي مُوصِيكَ بِعَشْرٍ: لاَ تَقْتُلَنَّ امْرَأَةً، وَلاَ صَبِيًّا، وَلاَ كَبِيراً هَرِماً وَلاَ تَقْطَعَنَّ شَجَراً مُثْمِراً، وَلاَ تُخَرِّبَنَّ عَامِراً، وَلاَ تَعْقِرَنَّ شَاةً وَلاَ بَعِيراً، إِلاَّ لِمَأْكُلَةٍ، وَلاَ تَحْرِقَنَّ نَحْلاً، وَلاَ تُفَرِّقَنَّهُ، وَلاَ تَغْلُلْ، وَلاَ تَجْبُنْ.
1295- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ إِلَى عَامِلٍ مِنْ عُمَّالِهِ: أَنَّهُ بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً يَقُولُ لَهُمُ: "اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ، فِي سَبِيلِ اللَّهِ، تُقَاتِلُونَ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، لاَ تَغُلُّوا، وَلاَ تَغْدِرُوا، وَلاَ تُمَثِّلُوا، وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيداً". وَقُلْ ذَلِكَ لِجِيُوشِكَ وَسَرَايَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَالسَّلاَمُ عَلَيْكَ.
نص الدرس مكتوب:
الحمد لله مُكْرِمِنا بالشريعة الغرَّاء وبيانها على لسان خير الورى. اللَّهم صلِّ وسلِّم وبارك وكرّم على عبدك المُصطفى سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله وأصحابه وأهل حضرة اقترابه من أحبابه، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين وآلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المُقربين وعلى جميع عبادك الصَّالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الرَّاحمين.
وبعدُ،
فيذكر سيِّدنا الإمام مالك -رضي الله عنه- هدي النَّبي ﷺ وأمرَه في شأن الجهاد والقتال فيما يتعلق بقتل النِّساء والصِّبيان، ويحدِّثنا أنه: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الَّذِينَ قَتَلُوا ابْنَ أبِي الْحُقَيْقِ"، وابن أبو الحُقيق؛ أحد اليهود الذين أوغلوا في معاداة النَّبي ﷺ، وعمل على تأليب العرب عليه ودعم المقاتلين له ﷺ، وحثّهم على قتاله، فكان بلغ من الأذى والعداوة مبلغًا حتى أن سادتنا الأنصار -عليهم الرِّضوان- لمّا وقر الإيمان في قلوبهم ووالوا الحق ورسوله صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم، كانوا قد يلعب بهم اليهود قبل الإسلام ويُغرون بينهم العداوة والبغضاء ويحملونهم على الحروب بينهم، فلمَّا ألَّف الله بين قلوبهم بالنَّبي مُحمَّد ﷺ وآمنوا بالله؛ صار حبّهم لله وبغضهم لله، مترقّين متحررين عن أدناس البشرية في غلوائها وفي غبشها، وفي خَبَثها وفي سوء إراداتها البشرية بهذه الصورة، إنما تقيم المحبة والبغضاء لشيءٍ من الأهواء والشهوات وما إلى ذلك، ولكن الأنبياء بعثهم الله تعالى يحررون الإنسان والبشر من أن يكون مستخدمًا لهواه أو لهوى غيره أو لشهوته أو لشهوة غيره من بني آدم ليكون عبدًا لله -تبارك وتعالى- محررًا عن العبودية لسواه.
فكانوا قبل الإسلام يوالي بعضهم بعض اليهود، والبعض الآخر يظهرون اليهود لهم أنهم هؤلاء مع هؤلاء، وهؤلاء مع هؤلاء، ويبطنون أن يتعاون كل من اليهود هؤلاء وهؤلاء على بعث الشِّقاق والعداوة بينهم، فكلمَّا رأوا أحدًا منهم تقوَّى على الآخر، قووا الآخر ليعيد عليه الكرّة ويؤذيه، ثم أعادوا الدّفع بالآخر وهكذا… وكانت لهم تلك الموالاة هؤلاء لهؤلاء، وهؤلاء لهؤلاء، الأوس مع هؤلاء، والخزرج مع هؤلاء، فلمَّا جاء الإسلام صار ولائهم لله -جلّ جلاله-، يحبون بحب الله ويعادون بعداوته مَن خالفه من خلقه.
فكان من جملة كبار المؤذين للنَّبي ﷺ والمعادين لله ورسوله، كعب بن الأشرف. وقتلت الأوس كعب بن الأشرف غيرة لدين الله، واستأذنت الخزرج الرَّسول ﷺ، فكَّرت مَن يشابه هذا في العداوة للنَّبي والإيذاء له، وبذل المال والجُهد لتأليب النَّاس لقتال النَّبي ﷺ، فذكروا: "ابْنَ أبِي الْحُقَيْقِ"، الذي كان يقال له أبا رافع بن أبي الحُقيق اليهودي، وكان له حصن وكان يؤلّب على النَّبي ﷺ، وكان ممّن جمع الأحزاب ودفعهم لقتال خير الخليقة سيِّدنا المُصطفى ﷺ، وجاء العشرة آلاف مقاتل، ولولا دفع الله -سبحانه وتعالى- لكانوا أرادوا استئصال النَّبي ومن معه من الصَّحابة في المدينة المنوَّرة (وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [التوبة:32]، وهزم الأحزاب وحده، جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه.
فكان هذا منهم، فأرادت أيضًا الخزرج أن تتقرب إلى الله، كما تقرّبت الأوس إلى الله بقتل كعب بن الأشرف، فأرادوا الخزرج أن يتقربوا أيضًا بصدّ هذا الذي كثُر أذاه وضرّه للإسلام وأهله، فاستأذنوا النَّبيّ ﷺ في قتله، وكان ممَن أمر بقتله لإظهاره العداوة وعمله على تهييج الحرب وجمع النَّاس للقتال، فأذِنَ لهم ﷺ وبعث رهطًا إلى أبي رافع، ودخل عليه عبد الله بن عتيق بيته ليلًا وهو نائم، وكان ذلك في سنة ست من الهجرة الشَّريفة، وقيل: في آخر سنة خمس. وذكر في الحديث أنه برَّحت بهم امرأة؛ يعني: أظهرت بصياحها؛ صاحت من أجل تستنجد، لمَّا رأت أهل السلاح دخلوا إلى بيت أبي الحُقيق أرادت أن تستنجد وتعلن للجيران ومَن يسمعها من يهود ليأتوا.. فقال: "بَرَّحَتْ بِنَا امْرَأَةُ" أحد الذين خرجوا لهذا القتال من الرَّهط الذين بعثهم النَّبي ﷺ، "بِالصِّيَاحِ"؛ يعني: أظهرت وأرادت كشفنا والاستنجاد علينا بواسطة صياحها، قال: "فَأَرْفَعُ السَّيْفَ عَلَيْهَا، ثُمَّ أَذْكُرُ نَهْيَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ"، نهيه عن قتل النِّساء وعن قتل الصِّبيان كذلك، فهذا من هديه في الجهاد ﷺ، كل ذلك ما لم تقاتل المرأة، فإن قاتلت قوتلت.
○ فإما إن كانت بمجرد الصِّياح ومجرد الحراسة أو مجرد مداواة مرضى ونحوه؛ فلا تُقتل، ولكن إذا قاتلت.
○ ومثلهم الصِّبيان إذا قووا على القتال وصاروا يقاتلون؛ فحينئذ دخلوا في دائرة القتال وصاروا حكمهم حكم الكبار إلا أنه ينبغي ما استُطيع تجنبهم ورد كيدهم بأسرٍ ونحوه فيكون لهم ذلك، إلا أن يتعين الأمر أو يفتكوا بالمؤمنين ويضر بهم؛ فحينئذ يقابلون بالمثل من القتال.
وإلا فإن الشَّريعة عظّمت حرمة النِّساء والأطفال وحرّمت قتلهم في الغزوات والجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى.
قال: "فَأَرْفَعُ السَّيْفَ عَلَيْهَا، ثُمَّ أَذْكُرُ نَهْيَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَأَكُفُّ، وَلَوْلاَ ذَلِكَ" لولا نهي النبي "اسْتَرَحْنَا مِنْهَا"؛ أي بقتلها، قتلناها ووقينا شرَّها وضُرَّها، وقاموا بمهمتهم وعادوا -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى-. فما أعجب حالهم بعد الايمان بالله! الذي عبَّر عنه سيِّدنا سعد بن معاذ يقول للنبي ﷺ: آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، فاقطع حبال مَن شئت، وواصل حبال مَن شئت، وحارب مَن شئت، وسالم مَن شئت، فإنما أمرنا تابع لأمرك. نحن حربٌ لمَن حاربت، وسِلمٌ لمَن سالمت. وانتهى كل الجاهلية والعصبية التي كانت عندهم إلى هذا الإيمان. وقال: لا مكان اليوم عندنا لشيء من العلائق مع أحد من الخلق ولا لأنظمتهم في العالم إلا أمر الله وأمر رسوله ﷺ، فقد أدركنا الحقيقة ورضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمُحمَّد نبيًا ﷺ، وعليهم رضوان ربِّنا جلّ جلاله، ورزقنا اللَّه محبتهم ومتابعتهم.
ثم أورد لنا الحديث الآخر في نفس الموضوع وأنه ﷺ "رَأَى فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ" قالوا: وكانت الغزوة غزوة الفتح كما يقول القسطلاني وغيره "امْرَأَةً مَقْتُولَةً، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ ﷺ"، وقال: ما كانت هذه تقاتل "وَنَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ."، فإذًا يتجنب كما اتفق الفقهاء أنه:
-
لا يجوز في الجهاد قتل النِّساء والصِّبيان والمجانين.
-
ومَن لا يقاتل مثل الرُّهبان الذين يعتزلون في الصَّوامع ولا يقاتلون فإنهم أيضًا لا يقتلون.
وإنما المراد بالجهاد الصَّد؛ الذين يصدون عن سبيل الله -تبارك وتعالى-، وإبعاد هؤلاء المعتقدين في طريق الله من المقاتلين، فبذلك جاءت مشروعية الجهاد في سبيل الله (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ) وفي قراءة: يُقاتِلَون (بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ) [الحج:39-40]. وهكذا مثله:
-
الشيخ الكبير بين المشركين شايب ما يقدر على القتال ولا يقاتل؛ فلا يُقتل ويتجنب قتله.
كذلك وهكذا نظام الحق والهدى الذي جاء به ﷺ، لن يجد البشر خيرًا لهم منه على ممرِّ القرون والعصور، فما عرف الحق الإنسانية ولا لبقية أجناس الوجود أحد كما عرفها الأنبياء والمرسلون وخاتمهم النَّبي ﷺ بتعريف الله تبارك وتعالى.
ومَن قاتل بعد ذلك سواءٌ من شيوخهم أو صبيانهم القادرين على القتال أو النِّساء، فالجمهور: إذا قاتلوا، أنهم يُقتلون أيضًا عند قتالهم وإيذائهم. فإذا لم يقوموا بالقتال؛ فلا يُقاتلون ولا يُقتل هؤلاء بل يُتجنبون. بل جاء في بعض الغزوات الأمر بالكفّ عن المُدبِر إذا قد أدبر وهرب؛ يُترك، فعُلِمَ المقصود الأعلى من هذا الجهاد والقيام به. وفي الحديث أيضًا أنه أرسل إلى خالد بن الوليد، وهذا يدل على أن الوقعة كانت أيضًا في غزوة الفتح، ونهاه عن قتل الصِّبيان والنِّساء.
وهكذا لم يزل الخُلفاء بعد ذلك يتناولون ويتناقلون وصية النَّبي ﷺ، فروى لنا: "أَنَّ أَبَا بَكْرٍ بَكْرٍ الصِّدِّيقَ بَعَثَ جُيُوشاً إِلَى الشَّامِ، فَخَرَجَ يَمْشِي مَعَ يَزِيدَ بْنِ أبِي سُفْيَانَ"، وكان هذا أفضل أولاد أبي سفيان، وخرج معه يشيّعه، وفيه: سنيّة تشييع الخارج إلى الغزو ومثله الخارج إلى الحج وسُبل البرّ. "وَكَانَ أَمِيرَ رُبْعٍ مِنْ تِلْكَ الأَرْبَاعِ"؛ وكان يزيد أمير ربع من تلك الأرباع التي أمّرها الصِّديق إلى الشَّام فإنه قد فُتح بعض الشَّام ففي أيام أبي بكر، ثم تم الفتح في أيام سيِّدنا عُمَر. "فَزَعَمُوا أَنَّ يَزِيدَ قَالَ لأبِي بَكْرٍ: إِمَّا أَنْ تَرْكَبَ، وَإِمَّا أَنْ أَنْزِلَ"؛ استحى أن يمشي راكبًا على الدَّابة وسيِّدنا أَبُو بَكْرٍ يمشي. "فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا أَنْتَ بِنَازِلٍ" يعني؛ ما أذن لك أن تنزل، "وَمَا أَنَا بِرَاكِبٍ، إنِّي أَحْتَسِبُ"، وفي لفظٍ: "أَحْتَسِبته"، يعني: أطلب الأجر عند الله تعالى وأقصد وجه الله. "خُطَايَ"؛ أي: بمشيي بخطاي "هَذِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ".
ولمَّا بعث النَّبي ﷺ سيدنا سعد بن معاذ إلى اليمن خرج يمشي في ظل راحلة معاذ، سيِّدنا معاذ راكب، ومشى معه قليلًا بل مشى معه ميلًا، كما جاء في رواية عند الإمام أحمد بن حنبل وعند ابن عساكر، أن النَّبي مشى مع سيِّدنا معاذ مسافة ميل، ومعاذ على الرَّاحلة ورسول الله ﷺ يمشي، فهو سيِّد المتواضعن ﷺ وسيِّد أهل الخُلق الكريم صلوات ربي وسلامه عليه.
وهكذا تُعطى البيانات والهدايات لمَن أراد أن يجاهد في سبيل -تبارك وتعالى-، وكيف يجاهد، وبذلك تعلم أن ما يسميه النَّاس في زماننا جهاد ليس قائمًا على أصلٍ صحيح ولا على منهاج قويم في اتباع سُنَّة ليس من الجهاد في شيء ولكن أهواء وأغراض لبلوغ مقاصد دُنيا عند الأطراف المختلفة.
فلمَّا تهيأ الجيش للخروج وعسكروا خارج البلاد، أتاهم سيِّدنا أبو بكر وصلَّى بهم الظُّهر ثم قام وحمد الله وأثنى عليه، قال: أنكم تنطلقون إلى أرض الشَّام وهي أرض شبعة قد وربّ الكعبة دخلتها مرّات. معنى شبعة؛ يعني: مُخصبة، فيها بساتين وأشجار وأنهار.. وإن الله ناصركم ومكَّن لكم حتى تتخذوا فيها مساجد، فلا يعلم الله إنكم تأتون تلهيًّا إلى آخر ما ذكر في وصيته، وذكر ما ذكر منه وأمره لهم أن لا يقتلوا امرأة ولا صبيًا. ثم قال له: "إِنَّكَ سَتَجِدُ قَوْماً زَعَمُوا أَنَّهُمْ حَبَّسُوا أَنْفُسَهُمْ لِلَّهِ"؛ يعني بهم الرُّهبان في صوامعهم، "فَذَرْهُمْ"؛ اتركهم، "وَمَا زَعَمُوا أَنَّهُمْ حَبَّسُوا أَنْفُسَهُمْ لَهُ". مع أنه ضلّ سعيهم؛ لأنهم قد بُعِث فيهم الرّسول ﷺ؛ وجب عليهم الإيمان به كما أخذ عليهم العهد سيِّدنا عيسى ابن مريم -عليه السَّلام- ولكن ما دام اعتزلوا في الصَّوامع يدَّعون العبادة، ويرون "أَنَّهُمْ حَبَّسُوا أَنْفُسَهُمْ لِلَّهِ" بزعمهم، فذرهم؛ اتركهم، وما زعموا أنفسهم له، فلا تشتغل بهم، ولا تقتل أحد منهم.
وهكذا قال الأئمة -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى-:
-
لا يُقتَل الرَّاهب في صومعته.
-
ولا أهل الكنائس الذين لا يخالطون النَّاس.
فإذا لم يكن لهم تشجيع وحث على هذا القتال ولم يرجع المقاتلين إليهم؛ فلا يُقتلون ولكنهم غيرهم. ولكن غيرهم قال: "وَسَتَجِدُ قَوْماً فَحَصُوا عَنْ أَوْسَاطِ رُؤُوسِهِمْ"؛ يعني: كشفوا عن أوساط رؤوسهم علامة أنهم علمائهم ولكنهم حاضرون معهم القتال يرجعون إليهم، وهؤلاء من رؤوس النَّصارى يسمّونهم الشمامسة يفعلون ذلك، يحلق وسط رأسه، كما قال: "فَحَصُوا عَنْ أَوْسَاطِ رُؤُوسِهِمْ مِنَ الشَّعَرِ، فَاضْرِبْ مَا فَحَصُوا عَنْهُ بِالسَّيْفِ"، لأنهم المرجع للمقاتلين وسبب حثّهم وتشجيعهم، واختلفوا عن أولئك الذين اعتزلوا النَّاس وحبَّسوا أنفسهم بما يزعمون من عبادة الله -تبارك وتعالى-. جاء في رواية: ستلقى أقوامًا قد حلقوا أوساط رؤوسهم، يسموهم الشمامسة من رؤوس النَّصارى يرجعون إليهم، ويتركون شعورًا كالعصائب يصدر النَّاس عن رأيهم في القتال، هؤلاء الصَّنف، وهم أئمة الكُفر كما قا تعالى: (فَقَـٰتِلُوۤا۟ أَىِٕمَّةَ ٱلۡكُفۡرِ إِنَّهُمۡ لَاۤ أَیۡمَـٰنَ لَهُمۡ لَعَلَّهُمۡ یَنتَهُونَ) [التوبة:12].
"وَإِنِّي مُوصِيكَ بِعَشْرٍ" خصال- "لاَ تَقْتُلَنَّ امْرَأَةً، وَلاَ صَبِيًّا، وَلاَ كَبِيراً هَرِماً"؛ يعني من بلغ من السِّن ما لا يطيق به القتال معك، "وَلاَ تَقْطَعَنَّ شَجَراً مُثْمِراً" فكل هذا في آداب القتال والهدي هدي المُصطفى ﷺ، "وَلاَ تُخَرِّبَنَّ عَامِراً" من البيوت والمساكن، "وَلاَ تَعْقِرَنَّ شَاةً وَلاَ بَعِيراً، إِلاَّ لِمَأْكُلَةٍ"؛ أن تنحره أو تذبحه للأكل نعم، أما تذبحه نكاية وقتل؛ فلا. "وَلاَ تَحْرِقَنَّ نَحْلاً" أو نخلًا، جاء في رواية بالخاء المُعجمة، وفي رواية بالحاء المهملة. "وَلاَ تُفَرِّقَنَّهُ، وَلاَ تَغْلُلْ"، وقوله: "وَلاَ تُفَرِّقَنَّهُ"، يؤكد رواية النّحل بالمهملة. "وَلاَ تَغْلُلْ"؛ يعني: ما تأخذ من الغنيمة شيء قبل القِسمة. "وَلاَ تَجْبُنْ"؛ تضعف وتتراخى عن واجب الإقدام في القتال. "وَلاَ تَجْبُنْ".
وروى لنا حديث: "عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ إِلَى عَامِلٍ مِنْ عُمَّالِهِ: أَنَّهُ بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً يَقُولُ لَهُمُ: اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ، فِي سَبِيلِ اللَّهِ، تُقَاتِلُونَ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، لاَ تَغُلُّوا، وَلاَ تَغْدِرُوا"، هذه أدبيات الجهاد والحرب. "وَلاَ تُمَثِّلُوا"، فالتمثيل محرَّم في الشَّريعة، وإن قاتلنا الحربيّون من الكُفَّار فظفرنا بأحدٍ منهم فلا نمثِّل ولكن نقتله. "وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيداً"؛ يعني: طفلًا صبيًا صغيرًا، ولا امرأة. "وَقُلْ ذَلِكَ لِجِيُوشِكَ وَسَرَايَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَالسَّلاَمُ عَلَيْكَ."؛ أي: هذا الكلام الأخير وقفه، ففيه:
-
اتباع هدي النَّبي ﷺ.
-
والسُّمو بمعاني الجهاد في سبيل الله، وأنه شأن مُقدّس عظيم، لا يتعلق بهوى النَّفس ولا بأغراضها.
-
وأنه تراعى في الحقوق والحدود.
فما أعظم منهج الرَّحمن وسُنَّة زين الوجود صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم.
أحيا الله فينا حقائق الجِّهاد على الوجه الذي يرضاه سبحانه، وكفَّ عنا أيدي الكُفَّار والفُجَّار والأشرار عنا وعن أهل لا إله إلا الله، وأصلح شؤوننا بما أصلح به شؤون الصَّالحين في لطفٍ وعافية وتمكين بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
16 مُحرَّم 1443