(364)
(535)
(604)
شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الحج، باب رَمْي الْجِمَارِ.
فجر الأربعاء 4 ذي الحجة 1442هـ.
باب رَمْي الْجِمَارِ
1212- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَقِفُ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ وُقُوفاً طَوِيلاً، حَتَّى يَمَلَّ الْقَائِمُ.
1213- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقِفُ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ وُقُوفاً طَوِيلاً، يُكَبِّرُ اللَّهَ، وَيُسَبِّحُهُ وَيَحْمَدُهُ، وَيَدْعُو اللَّهَ، وَلاَ يَقِفُ عِنْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ.
1214- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يُكَبِّرُ عِنْدَ رَمْي الْجَمْرَةِ، كُلَّمَا رَمَى بِحَصَاةٍ.
1215- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ سَمِعَ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: الْحَصَى الَّتِي يُرْمَى بِهَا الْجِمَارُ مِثْلُ حَصَى الْخَذْفِ.
قَالَ مَالِكٌ: وَأَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ قَلِيلاً أَعْجَبُ إِلَيَّ.
1216- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: مَنْ غَرَبَتْ لَهُ الشَّمْسُ مِنْ أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَهُوَ بِمِنًى، فَلاَ يَنْفِرَنَّ حَتَّى يَرْمِي الْجِمَارَ مِنَ الْغَدِ.
1217- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ النَّاسَ كَانُوا إِذَا رَمَوُا الْجِمَارَ مَشَوْا، ذَاهِبِينَ وَرَاجِعِينَ، وَأَوَّلُ مَنْ رَكِبَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أبِي سُفْيَانَ.
1218- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ سَأَلَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْقَاسِمِ مِنْ أَيْنَ كَانَ الْقَاسِمُ يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ؟ فَقَالَ: مِنْ حَيْثُ تَيَسَّرَ.
1219- قَالَ يَحْيَى: سُئِلَ مَالِكٌ هَلْ يُرْمَى عَنِ الصَّبِيِّ وَالْمَرِيضِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَيَتَحَرَّى الْمَرِيضُ حِينَ يُرْمَى عَنْهُ، فَيُكَبِّرُ وَهُوَ فِي مَنْزِلِهِ، وَيُهَرِيقُ دَماً، فَإِنْ صَحَّ الْمَرِيضُ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ رَمَى الَّذِي رُمِيَ عَنْهُ، وَأَهْدَى وُجُوباً.
1220- قَالَ مَالِكٌ: لاَ أَرَى عَلَى الَّذِي يَرْمِي الْجِمَارَ، أَوْ يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَوَضِّئٍ إِعَادَةً، وَلَكِنْ لاَ يَتَعَمَّدُ ذَلِكَ.
1221- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: لاَ تُرْمَى الْجِمَارُ فِي الأَيَّامِ الثَّلاَثَةِ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ.
الحمد لله مُكْرِمِنا بالعبادة، والتَّوفيق للوجهة إليه لمَن أراده في الغيب والشَّهادة، وصلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم على عبده المُجتبى سيِّد السَّادة، سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله وصحبه القادة، وعلى مَن والاهم واتبعهم بإحسان على مسلك الرشاد والتُّقى في الغيب والشَّهادة، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين سادات أهل الفضل والسَّعادة، والذين جعلهم الله محل الإمامة والكرامة والقيادة، وعلى آلهم وصحبهم ومن تبعهم بإحسان وعلى ملائكة الله المُقربين وعباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين.
ويذكر سيِّدنا الإمام مالك -رضي الله تعالى عنه- حُكم الرَّمي وما ورد في ما يتعلّق برمي جمرة العقبة والجمار الثلاث بمِنى أيام التَّشريق.
يوم العيد، ويقال له: يوم النَّحر.
ثم يليه اليوم الأول من أيام التَّشريق ويسمى يوم القرّ لأن النَّاس يقرون ويستقرون فيه في مِنى.
واليوم الثاني من أيام التَّشريق الثاني عشر ويسمى يوم النَّفر الأول.
واليوم الثالث من أيام التَّشريق يوم الثالث عشر ويسمى يوم النَّفر الثاني.
فهذه الأيام التي يتم فيها رَمْي الْجِمَارِ.
والجمار: الموضع الذي عيّن ﷺ الرمي إليه، ثم إنه من بعده بُنيَ عليه شواخص وتجدّدت على مدى القرون لتكون علامة. والمعتبر المرمَى نفسه؛ الحجرة التي ترمى، والموضع الذي يُلقى إليه الحجر، وتجدّد ذلك الشاخص في الأخير ورفعوه إلى أعلى، وجعلوا له طوابق، والشاخص ليكون علامة ولكن لا بُدّ من وقوع الحصاة المرمية في المرمى وهو الذي تحت ذلك الشاخص من جوانبه، وقد جُعل عليه في أسفله حوض.
○ فإذا رمى الشاخص ثم عادت الحجرة المرمية من الشاخص إلى خارج الحوض؛ لم يُعتدّ بها ولم تحسب.
○ وإذا رمى مباشرة إلى المرمى دون الشاخص؛ أجزأ وصحّ.
○ وإذا رمى إلى الشاخص ثم سقطت في المرمى؛ صحّ ذلك.
فهكذا شأن هذا الرمي الذي تعبّدنا الله به، ففيه توطين لقلوبنا وإعلانٌ منا على مناوءة عدو الله إبليس ومخالفته، وأننا ممتثلين لأمر الله -سبحانه وتعالى- ومنقادين له خاضعين لجلاله، ويكون هذا الرَّمي إشارة إلى طاعتنا للحق وعدم انقيادنا لإبليس وجنده.
والرَّمي سبع حصيات لكل جمرة، يختص جمرة العقبة منها فإنها جمارٌ ثلاث، فمجتمع الحصى من كل واحدة هو الجمرة، وهي ترمى أيضًا بالجمار؛ الحصيات الصغيرات التي تكون في مقدار الحمص، لا ينبغي أن تكبر، ولا أن تدق ولكن تكون مثل الأنملة من الأصبع مثل الحمص؛ فهي حَصَى الْخَذْفِ كما سمعنا في الحديث، يرمى بمثل حَصَى الْخَذْفِ.
○ وينبغي أن يمسك الحجرة التي يرميها بإبهامه وسبابته.
○ ويُسنّ أن يرفع يده، وأن يرمي رميًا ولا يصح أن يضعها في المكان من دون رمي بل لا بُدّ من الرَّمي.
○ ويُسنّ التَّكبير عند الرمي، كما كبَّر ﷺ عندما رمى جمرة العقبة مع كل حصاة، فمع رمي كل حصاة يكبِّر.
وتختصّ جمرة العقبة بالرمي الأول؛
الذي هو واجب عند عامة الأئمة.
وقال بعض المالكية: أنه ركن، لا يصح الحج بدونه؛ أي رمي جمرة العقبة.
وبقية الجمار في رميها في الأيام الثلاثة الذي عليه جمهور أهل الفقه: أن ذلك واجب من الواجبات يجبر بالدم.
وقيل: سُنَّة مؤكدة أيضًا تجبر بالدم.
وقيل: هو سُنَّة.
والمعتمد: أنه واجب من واجبات الحج؛ رمي جمرة العقبة في يوم العيد يوم النَّفر.
فيمتد بعد ذلك الوقت:
عند الشَّافعية: يبتدأ من نصف اللَّيل.
وعند غيرهم من الفجر.
ويُسن تأخيره إلى الإشراق، فيرمي وقت الضُّحى،
ويستمر اليوم كله بالرمي إلى المغرب بل وإلى اللَّيل.
ولمَّا تأخر بعض النِّساء لأجل النّفاس في مُزدلفة، فما وصلت ومن معها إلى مِنى إلا بالليل، أمرهم ابن عُمَر أن يرموا ولم يرَ عليهم شيئًا.
بل قال الشَّافعية:
رمي جمرة العقبة الذي يدخل من نصف اللَّيل، يدوم وقته طول اليوم؛ يوم النَّحر وفي اللَّيل، واليوم الأول من أيام التَّشريق، وفي اللَّيل، واليوم الثاني من أيام التَّشريق، وفي اللَّيل، واليوم الثالث من أيام التَّشريق إلى الغروب، هذا وقت الرمي جمرة العقبة. وكذلك كل جمرة من الجمرات يدخل وقتها كل يوم في الظُّهر عند زوال الشَّمس ثم يستمر إلى آخر يوم من أيام التَّشريق إلى غروب الشَّمس، إلى آخر يوم من أيام التَّشريق. وهكذا يكون الرمي في يوم العيد لواحدة، وهي جمرة العقبة والمسماة بالجمرة الكبرى، وهي التي إلى جهة مكَّة. وهي التي قال أكثر أهل العلم: أنها من خارج حدود مِنى.
وقال المالكية: أن الجمرة من مِنى، وأن الجبل وراءها ليس من مِنى، العقبة التي وراءها. وقيل: هي العقبة، قد كان عندها عقبة في طرف الجبل فلذلك سميت جمرة العقبة.
وقد بايع ﷺ عندها الرَّهط من الأنصار قبل هجرته -عليه الصَّلاة والسَّلام-، ولمَّا تمت البيعة صاح إبليس من شدة غيظه لم يطق هذا المظهر والمنظر وقيام النَّاس لمبايعة سيِّد النَّاس ﷺ، وتلبية دعوة الحق -جلَّ جلاله-. وصاح في فجاج مِنى عند المشركين: هذا مُحمَّد صبأ، يبايعونه، سمع صوته، فقال ﷺ: أن هذا إبليس فانصرفوا إلى أماكنكم، ولأتفرغنّ لك، يقول إبليس: أي أعمل من العمل ما يغيظك، ويبطل كيدك وسعيك في الأمة، ويقوم به هذا الدّين على رغم أنفك، فقال له: لأتفرغنّ لك، فكان الأمر كذلك.. فأغاظه الله -تبارك وتعالى- ولم يزل يغيظه، ويتجدّد غيظه ودحره وصَغَاره وذلّته في كل يوم عرفة، لمَا يرى من عتق الله لأُمة مُحمَّد ﷺ من النَّار، ولما يرى من التَّجاوز عن الذُّنوب العظام، يقول: هذا الذي نبنيه في مدة طويلة، يُهدم في لحظة وفي ساعة من السَّاعات، فيحثو التُّراب على رأسه، أخزاه الله تعالى.
هذا الرمي، كان يمشي ﷺ عند الزّوال من مسجد الخيف حيث ضُربت قبّته، وأقام الثلاث الليالي بمسجد الخيف، فيخرج بعد الزَّوال مكبّرًا ماشيًا على رجليه الشَّريفتين حتى ينتهي إلى الجمرة الصُّغرى -الأولى-، ويرمي مستقبلًا للقبلة ثم ينتحي عن اليمين ناحية ويستقبل القبلة ويقوم داعيًا ومكبّرًا ومسبّحًا حتى يكون قيامه بمقدار قراءة سورة البقرة، ثم يمضي إلى الجمرة الوسطى، فيرميها مستقبلًا للقبلة ثم ينتحي ناحيةً عن يمينه، ويستقبل القبلة ويدعو دعاءً طويلًا مكبّرًا مسبّحًا حتى يكون بمقدار سورة البقرة. ثم يذهب إلى جمرة العقبة، ولا يستقبل القبلة عند الرمي، فإن جمرة العقبة.. الذي صحّح أكثر الفقهاء أنها ترمى من وجه واحد، وذلك أنه كان من الوجه الثاني العقبة موجودة لا المرمى، فيأتون إلى هذه الجهة فيجعلون مكَّة عن يسارهم ومِنى عن يمينهم، ويرمون. وكنا نعهد كذلك ولا مكان للرمي من الجهة الأخرى حتى كانت التوسعة الأخيرة وجعلوها من الجهات كلها. وعلى كل الأحوال:
○ إذا وصل الحجر المرمِي إلى المرمى؛ فقد صحّ الرمي.
○ وقد جعل على المرمى حوض من الأول ثم جُدّد، فما دخل وسط ذلك الحوض؛ فقد صحّ فيه الرمي.
○ وما كان دونه، لا يصل إليه؛ لا يصح الرمي.
○ وما وصل إلى الحوض وإن خرج بعد ذلك؛ لا يضر.
○ وإن وصل إلى الشاخص والجدار المبني على الحوض، فسقط في الحوض صح.
○ وإن ارتد وخرج إلى خارج الحوض؛ لم يصح ولا تحسب هذه الرمية، بل لا بُد أن يقع في الحوض في محل المرمى.
ولم يقف بعد جمرة العقبة للدعاء، وإنما يُسن الدُّعاء كل يوم عند الوقوف بعد رمي الجمرة الأولى وبعد رمي جمرة الوسطى، ولا يجب الدُّعاء بعد رمي جمرة العقبة. فقال بعض أهل اللطافة من أهل العلم، وقد سُئل بعد الرمي، أدعوتم بعد جمرة الأولى والثانية؟ فقال: نعم، قال له: بمقدار سورة البقرة، قالوا: دعونا بمقدار سورة الفيل، والفيل أكبر من البقرة!! جسم الفيل أكبر من جسم البقرة ولكن سورة الفيل قصيرة.. فهكذا كان من السُّنَّة الدُّعاء والتَّطويل في الدُّعاء بعد الجمرة الأولى والجمرة الثانية لكل يوم من أيام التَّشريق عبودية وخضوعًا وإجلالًا للرب وتعرضًا للنفحات.
يقول في: "باب رَمْي الْجِمَارِ"، بلغ مالك: "أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - ضي الله عنه- كَانَ يَقِفُ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ وُقُوفاً طَوِيلاً" هذا الذي أشرنا إليه، "حَتَّى يَمَلَّ الْقَائِمُ" من طول القيام، اتباعًا لفعل المُصطفى خير الأنام ﷺ. يجمع بين الدُّعاء والذِّكر في قيام طويل وإلا فقصير على حسب همّته، ليوافق السُّنَّة في أصل القيام، وطوله أفضل.
ثم جاء: "أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقِفُ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ وُقُوفاً طَوِيلاً"؛ مقدار ما يقرأ سورة البقرة، كما جاء في رواية ابن أبي شيبة. وجاء عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: أفاض رسول الله ﷺ من آخر يوم حين صلى الظُّهر ثم رجع إلى منى، فمكث فيها ليالي أيام التَّشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشَّمس، كل جمرة بسبع حصيات، يكبّر مع كل حصاة ويرفع يديه رفعًا بيّنًا، ويرمي تعظيمًا وإجلالًا للحق، وتحقيرًا ومضادة لعدوّه إبليس وكل قاطع عن الله -جلّ جلالُه-، ويقف عند الأولى والثانية فيطيل القيام ويتضرّع، ويرمي الثالثة ولا يقف عندها، رواه أبو داود. فهذا فعله ﷺ القدوة والأسوة لمَن بعده، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه. فهذا من السُّنن:
الدُّعاء
ورفع اليد
واستقبال القبلة
كله من السُّنن.
وشُرّع التَّكبير مع كل حصاة؛ بسم الله والله أكبر، ويرمي.. بسم الله والله أكبر، وهكذا عند كل حصاة يرميها.
ومجموعها إذا أقام الثلاثة الليالي، سبعين حصاة، فسبع لجمرة العقبة، ثم إحدى وعشرين لكل يوم. واحد وعشرين، واحد وعشرين، واحد وعشرين؛ فتصير ثلاث وستين، وسبع لجمرة العقبة؛ صارت سبعين حصاة.
ويُسن أن يلتقطها وخصوصًا السبع لجمرة العقبة من مُزدلفة للاتباع.
ومن أي مكان جاء من أي حجر صحّ
بخلاف غير الحجر من تراب أو حديد ونحو ذلك، لا يجزئ إلا الحجر وما كان من نوع الحجر حتى ولو كان الحجر من ذهب أو فضة فهي من نوع الحجر. وما لم يكن من نوع الحجر؛ لا يصح الرمي به؛ ولا يعتد به. قال: "يُكَبِّرُ اللَّهَ، وَيُسَبِّحُهُ وَيَحْمَدُهُ، وَيَدْعُو اللَّهَ، وَلاَ يَقِفُ عِنْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ"، فإذا أكمل الرمي للجمرة الأولى، وقف ودعا، فإذا أكمل الرمي الجمرة الثانية، وقف ودعا.
قال: "أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يُكَبِّرُ عِنْدَ رَمْي الْجَمْرَةِ، -وهو السُّنَّة- كُلَّمَا رَمَى بِحَصَاةٍ" كبَّر، فقال: بسم الله، الله أكبر؛ يكبّر بسبع حصيات، يكبّر على إثر كل حصاة. وقال: هكذا رأيت النَّبي ﷺ يفعله. وجاء عن سالم بن عبد الله أنه رمى جمرة بسبع حصيات، يكبّر مع كل حصاة الله أكبر، الله أكبر، ثم قال: اللَّهم اجعله حجًا مبرورًا، وذنبًا مغفورًا، وعملًا مشكورًا. وقال حدثني أبي أن النَّبي ﷺ يقول كلما رمى الجمرة مثل ما قلت. وهكذا قال الإمام النَّووي: يستحب بعض أصحابنا في التكبير المشروع مع الرمي الله أكبر، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلًا، لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على شيء قدير، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدِّين ولو كره الكافرون، لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله والله أكبر. والمشهور في كتب الفقهاء والأحاديث أن التكبير المجرّد مع كل حصاة، والدُّعاء بعد ذلك.
وجاء عن الشَّافعي أنه يكبّر مع كل حصاة، يقول: الله أكبر ثلاثًا، لا إله إلا الله والله أكبر ولله الحمد. هكذا فيما جاء مع التكبير في كل حصاة، وما ورد أيضًا من قول: اللَّهم اجعله حجًا مبرورًا، وسعيًا مشكورًا، وذنبًا مغفورًا. وجاء عن سيِّدنا علي أيضًا أنه كان يقول كلمَّا رمى حصاة: اللَّهم اهدني بالهدى وقوّني بالتقوى واجعل الآخرة خيرًا لي من الأولى. وجاء أيضًا أن يقول عند كل حصاة: بسم الله والله أكبر رغمًا للشيطان وحزبه. جاء عن سيِّدنا أبي القاسم بن مُحمَّد بن أبي بكر، أنه كان إذا يرمي يقول: بسم الله، اللَّهم لك الحمد والشكر. فأي نوع من الأنواع الذّكر فهو مطلوب، والمقصود حضور القلب مع الرّب وتحقيق العبودية له -جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه-. ويجب أن تكون الرَّميات متفرّقات، فلو رمى اثنتين أو ثلاثة دفعة واحدة، وقعن دفعة واحدة؛ فهي واحدة. فلا بُد أن تكون كل واحدة بعد الأخرى.
وروى لنا: "أَنَّهُ سَمِعَ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: الْحَصَى الَّتِي يُرْمَى بِهَا الْجِمَارُ مِثْلُ حَصَى الْخَذْفِ."؛ الخذف: الرّمي بطرفي الإبهام والسبابة، والخذف منهي عنه، وهو أن يضع الحجرة الصغيرة بين أصبعيه ويرميها بواحد؛ هذا نهى عنه ﷺ. قال: "أنه لا يقتل صيدًا"، لا يصيد صيدًا، "ولا ينكأ عدوًا ولكنه يفقأ العين". ما يفيد، فنهى عن الخذف، والحصاة للرمي مثل حصى الخذف فهو ما ذكرنا من مقدار الحُمصة؛ دون الأنملة طولًا وعرضًا كمثل حبة الباقلاء، وفوق نَّواة التمر قليلًا، فهذا المقدار الذي يكون للحصاة عند الرمي.
"قَالَ مَالِكٌ: وَأَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ قَلِيلاً أَعْجَبُ إِلَيَّ" بالتوسط من دون المبالغة في الكِبَر. وقلنا: الأفضل أن تكون من مُزدلفة ولكن من أي مكان أُخذها صح، إلا أنه لا ينبغي أن يأخذها مما قد رُميَ به. وذكر لنا: "أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: مَنْ غَرَبَتْ لَهُ الشَّمْسُ مِنْ أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَهُوَ بِمِنًى، فَلاَ يَنْفِرَنَّ حَتَّى يَرْمِي الْجِمَارَ مِنَ الْغَدِ"، قال تعالى: (فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ لِمَنِ اتَّقَىٰ) [البقرة:203].
قال الأئمة الثلاثة: فالذي يريد النَّفر الأول، يرمي الجمار الثلاث بعد الظُّهر ثم يدخل إلى مِنى لينفر منها.
○ فإن نفر قبل غروب الشَّمس؛ صحّ نفره.
○ وإن تأخر في مِنى حتى غربت الشَّمس؛ بقي في محله ولا يجوز له أن ينفر، بل يجب عليه المبيت والرمي ثاني يوم بعد الظُّهر.
وقال الحنفية: بل له النَّفر مادام اللَّيل باقي للفجر، له أن ينفر إلى الفجر.
وقال غيرهم من الأئمة الثلاثة وغيرهم: أنه إذا غربت عليه الشَّمس وهو وسط حدود مِنى؛ فلا يجوز له النَّفر.
قال الشَّافعية وغيرهم: إلا إذا كان قد تهيأ للرحيل وقد استعدّ وخرج.
كما يحصل من زحمة السيارات وغيرها، في غير أيام البلاء والشّر والكورونا والضّر، فيحصل من الزحمة أنهم يركبون ويأخذون متاعهم، وما يجدون الطريق، فتغرب الشَّمس عليهم وهم لازالوا داخل حدود مِنى؛ فيجوز لهم أن ينفروا لأنهم قد تهيئوا. وأما الذي يشتغل بالتهيؤ، فاختُلف فيه، هل يجوز له إذا غربت الشَّمس هل يجوز له أن ينفر أم لا؟ أما مَن كان قد تهيأ وخرج؛ فيجوز له أن ينفر وإن غربت الشَّمس.
وسمعت قول الحنفية: أنه يجوز النَّفر إلى الفجر، فطول اللَّيل يمكن أن ينفر، فإذا طلع الفجر ثاني يوم خلاص، يجب عليه أن ينتظر حتى ينفر بعد أن يرمي في اليوم الثالث، وفي اليوم الثالث أفضل. قال: "مَنْ غَرَبَتْ لَهُ الشَّمْسُ مِنْ أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَهُوَ بِمِنًى، فَلاَ يَنْفِرَنَّ حَتَّى يَرْمِي الْجِمَارَ مِنَ الْغَدِ".
وذكر أيضًا عن "الْقَاسِمِ، أَنَّ النَّاسَ كَانُوا إِذَا رَمَوُا الْجِمَارَ مَشَوْا، ذَاهِبِينَ وَرَاجِعِينَ"، هذا السُّنّة، والأفضل في أيام منى أن لا يركب على دابّته وغيرها ولكن يمشي على رجليه إلى الجمار. قال: "وَأَوَّلُ مَنْ رَكِبَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أبِي سُفْيَانَ" فذهب راكبًا للرمي لعله لعذر كان عنده، وإلا هذه هي السُّنّة أن يمشي إلى الجمار ويرجع ماشيًا من الجمار إلى خيمته، وما كان نزله في مِنى.
وهكذا قال الإمام أحمد: يستحب أن يرمي ماشيًا.
وجاء عن جابر أنه كان يكره أن يركب إلى شيء من الجمار إلى من ضرورة.
وهكذا استحب الإمام مالك المشي في رَّمي أيام التَّشريق. وأما جمرة العقبة يوم النَّحر قال: يرميها على حسب حاله كيف كان.
ولو رمى راكبًا على سيارة أو على دابة، جاز ذلك. والأفضل أن يقوم وأن يخطو نحو الجمرة ويجعل بينه وبينها نحو خمس أذرع ثم يرمي.
ولمَّا سأل الإمام مالك "عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْقَاسِمِ: مِنْ أَيْنَ كَانَ الْقَاسِمُ يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ؟" أبوه، الفقيه، القاسم بن مُحمَّد بن أبي بكر الصديق "فَقَالَ: مِنْ حَيْثُ تَيَسَّرَ"؛ أي: من العقبة وأوسطها وأعلاها كل ذلك واسع، والأفضل أن يرمي من بطن الوادي، ولعله أراد ما تيسّر من بطن الوادي. والاستقبال عند الجمرة الأولى والثانية، لا الثالثة.
"سُئِلَ مَالِكٌ هَلْ يُرْمَى عَنِ الصَّبِيِّ وَالْمَرِيضِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ"، إذا لم يمكن حملهما أو شقّ مشقة شديدة، فيُرمى عنهما "وَيَتَحَرَّى الْمَرِيضُ حِينَ يُرْمَى عَنْهُ، فَيُكَبِّرُ وَهُوَ فِي مَنْزِلِهِ، وَيُهَرِيقُ دَماً"؛ لأنه ما رمى بنفسه، المريض هذا عند المالكية عليه الدم. أما الصغير الذي ما يُحسن الرمي ومثله المجنون؛ يرمي عنهما من حج عنهما. "فَإِنْ صَحَّ الْمَرِيضُ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ رَمَى الَّذِي رُمِيَ عَنْهُ"؛ ما دام قدر الآن على الرّمي، لا يُعتد بما رُميَ عنه بل يرمي بنفسه إلا أن يستمر مرضه حتى يخرج من مِنى.
"قَالَ مَالِكٌ: لاَ أَرَى عَلَى الَّذِي يَرْمِي الْجِمَارَ، أَوْ يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَوَضِّئٍ إِعَادَةً، وَلَكِنْ لاَ يَتَعَمَّدُ ذَلِكَ". بل يُسن الإغتسال لرمي الجِمار كل يوم. وكما أنه يُسن أن يغسل الحصّي التي يرمي بها، فيندب إذًا غسل الحصى الذي يرمي به.
وعن "عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: لاَ تُرْمَى الْجِمَارُ فِي الأَيَّامِ الثَّلاَثَةِ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ"،
قال الحنفية: إذا أراد أن ينفر في اليوم الثاني، فيجوز له أن يقدّم الرّمي من بعد الإشراق.
وقال غيرهم: إنما يكون الرّمي بعد زوال الشَّمس.
والله أعلم.
نظر الله إلينا وأصلح شأننا، وأصلح سرّنا وإعلاننا، ورعانا بعنايته حيثما كُنا وأينما كُنا بالحِس والمعنى بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
06 ذو الحِجّة 1442