شرح الموطأ -228- كتاب الحج: باب جامِعِ الحج

شرح الموطأ -228- باب جَامِعِ الْحَجِّ ، من حديث عَبْدِالله بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّهُ قَالَ : وَقَفَ رَسُولُ الله (ﷺ) لِلنَّاسِ بِمِنًى وَالنَّاسُ يَسْأَلُونَهُ
للاستماع إلى الدرس

شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الحج، باب جَامِعِ الْحَجِّ.

فجر الثلاثاء 24 ذي الحجة 1442هـ.

باب جَامِعِ الْحَجِّ

1268 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّهُ قَالَ: وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِلنَّاسِ بِمِنًى وَالنَّاسُ يَسْأَلُونَهُ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَشْعُرْ، فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "انْحَرْ وَلاَ حَرَجَ".، ثُمَّ جَاءَهُ آخَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَشْعُرْ، فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ قَالَ: "ارْمِ وَلاَ حَرَجَ". قَالَ : فَمَا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلاَ أُخِّرَ، إِلاَّ قَالَ: "افْعَلْ وَلاَ حَرَجَ".

1269 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ إِذَا قَفَلَ مِنْ غَزْوٍ، أَوْ حَجٍّ، أَوْ عُمْرَةٍ، يُكَبِّرُ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ مِنَ الأَرْضِ ثَلاَثَ تَكْبِيرَاتٍ، ثُمَّ يَقُولُ: "لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ، آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ سَاجِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ، صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ".

1270 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ [عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ] أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مَرَّ بِامْرَأَةٍ وَهِيَ فِي مِحَفَّتِهَا، فَقِيلَ لَهَا: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَأَخَذَتْ بِضَبْعَيْ صَبِيٍّ كَانَ مَعَهَا فَقَالَتْ: أَلِهَذَا حَجٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "نَعَمْ وَلَكِ أَجْرٌ".

1271 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أبِي عَبْلَةَ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ كَرِيزٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "مَا رُئِيَ الشَّيْطَانُ يَوْماً، هُوَ فِيهِ أَصْغَرُ وَلاَ أَدْحَرُ وَلاَ أَحْقَرُ وَلاَ أَغْيَظُ، مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، وَمَا ذَاكَ إِلاَّ لِمَا رَأَى مِنْ تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ، وَتَجَاوُزِ اللَّهِ عَنِ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ، إِلاَّ مَا أُرِيَ يَوْمَ بَدْرٍ". قِيلَ وَمَا رَأَى يَوْمَ بَدْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "أَمَا إِنَّهُ قَدْ رَأَى جِبْرِيلَ يَزَعُ الْمَلاَئِكَةَ".

1272 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زِيَادِ بْنِ أبِي زِيَادٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَيَّاشِ بْنِ أبِي رَبِيعَةَ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ كَرِيزٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَأَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ".

1273 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ، فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْنُ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "اقْتُلُوهُ".

قَالَ مَالِكٌ : وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَوْمَئِذٍ مُحْرِماً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

1274 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَقْبَلَ مِنْ مَكَّةَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِقُدَيْدٍ، جَاءَهُ خَبَرٌ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَرَجَعَ فَدَخَلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ.

1275 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ بِمِثْلِ ذَلِكَ.

1276 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ : عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَلْحَلَةَ الدِّيلِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِمْرَانَ الأَنْصَاري، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: عَدَلَ إِلَيَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَأَنَا نَازِلٌ تَحْتَ سَرْحَةٍ بِطَرِيقِ مَكَّةَ، فَقَالَ مَا أَنْزَلَكَ تَحْتَ هَذِهِ السَّرْحَةِ؟ فَقُلْتُ: أَرَدْتُ ظِلَّهَا. فَقَالَ: هَلْ غَيْرُ ذَلِكَ؟ فَقُلْتُ: لاَ مَا أَنْزَلَنِى إِلاَّ ذَلِكَ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِذَا كُنْتَ بَيْنَ الأَخْشَبَيْنِ مِنْ مِنًى، وَنَفَخَ بِيَدِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ، فَإِنَّ هُنَاكَ وَادِياً يُقَالُ لَهُ السُّرَرُ، بِهِ شَجَرَةٌ سُرَّ تَحْتَهَا سَبْعُونَ نَبِيًّا".

1277 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، عَنِ ابْنِ أبِي مُلَيْكَةَ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مَرَّ بِامْرَأَةٍ مَجْذُومَةٍ، وَهِيَ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَقَالَ لَهَا: يَا أَمَةَ اللَّهِ لاَ تُؤْذِي النَّاسَ، لَوْ جَلَسْتِ فِي بَيْتِكِ. فَجَلَسَتْ، فَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ لَهَا: إِنَّ الَّذِي كَانَ قَدْ نَهَاكِ قَدْ مَاتَ فَاخْرُجِي. فَقَالَتْ: مَا كُنْتُ لأُطِيعَهُ حَيًّا وَأَعْصِيَهُ مَيِّتاً.

1278 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ: مَا بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْبَابِ الْمُلْتَزَمُ.

1279 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، أَنَّهُ سَمِعَهُ يَذْكُرُ: أَنَّ رَجُلاً مَرَّ عَلَى أبِي ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ، وَأَنَّ أَبَا ذَرٍّ سَأَلَهُ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ فَقَالَ: أَرَدْتُ الْحَجَّ. فَقَالَ: هَلْ نَزَعَكَ غَيْرُهُ؟ فَقَالَ لاَ. قَالَ فَأْتَنِفِ الْعَمَلَ. قَالَ الرَّجُلُ: فَخَرَجْتُ حَتَّى قَدِمْتُ مَكَّةَ، فَمَكَثْتُ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ إِذَا أَنَا بِالنَّاسِ مُنْقَصِفِينَ عَلَى رَجُلٍ، فَضَاغَطْتُ عَلَيْهِ النَّاسَ، فَإِذَا أَنَا بِالشَّيْخِ الَّذِي وَجَدْتُ بِالرَّبَذَةِ, يَعْنِي أَبَا ذَرٍّ، قَالَ: فَلَمَّا رَآنِي عَرَفَنِي فَقَالَ: هُوَ الَّذِي حَدَّثْتُكَ.

1280 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ عَنْ الاسْتِثْنَاءِ فِي الْحَجِّ؟ فَقَالَ: أَوَيَصْنَعُ ذَلِكَ أَحَدٌ. وَأَنْكَرَ ذَلِكَ.

1281 - سُئِلَ مَالِكٌ: هَلْ يَحْتَشُّ الرَّجُلُ لِدَابَّتِهِ مِنَ الْحَرَمِ؟ فَقَالَ: لاَ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مكرمنا بالوحي والتنزيل، ودلالة رسول الله ﷺ على الهدى وهو خير دليل، اللهم صلِّ وسلم وبارك وكرّم على الهادي لأقوم سبيل، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه خير جيل، وعلى من والاهم فيك واتبعهم في النية والفعل والقيل، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أهل المقام الشريف الجليل، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المقربين، وجميع عبادك الصالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

وبعدُ، 

فيذكر الإمام مالك -عليه رضوان الله تعالى- في هذا الباب أحاديث تتعلق بعموم الحج وأعماله، ويروي لنا أنه ﷺ وقف للناس بمنى؛ بمعنى: أنه جعل بعض الوقت لمقابلة الناس، أو لاستقبال أسئلتهم ليجيب عليهم، وليرشدهم، وليطرحوا عليه ويضعوا بين يديه ما حصل لهم في حجّهم، وما يقومون به من أعمال.  "وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِلنَّاسِ بِمِنًى"؛ أي: لأجل الاستفتاء، ولِيُعلِّمَ الناس دينهم، ويجيبهم عن مسائلهم. فكأنه رأى حاجة الناس -وهم في منى- للاستفتاء عن أعمال الحج، فجعل لهم من وقته ما جاء أنه وقف به للناس يستقبل اسئلتهم ويجيب عليهم ﷺ "وَالنَّاسُ يَسْأَلُونَهُ" أو في رواية: "فجعلوا يسألونه"، "فطفق ناسٌ يسألونه"، "وقف رسول الله ﷺ في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه"... "فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَشْعُرْ"؛ يعني: لم أفطن، ولم أتنبّه، أو لم أعلم، أو نسيت، "لَمْ أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ"، حلقت رأسي قبل أن أذبح الهدي الذي معي "فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: انْحَرْ وَلاَ حَرَجَ" فأكمِل الآن وتابع الأعمال، لا إثم عليك في تقديم الحلق على النحر "انْحَرْ وَلاَ حَرَجَ".

وفي هذا جاء كلام أهل العلم في أعمال الحج في يوم منى، وهل يجب الترتيب بينها أم لا؟ 

أما مشروعية الترتيب، فمُتَّفَقٌ عليها؛ أنه ينبغي للحاج أن يبدأ بالرمي، ثم النحر، ثم الحلق، ثم يذهب إلى مكة فيطوف، فسنيّة -أو مشروعية- الترتيب فيها متفقٌ عليه، ولكن، هل يجب ذلك أو لا.. بينها كلها، أو في بعضها؟ هذا ما جاء فيه اجتهادات الأئمة عليهم رضوان الله تبارك وتعالى. 

  • فقال الإمام الشافعي -وهي أيضًا رواية عن الإمام أحمد- ما دلت عليه هذه الرواية: أنه لا ترتيب بين هذه الأعمال الأربعة كلها واجبًا قط، إنما يُستحَب، ويُسَن الترتيب بين هذه الأعمال الأربعة، وهي: 

  1. رمي جمرة العقبة 

  2. ونحر الهدي 

  3. وحلق الراس 

  4. والطواف بالبيت العتيق 

وأن أي شيءٍ بدأ به، كفاه وأجزأه ذلك، ولا شيء عليه، إنما السُّنَّة هو الترتيب. 

وقالوا: إن هذه الأعمال الأربعة يدخل وقتها من نصف الليل، فإذا انتصف الليل ليلة النحر -ليلة العيد- دخل وقت الطواف، ودخل وقت الرمي، ودخل وقت النحر، ودخل وقت الحلق، كلها في وقت واحد. 

  • وقال الإمام مالك: أنه يلزم الترتيب، إلا لمن كان لم يشعر من جاهلٍ أو ناسي. 

  • كذلك قال الإمام أحمد أخذاً بقوله: "لَمْ أَشْعُرْ" فقال: 

    • إن لم يشعر بكونه جاهلاً أو ناسياً، فلا شيء عليه.

    • وإن تعمد ذلك، فعليه دمٌ في روايةٍ عن الإمام أحمد بن حنبل. 

  • قال الحنفية: الترتيب بين الثلاثة: الرمي، والنحر، والحلق، أما الطواف فلا يضر أن يقدّمه أو يؤخره، وإنما الترتيب بين هذه الثلاثة.

 وهذه الرواية في الحديث، وهو الحديث في الصحيحين أيضاً، وغيرهما، أنه قال: "افعل ولا حرج"، فما سُئل عن شيء يومئذ قدم ولا أخر إلا قال افعل ولا حرج ﷺ. ففيه استدلال الإمام الشافعي، والرواية عن الإمام أحمد، أن الترتيب بينها سُنّة من فعله ﷺ، فإنه رمى أولاً، ثم نحر هديَه، ثم دعا الحلاق فحلق، ثم ركب فتوجه إلى مكة، فطاف ﷺ. 

"ثُمَّ جَاءَهُ آخَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَشْعُرْ،"، ما عرفت أو نسيت "فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ، قَالَ: ارْمِ وَلاَ حَرَجَ".لا إثم ولا فدية عليك ولا شيء "قَالَ: فَمَا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلاَ أُخِّرَ، إِلاَّ قَالَ: "افْعَلْ وَلاَ حَرَجَ" ﷺ.

  • فحمله بعضهم على من فعله جاهلاً أو ناسيًا. 

  • وعمّمه بعضهم كالإمام الشافعي والرواية للإمام أحمد.

  • وقيّد الحنفية الترتيب في أعمال منى، ولم يجعلوا ترتيبًا بينها وبين الطواف. 

فهذه خلاصة مذاهب الأئمة في أعمال الحج في منى أو يوم النحر. 

ثم إنه يمتد وقتها كلها إلى آخر يوم من أيام التشريق، ولكن عند الشافعية والحنابلة وغيرهم: أنه بالنسبة للطواف، وبالنسبة للحلق أو التقصير ، يبقى وقته ما تفوته أبدًا، فالطواف والسعي والحلق لا تفوت الحاج ولو خرج شهر ذي الحجة كله، فهي باقية يجوز فعلها أي وقت. قيّد ذلك الحنفية بأيام التشريق، فإذا أخرها لزمه الفدية.

كذلك قال جميعهم في مسألة الرمي، فإن الرمي ينتهي في آخر يوم من أيام التشريق باتفاق، بل اختلفوا في رمي جمرة العقبة -الذي هو الرمي الأول ليوم العيد- فهل ينتهي بغروب شمس ذلك اليوم؟ أو إلى طلوع الفجر في اليوم الثاني؟ أو يبقى إلى آخر يوم من أيام التشريق؟… 

ثم ذكر لنا حديث عبد الله بن عمر: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ إِذَا قفل"؛ أي: رجع "قَفَلَ مِنْ غَزْوٍ"، عاد؛ أي: من غزوة غزاها في سبيل الله "أَوْ حَجٍّ، أَوْ عُمْرَةٍ، يُكَبِّرُ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ"؛ أي: المكان العالي المرتفع؛ كلما اعتلى في عقبة ونحوها كبّر، "يُكَبِّرُ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ مِنَ الأَرْضِ"، في رواية عند مسلم: "إذا أوفى"؛ أي: ارتفع "على ثنية أو فدفدٍ"، 

  • فعند الارتفاع يُسنّ التكبير.

  • وعند الهبوط من الشيء يُسنّ التسبيح.

وهكذا ينبغي، وهذا في أسفاره كلها ﷺ. بل جاء في وصف هذه الأمة في التوراة: يكبّرون الله على كل شرف؛ كلما ارتفعوا مكانًا واعتلوا عقبةً أو فدفدًا أو غيرها من المرتفعات على الأرض، كبروا الله تعالى. فيُْسَن التكبير لكل من اعتلى إلى أي مكان في الأرض. ومنه ما يصعد فيه الناس من هذه المصاعد الكهربائية، فينبغي عند الطلوع أن يكبروا، وعند النزول أن يسبحوا، يكبرون الله على كل شرف، على كل ارتفاع، وعلى اعتلاء في الأرض يكبرون الله تعالى فهذا من وصف هذه الأمة، وهو سنة من سنن نبيهم محمد ﷺ. 

وكبر "ثَلاَثَ تَكْبِيرَاتٍ"، وكذلك إذا استوى على بعيره خارجًا إلى سفر، كبّر ثلاثًا ثم قال: "سبحان الذي سخر لنا هذا…"، كما جاء في رواية. "ثُمَّ يَقُولُ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ"؛ يستحيل أن يكون له شريك، فهو المنفرد بالخلق والإيجاد، وهو الرب وحده (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ۚ) [الأنبياء:22] ( وَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ) [البقرة:163]، (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) جلّ جلاله وتعالى في علاه. "لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ" السلطان والقدرة وحقيقة الملك وما لغيره من الملك إلا صورته، "وَلَهُ الْحَمْدُ"؛ أي: يستحق الثناء والحمد والتمجيد في كل شان وفي كل حال. "وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ"، قدرته مطلقة لا يعجزه شيء، "آيِبُونَ"؛ يعني: راجعون رجعنا وأُبنا، "آيِبُونَ"؛ يعني: نحن راجعون إلى الله كما رجعنا أيضًا إلى منازلنا وأماكننا الذي نستقر فيها، فنحن راجعون إلى الله، راجعون إلى الله تبارك وتعالى بالتوبة، وراجعون إلى الله تعالى بفناء حياتنا الدنيوية والموت والرجوع إلى الله، (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون:115]. "آيِبُونَ تَائِبُونَ"; أي: مستقرون على التوبة ومجددون للتوبة في أحوالنا كلها، نندم على كل تقصير ونؤوب إلى العلي الكبير مستغفرين له "آيِبُونَ تَائِبُونَ، عَابِدُونَ"؛ نمحض العبادة للحي القيوم، "سَاجِدُونَ"؛ أي: على قدم السجود والخضوع والتذلل لله في أحوالنا كلها، "لِرَبِّنَا حَامِدُونَ" نكرر شكرنا له وثناءنا عليه بما هو أهله من إنعامه وكبريائه وعظمته وجوده وإحسانه سبحانه وتعالى.

ويقول: "صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ"، وهو سبحانه وتعالى أوفى بالعهد من كل مخلوق (وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ) [التوبة111]، "صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ"، وكل ما وعد به أنبياءه ورسله أنجزه -سبحانه وتعالى-، "صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ" ووعده الحق جلّ جلاله (إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ) [آل عمران:9]، "صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ، -عز وجل- وَنَصَرَ عَبْدَهُ" المصطفى محمد ﷺ، فهو المنصور، وكل نصرٍ في أمته فمن النصر له، في عهد الصحابة والتابعين، وتابع التابعين، وتابع تابع التابعين، إلى يومنا هذا، كل مظاهر النصر التي ينصر الله بها متبعًا له من المؤمنين، فهي نصر لرسول الله، "نَصَرَ عَبْدَهُ"، ونعم العبد محمد، ما عرف العبودية لرب العالمين أحدٌ كما عرفها خاتم النبيين، فهو العبد حقًا! ولهذا قال بعض العارفين: أنني لا أجزم بإطلاق وصف العبد المحض، إلا على حبيب الرحمن محمد ﷺ، العبد المحض الخالص صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، المخصوص من الله بأجلّ الخصائص.

"وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ"، الذين تحزّبوا على قتال رسول الله ﷺ، وعلى آذاه، من اليهود والعرب الذين تجمعوا في غزوة الخندق، ووصلوا إلى عشرة آلاف مقاتل، وأرسل الله عليهم الريح وردّهم، "وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ"، ولم يزل يهزم كل من تحزّب على هذا الدين، وعلى هذا النبيّ الأمين، في أي وقت، وفي أي زمان، فهو هازم الأحزاب، ومن شعارنا في أنا نقول: "وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ"، فليعلم كل حزب مناوئ لله ولرسوله أنه مهزوم، وأن الله هازم الأحزاب، لا إله إلا هو، كل حزب مناقض، مناهض، مناوئ، مضاد لأمر الله، ولأمر رسوله، فهو المهزوم، "وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ" جلّ جلاله وتعالى في علاه.

وهذا من أدعيته ﷺ في السفر، والتي ينبغي للمؤمن في سفره أن لا يغفل عنها، وعن نظيرها مما ورد في سنة نبينا عليه عليه الصلاة والسلام، فإن للناس في الأسفار وغيره شغلًا طبيعيًا بأمتعتهم وحاجاتهم، ولهم شغلُ إغوائي آخر.. يشغلونهم بشيء من الأفلام، أو بشيء من الأغاني، أو بشيء من الكلام الفارغ، وهذا شغل إغوائي، فينبغي أن يشتغل بشغل الهداية، وشغل الإرشاد، وشغل النبوة والسنة النبوية، وهكذا ينبغي للمؤمن في سفره أن يكون بذلك شغله.

وذكر لنا أيضًا: "[عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ] أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مَرَّ بِامْرَأَةٍ"، وفي رواية عند مسلم: "لقيَ ركبًا بالروحاء، قال: من القوم؟ قالوا: المسلمون، فقالوا: من أنت؟ قال: رسول الله، فرفعت إليه امرأة صبيًا فقالت: ألهذا حج؟"، وهنا يقول في هذه الرواية: "مَرَّ بِامْرَأَةٍ وَهِيَ فِي مِحَفَّتِهَا"؛ شبيه بالهودج الذي يُركب عليه، المحفة لا غطاء عليها، والهودج يكون مغطى، "فَقِيلَ لَهَا: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَأَخَذَتْ بِضَبْعَيْ صَبِيٍّ كَانَ مَعَهَا"؛ يعني: بالساعدين؛ تحت الإبط أخذته كان معها ترفعه إلى النبي ليراه، جاء في رواية أبي داود: "ففزعت امرأة، فأخذت عضد صبي، فأخرجته من محفتها، فقالت: يا رسول الله هل لهذا حج؟" يجوز أن نحرم عن هذا؟ وأشهده معي مشاهد الحج؟ فقال ﷺ: "نعم، ولكِ أجر"؛ لك مثل أجر حجّه، وله يحسب هذا الحج، وإن كان لا يسقط به فريضة الحج عنه حتى يبلغ، فإن استطاع بعد البلوغ، فالحج فريضة لم تسقط عليه.

إذًا؛ يقول الأئمة الأربعة: يجوز حج الصبيان، ويُحرِمُ عنهم وليّهم، ويُشهِدُهم المشاهد، يطوف بهم، ويسعى بهم، ويوقفهم في عرفة، وهكذا.. فيصح الحج؛ 

  • فينعقد إحرام الصبي إذا كان مميزًا للنفل.

  • وإلا فإن كان غير مميز فيُحرِم عنه وليُّ.

فإنَّ شرط صحة الحج شرط واحد وهو: الإسلام، فيصحّ الحج من كل مسلم، فإن كان مجنونًا، أو صبيًا غير مميز ، فالذي يُحرِم عنه وليُّه. 

وذكر لنا: "عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ كَرِيزٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: مَا رُئِيَ الشَّيْطَانُ يَوْماً، هُوَ فِيهِ أَصْغَرُ وَلاَ أَدْحَرُ وَلاَ أَحْقَرُ وَلاَ أَغْيَظُ، مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ"، ويتكرر ذلك في كل سنة، "وَمَا ذَاكَ إِلاَّ لِمَا رَأَى مِنْ تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ، وَتَجَاوُزِ اللَّهِ عَنِ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ"، وخصوصًا السنة التي حجّ فيها رسول الله، وهي أساسٌ لما بعدها من الحجّات، فاغتاظ الشيطان كثيرًا. قال: "إِلاَّ مَا أُرِيَ يَوْمَ بَدْرٍ، قِيلَ وَمَا رَأَى يَوْمَ بَدْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَمَا إِنَّهُ قَدْ رَأَى جِبْرِيلَ يَزَعُ الْمَلاَئِكَةَ"؛ يعني: يصفّهم ويرتّبهم، ولما رأى جبريل يزع الملائكة ويتقدم على فرس له، هرب واغتاظ، وقد كان شجع قريش المشركين أن يقاتلوا النبي محمدًا ﷺ، وتصوّر بصورة مالك بن جعشم، وقال: أنا نصير لكم وأنا ظهر لكم، وكان الذي تصور بصورته رئيس قومه، وكان بين قبيلته وبين قريش شيء، فخافت قريش قالت: إن تقدمنا محمد لمقاتلته، ربما يأتون هؤلاء من وراءنا.. فتصوّر لهم بصورة شيخهم، ودخل وقال: أبدًا أنا لكم، ولا غالب لكم اليوم.. واذهبوا اقتلوا محمد.. وهو يمشي معهم، ويشجعهم في طول المسار، حتى كان يوم المعركة، فلما رأى جبريل شَرَد!! ما لك يا.. ؟ قال: إني بريء منكم! قال تعالى (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ ۖ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَىٰ مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ ۚ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الأنفال:48].

قال: فما رُئيَ الشيطان أحقر ولا أدحر من يوم عرفة إلا ما رئي في يوم بدر فقط، لان الله أراه جبريل وهو يزع الملائكة، فخاف؛ وشرد؛ وهرب بعيدًا؛ واغتاظ، وهو يتجدّد غيظه في مثل يوم عرفة، وكلما حصلت ساعة من ساعات العطاء الكبير من الله للمؤمنين، اغتاظ ودُحِر، فليغتَظ، وليَمُت بغيظه، دفع الله شرّه عنا وعن المؤمنين والمؤمنات. "فإِنَّهُ قَدْ رَأَى جِبْرِيلَ يَزَعُ الْمَلاَئِكَةَ". أي يصفّهم صفوفًا، ويُهيئهم للقتال. 

قال: "عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ كَرِيزٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ"، فالدعاء مستحب، وهو علامة العبودية، وسبب لدفع البلايا، وسبب لنيل الآمال، وهو من أعظم العبادة، ولكن دعاء يوم عرفة أعظم الدعاء، فينبغي في يوم عرفة أن يكثر الحاج خاصة، والمؤمنون في الشرق والغرب الدعاء، فهو أعظم ثوابًا، وأقرب إجابة؛ الدعاء في يوم عرفة، قال: "وَأَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ"، لا إله إلا الله، أحينا عليها يا حيّ، وأمتنا عليها يا مميت، وابعثنا عليها يا باعث.

وقد أخبرنا أنه من قالها في اليوم مئة مرة؛ لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، كان في يومه ذاك في حرز من الشيطان، ولم يأتِ أحدٌ بأفضل مما جاء به، إلا رجل قال مثل ما قال، أو زاد عليه. لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير.

و روى لنا: "عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،--رضي الله تعالى عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ"، ما يُجعل من فضل درع الحديد على الرأس، غطاء للرأس مثل القلنسوة، لكنها من حديد تمنع السيف أن يصيب الرأس، لم يكن مُحرِمًا فلهذا غطى رأسه ﷺ. "فَلَمَّا نَزَعَهُ، جَاءَهُ رَجُلٌ" نزع المغفر من رأسه "جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْنُ خَطَلٍ"، هذا المؤذي الذي كان يحرض على النبي ﷺ ويسبّه فكان من السبعة عشر أو نحو عشر أنفس أو بضعة عشر عيّنهم ﷺ وأمر بقتلهم في الحِلّ أو في الحَرَم. وجاء في رواية: أنهم ستة رجال وأربع نسوة، وفي رواية: أنهم أحد عشر رجل وست نساء أهدر دمائهم ﷺ، أما غيرهم فقال: من دخل البيت فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن. 

ومنهم هذا عبد الله بن خطل، قال ﷺ اقتلوهم وإن وجدتموهم تحت أستار الكعبة. وهذا قد ارتد لأنه بعثه ﷺ يجلب الصدقة وكان مسلمًا، وبعث معه رجل من الأنصار، وكان معه مولى يخدمه، فنزل منزلاً، فأمر المولى أن يذبح تيسًا ويصنع له طعام، ونام واستيقظ ولم يصنع له شيئًا، فعدا عليه، فقتله -والعياذ بالله- ثم ارتدّ مشركًا، وكان عنده مغنيّتين يأمرهما بالغناء بسبّ النبي ﷺ، وسبّ الإسلام وأهله. وكان في طريقه لما أرسله النبي ﷺ يجمع الصدقة، وثب على الأنصاري فقتله، وذهب بماله مرتدًا -والعياذ بالله تعالى- فأهدر النبي ﷺ دمه عام الفتح، وجاؤوا إليه -عليه الصلاة والسلام- قالوا: "ابْنُ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ"؛ يعني: مستجير ما يريد أحد يلمسه، "فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "اقْتُلُوهُ"، فهذا من الذين قتلوه. 

لكن أكثر الذين ذكرهم ﷺ وأهدر دماءهم بعد ذلك، استُجيرَ لهم، فأجارَهم، وعفا عنهم ﷺ، وإنما قتل منهم قليل مثل ابن خطل هذا. "قَالَ مَالِكٌ: وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَوْمَئِذٍ مُحْرِماً" في عام دخوله إلى فتح مكة، لأنه دخل في جهاد وقتال، ثم إنه بعد رجوعه من الطائف أحرم بالعمرة، فاعتمر ﷺ ليلةً قبل رجوعه إلى المدينة.

و ذكر: "أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَقْبَلَ مِنْ مَكَّةَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِقُدَيْدٍ، جَاءَهُ خَبَرٌ مِنَ الْمَدِينَةِ"، كان بقُديد قرية جامعة بين مكة والمدينة وهو أقرب إلى مكة، "فَرَجَعَ فَدَخَلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ"؛ أي: أنه يجوز للمسلم أن يدخل مكة بغير إحرام، وفيه خلاف بين الأئمة. 

وذكر أنه قال: "عدَلَ إِلَيَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَأَنَا نَازِلٌ تَحْتَ سَرْحَةٍ"؛ شجرة طويلة لها شعب "بِطَرِيقِ مَكَّةَ، فَقَالَ مَا أَنْزَلَكَ تَحْتَ هَذِهِ السَّرْحَةِ؟ فَقُلْتُ: أَرَدْتُ ظِلَّهَا. فَقَالَ: هَلْ غَيْرُ ذَلِكَ؟ فَقُلْتُ: لاَ مَا أَنْزَلَنِى إِلاَّ ذَلِكَ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِذَا كُنْتَ بَيْنَ الأَخْشَبَيْنِ مِنْ مِنًى"، أي: بين جبلين من منى؛ جبلا مكة "وَنَفَخَ بِيَدِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ، فَإِنَّ هُنَاكَ وَادِياً يُقَالُ لَهُ السُّرَرُ، بِهِ شَجَرَةٌ سُرَّ تَحْتَهَا سَبْعُونَ نَبِيًّا"؛ يقال له: سُرَرَ، وسِرَرَ، مأخوذ من السُّرة؛ أي: كانت ولادة أنبياء تحته، وقطعت سرّتهم هناك، هذا على أربع أميال من مكة، يقال للمقطوع سُرْ، والبقية سُرّة. السُّرْ: الموضع الذي سُرّ فيه الأنبياء، يعني: قُطعت سررهم. ففيه: تذكير النبي ﷺ بحوادث الأنبياء، وتشرّف الأماكن بما يحدث عليها، قال هذا المحل يعني قُطع فيه سُرّة سبعون نبيّ، فمعناه اكتسب هذا المكان شرفًا وبركةً وخيرًا؛ هذا معنى كلام النبي ﷺ.

يقول: "أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مَرَّ بِامْرَأَةٍ مَجْذُومَةٍ، وَهِيَ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ" أصابها داء الجذام "فَقَالَ لَهَا: يَا أَمَةَ اللَّهِ لاَ تُؤْذِي النَّاسَ، لَوْ جَلَسْتِ فِي بَيْتِكِ"؛ يعني: كان خيرًا لك، فلما أرشدها إلى الجلوس في بيتها امتثلت ذلك من كرامتها وحسن أدبها "فَجَلَسَتْ"، حتى أنه لم يفرض عليها، فقال يا أمة الله لا تؤذي الناس لو جلست في بيتك، "فَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ لَهَا: إِنَّ الَّذِي كَانَ قَدْ نَهَاكِ قَدْ مَاتَ"؛ يعني: عمر بن الخطاب، "فَاخْرُجِي. فَقَالَتْ"، في كرامتها وشهامتها: "مَا كُنْتُ لأُطِيعَهُ حَيًّا وَأَعْصِيَهُ مَيِّتاً"، أنا أخذت إرشاده من أجل الله تعالى، فما أترك هذا الإرشاد وإن مات عمر بن الخطاب. وهكذا شأن الصادقين المخلصين، فهذا دليل على صفاء باطن هذه المرأة، وصحة ضميرها ويقظته. 

وذكر مالك يقول: "أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ: مَا بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْبَابِ الْمُلْتَزَمُ." هذا هو الملتزم الذي التزمه النبي ﷺ، وألصق به بطنه الشريف، صدره الشريف، ورفع رأسه ويديه، وبكى عنده، ثم التفت وإذا بسيدنا عمر، قال: "يا عمر ها هنا تسكب العبرات" فهو الملتزم، وعنده نُجح المطالب، يستجاب فيه الدعاء، ما بين باب الكعبة والحجر الأسود، فما بين الركن والباب هذا الملتزم الذي يُسن التزامه، فإنه ﷺ ألصق صدره به، ورفع رأسه ويديه وبكى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. 

وذكر: "أَنَّ رَجُلاً مَرَّ عَلَى أبِي ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ"؛ موضع قريب من المدينة "وَأَنَّ أَبَا ذَرٍّ سَأَلَهُ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ فَقَالَ: أَرَدْتُ الْحَجَّ. فَقَالَ: هَلْ نَزَعَكَ غَيْرُهُ؟" أخرجك من بيتك شيء غير هذا القصد؟ "فَقَالَ لاَ. قَالَ: فَاستأْنِفِ الْعَمَلَ"؛ يعني: أنه غُفر لك ما تقدم، فابدأ الآن العمل من جديد ما دمت خرجت لا تريد إلا بيت الله وإلا الحج، مالك غرض غير ذلك، "قَالَ الرَّجُلُ: فَخَرَجْتُ حَتَّى قَدِمْتُ مَكَّةَ، فَمَكَثْتُ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ إِذَا أَنَا بِالنَّاسِ مُنْقَصِفِينَ عَلَى رَجُلٍ، فَضَاغَطْتُ عَلَيْهِ النَّاسَ، فَإِذَا أَنَا بِالشَّيْخِ الَّذِي وَجَدْتُ بِالرَّبَذَةِ"، هو نفسه الذي راح للحج، "يَعْنِي أَبَا ذَرٍّ، قَالَ: فَلَمَّا رَآنِي عَرَفَنِي فَقَالَ: هُوَ الَّذِي حَدَّثْتُكَ"؛ الأمر يعني سمعت هذا الخبر من النبيّ؛ أن من خرج حاجًا مخلصًا لوجه ربه، رجع ولا ذنب له، "من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه". 

وأنكر ابن شهاب الاستثناء في الحج، وذلك هو الاشتراط، أن يشترط في الحج. وقال به الإمام مالك، وأبو حنيفة، وكذلك عامة الأئمة، يقول به الإمام أحمد، وكذلك عند الشافعية الذين قالوا: حِلّي حيث حبستني. 

وكذلك منع الإمام مالك أن يحتشّ الرجل لدابته من الحرم، فإنه أمر أن لا يُقطع شجرها، ولا يُختلى خلاها، وأنه أباح الإذخر فقط، أما ما عدا ذلك، فلا يجتزّ من شجر مكة المكرمة تعظيمًا للحَرَم، والله أعلم. 

أكرمنا بالتقوى والقرب والاستقامة، وأتحفنا بالمِنَنَ والمواهب والكرامة، ويصلح شؤوننا في الدنيا والبرزخ ويوم القيامة، ويختم لنا بالحسنى وهو راضٍ عنا، بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

26 ذو الحِجّة 1442

تاريخ النشر الميلادي

05 أغسطس 2021

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام