شرح الموطأ - 22 - كتاب الطهارة: باب ما جاء في الرُّعافِ، وباب العمل في الرُّعافِ

شرح الموطأ - 22 - كتاب الطهارة، باب ما جاء في الرُّعافِ، من حديث: (أنَّ عبدالله بن عمر كان إذا رَعَفَ انصرفَ فتوضَّأ..)
للاستماع إلى الدرس

شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الطهارة، باب ما جاء في الرُّعافِ، وباب الْعَمَلِ فِي الرُّعَافِ.

فجر السبت 27 ذي القعدة 1441هـ. 

باب مَا جَاءَ فِي الرُّعَافِ

90- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا رَعَفَ انْصَرَفَ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ رَجَعَ فَبَنَى وَلَمْ يَتَكَلَّم.

91- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَرْعُفُ، فَيَخْرُجُ فَيَغْسِلُ الدَّمَ عَنْهُ، ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَبْنِي عَلَى مَا قَدْ صَلَّى.

92- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ اللَّيْثِىِّ: أَنَّهُ رَأَى سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ رَعَفَ وَهُوَ يُصَلِّي، فَأَتَى حُجْرَةَ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ، فَأُتِيَ بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ رَجَعَ فَبَنَى عَلَى مَا قَدْ صَلَّى.

 باب الْعَمَلِ فِي الرُّعَافِ

93 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَرْمَلَةَ الأَسْلَمِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَرْعُفُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الدَّمُ، حَتَّى تَخْتَضِبَ أَصَابِعُهُ مِنَ الدَّمِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ أَنْفِهِ، ثُمَّ يُصَلِّي وَلاَ يَتَوَضَّأُ.

94 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمُجَبَّرِ، أَنَّهُ رَأَى سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَخْرُجُ مِنْ أَنْفِهِ الدَّمُ، حَتَّى تَخْتَضِبَ أَصَابِعُهُ، ثُمَّ يَفتِلُهُ، ثُمَّ يُصَلِّي وَلاَ يَتَوَضَّأُ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمدُ لله مُكرِمِنا بالشَّريعة الغَراء، وبيان رسولِ الله خير الورى. اللَّهم أدِم صلواتك على الرَّاقي إلى أعلى الذُرى سيِّدنا مُحمَّدٍ وعلى آله وصحبه، ومَنْ والاهُم فيك، وتابَعهم سِرًّا وجهرًا، وعلى آبائه وإخوانه مِنَ الأنْبياء والمُرسَلين الَّذين قدَّمهُم الله على مَنْ سِواهم طُرًا، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المُقربين، وجميع عبادِك الصَّالحين، وعلينا معَهُم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

والأحاديثُ تدور حول مسألتين مِنْ مسائل الفقه وهي:

 1. مسألة الرُّعَاف في الصَّلاة، وهل يُبْطِلُ الوضوء أم لا؟

2. وهل يُمكن لِمَنْ حدثَ له حدثٌ في صلاته أنْ يتوضَّأ ثُمَّ يبني على صلاته أم يجبُ الاستئناف للصَّلاة مِنْ جديد؟

يقول: "باب ما جاء في الرُّعَاف"، وهو مصدر رَعَفَ، ومعناه خروج الدَّم مِنَ الأنف، يقولون رَعَفَ، ويُطلق الرُّعَاف أيضًا في اللغة على الدَّم نفْسُه، وأصلُهُ: السَبْق والتَّقدُم حتَّى يقولُون في فَرَسٌ راعِفْ، يعني سابق. وسُمِي الرُّعَاف بذلك لأنَّه يسبُق الإنسان مِنْ غير علمٍ لَهُ به، فيَسبُقُه ويخرج عليه. فهذا الرُّعَاف وهو خروج الدَّم مِنَ الأنف، قلَّ أو كَثُر، لا يُبطِل الوضوء عند الإمام مالك وعند الإمام الشَّافعي -عليهم رِضوان الله تبارك وتعالى-.

وقد تقدم معنا في مُختلف السَوائل الَّتي تخرج مِنْ باطن بَدن الإنسان. 

  • وأنَّ الشَّافعية والمالكية قيَّدوا بُطلان الوضوء بما يخرج مِنْ إحدى السَبيلين فقط، وما عدا ذلك فلا يَنقض الوضوء مِنْ قيءٍ، ولا مِنْ رُّعافٍ، ولا مِنْ غير ذلك. 
  • وقال بعدَ ذلك الحنفية والحنابلة: أنَّه إذا سالَ شيءٌ مِنْ دَمِ الرُّعَاف أو كان قيء كثير، وكذلك ما يملأُ الفَمَ مِنَ القَلَس فأكثر، يُبطِل الوضوء، وعليه أنْ يُعيد الوضوء. ثُمَّ إنْ غلبه شيءٌ مِنْ ذلك وهو في الصَّلاة، فعليه أنْ يذهب، فيُجدّد الوضوء، ويغسل ما أصابه، ثُمَّ لا يتكلم أثناء ذلك، ثُمَّ يعود فيبني على ما مضى مِنْ صلاته، ويُكمِلُها. ويروى ذلك في المذهب القديم للإمام الشَّافعي.
  •  والمذهب الجديد والمُعتمدُ أنَّه ما يُمكن البناء على صلاةٍ إذا أحدث، أو تحرك، أو استدبر القِبلة، أو خرج مِنَ الصَّلاة، فلا بُدَّ أنْ يُعيدها مِنْ أوَّلها، ويبطُل ما مضى.

يقول: أنَّ "عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا رَعَفَ"  يعني: وهو في الصَّلاة "انْصَرَفَ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ رَجَعَ فَبَنَى" أيّ: أتَمَّ الصَّلاة مِنْ حيث وقف في المَرة الأولى. "وَلَمْ يَتَكَلَّم" لأنَّ الكلام يُبطِل الصَّلاة. فلا يُكلِّم أحدًا حتَّى يعود ويُكمِلُ صلاته. 

"فَتَوَضَّأَ"؛

  •  يقول الحنفية: أي: وضوئه للصَّلاة. 
  • ويأتي تأويلُه عند بعض المالكية ونحوه، توضَّأ؛ أنَّه يعني: غسل ما عليه مِنَ الدَّم.

 وعلى كُلِّ الأحوال، فالخلاف قائم في أنَّه ينقُض الوضوء أو لا. وكذلك روى لنا عن " ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَرْعُفُ" في صلاته "فَيَخْرُجُ فَيَغْسِلُ الدَّمَ"، "ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَبْنِي عَلَى مَا قَدْ صَلَّى". فهذا أيضًا عن ابن عبَّاس -رضي الله تبارك وتعالى عنه-. وقد اختلف النَقلةُ في مَذهَب ابن عبَّاس هل الرُّعَاف يُبطِل الوضوء أمْ لا يُبطِل الوضوء؟ وجاء عنْه وجمع بعضُهم أنَّه كان يرى عدم بُطلان الوضوء، ثُمَّ رجع إلى ذلك وعلى كُلِّ الشُؤون، فالأمر مُحتمل.

ويروي عن سعيد بن المُسيَّب أيضًا في الأثر: أنَّه "رَعَفَ وَهُوَ يُصَلِّي، فَأَتَى حُجْرَةَ أُمِّ سَلَمَةَ" -أُمِّ المُؤمنين- لكونها أقرب الحُجر إلى المَسجد، ليَقِلَّ المَشي، "فَأُتِيَ بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ رَجَعَ فَبَنَى عَلَى مَا قَدْ صَلَّى".  وهذا هو مذهب الحنفية وكذلك عند الحنابلة. ويذكرُ في العمل في الرُّعَاف، عن سعيد بن المُسيَّب كان "يَرْعُفُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الدَّمُ، حَتَّى تَخْتَضِبَ أَصَابِعُهُ مِنَ الدَّمِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ أَنْفِهِ، ثُمَّ يُصَلِّي وَلاَ يَتَوَضَّأُ". وإنْ فُسِّرَ ذلك  بالقليل، 

  • فيُوافق فيه أيضًا الحنفية والحنابلة مِنْ أنَّ الرُّعاف القليل اليَسير لا يُبطِل الوضوء. وإنَّما ما سَال. ما لم يَسِل، فليس ناقضٍ للوضوء، فيحمِلَونه على ذلك. 
  • ويحملُه أيضًا غيرهم على أنَّ المذهب لابن المُسيِّب: أنَّ الرُّعَاف قلَّ أو كَثُر، لا يَنقُض الوضوء، كان قليلًا أو كثيرًا كما هو مذهب مالك ومذهب الإمام الشَّافعي -عليه رِضوان الله تبارك وتعالى- أنَّ الرُّعَاف لا يّنقُض الوضوء كالحجامة والفصدِ والقيء وما إلى ذلك. 
  • وأنَّه يَنقُض الوضوء مهما سَالَ عند الحنفية.

 يقول وعن "سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَخْرُجُ مِنْ أَنْفِهِ الدَّمُ، حَتَّى تَخْتَضِبَ أَصَابِعُهُ، ثُمَّ يَفْتِلُهُ، ثُمَّ يُصَلِّي وَلاَ يَتَوَضَّأُ". وهو على نفس النمط محمولٌ على القِلَّة عند الحنفية، "حَتَّى تَخْتَضِبَ أَصَابِعُهُ، ثُمَّ يَفْتِلُهُ" أي: يُحركُ الأصابع ليُزيل أثر الدَّم. "ثُمَّ يُصَلِّي وَلاَ يَتَوَضَّأُ" فأنَّه يُعفى عن اليَسير كذلك مِنَ الدَّم.

 فجاءت هذه الأحاديث وحُكمُها حُكم أيضًا مَنْ غلبَه الدَّم مِنْ جُرحٍ وغيره. وجاء عن مالك في مُصَلٍّ ظنَّ أنَّه أحدث أو رعف، فانصرف، ثُمَّ تبيَّن أنَّه لم يُصبه شيءٌ. قال: يرجع، فيَستأنف الصَّلاة عند الإمام مالك الاستئناف أيضًا للصَّلاة والبناء على ما مضى. ويقول ابن القاسم مِنَ المالكية: مَنْ قَطَعَ صلاتَه تعمُّدًا، أفسد على مَنْ خلفه، فإن فعل الإمام ذلك بَطُلَت صلاتُه وصلاة مَنْ خلفه. 

يقول سُحنُون: إنْ استخلف الإمام في الرُّعَاف ثُمَّ تبيَّن له أنَّه لم يَرعُف، لم تبطُل صلاتُه. ظنَّ أنَّه قد رَعَف، لم تبطُل على مَنْ خلفَهَ لأنَّه خرج لِمَا يجوز له وليُعِد صلاته، بخلاف الخارج متعمدًا مِنْ دون عُذرٍ، تبطُلُ صلاتُه، وعند المالكية أيضًا: صلاة مَنْ خلفه مِنَ المأمومين تكون باطلة. وتسبب في بُطلان صلاتهم لخروجه متعمِّدًا مِنْ غير عُذرٍ.  بخلاف إذا ظنَّ أنَّه رَعَفَ، فإنَّه له أنْ يَخرج مِنَ الصَّلاة عندهم. فلهذا إذا ظنَّ أنَّه رَعَفَ، فاستخلف، ثُمَّ وجد نفسه ليس فيه شيءٌ مِنَ الرُّعَاف، فإنَّ ذلك لا يّبطُل صلاة المأمومين؛ لأنَّه خرج لأمْر يُشرع فيه الخُروج بحسب ظنِّه ولكنَّه لم يجد شيئًا بعد ذلك. وهكذا حتَّى يقول سُحنُون في ما يتعلق بصلاة المأمومين، يقول: إذا شكَّ الإمام في ثلاث ركعات أو أربع، فإذا سلَّم على شكٍّ، أبطل عليه وعليهم. فإنَّ عليه أنَّ يحتاط ويُكمل ويَبني على الأقل.

 إذًا عَلِمْنا مذهب المالكية والشَّافعية: أنَّ الوضوء لا ينتقِضْ إلَّا مِنْ خروج شيءٍ مِنْ غير السبيلين مثل دَّم فصد أو حجامة أو قيء أو رُّعَاف قلَّ أو كثُر. وجاء عن سيِّدنا أنس بن مالك: "أنَّ النَّبي ﷺ احْتَجَمَ، فصلَّى ولم يتوضَّأ، ولم يَزد على غَسْلِ محاجِمه" صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم. 

  • فدَلَّ على أنَّ الوضوء لا يَنْتقِض بخروج دَّم الحجامة. وعلى هذا مذهب المالكية والشَّافعية. 
  • ويقول الحنابلة: إنَّ الرُّعَاف إذا كان قليلًا، لا يَنقُض الوضوء. فإذا كان فاحشًا كثيرًا، نقض الوضوء.

قال ﷺ لفاطمة بنتَ أبي حُبَيْشٍ: "إنَّما ذلِكَ عِرقٌ وليسَت بالحيضَةِ فإذا أقبلَتِ الحَيضةُ فدَعي الصَّلاةَ"، "ثُمَّ تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ". واعدّوه ناقِضًا للوضوء. وأمَّا القليل فلا يَضِّر، لِمَا جاء مِنْ حديث ابن عبَّاس هذا وغيره. وإذًا فهذا مذهب الحنابلة كذلك أشرنا إلى أنَّ الحنفية يقولون بنقض الوضوء بسيلان الدَّم عن موضِعه، وأنَّ الرُّعَاف ينقُض الوضوء. وكذلك لو نزل له دَّم مِنْ رأسه وإلى ما لانَ مِنْ أنفه، وإنْ لم يظهر على أرنبة الأنف، فينقُضُ الوضوء. وكذلك كما سَمعْنا الإشارة عن الإمام أحمد -عليه رِضوان الله تبارك وتعالى-. كذلك يتحدثُ عن العَمل فيما كان مِنْ جُرحٍ ونحوه، يذكُر جُرح سيِّدنا عُمر -عليه رِضوان الله تعالى- يأتي بيان ذلك وهو قريبٌ مِنْ حديث الباب في خروج الدَّم وسَيَلانِه. 

جعلنا الله وايَّاكُم مِنْ مُقيمي الصَّلاة القائمين والمُقيمين لها كمَا يُحبه الله ويرضاه، والمُتصلين بسِرِها ونورها الَّذي فيه وُصلَة القلب بالرَّحمن، بمعاني مِنَ اليقين تعلو لأعداد أهل العِرفان. اللَّهم وَفِّر حظنا مِنَ الصَّلاة وسِرِها، واجعلنا عندك مِنَ القائمين بحقها، والمُقيمين لها على الوجه المَرضي لديك في عافية، بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ. 

تاريخ النشر الهجري

28 ذو القِعدة 1441

تاريخ النشر الميلادي

18 يوليو 2020

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام