شرح الموطأ -230- كتاب الجهاد: باب التَّرغيب في الجِهاد

شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الجهاد، بَابُ التَّرْغِيبِ فِي الْجِهَادِ.
فجر السبت 28 ذي الحجة 1442هـ.
باب التَّرْغِيبِ فِي الْجِهَادِ
1285- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الدَّائِمِ، الَّذِي لا يَفْتُرُ مِنْ صَلاَةٍ وَلاَ صِيَامٍ حَتَّى يَرْجِعَ".
1286- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ، لاَ يُخْرِجُهُ مِنْ بَيْتِهِ إِلاَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ، وَتَصْدِيقُ كَلِمَاتِهِ، أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ يَرُدَّهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ، مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ".
1287- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "الْخَيْلُ لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ، فَأَمَّا الَّذِي هِيَ لَهُ أَجْرٌ، فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَطَالَ لَهَا فِي مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ، فَمَا أَصَابَتْ فِي طِيَلِهَا ذَلِكَ مِنَ الْمَرْجِ أَوِ الرَّوْضَةِ، كَانَ لَهُ حَسَنَاتٌ، وَلَوْ أَنَّهَا قَطَعَتْ طِيَلَهَا ذَلِكَ، فَاسْتَنَّتْ شَرَفاً أَوْ شَرَفَيْنِ، كَانَتْ آثَارُهَا وَأَرْوَاثُهَا حَسَنَاتٍ لَهُ، وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهَرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ، وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَ بِهِ، كَانَ ذَلِكَ لَهُ حَسَنَاتٍ، فَهِيَ لَهُ أَجْرٌ، وَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا وَتَعَفُّفاً، وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا وَلاَ فِي ظُهُورِهَا، فَهِيَ لِذَلِكَ سِتْرٌ، وَرَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْراً وَرِيَاءً وَنِوَاءً لأَهْلِ الإِسْلاَمِ، فَهِيَ عَلَى ذَلِكَ وِزْرٌ". وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنِ الْحُمُرِ، فَقَالَ: "لَمْ يَنْزِلْ عَلَىَّ فِيهَا شَىْءٌ إِلاَّ هَذِهِ الآيَةُ الْجَامِعَةُ الْفَاذَّةُ (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)" [الزلزلة:7-8].
نص الدرس مكتوب:
الحمد لله مُكْرِمِنا بالدّين المتين القويم، وبالشريعة الغرّاء والمنهج المستقيم، وبختم النُّبوة والرِّسالة الذي حَسُنَ وطاب وتمّ به التقويم والهداية والتعليم. اللَّهم صلّ وسلِّم وبارك وكرِّم على عبدك الصَّفوة من البرية سيِّدنا مُحمَّد ذي الخُلُق العظيم، وعلى آله وصحبه وأتباعهم من كل حَبر عليم ومجاهدٍ مستقيم، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين أُمناءك على دلالة عبادك على الصِّراط المستقيم وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المُقربين، وجميع عبادك الصَّالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الرَّاحمين.
أما بعدُ،
فيذكر الإمام مالك -عليه رضوان الله تبارك وتعالى- في الموطأ كتاب الجهاد. الجهاد؛ وهو بذل الجُهد للبلوغ إلى غاية، والغاية هَهُنا: إعلاء كلمة الله، ويندرج فيها معنى الوفاء بعهده الذي عاهدنا عليه، وأداءنا لحق العبودية لجلاله -جلّ جلاله وتعالى في عُلاه-، والقيام بحق المُبايعة التي قال عنها في كتابه: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة:111]، إلا أن الأوصاف للمُتحققين بحقائق الجهاد هي ما ذكره بقوله: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [التوبة:112]، اللَّهم اجعلنا من خواصِّهم بمحض فضلك.
والجهاد في سبيل الله: بذل الجُهد والجَهد؛ أي: بذل الطاقة واحتمال المشقّة. فالجَهد؛ المشقّة، والجُهد؛ الطاقة. بذل الطاقة واحتمال المشقّة في سبيل الله والوفاء بعهد الله وإعلاء كلمة الله، وتطبيق شريعة الرَّحمن -جلّ جلاله- في القلب والأعضاء، في النَّفس والأهل والولد، وفي المعاملات وفي كل شؤون الحياة، والعمل على نشر ذلك وبيانه وتبليغه للخلق، فذلك من أعظم أبواب الجهاد وهو الذي سمَّاه القرآن بالجهاد الكبير، وقال لنبيه ﷺ قبل الإذن بمشروعية الجهاد بالقتال للكُفَّار الصَّادين عن سبيل الله، قال له وهو بمكَّة المُكرَّمة: (وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) [الفرقان:52]، وجهاده الكبير بمكَّة لم يكن تكسير هيئات وأشكال الأصنام المنصوبة عند الكعبة المُشرَّفة وفي ربوع مكَّة المُكرَّمة ولكن تكسير معنى عبادتها من القلوب، بحسن البيان والمُصابرة والمُكابدة والصّبر على ما يُنازله من أذاهم وإعراضهم وسبّهم وشتمهم وما إلى ذلك، فقال الله له: (وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) فكان هذا الجهاد الكبير.
حتى خرج ﷺ إلى المدينة المنوَّرة، وتهيأ له من الأنصار والمهاجرين مَن يمكنهم الذَبّ عن دين الله ودفع الكُفَّار ومقاتلة المقاتلين منهم، فأُذِنَ لهم بهذا النوع من الجهاد وهو القتال في سبيل الله، وأنزل الله في السنة الثانية من الهجرة: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ)، وفي قراءة: (يُقَاتِلُون)، (بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ ) [الحج:39-40]، وابتدأ ﷺ ومَن معه يحاربوا ويقاتلوا مَن قاتله من الكفَّار الصَّادين عن سبيل الله، وجاء لذلك:
-
سبع وعشرون غزوة
-
وسبع وأربعون سرية
في مدة التسع السنوات التي ابتدأ فيها الإذن بالجهاد بالقتال.
وبذلك عَلِمنا مظاهر الجهاد في سبيل الله وأبوابه ومعانيه الواسعات حتى كان أبو الدّرداء -حكيم الأمة- يقول: مَن رأى أن الغدوّ إلى طلب العلم ليس بجهاد، فقد نقص في رأيه وعقله. قال: هذا ناقص الرأي والعقل إذا لم يعلم أن الغدو والمُبادرة والتبكير إلى طلب العلم ابتغاء وجه الله، ولأجل إقامة شرع الله في الأرض؛ جهاد.. إذا لم يعلم أنه جهاد، هذا ناقص في الرأي والعقل، بل هذا أساس من أسس الجهاد نص عليه ﷺ بقوله: "مَنْ خَرَجَ في طَلَبِ العِلْمِ فَهُوَ في سَبيلِ اللَّهِ حَتَّى يَرْجِعَ".
ولارتباط الجهاد وبقية شؤون العبادة بتزكية النَّفس وتحقق القلب بذكر الرَّحمن. سُئل ﷺ أيُّ المجاهدين أَعظَمُ أجرًا؟ فأجاب بقوله: "أَكثَرُهم للهِ ذِكرًا".. "أَكثَرُهم للهِ ذِكرًا"، والذين توطّن في قلوبهم ذكر الإله وعظمته، وذكر إحاطته بهم ومرجعهم إليه؛ هم أعظم الأُمة أجورًا في الصَّلوات إذا صلّوا، وفي الصَّدقات إذا تصدّقوا، وفي الصِّيام إذا صاموا، وفي الجهاد إذا جاهدوا في سبيل الله. "أكثرهم لله ذكرًا"، كما سمعنا في الأحاديث الصَّحيحة، وقد سُئل سيِّد الوجود ﷺ عن أيُّ المُصلّين أعظم أجرًا؟ فقال: "أكثرُهُم لله ذِكرًا"، فقيل: فأيُّ المُتصدقين أعظمُ أجرًا؟ قال: "أكثرُهُم لله ذِكرًا"، قيل: فَأَيُّ الصَّائِمِينَ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ قال: "أكثرُهُم لله ذِكرًا"، قِيل: فَأَيُّ الْمُجَاهِدِينَ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ قال: "أكثرُهُم لله ذِكرًا"، فقال سيِّدنا أبو بكر لسيِّدنا عُمَر: ذهَب الذَّاكِرون بخير الدُّنيا والآخرة، سمعه ﷺ قال: "أجل، ذهب الذَّاكِرون لله بخير الدُّنيا والآخرة". اللَّهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
-
قال الله عن المجاهدين: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ) [الأنفال:9].
-
وقال عن شؤون الجهاد: (وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَىٰ لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ ۗ) [النساء:102]. فكان مشروعية الصَّلاة ولو في أثناء الجهاد والقتل، وفسح الباب لأن يحرصوا على أن تكون صلاتهم خلف زين الوجود ﷺ، فقال: فليصلّوا معك، فليصلّوا معك، أمره بقسم الجيش أن يصلّوا معه طائفة ركعة ويكملوا ركعتهم وحدهم، وتأتي الطّائفة الأُخرى فيصلّوا معه الرّكعة الثانية، فتدرك الطّائفة الأولى معه التّحريم وتدرك الطّائفة الثانية معه التّسليم.
-
وهكذا قال تعالى في شأن صادقين مخلصين من الأُمم قبلنا جاهدوا في سبيل الله الصَّادين والمعاندين والمفسدين: (وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [آل عمران:147].
-
وقال في النتيجة لمَن انتهج هذا النَّهج الصَّحيح، جهاد يراد به وجه الحق ويقصد منه إعلاء كلمة الله، لا غرض فيه لسلطة ولا لحُكم، ولا لجمع مالٍ ولا لذكر بين النَّاس ولا لأي غرض آخر، قال: (فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ ۗ) [آل عمران:148].
-
وعبَّر عن صدق هؤلاء وعزائمهم، وأن الظروف والأحوال وإن اشتدت وضاقت بهن لا تُغيّر من عزمهم شيء، ولا تخفف من جدّهم وجهدهم شيء، قال: (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِين * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [آل عمران:146-147].
-
وقال عن عزمهم واعتمادهم عليه وحده: (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ) [البقرة:249-251].
-
وقال عن تعلُّقهم به وبكثرة ذكره: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) [آل عمران:173]، وقال عن النتيجة: (فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) [آل عمران:174].
-
وأكّد أن لا نسمح أن يحلّ في قلوبنا هيبة لغير ربنا، لا من تجمّع أقوام ولا من أسلحتهم ولا مما عندهم، فقال: (إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [آل عمران:175].
رزقنا الله خشيته ومحبته ومخافته ورجاؤه، وأكرمنا بمُواصلته وملاطفته وتأييده ونُصرته، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين.
وعندما شُرِع القتال من السنة الثانية من الهجرة، كان فريضة ماضية إلى يوم القيامة الجهاد بأنواعه؛ ومنه القتال في سبيل الله لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل. وكان فرض كفاية على المؤمنين والمسلمين، وعلى إمام المسلمين إن كان لهم إمام أو على ولاة أمورهم أن يبعثوا في كل عام مَن يدعو إلى الله -تبارك وتعالى-، ويقابل الذين يصدّون عن سبيل الله ويمنعون انتشار دين الله أو يقاتلون المُسلمين ويفسدون في الأرض، أو يعتدون على أراضي المُسلمين أو على أعراضهم أو على أموالهم أو على نفوسهم فيُقابلونهم ويُقاتلونهم لوجه الله -تبارك وتعالى-،
-
دعوة إلى الله وحرصًا على الإنقاذ من النَّار إلى الجنَّة ومن الكُفر إلى الإسلام
-
وردًا وصدًا للعدوان الأثيم الغاشم الظّالم؛ فصار فرض كفاية.
يصير فرض عين؛
○ على المتمكّن الذي يَنذُره ولا شيء بحكم الشَّرع يمنعه من ذلك.
○ أو عند مداهمة أعداء الله من أهل النُّفوس التي أولِعت بالظلم والمعاداة للحق وما جاء عنه سبحانه.
إذا داهموا بقعة من بقاع المُسلمين أو بلدة من بلاد المُسلمين، أو أرضًا من أراضي المُسلمين أو جماعة من جماعات المُسلمين، صار على تلك الجماعة وعلى تلك البلدة وذلك الموطن كل مَن فيها من القادرين على الجهاد -رجالًا ونساءً، صغارًا وكبارًا-؛ وجب عليهم الجهاد، وصار فرض عين عليهم أن يدفعوا ذلك العدوان، وذلك الظُّلم والطُّغيان. وينضاف إليهم مَن حواليهم؛
○ فيصير على مَن حولهم فرض كفاية وعليهم فرض عين.
○ وعلى من حواليهم فرض عين إلى أن يحصل ما يكفي لمقابلة أولئك المعتدين والظّالمين.
فهكذا حكم الجهاد فيما يتعلق بالقتال وهكذا سعة الجهاد في معانيه؛ فالصّادقون المخلصون السّاعون في منافع المُسلمين، وفي توطئة المجالات والنُّفوس لتطبيق شرع الله، مجاهدون في سبيل الله على درجاتٍ في نيّاتهم وفيما يُجري الله من المنافع على أيديهم.
أما مَن تفرَّغ لرد عدوان الكافرين وأخلص في قصد إعلاء كلمة الله؛ فهو بذلك التّفرغ وذلك البذل للجهد مُترقٍ ذُرى العبادة والطاعة، وذروة سنامه -أي الإسلام- الجهاد في سبيل الله، وهو الذي يجري عليه ثواب الصِّيام المستمر والقيام المستمر أبدًا، وهو يفطر وهو ينام ويُكتَب قائمًا صائمًا على مدى الأيام التي تفرّغ فيها لردّ عدوان أعداء الله، ولكفّهم عن الإفساد والإرجاف والصَّدّ عن سبيل الله -جلّ جلاله-، فيقول لنا ﷺ: "مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الدَّائِمِ، الَّذِي لا يَفْتُرُ مِنْ صَلاَةٍ وَلاَ صِيَامٍ حَتَّى يَرْجِعَ". فيُكتَب كذلك حتى يعود إلى بلده وإلى أهِله. فالمدّة التي قضاها في الجهاد في سبيل الله كلها مكتوبٌ له فيها دوام الصِّيام ودوام القيام وأفضل من ذلك حتى يعود إلى بيته وأهله.
○ وجاء في رواية مُسلم: "كَمَثَلِ الصَّائِمِ القَائِمِ القانتِ بآياتِ اللهِ لا يفتُرُ مِن صيامٍ ولا صلاة".
○ وجاء في سُنن النَّسائي: "الخاشع الراكع السّاجد".
○ وعندنا في الموطأ كما هو عند ابن حِبّان: "كَمَثَلِ الصَّائِمِ القَائِمِ الدائم الذي لا يفتُرُ من صلاة ولا صيام حتَّى يرجِعَ".
○ وعند الإمام أحمد والبزّار: "مثل المُجاهد في سبيل الله كمثل الصَّائم نهاره القائم ليله".
وهكذا الثواب لمَن جاهد في سبيل الله -تبارك وتعالى-. ومَن صدقت وخلصت نيته في حضور هذه الدروس أو التعليمات أو المجامع لنصرة الله؛ فيدخل من ميدان الجهاد من باب واسع، يشهد له نصوص السُّنّة الغرّاء والكتاب العزيز.
قال الإمام أحمد بن حنبل: لا أعلم شيئًا بعد الفرائض أفضل من الجهاد، وقال الذين يقاتلون العدو: هم الذين يدفعون عن الإسلام وعن حريمهم فأيُّ عمل أفضل منه، النَّاس آمنون وهم خائفون قد بذلوا مُهج أنفسهم، فبذلك اعتلى قدرهم عند الله تبارك وتعالى.
ويقول ﷺ كما روى الإمام مالك والبُخاري ومُسلم وغيرهم: "تَكَفَّلَ اللَّهُ"؛ أي: ضَمِن ربُّ العرش، وضمانة الحق فوق كل ضمان، ضمانة القويّ القادر الغني الملي. وجاء في لفظٍ: انتدب الله؛ تكفَّل الله؛ بمعنى: ضَمِن. وفي رواية لمسلم: "تضمَّن اللَّهُ"، لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ، لاَ يُخْرِجُهُ مِنْ بَيْتِهِ إِلاَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ"؛ في سبيل الله، مخلص القصد لا يريد غير وجه الله "إِلاَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ، وَتَصْدِيقُ كَلِمَاتِهِ"، تصديق كلام الله فيما أنزل على نبيه ﷺ، بماذا ضمِن الله وانتدب وتكفَّل له؟ ضمِن وتكفَّل وانتدب له: "أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ يَرُدَّهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ، مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ". فهو فائز رابح في كلا الخصلتين:
-
إن قُتل فإلى الجنَّة وله الشَّهادة والسَّعادة
-
وإن عاد عاد بما نال من أجر وغنيمة
كما قال الله في كتابه: (وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) مخلص في سبيل الله (فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء:74]؛ النَّجاح مضمون؛ الرّبح مضمون في أي حال، (فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ) كله سواء (فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا). وأعظم بأجرٍ يقول العظيم أنه عظيم! (فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا). اللَّهم حققنا بحقائق الجهاد في سبيلك على ما هو لك ولرسولك أرضى وأحب، ولنا عندك وعنده أحظى وأكرم وأطيب، وما هو للمؤمنين أنفع وأجمع وأجمل وأرحب، برحمتك يا أرحم الرَّاحمين.
"أَوْ يَرُدَّهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ، مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ" وبيّن القرآن فضل هذا الجهاد، والفرق الكبير بين مَن قام به وبين من تكاسل وتخاذل ممَن لم يكن الجهاد عليه فرض عين، فقال: (لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) غير أولي الضرر: الأعمى، أو الذي لا يستطيع أن يتحرك أو المريض… (وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ۚ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً ۚ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ)؛ هؤلاء الذين تخلّفوا والذين جاهدوا (وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً ۚوَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) [النساء:95-96].
وهكذا جاءنا أيضًا في الحديث فيما يتعلق بالخيل، وكان من أكبر وأهم الوسائل للجهاد في سبيل الله تعالى ولا تزال يُحتاج إليها الجيوش في العالمين، فيربي من يربي منهم الخيول لبعض الظروف والأحوال والأماكن، يُستعمل فيها هذا الخيل الذي قال عنه ﷺ: "الخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الخَيْرُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ". ولمَّا كانت من العدّة المهمة في الجهاد في سبيل الله، ذكر مَن سخّر شيئًا من خيله لأجل الله تعالى، قال: "الْخَيْلُ لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ".
وهكذا في بقية العُدد سواءً من الأسلحة وغيرها من الوسائل التي يمتلكها النَّاس، تكون لبعض النَّاس أجر، ولبعض النَّاس ستر، وعلى بعض النَّاس وزر. حتى ديارنا، حتى ثيابنا، حتى طعامنا وشرابنا، هو لبعض النَّاس أجر ولبعض النَّاس ستر وعلى بعض النَّاس وزر. حتى زواجاتنا، حتى سياراتنا ودراجاتنا، لبعض النَّاس أجر ولبعض النَّاس ستر وعلى بعض النَّاس وزر، وهكذا مختلف الشؤون.
وبيّن لنا ﷺ، فقال عن الخيل: "فَأَمَّا الَّذِي هِيَ لَهُ أَجْرٌ، فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ"؛ أعدّها من أجل أن ينتفع بها المجاهدون في سبيل الله ويستعملونها في إعلاء كلمة الله، "فَأَطَالَ لَهَا"؛ يعني: الرابط، حبلها الذي ربطها به، "فِي مَرْجٍ"، "فَأَطَالَ لَهَا فِي مَرْجٍ"؛ يعني: في مرعى ترعى فيه، "أَوْ رَوْضَةٍ"؛ بستان ومكان تأكل فيه. "فَمَا أَصَابَتْ"؛ أي: ما أكلت ما دام رابطها من أجل الجهاد. ما أصابت؛ أكلت من العشب والزرع وشربت "فِي طِيَلِهَا"؛ يعني: الحبل الذي ربطها به. "فَمَا أَصَابَتْ فِي طِيَلِهَا ذَلِكَ مِنَ الْمَرْجِ أَوِ الرَّوْضَةِ، كَانَ لَهُ حَسَنَاتٌ"، وأجر يوم القيامة. "وَلَوْ أَنَّهَا قَطَعَتْ طِيَلَهَا"؛ هذا الحبل الذي ربطت به "ذَلِكَ؛ فَاسْتَنَّتْ". "فَاسْتَنَّتْ"؛ يعني: ترفع يديها وتطرحها. "فَاسْتَنَّتْ شَرَفاً أَوْ شَرَفَيْنِ"؛ يعني: ارتفعت في مكان يقال له شرف، "كَانَتْ آثَارُهَا وَأَرْوَاثُهَا حَسَنَاتٍ لَهُ، وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهَرٍ"، يقال: نَهْر ونَهَر، "فَشَرِبَتْ مِنْهُ، وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَ بِهِ، كَانَ ذَلِكَ لَهُ حَسَنَاتٍ، فَهِيَ لَهُ أَجْرٌ". وكذلك مَن أعدّ زاده أو نفقته أو سيارته أو بيته أو ثيابه لأجل أن يستر بها عورته، ولأجل أن يصلّي فيها، ولأجل أن يُظهر بها نعمة الله عليه؛ هي له أجر.
وآخر له سِتر "وَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا"؛ يعني: استغناءً عن النَّاس "وَتَعَفُّفاً وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا وَلاَ فِي ظُهُورِهَا"؛ استدل به الإمام أبو حنيفة على وجوب الزَّكاة في الخيل. وقال جماهير العلماء: ليس المراد به وجوب الزَّكاة، وتأوّلوا هذا الحديث أن المراد؛ أن يجاهد بها وقت الجهاد، ما يقول أنا أعددتها للجهاد، وإذا جاء وقت الجهاد يبخل بذا ويؤخر هذا، لكن لم ينس حق الله في لا رقابها ولا في ظهورها؛ فهي لذلك ستر. وكذلك مَن كان عنده دراجة أو سيارة أو بيت أو ثياب يعدها للاستغناء والعفاف والكفاف ولئلا يمد يديه لأحد من الخلق ويقضي بها حاجته ولا ينسى حق الله فيها، إذا وقف على يديه المضطر أو المحتاج أعانه؛ فهذا له سَتر. وأما الذي من البداية إنما أعدها ليرضي بها ربه وليُصلي فيها وليُتصدّق منها؛ فهذا له أجر.
ولكن الثالث تكون عليه وزر، حتى لو كانت خيلًا وغير الخيل كذلك "رَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْراً وَرِيَاءً"؛ لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! يصفصف الموضات حقه ويريد يكون أحسن من فلان، ويريد أن يظهر في المجلس الفلاني، ويكون أحسن من آل فلان، وعيال فلان، لا حول ولا قوة إلا بالله!! يا خسيس القصد، ويا خسيس الوجهة، ويا ضيّق الفكر، ما هذا اللعب؟ كل واحد يجيء له بخرقة يتفاخر الثاني ويشوف نفسه أحسن بها! روحوا لبّسوها الحمير.. ما تتغير! وإذا أنت طبعك حمار، مهما لبست أنت حمار، ما يفيدك اللباس شيء... وهكذا يقول: مَن لبس ثوب شُهرة في الدُّنيا، كان حقًا على الله أن يُذله على رؤوس الأشهاد يوم القيامة.
والفخر ليس بالحرير والذّهب *** ولا بلبس سندسٍ ولا قصب
ففي نساء الفُرس والنّصارى *** من الحُليّ ما غلا مقدارًا
وكله فانٍ وإن جاء الأجل *** أفضَت إلى ما قدّمت من العمل
فالاقتداء بالبَتول الزّهراء *** وأمهات المؤمنين أحرى
ومَن عنده درّاجة، قيل له: إيش معك فيها؟ قال: شوفوها أحسن من آل فلان… ويخلي لها صوت، يزعج خلق الله، يمشي في الشوارع… يا مجنون! هذا عليه وزر، كلها إثم، ولا له حقيقة فائدة، أبله من البلهان صدّق العميان، وراح يمشي وراء استحسان ما هو قبيح عند الرَّحمن! ازعاج النَّاس صار عنده حَسَن.. إيذاء المسلمين في طريقهم عنده حَسَن.. التّفاخُر والتّكاثُر عنده حَسَن وهو مذموم! (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ) [التكاثر:1-2]. قال: "وَرَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْراً وَرِيَاءً وَنِوَاءً لأَهْلِ الإِسْلاَمِ" إيذاء للمسلمين، "فَهِيَ عَلَى ذَلِكَ وِزْرٌ".
ولمَّا ذكَر الأجر الكبير في إعداد الخيل من أجل الجهاد في سبيل الله، سأل بعضهم رسول الله لو واحد ما عنده خيل لكن شيء من الدّواب مثل الحمار، يعدّه من أجل أيضًا يساعد يحمل شيء، ويحمل أحد يخرج إلى الجهاد أو يحمل شيء من متاعهم. "وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنِ الْحُمُرِ"؛ فبيّن أصلًا من أصول الشرع، كان لم ينزل عليه شيء بخصوص الحُمُر ولكن الحُمُر والبقر والإبل وغيرها من الوسائل قد نزل فيها حكم عام، وفي هذا:
-
تبيان عموم الخير وأنه لا يتقيد بشيء مخصوص إذا دخل تحت دائرة الطاعة والعبادة.
-
وفي هذا ردٌ على من أخطأوا في مفهوم البدعة ومفهوم السُّنَّة.
"فَقَالَ: لَمْ يَنْزِلْ عَلَىَّ في الحُمُر فِيهَا شَىْءٌ إِلاَّ هَذِهِ الآيَةُ الْجَامِعَةُ الْفَاذَّةُ"،
-
الجامعة: لجميع أنواع الخير والشر.
-
والفاذَّة: المنفردة في معناها المتميزة.
"(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)" [الزلزلة:7-8]. فلا تقول حمار ولا بقرة ولا شاة،… كل صغير وكبير، تُسخّره للخير وتُريد به نصر الله، وتريد به نفع عباد الله، أبشر، تُريد شيء ثاني أنت وما نويت.. "(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)"، فبيّن أن هَذِهِ الآيَةُ الْجَامِعَةُ الْفَاذَّةُ وأن كل ما دخل تحت دائرة الخير داخل فيها، فلا ينبغي أن يجيء واحد يحصّل واحد يذكُر أو يعمل شيء من مجامع الخير يقول له: هذا بِدعة، وهذا ضلال، وهذا زيغ، ربك، قال: (فَمَن يَعمَل مِثقالَ ذَرَّةٍ خَيرًا يَرَهُ)، يا أخي إذا أنا قَرأت قرآن أو ذكرت الرَّحمن أو أطعمت طعام تجيء أنت توصلنا للنار وتهددنا بالعذاب؟! خيرات عملتها لوجه الله يا هذا! إيش المفهوم حقك هذا؟! يقول: لم يَرد، ما ورد هذا! والآية هذه قدام عينك أو راحت فين منك؟! إيش هذا الذي ما وَرَد؟! ما وَرَد هو أنك تقول بغير عِلم، كلامك هذا هو الذي ما وَرَد! لا ما وَرَد أن تفعل الخير! (وَافعَلُوا الخَيرَ لَعَلَّكُم تُفلِحونَ) [الحج:77]. الخير وَرَد، إنما كلامك هذا الكذب والتطاول والقول بغير علم، هو الذي ما وَرَد.. (وَلَا تَقولوا لِما تَصِفُ أَلسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ) [النحل:116]. فعلك هذا الذي ما ورد، هو الذي يُخالف، هذا المُنكر! ليس المُنكر واحد ذكر ربه، أو صلى على نبيه أو تصدق بصدقة، هذا وَرَد، كيف ما وَرَد؟! أما ترى: (يآأيُها الذين آمنوا صَلوا عليه وسلِمُوا تَسليماً) [الأحزاب:56]. أما ترى: (يآأيُها الذين آمنوا ٱذكُروا الله ذِكراً كثيراً وسبحوه بُكرةً وأصيلاً) [الأحزاب:41]. قال: ما وَرد! إيش نصلح بك يا أبله؟ هذه الواردات وردت في هذا، ولكن هذا المصيبة، هذا التطاول الذي ما ورد! والقول بغير علم هذا الذي ما وَرد! …(وَلَا تَقولوا لِما تَصِفُ أَلسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ) وقال سبحانه وتعالى: (وَلا تَقفُ ما لَيسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ إِنَّ السَّمعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنهُ مَسئولًا) [الإسراء:36]. وذكر لنا أحاديث متعلقة بالموضوع، تأتي معنا إن شاء الله.
ألحقنا الله بالمُجاهدين في سبيله، ورَزقنا الصِّدق والإخلاص في طلب العلم وفي العمل به وفي تعليمه، ورزقنا الجهاد في سبيله بنيّاتنا ومقاصِدنا وثيابنا وطعامنا وشرابنا ومساكِننا، وجميع أموالنا وما يسّره لنا. اللَّهم ارزقنا الوفاء بعهدك، والصِّدق معك، والظَّفر بمحبتك وودك في خيرٍ ولطفٍ وعافية بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
12 مُحرَّم 1443