شرح الموطأ - 23 - كتاب الطهارة، باب العمل فيمن غَلبه الدَّمُ من جُرحٍ أو رُعافٍ، وباب الوضوء من المذي، وباب الرخصة في ترك الوضوء من المذي

شرح الموطأ - 23 - كتاب الطهارة، باب العمل فيمن غَلبه الدَّمُ من جُرحٍ أو رُعافٍ، من حديث هشام بن عروة عن أبيه أن المِسْوَر بن مَخْرمةَ أخبره أنه دخل على عمر..)
للاستماع إلى الدرس

شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الطهارة، باب العمل فيمن غَلبه الدَّمُ من جُرحٍ أو رُعافٍ، وباب الْوُضُوءِ مِنَ الْمَذْي، وباب الرُّخْصَةِ فِي تَرْكِ الْوُضُوءِ مِنَ الْمَذْيِ.

فجر الأحد 28 ذي القعدة 1441هـ.

باب الْعَمَلِ فِيمَنْ غَلَبَهُ الدَّمُ مِنْ جُرْحٍ أَوْ رُعَافٍ

95 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ أَخْبَرَهُ : أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مِنَ اللَّيْلَةِ الَّتِي طُعِنَ فِيهَا، فَأَيْقَظَ عُمَرَ لِصَلاَةِ الصُّبْحِ، فَقَالَ عُمَرُ : نَعَمْ وَلاَ حَظَّ فِي الإِسْلاَمِ لِمَنْ تَرَكَ الصَّلاَةَ. فَصَلَّى عُمَرُ وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ دَماً.

96 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ قَالَ : مَا تَرَوْنَ فِيمَنْ غَلَبَهُ الدَّمُ مِنْ رُعَافٍ فَلَمْ يَنْقَطِعْ عَنْهُ ؟ قَالَ مَالِكٌ : قَالَ يَحْيَى : بْنُ سَعِيدٍ، ثُمَّ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ : أَرَى أَنْ يُومِئَ بِرَأْسِهِ إِيمَاءً.

قَالَ يَحْيَى : قَالَ مَالِكٌ : وَذَلِكَ أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ.

باب الْوُضُوءِ مِنَ الْمَذْي

97- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ الْمِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَدِ، أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أبِي طَالِبٍ أَمَرَهُ أَنْ يَسْأَلَ لَهُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنِ الرَّجُلِ إِذَا دَنَا مِنْ أَهْلِهِ، فَخَرَجَ مِنْهُ الْمَذْي مَاذَا عَلَيْهِ، قَالَ عَلِيٌّ: فَإِنَّ عِنْدِي ابْنَةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَأَنَا أَسْتَحِي أَنْ أَسْأَلَهُ. قَالَ الْمِقْدَادُ : فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: "إِذَا وَجَدَ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَنْضَحْ فَرْجَهُ بِالْمَاءِ وَلْيَتَوَضَّأْ وُضُوءَهُ لِلصَّلاَةِ".

98 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: إنِّي لأَجِدُهُ يَنْحَدِرُ مِنِّي مِثْلَ الْخُرَيْزَةِ، فَإِذَا وَجَدَ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَغْسِلْ ذَكَرَهُ وَلْيَتَوَضَّأْ وُضُوءَهُ لِلصَّلاَةِ. يَعْنِى الْمَذْيَ.

99 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ جُنْدَبٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَيَّاشٍ، أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ عَنِ الْمَذْيِ، فَقَالَ: إِذَا وَجَدْتَهُ فَاغْسِلْ فَرْجَكَ وَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلاَةِ.

باب الرُّخْصَةِ فِي تَرْكِ الْوُضُوءِ مِنَ الْمَذْيِ

100 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّهُ سَمِعَهُ وَرَجُلٌ يَسْأَلُهُ فَقَالَ: إنِّي لأَجِدُ الْبَلَلَ وَأَنَا أُصَلِّي، أَفَأَنْصَرِفُ؟ فَقَالَ لَهُ سَعِيدٌ: لَوْ سَالَ عَلَى فَخِذِي مَا انْصَرَفْتُ حَتَّى أَقْضِيَ صَلاَتِي.

101 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الصَّلْتِ بْنِ زُيَيْدٍ، أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ عَنِ الْبَلَلِ أَجِدُهُ، فَقَالَ: انْضَحْ مَا تَحْتَ ثَوْبِكَ بِالْمَاءِ وَالْهُ عَنْهُ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمدُ لله مُكرِمِنا بشريعته، وبيَانها على لسان خير بريته، مُختاره وصفوته سيِّدنا مُحمَّد بن عبد الله صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم عليه، وعلى آله وصحبه وأُمَته، وعلى آبائه وإخوانه مِنَ الأنبياء والمُرسلين، أهلُ اختصاص الحقِّ -تبارك وتعالى- وخيرته، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المُقربين، وجميع عِباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم، إنَّهُ أكرمُ الأكرمين وأرحمُ الراحمين.

وبعدُ، 

فيواصِل سيَّدنا الإمام مالك -عليه رحمة الله- ذِكرَ الأحاديث المُتعلِّقة بالوضوء والطهارة في الصَّلاة، ويقول: "بابُ العمل في مَنْ غلبه الدَّمُ مِنْ جُرحٍ أو رُعاف"، وخرج عنْ حدِّ اختياره فيكون معذورًا بخروج ذلك الدَّم وهو يُصلي. وحينئذٍ لا يَنتقِضُ الوضوء عند الحنفية بهذا الدَّم السائل، وهم القائلون بانتقاض الوضوء مِنْ كلِّ دَّم يسيل مِنْ بَدن الإنسان؛ ولكنْ إذا كان ذلك السَيلان مُستمر، ومِنْ دون اختياره، ويخرج وقت الصَّلاة قبل أنْ يرقأ الدَّم وقبل أنْ يَمتسك، فحينئذٍ فيُصلي على ما هو عليه. والدَّم نَجس كذلك عند عامة أهل العلم والفقه.

ويقول في رواية هذا الحديث عنْ "الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ: أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رضي الله تبارك وتعالى عنه- مِنَ اللَّيْلَةِ الَّتِي طُعِنَ فِيهَا"، أي: صباح اللَّيلة التي طُعِنَ فيها، فإنَّه -عليه رِضوان الله- قام فكبَّر بالصَّلاة -صلاة الصُبح- فطَعَنَه أبو لؤلؤة -المشتَهر بالمَجوسي، وقيل النَصراني، وقيل اليهودي-، وعلى كُلٍ، فلمَّا سُأل عنه وأخبر به، ليس معه لا إله إلا الله يُحاججُني بها يوم القيامة، يُحاججُني بها عند الله -تبارك وتعالى-. ويقول: دخل عليه مَنْ الليلة، فإنَّه بعد أنْ طُعِنَ، وأخذ يَطعَنُه أبو لؤلؤة مِنْ حواليه، فألقى بعضُهم عليه حَصيرًا، وأمسكوا به، وأخذوه، ثُمَّ ذهبوا بسيِّدنا عُمَر بن الخطَّاب إلى منزله، واستخلف في الصَّلاة سيِّدنا عبد الرحمن بن عَوف، فأمَّ النَّاس وكمَّل بِهم الصَّلاة.

 وفي هذا يقول: إذا الإمام أحدث في صلاته أو حصل له شيء في الصَّلاة، جاز له أنْ يستخلِف. وهو كذلك عند الأئمة الثلاثة: إذا أحدث في صلاته أو طرأ له طارئ، فيستخلف أحدًا يُصلي مِنْ وراءه، بدله يُصلي بالنَّاس. فاستخلف سيِّدنا عبدُ الرَّحمن بن عَوف، وأكمل الصَّلاة، وحُمِل إلى المنزل، فأغُشي عليه، فلم يزل مَغشيًا عليه حتَّى أسْفَر الصُبح -أي: ظهر الضوء، وقارب خروج الوقت، وطُلوع الشَّمس- فحينئذٍ أيقظوه -سيِّدنا عُمَر-، وكلَّمُوه، وتكلموا مع بعضِهم، قالوا: إنَّه لا يُفزِعُه مِثلُ الصَّلاة، اذكروا له الصَّلاة، فإنَّه سَيَهب. فنادوا: الصَّلاة، الصَّلاة، ففتح عينيه وسأل عن النَّاس؛ أصلَّى النَّاس؟ قالوا قد صلّوا. قالوا له: الصَّلاة يا أمير المؤمنين، قال: نعم أقوم لأجل الصَّلاة. "وَلاَ حَظَّ فِي الإِسْلاَمِ لِمَنْ تَرَكَ الصَّلاَةَ".

"وَلاَ حَظَّ فِي الإِسْلاَمِ لِمَنْ تَرَكَ الصَّلاَةَ". وبهذا استدل مَنْ قال:

  •  بأنَّ تارك الصَّلاة ولو كَسَلًا يكون كافرًا -والعِياذ بالله-؛ لا حظَّ  له في الإسلام. 
  • وقال الجُمهور: لا حظَّ  له في الإسلام؛ لا حظَّ  له في عِصمَة دمِّه. 
  • وَلاَ حَظَّ له فِي الإِسْلاَمِ؛ أي: حظٌ وافرٌ كبيرٌ صحيح في الدِين لِنَقصِه ولِفِسقِه بتَهاونه بالصَّلاة. 

فما أعظم الصَّلاة وما أجَّلَ قدرَها! ويجب أنْ تُعظَّم، ويجب أنْ يُربَّى عليها أبناءُ المُسلمين وبناتُ المُسلمين، وأنْ يُؤمروا بها وهُمْ أبناءُ سبع، ويُضربوا على تركِها وهُمْ أبناءُ عَشر. وهكذا فرَّق عامةُ الأئمة بين مَنْ ترك الصَّلاة جُحُودًا بها و إنكارًا، وبين مَنْ تَركها تَكاسُلًا مع إقراره بوجوبها وعَظمَة فرضِها. 

  • فقال الإمام أحمد في أشهر الرِّوايتين عنه: إنَّهُ يكون كافرًا، ولو كان تركها كسلًا. 
  • أمَّا مَنْ أنكر وجوب الصَّلاة -والعياذ بالله تعالى- فهو بالإجماع كافِرْ عند جميع الأئمة؛ هو كافِرْ بإنكاره وجوب الصَّلاة التي هي فرضٌ مُحتَّمٌ، أعظم الفرائض بعد الشَّهادتين: الصَّلاة. 

فأعظم الفرائض العَمَلية؛ الصَّلاة.  يقول ﷺ: "العَهْدُ الَّذي بينَنا وبينَهُمُ الصَّلاةُ". "..فإن مَنْ تَرَكَ صَلَاةً مَكْتُوبَةً مُتَعَمِّدًا فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ اللهِ ورَسُولِه". "مَن ترَكَ الصَّلاةَ متعمِّدًا فقَد كفرَ جِهارًا". قال تعالى: (فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ* الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ) [الماعون: 4-5]. قالوا: يُؤخِرونَها عن وقتها، هكذا جاء تفسيره عنه ﷺ: إنَّ السَاهون عن الصَّلاة، هُمْ الَّذين يُؤخِرونَها عنْ أوقاتِها، فويلٌ لهم، فكيف بمَنْ تعَمَّد تَركَها؟ فمَنْ أنكَر وجوب الصَّلاة وجحد وجوبها، فهو كافرٌ بالإجماع. 

  • قال الشَّافعية والمالكية: إلَّا إنْ كان قريبَ عهدٍ بالإسلام، أو نشأ في بادية بعيدة عن العُلماء، فمعذور، فيُفسَّق ولا يُكفَّر. 
  • ثُمَّ مَنْ تركَها مُتعمِّدًا وهو مُقرٌّ بها، فقال الحنابلة كما سَمعنا في أشهر الرِوايتين عن الإمام أحمد: أنَّهُ كافرٌ، فيُستَتاب، فإنْ تاب، وإلَّا قُتِلَ، قَتْلَ المُرتد -والعياذ بالله تبارك وتعالى- عندهم.
  • وقال الإمام الشَّافعي والإمام مالك: أنَّه يُستتاب، فإنْ تاب، وإلَّا قُتِلَ حدًّا. ولم يُحكَم بِكُفره؛ لأنَّه لمْ يَجْحد وجوب الصَّلاة. أقرَّ بوجوبها؛ ولكنَّه تركها كسلًا، أو إعراضًا عنها، أو لاتباع هوى، فهذا لا يُعدّ كافرًا؛ ولكنْ يُعدّ فاسقًا. وحدُّهُ إنْ لم يتُب، القتل؛ بإخراجه صلاتين تُجمعان عن وقتِهما. كأنْ  يُخرج الظُّهر فلا يُصلي حتَّى يدخُل العَصْر، ثُمَّ لا يُصلي الظُّهر والعَصْر حتَّى يدخُل المَغرِب، فحينئذٍ يُقتَل حدًّا.
  • وقال الإمام أبو حنيفة: أنَّه يُحبَس. هو فاسِق، ولا يُقتَل؛ ولكنْ يُحبَس حتَّى يتوب ويُقيم الصَّلاة.

 فهذا حُكم تارك الصَّلاة. وما قال أهل العلم في قول سيِّدنا عُمَر: "وَلاَ حَظَّ فِي الإِسْلاَمِ لِمَنْ تَرَكَ الصَّلاَةَ".

  • فعند الحنابلة يُكفَّر. لا حدَّ له.
  • والجمهور لم يقولوا بكُفره، وإنَّ مّنْ تركها مُكذبًا، صحيح؛ لا حظَّ له في الاسلام أو لا تُقبل سائر أعماله. فإنَّ أوَّل ما يُحاسبْ عليه العبد في قبره ويوم القيامة الصَّلاة، فإنْ وُجِدَتْ تامة، قُبِلَت وسائر عَمله. وإنْ وُجِدَتْ ناقصة، رُدَّتْ وسائر عَمله.

 و"صَلَّى" "وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ دَماً" والدَّم نَجِسْ؛ ولكن هذا مُضطرٌ إليه، لا يُمكنه، ليس باختياره. "يَثْعَبُ" أي: ينفجر دمًا، ويسيل دمًا جُرحه، فهو نَجِسْ. 

  • واستثنى مَنْ استثنى مِنْ الفُقهاء دم الشَّهيد عليه، فقالوا: بطهارته مادام عليه. لِمَا قال ﷺ: "زمِّلوهم بدمائِهِم فإنَّهُ ليسَ كلْمٌ يُكلَمُ في اللَّهِ"  جُرح "إلَّا يأتى يومَ القيامةِ يَدمَى لونُهُ لونُ دمٍ وريحُهُ ريحُ المسْكِ".
  • وقال الحنفية: يُعفى عن دَّم الإنسان الذي لا يسيل عن رأس جُرحه. فيُعفى عن دَّم البقِّ والبراغيث؛ لأنَّه لا يُمكن الاحتراز عنه، وفيه حَرَج.
  • وكذلك يقول المالكية: يُعفى عمَّا دون الدِرهم مِنَ الدَّم المَسفوح، إذا انفصل عن الحيوان.
  • وكذلك قال الشَّافعية: أنَّه يُعفى عن اليسير مِنْ الدَّم، -وهو بمقدار درهم البغل- إلَّا أن لا يكون بفعله. فإنْ لم يكن بفعله، ولم ينفصل، عُفي عن قليله وكثيره: كما: "فصَلَّى عُمَرُ وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ دَماً". فيقول الشَّافعية: أنَّ دَّم الشخص نفسه الذي لم ينفصل مِنْه، ولم يكن بفعله وتسبُبه، فإنَّه معفوٌ عنه وإنْ كثُر.
  • وكذلك يقول الحنابلة: يُعفى عن يسير الدَّم. وما تولّد مِنه مِنْ قيح وصديد، يُعفى عنه في غير مائعٍ ومطعوم. فلا يُعفى عنه، يعني: يُعفى عنه في الصَّلاة فقط. وقال الحنابلة: اليَسير ما لا يفحُش في النَّفْس، ويُعفى في القيح والصديد ما لا يُعفى عنه بالدَّم الخالص.

 قال: "فَصَلَّى وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ دَماً" وذلك ضرورة -عليه رِضوان الله- فيُحمل على ذلك أنَّه أفاق مِنْ غشيَته، فتوضأ وصلَّى والجُرح يَثْعَبُ دَمًا، يتدارك الوقت قبل طلوع الشَّمس، ثُمَّ تُوفي في ذلك اليوم -عليه رِضوان الله تعالى- شهيدًا، وهو ابن ثلاثٍ وستين سنة.

يقول: عن "سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ قَالَ: مَا تَرَوْنَ فِيمَنْ غَلَبَهُ الدَّمُ مِنْ رُعَافٍ فَلَمْ يَنْقَطِعْ عَنْهُ؟ قَالَ مَالِكٌ: قَالَ يَحْيَى: بْنُ سَعِيدٍ، ثُمَّ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: أَرَى أَنْ يُومِئَ بِرَأْسِهِ إِيمَاءً". فإنَّه عند سُجوده يَصبُّ عليه الدَّم، فيتنجّس ويَفحُل إصابته بالدَّم. وإذا قال مَنْ قال مِنْ أهل الفقه: أنَّه إذا كان الطين مُبتل بالماء، فإنَّه يُومئ بالسجود إذا لم يجد مِنْ ذلك بُد، فمِنْ باب أولى وجود الدَّم. "قَالَ يَحْيَى: بْنُ سَعِيدٍ، ثُمَّ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: أَرَى أَنْ يُومِئَ بِرَأْسِهِ إِيمَاءً"؛ ليدرأ عن ثوبه الفساد بالإيماء لأنَّه لو ركع وسجد.. أفسد ثوبَه بسبب خروج الدَّم منه.

  • ويقول محمد بن مَسلمة: إنَّما ذلك إذا كان الرُعاف يَضِرُ به في ركوعه كالرَّمد، ومَنْ لا يَقدِر على السُجود فحينئذٍ يكون له الإيماء، وليس الإيماء على الإطلاق؛ لكنْ في صورة إذا كَثُرَ الرُعاف على الرَجُل فكان: إنْ أومأ بِرَأْسِهِ إِيمَاءً لم يرعُف، وإنْ سجد رعَف؛ فيُومئ حينئذٍ برأسِه ويُجزؤه. هكذا.. "قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ".

ثُمَّ ذَكَر الوضوء سيِّدنا سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ، سأل أصحابه على سبيل الاستخبار لهم، وقال لهم ما تقولون في هذا؟ ثُمَّ بعد ذلك ذكر كلامه. ثُمَّ ذكر لنا أحاديث الوضوء مِنَ المَذي، والمعلوم أنَّ المَذي باتفاق ينقُضُ الوضوء، وهو نَجِسْ. يجب الغُسْلُ مِنْهُ؛ لكنْ قد يكون سَلِس المَذي -والعياذ بالله- كسَلَس البول، فحينئذٍ يُعفى عنه، ويُصلِّي على حاله. ويذكُر -عليه رِضوان الله- "عنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ الْمِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَدِ.." وسُليمان بن يسار مولى سيِّدتنا ميمونة، وقيل مولى أُمِّ سَلمة، وكان مِنَ العُلماء مِنْ بعد ابن الْمُسَيَّبِ -عليه رِضوان الله تعالى- وسُليمان بن يسار هو أحد الفُقهاء السَّبعة في المدينة المُنورة. ويروي عن المِقداد بن الأسود -وهو اشتهر بذلك لأنَّ الأسود بن عبد يَغوث  تبنّاه وهو صغير وإلا هو المِقداد بن عَمرو- فهو المِقداد بن عَمرو بن ثعلبة البَهراني، ولمَّا تبناه الأسود، اشتهر بالمِقداد بن الأسود. 

ويذكُر "أَنَّ سيدنا عَلِيَّ بْنَ أبِي طَالِبٍ" -رضي الله عنه- "أَمَرَهُ" يعني: أمَر المِقداد "أَنْ يَسْأَلَ لَهُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنِ الرَّجُلِ إِذَا دَنَا مِنْ أَهْلِهِ، فَخَرَجَ مِنْهُ الْمَذْي مَاذَا عَلَيْهِ" ماذا يجب عليه؟ وماذا يلزمُه؟ أوضوء، أم غُسل، أم ماذا؟ وقال سيِّدنا علي: كُنت رجُلًا مَذاءً، فجعلت اغتسل مِنْه في الشِّتاء حتَّى تشقق ظهري. فقال سيِّدنا علي مُعتذر للمِقداد  في إرساله، لِمَ لا يسأل سيِّدنا علي النبي هو بنفسه، يسأل رسول الله ﷺ ويأخذ الجواب مِنْه؟ قال: "فَإِنَّ عِنْدِي ابْنَةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ"، يعني: مُتزوج ابنته، "وَأَنَا أَسْتَحِي" أنْ أُكلِم النبي ﷺ في هذه المسائل؛ لأجل الصَّهارة. ومنها ذكروا في آداب صاحب الصَّهارة مع صُهوره أنْ لا يذكُر شيئًا ممّا يتعلق بالنِّساء وما يتعلق بالجِماع وما إلى ذلك. فسيِّدنا علي أرسل سيِّدنا المِقداد يسأل لأنه يَستحي أنْ يُكلم رسول الله ﷺ في ذلك؛ فسأل المِقداد. "قَالَ الْمِقْدَادُ: فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ" عن حُكم ذلك.

 وفي رواية أنَّه أمَرَ عَمارًا أنْ يسأل. المِقداد أمَرَ عَمارًا أنْ يسأل النبي ﷺ. وجاء في رِواية عن علي قال: فسألت النبي ﷺ، فخير ما تُوجه أنَّه سأل؛ أي: بالواسِطة. سأل النبي لكنْ بالواسِطة، ورُبما أرسل عَمارًا وأرسل المِقداد، وكُلٌ مِنْهُما سأل النبي عليه الصَّلاة والسَّلام. فكأنَّه سأل أحدَ الرَجُلين المِقداد وعَمّار، فلمَّا رآه أبطأ، سأل الثَّاني أنْ يسأل له رسول الله ﷺ، فقال  النبي ﷺ: "إِذَا وَجَدَ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ" أي: خُروج المَذي "فَلْيَنْضَحْ". النَضْحْ؛ الرَّشُ والغَسل، ويُراد به الغَسل الخفيف. يُقال له نَضْحْ. وجاء في رِواية: "فليَغسِل فرجَه بالماء". 

فالمَذي باتفاق ناقِضٍ للوضوء، ويوجب الوضوء دون الغُسل. والمَذي كذلك نَجِسْ. واختُلف هل يُجزئ فيه الحَجر أو لابُدَّ مِنَ الغُسل؟

  •  قال: يتعين غُسله لِمَا جاء في هذا الحديث؛ ولكنَّ الاستنجاء يصُح في كُلِّ خارج مُلوث من الفرج. يجوز الاكتفاء بالحَجر. وهكذا هو عندنا وعند الحنفية وغيرهم.
  • وقال بعض المُحدثين: بل لابُدَّ مِنَ الغَسل لِمَا ورد في الحديث.
  • وحَملَه الآخرون على الاستحباب. أنَّ الغَسل أفضل، وهو باتفاق أفضل.

 "وَلْيَتَوَضَّأْ وُضُوءَهُ لِلصَّلاَةِ" أي ليس وضوءًا لُغويًا بأنْ يَغسل بعض أعضائه أو يستنجي، فيكون ذلك وضوءًا في اللُغة؛ لكنَّه وضوءه للصَّلاة. إذًا فيجب الوضوء مِنْ خُروج المَذي.

  • الوذي: وهو دون المَني، يخرج عند ثوران الشهوة. 
  • والوَدي يأتي وهو كدِرٌ يخرج بعد البول أو عند حَمل ثقيل. 

فالوَدي والمَذي حُكمُهما واحد؛ حُكم البول. يجب غَسل ما أصابه مِنه، ولا يلزمه الاغتسال إلا عند خروج المَني، فيجب الغُسل حينئذٍ. فعرفنا أنَّه خارجٌ نَجِس، وعرفنا اختلافهم في جواز الاستجمار مِنه مثل البول، وقلنا أنَّه كذلك عندنا أنَّه يجوز أنْ يَستجمر مِنه، كما قال الحنفية كذلك. 

وفيه التعاون على طلب العلم بين الطُّلاب، وكذلك قُبول خبر الواحد العَدل الثقة كذلك. علِمنا ما ذهب إليه الأئمة الثلاثة مِنْ جواز إزالة المَذي بالاستنجاء سواءً كان بالماء أو بالاستجمار بالأحجار كالبول وغيره مِنَ النجاسات. لكنْ الرواية عند الحنابلة كما يقابله الأظهر عند الشَّافعية أنَّه لا يُجزئ الاستنجاء مِنه المَذي بالحجر؛ ولكنْ لابُدَّ مِنَ الغُسل، فيتعيّن غَسلُه بالماء لِمَا جاء في هذا الحديث. وأمَّا كونه ناقضٌ للوضوء، فبالاتفاق.

 وأمَّا في قوله باب الرُخصة في ترك الوضوء مِنَ المَذي، فذلك بالنسبة للسَلَس، لا لِمَنْ يخرج مِنْه المَذي فهو نَجِسٌ، وهو أيضًا ناقضٌ للوضوء بالاتفاق كما ذكرنا. فالحديث الذي جاء في الرُخصة مِنْ ترك الوضوء، إنَّما هو خاصٌ بمنْ كان مُصابًا في ذلك بالسَلَس. وكذلك لا يلزم مَنْ شكَّ، كما في هذا الحديث فيه إشارة إلى الشكِّ أخرج مِنْه شيءٌ أمْ لا؟ "إنِّي لأَجِدُ الْبَلَلَ وَأَنَا أُصَلِّي" أي: في صلاتي، أَفَأَنْصَرِفُ؟ فَقَالَ لَهُ سَعِيدٌ:" في جوابه عليه: "لَوْ سَالَ عَلَى فَخِذِي مَا انْصَرَفْتُ حَتَّى أَقْضِيَ صَلاَتِي" يعني: أُتِمَّ صلاتي. فإنَّه يُشبه أنْ يكون المعنى المُبالغة في وقع الشكِّ عن القلب، وأنْ لا يُبالي بالشكّ، وإنَّ الشَّيطان يُحاول أنْ يُشوّش على المُصلي، ويُشعرَه بأنَّ شيئًا خرج مِنه أو يُحسِّسه بذلك، ولمْ يخرج مِنه شيء؛ ولكنْ ليُشوّش عليه صلاته، فلهذا لا ينصرف. قال ﷺ إن الشَّيطان يُخَيل إليه أنه أحدث، فإذا وجد ذلك أحَدُكُم، قال:"لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا"؛  يعني: يتيقن، فإنْ لم يتيقن خُروج شيء مِنه، فذلك مَعفو عنه، ولا يستَسلم للوسوسة، بل يُتمَّ صلاتَه. ثُمَّ إنَّه عندئذٍ يتوضأ هذا الذي ذُكر لكُلِّ صلاة، وهو السَلس الذي يدوم خُروج الحدث مِنه. وذكر سؤال "سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ عَنِ الْبَلَلِ أَجِدُهُ، فَقَالَ : انْضَحْ مَا تَحْتَ ثَوْبِكَ بِالْمَاءِ وَالْهَ عَنْهُ" أي: لا تتبع الوسوسة، اشتغل عنه، و ادفع عن نفسك الوسواس، فهذا الحُكم، والله أعلم. 

اللهم اكتُبنا في ديوان أهل الفِقه في دينك، وحُسنْ المُتابعة لحبيبك وأمينك، وارزُقنا مُراقبتك في الغيب والشَّهادة، وارزُقنا خشيتك في السِّر والعلن، واثبتنا في ديوان أهل حُسن المُتابعة لِنبيِّك المُؤتمن، وادفع عنا الآفات، واصلح الظواهر والخَفيات، بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

29 ذو القِعدة 1441

تاريخ النشر الميلادي

19 يوليو 2020

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام