شرح الموطأ -231- كتاب الجهاد: باب التَّرغيب فِي الجِهَاد، وباب النهي عن أن يُسافَر بالقرآن إلى أرض العدوّ

شرح الموطأ -231- بَابُ التَّرْغِيبِ فِي الْجِهَادِ، من حديث عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ النَّاسِ مَنْزِلًا؟ رَجُلٌ آخِذٌ بِعِنَانِ فَرَسِهِ
للاستماع إلى الدرس

شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الجهاد، باب التَّرْغِيبِ فِي الْجِهَادِ.

فجر الثلاثاء 2 محرم 1443هـ.

 باب التَّرْغِيبِ فِي الْجِهَادِ

1288 – وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَعْمَرٍ الأَنْصَاري، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ النَّاسِ مَنْزِلاً؟ رَجُلٌ آخِذٌ بِعِنَانِ فَرَسِهِ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ النَّاسِ مَنْزِلاً بَعْدَهُ؟ رَجُلٌ مُعْتَزِلٌ فِي غُنَيْمَتِهِ، يُقِيمُ الصَّلاَةَ، وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَيَعْبُدُ اللَّهَ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً".

1289 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَادَةُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْيُسْرِ وَالْعُسْرِ، وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، وَأَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَه، وَأَنْ نَقُولَ أَوْ نَقُومَ بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا، لاَ نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ.

1290 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: كَتَبَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَذْكُرُ لَهُ جُمُوعاً مِنَ الرُّومِ، وَمَا يَتَخَوَّفُ مِنْهُمْ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ مَهْمَا يَنْزِلْ بِعَبْدٍ مُؤْمِنٍ مِنْ مُنْزَلِ شِدَّةٍ، يَجْعَلِ اللَّهُ بَعْدَهُ فَرَجاً، وَإِنَّهُ لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران:200].

 باب النَّهْىِ عَنْ أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ

1291 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ.

قَالَ مَالِكٌ: وَإِنَّمَا ذَلِكَ مَخَافَةَ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مكرمنا بشرائع الإسلام، وبيانها على لسان خير الأنام عبده المصطفى محمد، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أفضل الصلاة وأزكى السلام، وعلى من والاهم في الله وتابعهم بإحسان إلى يوم القيام، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، وآلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين، وعلى جميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين. 

أما بعدُ،

فيواصل سيدنا الإمام مالك -عليه رحمة الله تعالى- ذكر الأحاديث المتعلقة بالجهاد في سبيل الله، جعلنا الله وإياكم ممّن يجاهد في الله حق جهاده، وألحقنا بأولئك الصادقين المُخلصين ظاهرًا وباطنًا. 

وذكر الحديث -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ؛ فهو مرسل عن هذا التابعي، وجاء عند الترمذي عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنه- يقول: "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ النَّاسِ مَنْزِلاً؟"؛ أي: مرتبةً وقدرًا ومكانةً عند الله عز وجل. "أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ النَّاسِ مَنْزِلاً؟ رَجُلٌ آخِذٌ بِعِنَانِ فَرَسِهِ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ"؛ أي: من تفرّغ لإعلاء كلمة الله -تبارك وتعالى-، فبذل عمره، وقته وروحه، ونفسه وماله لتكون كلمة الله هي العليا، يقول: هذا بأعلى المنازل والدرجات عند الله، كما أخبرنا أنّ ذروة سنام هذا الدين الجهاد في سبيل الله، "رأسُ الأمرِ الإسلامُ، وعمودُهُ الصَّلاةُ، وذروةُ سَنامِهِ الجِهادُ" في سبيل الله، فهذا إذا صَحَّ له الجهاد -كما تقدّم معنا- مُخلصًا لإعلاء كلمة الله -جل جلاله وتعالى في علاه-، فهو من خير الأمة، ومن أفضل الأمة، ومن أهل أشرف المنازل عند الله تبارك وتعالى. 

"أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ النَّاسِ مَنْزِلاً بَعْدَهُ؟"؛ قال: ما وصل إلى هذه الدرجة، وما تفرَّغَ للجهاد والنُصرَة لله ولرسوله ﷺ في ميدان القتال لمن يحارب الدين، ويحارب الشرع المُطهَّر المَصون، فإذ لم يجاهد ولم يَقُمْ بهذا؛ فخير الناس بعده منزلًا:  "رَجُلٌ مُعْتَزِلٌ فِي غُنَيْمَتِهِ، يُقِيمُ الصَّلاَةَ، وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَيَعْبُدُ اللَّهَ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً"؛ وهي قفزة إلى هذا المعتزل، لأن الذين لا يقومون بحق الجهاد في سبيل الله -جل جلاله وتعالى في علاه-: 

  • إمّا أن يكونوا من المُعاونين للمجاهدين

  • أو الذابّين عنهم

  • أو المساعدين لهم بما تيسّر

 ويتمنّون أن يقوموا بحق العَدو؛ فهؤلاء يُلْحَقون بهم.

ولكن يبقى في الأمة من ليس مجاهد ولا يدع الناس من شرّه، كما جاء التصريح به في رواية للحديث: "رَجُلٌ مُعْتَزِلٌ في شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَعْبُدُ رَبَّهُ وَيَدَعُ النَّاسَ مِن شَرِّهِ."؛  فلا أنه مجاهد ولا معين للمجاهدين، ومع ذلك لا يسلم من كلامه لا المجاهدين ولا غير المجاهدين، ولا الصغار ولا الكبار، يُبَلْبِل ويهذي أعوذ باللهّ إيش هذه المصيبة! قال: يا ليتك إذا لم تكن في الجهاد اعتزلته وجلست وحدك، سَكتَّ وكفيت الناس شرَّك، لست بمجاهد ولا تركت حال المجاهدين ولا حال القائمين على الخير، وأيضًا تُبلبل وتتكلم! هذا من شرِّ المنازل عند الله -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، ومن أبعد الناس عن الله، لكن قال: إذا ما جاهدت على الأقل اعتزل؛ قم بعبادتك واكفِ الناس شرك، لا تتكلم على هذا ولا هذا ولا هذا، وهكذا.. 

كان في أيام قيام الأفغانيين بمحاربة الذين غزوهم من الروس في تلك الأيام، بعض قادتهم يقول: إنّا نسمع كلام من بعض الناس يقولون: ليس هناك جهاد في أفغانستان، إنما هو حرب بين ملحدين ومشركين! يعني المجاهدين مشركين وذولاك ملحدين، قال: اتقوا الله فينا، فإذا ما جاهدوا كُفّوا ألسنتكم عنا ولا تتكلمون هذا الكلام، اقعدوا في شعابكم واعبدوا الله ودَعُوا الناس في جهادهم، وقال: إنّ الضربة من الأخ المسلم ليست مثل الضربة من العدو، هذا يَشُقُّ علينا أكثر من أي شيء.. لا إله إلا الله! 

فيقول ﷺ: خير الناس منزلًا هذا الذي "آخِذٌ بِعِنَانِ فَرَسِهِ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ"، وهكذا كثير من الناس في أمور الجهاد وأمور الخير والإسلام كله؛ ما عنده هِمّة، ولا نيّة، ولا تفرّغ، لكن إذا تريد بلبلة؟ نعم، ويُنظِّر وكل يوم فكرة، وهؤلاء طالعين وهؤلاء نازلين، وهؤلاء نَقّصوا وهؤلاء قَصَّروا، وهؤلاء انحرفوا وهؤلاء طلعوا، وأنت إيش صلّحت؟ تعال اخرج، قُمْ جاهد، أَبدًا! وما هو حول الخروج ولا حول جهاد، حَول بلبلة، قلقلة وبهذلة -لا حول ولا قوة إلا بالله!- ضيّع عمره وضيّع وقته وآذى المسلمين -والعياذ بالله تبارك وتعالى- وهكذا.. 

قال بعضهم لبعض الذين يخرجون في الدعوة في سبيل الله، قال: لماذا قاعدين هنا؟ وهناك اليهود والذي يفعلونه بالمسلمين، وأنّ الجهاد كذا وكذا، قال له: صح كلامك، هذه الساعة أنا وإياك خارجين الآن بسم الله، يدي بيدك، قال: لا لا، اسكت إيش هذا الكلام؟!... حين قال له صحيح كلامك هيا نخرج، إذا هذا هو تصورك فلنذهب الآن أنا وأنت إلى فلسطين.. لكن كذاب، فقط يتكلم بلسانه ليؤذي الناس، وهكذا. 

قال: إذا ما كنت مجاهد ولا قائم بالخير، ولا داعي إلى الله ولا معلم، روح اعتزل واسكت ساكت، خذ لك شِعب وغنم ارعهنْ واجلس هناك بعيد عن الناس، لا تؤذي خلق الله، ولا تؤذي المسلمين، لا تشوش على أهل الدين، لا تشوش على العُبّاد، لا تشوش على طلبة العلم، وهذا لا هو عابد ولا طالب علم ولا مجاهد في سبيل الله وما أحد يَسْلَم منه، العلماء يتكلم عليهم، والمتعلمين يتكلم عليهم، والدُعاة يتكلم عليهم، وبعد ذلك؟ تريد الناس يفعلون ماذا؟ وتريد الناس أين؟ تريدهم مثلك أنت مبهذل؟ لا أنت في دين ولا في دنيا ولا في شيء! هكذا مصيبة يُصاب بها كثير من الناس -والعياذ بالله- فيكونوا ضارّين، ويكونوا مفسدين، ويقول: يا ليته كَفّ عن الناس شرّه كان نال خير كبير، بل لا قام بالجهاد ولا كفى الناس شرّه. 

قال: "أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ النَّاسِ مَنْزِلاً بَعْدَهُ؟ رَجُلٌ مُعْتَزِلٌ فِي غُنَيْمَتِهِ، يُقِيمُ الصَّلاَةَ، وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَيَعْبُدُ اللَّهَ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً"، وهكذا جاء عند الإمام الترمذي والإمام النسائي كما جاء عند الإمام مالك، عليه رضوان الله تبارك وتعالى. 

إذًا فالمجاهد في أفضل المنازل؛ لأدائه الفرائض وقيامه بنصرة الحق ورسوله، ثم هذا الذي يؤدي الفرائض ويجتنب المُحرَّمات ويَسْلَم المسلمون من تخذيله أو تكسيله، أو شرّه أو أذاه، أو سبِّه أو شتمه أو غيبته، ما يغتاب أحد، ما يؤذي أحد، ما يَضرُّ أحد، سالم.. هذا بعد المجاهدين في سبيل الله، بعد أهل الجهاد، وأما لا هو قائم بالخير ولا مجاهد ولا سَلِموا منه الناس، يؤذي ويَضُر ويسب ويشتم ويتكلم… هذا بِشَرِّ المنازل عند الله -والعياذ بالله تبارك وتعالى- وداخل في الثرثارين والفيهقين والمُتَشدِّقين بألسنتهم. 

ويذكر لنا بعد ذلك الحديث الذي بعده، يذكر سيدنا عبادة بن الصامت -عليه رضوان الله- قال: "بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ"؛ الانقياد لأمره والاتباع له، "فِي الْيُسْرِ وَالْعُسْرِ، وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ"؛ وأَمرٌ بايع عليه -انظر سادتنا الصحابة-، "وَأَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ"؛ المراد به هنا الحكم والسلطة، "وَأَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَه"؛ مَن تولّى على المسلمين لا عاد نظل ننصب له المنازعة ونفتح ثغرة على المسلمين، من تولى أمر المسلمين فالله حسيبه ورقيبه هو الذي سيحاسبه، والمسؤولية عليه، فما نفتح ثغرات على المسلمين نظل نقول فعل وترك… نزعزع أمن المسلمين واستقرارهم قال: "وَأَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَه"؛ كما صرَّح بعد ذلك في الأحاديث: ويكون أمراء تعرفونَ منهم وتُنكِرونَ، أفلا نناجزهم يا رسول الله؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، ويكون من الأمراء ما يكون، قالوا يا رسول الله: فما تأمرنا؟ قال: أعطوهم الذي لهم، وسلوا الله الذي لكم. وهو الأرشد ﷺ الأجود الأمجد الأشجع الأعرف بمصلحة العباد وخيرهم وحالهم مع الله تبارك وتعالى، فأرشد إلى ذلك. 

ثم ذكر ما يحصل في أمته من اختلاف وتنازع ومسابَّة ومقاتلة، قال: فما تأمرني يا رسول الله؟ قال: "الزمَ إمامَ المسلمين وجماعتهم، قال: فإن لم يكن جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزِلْ تِلْكَ الفِرَقَ كُلَّها، ولَو أنْ تَعَضَّ بأصلِ شجَرَةٍ حتى يُدْرِكَكَ الموتُ".

وأما هذا يأتي ويقول لك: تعال صلِّح، وتعال اعمل، وتعال فجِّر، وتعال كفِّر، وتعال زعزع الأمن هنا، وتعال اكذب على ذا، وكل واحد سيدعوك إلى شيء، قال: "فاعتزِلْ تِلْكَ الفِرَقَ كُلَّها" وكل واحد يدَّعي أنَّه في مصلحة الناس، وأنَّه في مصلحة الوطن، وأنَّه في نصرة المظلوم، وكله كلام… هرج ولا فيه شيء من الواقع ولا الحقيقة، صدق رسول الله ﷺ وقد نصح وبلَّغ، ولا أنصح منه صلى الله وسلم عليه وعلى آله، ولا خير للأمة إلا في الاهتداء بهديه، والاتباع له ﷺ.

قال: "وَأَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَه، وَأَنْ نَقُولَ أَوْ" قال: "نَقُومَ بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا، لاَ نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ"؛ نستقيم على منهج الرب، وننكر المنكر، ونحق الحق، ونفعل المعروف؛ لا نبالي بسبّ أحد ولا بشتم أحد ولا برضا أحد ولا بسخط أحد إذا عرفنا رضوان الواحد الأحد -جلَّ جلاله- وقَصَدنا وجه الكريم، اللهم ثبِّتنا على الحق فيما نقول وفيما نفعل وفيما نعتقد برحمتك يا أرحم الراحمين.

"وَأَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَه"، أي: يريد الإمارة، -سبحان الله- وكان من تقدير الحق أنَّ عامّة الإمارات ما جاءت حول سادتنا الأنصار، هؤلاء الذين يبايعون هم من الأنصار، فكانوا على ما عاهدهم عليه رسول الله ﷺ، ومع عدم منازعتنا الأمر أهله؛ لا نطيع الأمير ولا غيره في معصية الله، ولا في ظلم الخلق، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق جلَّ جلاله. 

"وَأَنْ نَقُولَ أَوْ نَقُومَ بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا، لاَ نَخَافُ فِي اللَّهِ"؛ يعني: في نصرة الله وإقامة أمره "لَوْمَةَ لاَئِمٍ." من الناس، لا نخاف شيئًا قط من لوم أحدٍ من اللّوام؛ هذا معناه؛ يعني: أن يُظهروا الحق بالقول والقيام به حيث ما أمكنهم، لا يخافون لومة اللائمين. قال تعالى: (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [المائدة:54].

ثم ذكر لنا كتاب سيدنا أبي عبيدة بن الجراح -رضي الله تعالى عنه، أحد العشر المبشرين بالجنة- "إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ" أيام إمارته "يَذْكُرُ لَهُ جُمُوعاً مِنَ الرُّومِ"؛ أي: إعدادًا للحرب من قِبَل الكفار من الروم، وما يُتخوّف من أمرهم على المسلمين ووضعهم من كثرة عددهم وعُدَدِهم، يستشير فيما يفعله لما فاجئ المسلمين من جموع الروم، وعِلمه ما يُتَّقى منهم، ويخاف من ضعف مسلمي الثغور عنهم. إذًا؛ فالتربص ومحاولة النيل من هذا الدين ومن هذه الشريعة قائم في عهد الخلفاء الراشدين، وفي عهد النبي ﷺ فيمن بعده إلى يومنا هذا، ولكن الله حامٍ وحارس دينه وحافظ له، والمخلصون الصادقون الراغبون فيما عند الله، العاملون على بصيرة وبيّنة هم الرابحون، على مختلف الأزمنة والأمكنة إلى يوم الدين.

 قال: "فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ مَهْمَا يَنْزِلْ بِعَبْدٍ مُؤْمِنٍ مِنْ مُنْزَلِ شِدَّةٍ، يَجْعَلِ اللَّهُ بَعْدَهُ فَرَجاً"؛ أي: إذا حدثتنا عن الشدة وعن تخوّفكم من جموع هؤلاء المحاربين من الكفار، فأخبرك: لله سنة في الحياة لا تتخلف، "مَهْمَا يَنْزِلْ بِعَبْدٍ مُؤْمِنٍ مِنْ مُنْزَلِ شِدَّةٍ، يَجْعَلِ اللَّهُ بَعْدَهُ فَرَجاً، وَإِنَّهُ لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران:200]."؛ أي: فكن كما أرشدك القرآن لا تَهَب تجمّع هؤلاء ولا ما عندهم من قوة، ولا تقصِّر فيما آتاك الله، واصبر وصابر ورابط، وانتظر فرج الله وتأييد الله ونصره سبحانه وتعالى.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا) على الطاعات والمصائب وعلى المعصية، (وَصَابِرُوا)؛ الكفار، فلا يكونوا أشد صبرًا منكم، لا تكونوا أضعف فيكونوا أشدَّ منكم صبرًا، فأنتم أحق بالصبر؛ لأنكم على الحق وترجون ما لا يرجون (وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ) [النساء:104]، (وَرَابِطُوا۟)؛ 

  • أصل المرابطة: يربط هؤلاء خيولهم، وهؤلاء خيولهم بحيث يكون كلٌ من الخصمين مستعد لقتال الآخر.

  • والمراد به أي: قوموا في الثغور لصد المعتدين والمشركين من الكافرين.

 (وَاتَّقُوا اللَّهَ) في جميع أحوالكم، (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). وهكذا ذكَّرهم سيدنا عمر بهذا الأمر، ولم يزل الأمر كذلك في مسلك الخلفاء الراشدين عليهم رضوان الله. 

وقبله أيضًا أيام سيدنا أبو بكر، قد كُتِب إليه في تجمّع بعض المشركين وإعدادهم لقتال المسلمين، فأجاب -عليه رضوان الله تبارك وتعالى- فكانت أجوبة مؤمنين موقنين بما وعد الله نبيّه من ظهور دينه على الدّين كله، وأنَّه ستُفتح عليهم ديار كسرى وقيصر كما أخبر خير البشر صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله.

وكان في إرشاده ﷺ: "لا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ العَدُوِّ، وسَلُوا اللَّهَ العَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا".

وهكذا جاء في كتابة عبدالله بن عمرو بن العاص لسيدنا أبو بكر الصديق، كتب إليه سيدنا أبو بكر بعد ذلك: "جاءني كتابك" يقول سيدنا أبو بكر: "تذكر ما جمعت الروم من الجمع" المناوئين من يسمونها على قول بعضهم دول كبرى، نحن ما نعرف دولة كبرى إلا دولة الحق ورسوله، ودولة الأنبياء والمرسلين هذه الدولة الكبرى عندنا، ليس في اعتقادنا أنَّ هناك دولة أكبر من هذه، كلها لعبة وسفسطة وضحك على عباد الله تعالى وانتهاك للحرمات، وقالوا دولة كبرى! فكان هؤلاء الروم في ذاك الوقت بهذه المثابة يجمعون الجموع، فكتب عبد الله بن عمرو بن العاص إلى سيدنا أبي بكر، فكتب إليه سيدنا أبو بكر يقول له: "فقد جاءني كتابك تذكر فيه ما جمعت الروم من الجمع، وإنَّ الله تعالى لم ينصرنا مع نبينا ﷺ بكثرة عدد، ولا بكثرة خيلٍ وسلاح، ولقد كنّا ببدرٍ وما معنا إلا فرسان، وإن نحن إلا نتعاقب الإبل" معهم سبعين بعير يتعاقبونه، ومنهم ثلاث مئة وبضعة عشر، ومعهم سبعين بعير يتعاقبون عليها للركوب عليها، -لا إله إلا الله!-، قال: "وكنا يوم أحد وما معنا إلا فرسٌ واحد وكان ﷺ يركبه، ولقد كان الله يظهرنا"؛ يعني: ينصرنا ويعيننا على من خالفنا "فاعلم يا عمرو"؛ يقول لعمرو بن العاص "أنَّ أطوع الناس لله أشدهم بغضًا للمعصية، وأنَّ من خاف الله رَدَعه خوفه عن كل ما لله تعالى من معصية، فأطِع الله تعالى، وسمِّ ومُر أصحابك بطاعته، فإنَّ المغبون من حُرِم طاعة الله، واحذر على أصحابك البيات، وإذا نزلت منزلًا فاستعمل على أصحابك أهل الجَلَد والقوة؛ -ليكونوا هم الذين يحرّضونهم ويحفظونهم- وقدِّم أمامك الطائع حتى يأتوا بالخير، وشاور أهل الرأي والتجربة، ولا تستَبِّدَ برأيك دونهم؛ فإنَّ في ذلك احتقارًا للناس ومعصيةً ومفارقةً، ولقد رأيت رسول الله ﷺ في الحرب، وإياك والاستهانة بأهل الفضل من أصحاب رسول الله ﷺ، وقد عرفنا وصية رسول الله ﷺ بالأنصار عند موته حين قال: "أحسنوا إلى محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم" وقرّبهم منك، وأدنُهم واستشرهم وأشركهم في أمرك، ولا يغب عني خبر كل يوم بما فيه إن قدرت على ذلك، وأشبع الناس في بيوتهم ولا تشبعهم عندك، وتُعاير أهل الرعاية والأحداث بالعقوبة من غير تعدٍّ عليهم، وليكن تقدمك إليهم في ما تنهى عنه قبل العقوبة، وتبرأ إلى أهل الذمة من معرّتهم، واعلم أنَّك مسؤول عمَّا أنت فيه، فالله الله يا عمرو فيما أوصيك به، جعلني الله وإياك من رفقاء محمد ﷺ في دار المقامة، وقد كتبت إلى خالد بن الوليد يمدّك بنفسه ومن معه فبه يُمدّ في الحرب، -بأمثال سيدنا خالد- وهو ممّن يعرف الله تعالى فلا يُجانف، وشاوره والسلام" 

هذا فكر الخلفاء الراشدين وتصوّرهم وهَدْيهم فيما خلّفه ﷺ في هذه الأمة، وهذه نظرتهم إلى الواقع والشؤون والحروب والدول وما إليها، هكذا خلّفهم ﷺ وعلى ذلك مضوا فأحسنوا المضيّ، ونصر الله بهم الدين، والله يرزقنا متابعتهم.

 

 باب النَّهْىِ عَنْ أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ

 

ثم يذكر لنا الحديث في النهي عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو حيث يُخاف أن يُمزّق أو يعتدى عليه أو يُلعَب به، فعند وجود شيءٍ من ذلك يُنهى عن الذهاب به إلى أرض العدو. حتى فرّق الحنفية:

  • بين أن يكون هناك جيشٌ قويّ يأمنون فيمكن أن يسافروا بالقرآن معهم.

  •  أو أن يكونوا جيش صغير يُخاف أن يُتسلط عليهم فلا يسافروا بالقرآن معهم،

كل هذا كان في الوقت الذي كان يخاف فيه على القرآن من أولئك، والآن انتشر القرآن في كل مكان، وفي كل دولة، وفي كل بلد وما يُخاف عليه منهم شيء، فبقيَ الحكم نفسه:

  • لا يجوز أن يُعَرَّض القرآن لإهانة، ولا لإضاعة، ولا لتمزيق، ولا لتَعَدٍّ عليه

  • وما عدا ذلك فهو على أمره، وعلى حاله في جواز السفر بالقرآن، أو تعليم القرآن ولو لغير المسلم إذا رُجِيَ تفهمه.

قال سبحانه وتعالى: (إِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ) [التوبة:6]؛ فما كان من باب التعليم وغيره فذلك أمرٌ مُرغّبٌ فيه في الإسلام؛ رجاء بيان الحقيقة للناس ودعوتهم إلى دين الله تبارك وتعالى.

  • وهكذا مال الإمام مالك في الوضع الذي كان يعيشه: أنَّه لا يُسَافر بالقرآن إلى أرض العدوِّ أصلًا، ولا يُعلَّمون القرآن والكتاب، وكره ذلك الإمام مالك وكل ذلك مِمَّا لا شكَّ أنَّه محله حيث لم يُرجَ الفائدة وتوضيح الحقيقة وإقامة الدعوة إلى الله تبارك وتعالى.

  • ويقول الإمام أبو حنيفة وغيره: لا بأس بتعليم الحربي والذمّي القرآن والفقه رجاء أن يرغبوا في الإسلام.

وهكذا من لمح مثل قوله: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) [التوبة:28]، و"لا يَمَسُّ القُرآنَ إلَّا طاهِرٌ" مال إلى تعظيم القرآن من حيث لا يُسلَّمه كافر ولا يُعلَّمه من ليس من أهل الطهر والإيمان. 

حتى كره الإمام مالك وغيره أن يُعطى الكافر دينار أو درهم فيه آية أو فيه سورة مكتوبة، كما كان يكتبون في الدراهم من سورة الإخلاص أو غيرها. واستدلّ آخرون بما سمعتَ (فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ) [التوبة:6] ومثل كتابه ﷺ إلى عدد من الكفار والمشركين منهم الروم، بقوله: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا) [آل عمران:64]، آية من القرآن وأرسلها في كتابه إليهم، إلى المشركين والكفار يدعوهم إلى الإيمان، صلى الله عليه وسلم وبارك عليه وعلى آله.

ملأنا الله بالإيمان واليقين، وجعلنا في الهداة المهتدين، ورقّانا أعلى مراتب التمكين في الصدق والإخلاص واليقين، والمعرفة والدلالة على الله، والدعوة إلى الله مع الإخلاص الكامل التام لوجه الله، والصدق مع الله، ووقانا الأسواء والأدواء وكل بلوى، وأصلح شؤون المسلمين في السِّرِّ والنجوى بِسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.

تاريخ النشر الهجري

16 مُحرَّم 1443

تاريخ النشر الميلادي

24 أغسطس 2021

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام