(364)
(535)
(604)
شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الحج، باب الإفاضة، وباب دخول الحائض مكة.
فجر الأحد 8 ذي الحجة 1442هـ.
باب الإِفْاضَةِ
1227 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَطَبَ النَّاسَ بِعَرَفَةَ، وَعَلَّمَهُمْ أَمْرَ الْحَجِّ، وَقَالَ لَهُمْ فِيمَا قَالَ: إِذَا جِئْتُمْ مِنًى، فَمَنْ رَمَى الْجَمْرَةَ فَقَدْ حَلَّ لَهُ مَا حَرُمَ عَلَى الْحَاجِّ، إِلاَّ النِّسَاءَ وَالطِّيبَ، لاَ يَمَسَّ أَحَدٌ نِسَاءً وَلاَ طِيباً، حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ.
1228 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: مَنْ رَمَى الْجَمْرَةَ، ثُمَّ حَلَقَ أَوْ قَصَّرَ وَنَحَرَ هَدْياً، إِنْ كَانَ مَعَهُ، فَقَدْ حَلَّ لَهُ مَا حَرُمَ عَلَيْهِ، إِلاَّ النِّسَاءَ وَالطِّيبَ، حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ.
باب دُخُولِ الْحَائِضِ مَكَّةَ
1229 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، أَنَّهَا قَالَتْ : خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهْلِلْ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ، ثُمَّ لاَ يَحِلُّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعاً". قَالَتْ: فَقَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ، فَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ، وَلاَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ: "انْقُضِي رَأْسَكِ وَامْتَشِطِي، وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ وَدَعِي الْعُمْرَةَ". قَالَتْ: فَفَعَلْتُ، فَلَمَّا قَضَيْنَا الْحَجَّ، أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ إِلَى التَّنْعِيمِ، فَاعْتَمَرْتُ فَقَالَ: "هَذَا مَكَانُ عُمْرَتِكِ". فَطَافَ الَّذِينَ أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ بِالْبَيْتِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ حَلُّوا مِنْهَا، ثُمَّ طَافُوا طَوَافاً آخَرَ، بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى لِحَجِّهِمْ، وَأَمَّا الَّذِينَ كَانُوا أَهَلُّوا بِالْحَجِّ، أَوْ جَمَعُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافاً وَاحِداً.
1230 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ بِمِثْلِ ذَلِكَ.
1231 - حَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهَا قَالَتْ: قَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ، فَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ، وَلاَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: "افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ، غَيْرَ أَنْ لاَ تَطُوفِي بِالْبَيْتِ، وَلاَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، حَتَّى تَطْهُرِي".
1232 - قَالَ مَالِكٌ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِى تُهِلُّ بِالْعُمْرَةِ، ثُمَّ تَدْخُلُ مَكَّةَ مُوَافِيَةً لِلْحَجِّ وَهِيَ حَائِضٌ، لاَ تَسْتَطِيعُ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ: إِنَّهَا إِذَا خَشِيَتِ الْفَوَاتَ أَهَلَّتْ بِالْحَجِّ وَأَهْدَتْ، وَكَانَتْ مِثْلَ مَنْ قَرَنَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، وَأَجْزَأَ عَنْهَا طَوَافٌ وَاحِدٌ، وَالْمَرْأَةُ الْحَائِضُ إِذَا كَانَتْ قَدْ طَافَتْ بِالْبَيْتِ، وَصَلَّتْ قَبْلَ أنْ تَحِيضَ، فَإِنَّهَا تَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَتَقِفُ بِعَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ، وَتَرْمِى الْجِمَارَ، غَيْرَ أَنَّهَا لاَ تُفِيضُ حَتَّى تَطْهُرَ مِنْ حَيْضَتِهَا.
الحمد لله مكرمنا ببيان الشريعة، على لسان عبده المصطفى ذي المراتب الرفيعة والجاهات الوسيعة، سيدنا محمد صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وأصحابه الداخلين حُصونَه المَنيعة، وعلى من والاهم وتبعهم بإحسانٍ في الأمر جميعه، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين الذين جعلهم الله في أهل محبته وقربه المُقدَّمة والطَّليعة، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المقرّبين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
وبعدُ،
فيذكر الإمام مالك -عليه رضوان الله- بعض الأحكام المتعلقة بالإفاضة، وطواف الإفاضة؛ وهو الطواف بعد الوقوف بعرفة للحجّاج.
وذكر لنا أثر سيدنا عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه-: "أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَطَبَ النَّاسَ بِعَرَفَةَ"؛ لمّا حج في أيام إمارته -رضي الله تبارك وتعالى عنه-، "وَعَلَّمَهُمْ"؛ أي: في خطبته، "أَمْرَ الْحَجِّ"؛ ما يستقبلونه من أحكامه كالمبيت بمزدلفة، وجمع الصلاتين بها، والوقوف بها، والدفع منها، ورمي العقبة، والذبح، والحِلَاقُ، وطواف الإفاضة، وما إلى ذلك..
"عَلَّمَهُمْ أَمْرَ الْحَجِّ، وَقَالَ لَهُمْ فِيمَا قَالَ:"؛ في خطبته: "إِذَا جِئْتُمْ مِنًى، فَمَنْ رَمَى الْجَمْرَةَ فَقَدْ حَلَّ لَهُ مَا حَرُمَ عَلَى الْحَاجِّ، إِلاَّ النِّسَاءَ وَالطِّيبَ، لاَ يَمَسَّ أَحَدٌ نِسَاءً وَلاَ طِيباً، حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ."؛ ففي هذا ذكر التحلّل من الحج، والتحلل من الحج قسمان:
تحلل أول
وتحلل ثاني
في التحلل الأول: تباح له محظورات الإحرام كلها إلا النساء، وأما ذكر الطّيِب فمختلف فيه، وهو عند مالك: الطّيِب، وألحق به أيضًا سيدنا مالك: الصيد، إنما يكون الصيد في حق من خرج عن حدود الحرم وأراد أن يصطاد، وأما وسط الحرم فإن الصيد حرام أصلًا على المُحرم وغير المُحرم، ولا يُباح بشيء من تحلل من حج ولا عُمرة.
فالتحلل الأول؛ يحصل بفعل اثنين من الثلاثة الأعمال في يوم النحر:
وهي الرمي
والحلق
والطواف
ثلاثة واجبات..
إذا عمل اثنين منها حصل التحلل الأول،
فإذا عمل الثالث حصل التحلل الثاني.
إذًا؛ برمي جمرة العقبة مع الحلق يَحِلُّ كلّ شيء إلا النساء، وكذلك برمي جمرة العقبة والطواف، كذلك بالطواف والحلق، فتبقى جمرة العقبة، واحدٌ من هذه الثلاث. اثنان إذا عملهما حصل التحلل الأول، فإذا عمل الثالث فقد كَمُلَ تحلله.
وهكذا، إذا رمى جمرة العقبة ثم حَلَق حَلَّ له ما كان محظورًا بالإحرام إلا النساء، هكذا يقول الأئمة -رضي الله عنهم-،
وزاد مالك: الطيب والصيد.
مع قول غيره: بأنّ الطيب يدخل فيما أُبيح له بالتحلل الأول.
وقد طيّبت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- رسول الله ﷺ لطوافه الإفاضة، وذلك بعد أن رمى ونحر وحلق ﷺ، طيّبته لأجل طواف الإفاضة، فدلَّ على أن الطيب كغيره من بقية محرّمات الإحرام، يجوز بالتحلل الأول.
وقد جاء في حديث ترويه عائشة عنه ﷺ: "إذا رَمَيْتُم وحَلَقْتُم فقد حَلَّ لكم الطِّيبُ، والثِّيابُ، وكُلُّ شَيْءٍ إلَّا النِّساءُ"، وفي لفظ: "إذا رَمَى أحَدُكُم جَمْرةَ العَقَبةِ وأحْلَقَ رأسه، قد حَلَّ له كُلُّ شَيْءٍ إلَّا النِّساءُ". وهكذا جاء في الصحيحين أنها طيّبته ﷺ لإحرامه حين أحرم في البداية في المدينة، كما أنها طيّبته قبل أن يطوف بالبيت؛ أي طواف الإفاضة، اللهم صل على سيدنا محمد وآله.
قال عمر بن الخطاب: "إذا رميتُمْ الجمرة وذَبَحتُمْ وحَلَقْتُمْ فقدْ حَلَّ لَكم كُلُّ شيءٍ إلَّا الطيبُ والنساءُ"؛ هذا مذهب مالك في الطيب. فقالت عائشة: "أنا طيَّبتُ رسول الله ﷺ"، فَسُنّة رسول الله أحقُّ أن تُتَّبع؛ أي: طيَّبته لأجل طواف الإفاضة، وكان ﷺ وهو أطيب الخلق رائحة يعتني بالطيب تشريعًا لأمته صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وأحبُّ الطِّيب إليه المسك، ولمّا تطيَّب بالمسك في شعر رأسه قبل الإحرام، أحرَمَ وإنَّ وَبيصَ المسك يُرى في مفرق رأسه ﷺ.
وهكذا جاء عن ابن عباس: "إذا رَمَيْتُم الجَمْرةَ فقد حَلَّ لكم كُلُّ شيءٍ إلا النساءَ" فقال له رجل: والطيب؟ قال: "أما أنا فقد رأيت رسول الله ﷺ يُضَمِّخُ رأسه بالمسك، أفطيبٌ ذلك أم لا؟" وهكذا..
قال الإمام مالك: يبقى النساء والطيب، وقتل الصيد لا يحلُّ حتى يتحلل التحلل الثاني، قَتل الصيد إذا كان خارج حدود الحرم، إذا خرج من حدود الحرم، وأما ما دام في منى فالحرم يَحرُم فيه الصيد للمُحرم ولغير المُحرِم، لا يجوز أن يصطاد في الحرم الشريف صيد البَرْ، وفي غير الحَرَم، (لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ) [المائدة:95]؛ مَن كان مُحرمًا بحجٍّ أو بعمرة، هكذا..
وتَركَّز التحليل عند الحنفية على الحَلْق، فحكمه عندهم التحلل، فبالحلق يُباح به جميع ما حُظِرَ من الإحرام إلا النساء. وذكر لنا أيضًا عن سيدنا عمر بن الخطاب قال: "مَنْ رَمَى الْجَمْرَةَ، ثُمَّ حَلَقَ أَوْ قَصَّرَ"؛ ففيه ذكر اثنين من الثلاثة، "وَنَحَرَ هَدْياً"؛ وليس ذلك بشرط، وإنما ينبغي أن يُقدِّمَ نَحْرَ الهَدي على استحلال بقية مُحرَّمات الإحرام، "إِنْ كَانَ مَعَهُ، فَقَدْ حَلَّ لَهُ مَا حَرُمَ عَلَيْهِ، إِلاَّ النِّسَاءَ وَالطِّيبَ، حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ."؛ وكلام سيدنا عمر في الطيب هو موافق لمذهب الإمام مالك -رضي الله تعالى عنه-.
وذكر لنا "دخول الحائض إلى مكة"، وأن الحائض تصنع جميع أعمال الحج إلا الطواف بالبيت، فإنه يَحْرُم عليها دخول المسجد، ولا يَصِح منها طوافٌ فهو بمنزلة الصلاة، حتى تَطْهُر.
والطواف في الحج على ثلاثة أنواع: طواف القدوم؛ وهو عندما يَقْدَمُ الحاج إلى مكة المكرمة، فإذا طاف طواف القدوم،
وهو سُنّة عند جمهور أهل العلم
وواجب عند المالكية
فيجوز له بعد طواف القدوم أن يسعى بين الصفا والمروة، ويجوز أن يؤخِّر السعي إلى ما بعد طواف الإفاضة، وتقديمه أفضل اتِّباعًا له ﷺ. فأما إذا لم يَسعَ بعد طواف القدوم، ثم وقف بِعَرَفة؛ فلا يجوز له أن يسعى بين الصفا والمروة حتى يطوف طواف الإفاضة، وشرط السعي أن يكون بعد طوافٍ صحيح؛ إما طواف القدوم، أو طواف الإفاضة، فإذا تخلل بينهما الوقوف، لا يجوز حتى يطوف طواف الإفاضة.
وذكر: "عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ -رضي الله عنها-، أَنَّهَا قَالَتْ : خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ"؛ وفيها خرج بأمهات المؤمنين كلهن ﷺ، "فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ"؛ أي: لتكون مُتَمتِّعَة في أوّل الأمر، ولكنّ النبي فيما بعد حَوَّل إحرامها إلى الحج، ويقول: "ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهْلِلْ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ"؛ أي: فيكون قارنًا، يُدخِل الحَجَّ مع العُمرة، "مَن كان معه هَديٌ فعليه أن يُقْرِنَ إن شاء"؛ أي: من كان معه الآن شيءٌ من الإبل، أو البقر، أو الغنم، يَسُوقها إلى مكة، فَيُقَلِّد الإبل والبقر ويُشعِرهُما،
فمعنى القِلاد: بأن يجعل على عنق ذلك الحيوان خيطًا، ويربط به نعلًا، لِيَدُلَّ على أنه مُهدى إلى الحرم،
والإشعار: عند سِنَام الجمل أو البقر، يأتي بالسكين، يَشُقّه حتى يظهر الدم، فيُلَطِّخُ به بقية السِّنام، فيكون علامة أنّ هذا أُهدِيَ إلى الحرم.
"ثُمَّ لاَ يَحِلُّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعاً، قَالَتْ: فَقَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ، فَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ، وَلاَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -ﷺ- فَقَالَ: انْقُضِي رَأْسَكِ وَامْتَشِطِي، وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ وَدَعِي الْعُمْرَةَ"؛ يعني: اترُكي العمرة، فقال بعضهم: إنما أنها أرادت أن تخرج من الإحرام بالعمرة إلى الإحرام بالحج، وقال آخرون: بل معنى تركها للعمرة؛ تترك أعمالها الآن حتى تقف بعرفة، وتعود فتطوف وقد طَهُرَت.
يقول: "قَالَتْ: فَفَعَلْتُ، فَلَمَّا قَضَيْنَا الْحَجَّ، أَرْسَلَنِي"؛ بطلبها، طلبت من النبي أن تعتمر عمرة مخصوصة، "أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَعَ -أخيها- عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي الله عنهم- إِلَى التَّنْعِيمِ، فَاعْتَمَرْتُ فَقَالَ: هَذَا مَكَانُ عُمْرَتِكِ."؛ يعني: عِوَضْ عُمرَتك، قال بعضهم: المعنى أنه؛ مكان العُمرة التي أردتها مفردة قبل ما تُدخلين الحج على العمرة، هذا محلّها: إفرادٌ بالعُمرة، وإلا فقد دخل الحج على العمرة وصارت قارنة.
"فَطَافَ الَّذِينَ أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ بِالْبَيْتِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ حَلُّوا مِنْهَا، ثُمَّ طَافُوا طَوَافاً آخَرَ، بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى لِحَجِّهِمْ، وَأَمَّا الَّذِينَ كَانُوا أَهَلُّوا بِالْحَجِّ، أَوْ جَمَعُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ, فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافاً وَاحِداً."؛
وهذا دليل مذهب الجمهور: من أنه يكفي طواف واحد عن الحج والعمرة، وسعي واحد عن الحج والعمرة، إذا كان قارنًا.
قال الحنفية: لا، بل لا بد أن يطوف طوافًا عن العمرة وطوافًا عن الحج، وكذلك السعي؛ يسعى سعيين: سعي للعمرة، وسعي بين الصفا والمروة لأجل الحج.
وذكر "عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ بِمِثْلِ ذَلِكَ."، والحديث أيضًا مخرَج في البخاري ومسلم وغيرهما.
وذكر لنا حديث "عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهَا قَالَتْ : قَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ، فَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ، وَلاَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ، غَيْرَ أَنْ لاَ تَطُوفِي بِالْبَيْتِ، وَلاَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، حَتَّى تَطْهُرِي."، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
"قَالَ مَالِكٌ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِى تُهِلُّ بِالْعُمْرَةِ، ثُمَّ تَدْخُلُ مَكَّةَ مُوَافِيَةً لِلْحَجِّ وَهِيَ حَائِضٌ، لاَ تَسْتَطِيعُ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ: إِنَّهَا إِذَا خَشِيَتِ الْفَوَاتَ أَهَلَّتْ بِالْحَجِّ وَأَهْدَتْ، وَكَانَتْ مِثْلَ مَنْ قَرَنَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، وَأَجْزَأَ عَنْهَا طَوَافٌ وَاحِدٌ"؛ وهو مذهب الجمهور. وسمعنا قول الحنفية: أنه لا بد لها من طوافين، ومن سعيين.
"وَالْمَرْأَةُ الْحَائِضُ إِذَا كَانَتْ قَدْ طَافَتْ بِالْبَيْتِ، وَصَلَّتْ قَبْلَ أنْ تَحِيضَ، فَإِنَّهَا تَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَتَقِفُ بِعَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ، وَتَرْمِى الْجِمَارَ، غَيْرَ أَنَّهَا لاَ تُفِيضُ"؛ يعني: لا تطوف طواف الإفاضة، "حَتَّى تَطْهُرَ مِنْ حَيْضَتِهَا". وأما التي قد طافت طواف الإفاضة؛ فيسقط عنها طواف الوداع، إذا حاضت قبل انتهاء الحج، وفي أيام مِنَى، قبل خروجها من مكة، إذا حاضت سقط عنها طواف الوداع، خِلاف غيرها.
بارك الله لنا ولكم في أوقاتنا وأقواتنا وحركاتنا وسكناتنا، ومقاصدنا ونياتنا وجميع شؤوننا، وتقلُّباتنا وأطوارنا في سِرّنا وإجهارِنا، بركةً تامة كاملة يجمع لنا بها نفحات كل لحظة وكل ساعة، وكل يوم وكل ليلة، وكل شعيرة وكل عمل مبرور، وكل سعيٍ مشكور، ويعيذنا في جميع الأمور من شرور الأنفس وسيئات الأعمال، ويشفي مرضانا ويعافي مبتلانا ويصلح ظاهرنا وخفايانا وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
16 ذو الحِجّة 1442