شرح الموطأ - 215 - كتاب الحج: باب الحِلاق، وباب التقصير

شرح الموطأ - 215 - كتاب الحج: باب الْحِلاَقِ ، من حديث ابن عمر (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (ﷺ) قَالَ : اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ..)
للاستماع إلى الدرس

شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الحج: باب الْحِلاَقِ، وباب التقصير.

فجر الثلاثاء 26 ذي القعدة 1442هـ.

باب الْحِلاَقِ

1175 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ". قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: "اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ". قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: "وَالْمُقَصِّرِينَ".

1176 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّهُ كَانَ يَدْخُلُ مَكَّةَ لَيْلاً وَهُوَ مُعْتَمِرٌ، فَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَيُؤَخِّرُ الْحِلاَقَ حَتَّى يُصْبِحَ. قَالَ: وَلَكِنَّهُ لاَ يَعُودُ إِلَى الْبَيْتِ فَيَطُوفُ بِهِ حَتَّى يَحْلِقَ رَأْسَهُ. قَالَ: وَرُبَّمَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَأَوْتَرَ فِيهِ، وَلاَ يَقْرَبُ الْبَيْتَ.

1177 - قَالَ مَالِكٌ: التَّفَثُ: حِلاَقُ الشَّعَرِ، وَلُبْسُ الثِّيَابِ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ.

1178 - قَالَ يَحْيَى: سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَجُلٍ نَسِيَ الْحِلاَقَ بِمِنًى فِي الْحَجِّ، هَلْ لَهُ رُخْصَةٌ فِي أَنْ يَحْلِقَ بِمَكَّةَ؟ قَالَ: ذَلِكَ وَاسِعٌ، وَالْحِلاَقُ بِمِنًى أَحَبُّ إِلَيَّ.

1179 - قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ الَّذِي لاَ اخْتِلاَفَ فِيهِ عِنْدَنَا: أَنَّ أَحَداً لاَ يَحْلِقُ رَأْسَهُ وَلاَ يَأْخُذُ مِنْ شَعَرِهِ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْياً إِنْ كَانَ مَعَهُ، وَلاَ يَحِلُّ مِنْ شَىْءٍ حَرُمَ عَلَيْهِ حَتَّى يَحِلَّ بِمِنًى يَوْمَ النَّحْرِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ: (وَلاَ تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ) [البقرة:196].

باب التَّقْصِيرِ

1180 - حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا أَفْطَرَ مِنْ رَمَضَانَ وَهُوَ يُرِيدُ الْحَجَّ، لَمْ يَأْخُذْ مِنْ رَأْسِهِ وَلاَ مِنْ لِحْيَتِهِ شَيْئاً، حَتَّى يَحُجَّ.

قَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ.

1181 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا حَلَقَ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، أَخَذَ مِنْ لِحْيَتِهِ وَشَارِبِهِ.

1182 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ : أَنَّ رَجُلاً أَتَى الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ فَقَال: إنِّي أَفَضْتُ وَأَفَضْتُ مَعِي بِأَهْلِي، ثُمَّ عَدَلْتُ إِلَى شِعْبٍ، فَذَهَبْتُ لأَدْنُوَ مِنْ أَهْلِي فَقَالَتْ: إنِّي لَمْ أُقَصِّرْ مِنْ شَعَرِي بَعْدُ، فَأَخَذْتُ مِنْ شَعَرِهَا بِأَسْنَانِى، ثُمَّ وَقَعْتُ بِهَا، فَضَحِكَ الْقَاسِمُ وَقَالَ : مُرْهَا فَلْتَأْخُذْ مِنْ شَعَرِهَا بِالْجَلَمَيْنِ.

1183 - قَالَ مَالِكٌ: أَسْتَحِبُّ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يُهْرِقَ دَماً، وَذَلِكَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ قَالَ : مَنْ نَسِيَ مِنْ نُسُكِهِ شَيْئاً فَلْيُهْرِقْ دَماً.

1184 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ لَقِيَ رَجُلاً مِنْ أَهْلِهِ يُقَالُ لَهُ الْمُجَبَّرُ، قَدْ أَفَاضَ وَلَمْ يَحْلِقْ وَلَمْ يُقَصِّرْ، جَهِلَ ذَلِكَ، فَأَمَرَهُ عَبْدُ اللَّهِ أَنْ يَرْجِعَ فَيَحْلِقَ أَوْ يُقَصِّرَ، ثُمَّ يَرْجِعَ إِلَى الْبَيْتِ فَيُفِيضَ.

1185 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ دَعَا بِالْجَلَمَيْنِ فَقَصَّ شَارِبَهُ وَأَخَذَ مِنْ لِحْيَتِهِ، قَبْلَ أَنْ يَرْكَبَ وَقَبْلَ أَنْ يُهِلَّ مُحْرِماً.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مُكرمِنا بشريعته وهدايته، والبلاغِ على لسان عبده خيرِ بريَّته، سيدِنا محمدٍ صلى الله وسلم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وصحابته، وعلى أهل ولائه ومتابعته، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين صفوةِ الله وخيرته، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المقربين، وجميعِ عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين بمحض فضله ومِنَّته. 

وبعدُ،

 فيذكرُ الشيخُ سيدنا الإمام مالكٌ -عليه رضوان الله تعالى- الأحاديثَ المتعلقة بالحِلَاق من الحج أو العُمرة بعد أداء النُّسك، ليتم أداءُ النُّسكَين بالحلق أو التقصير. وقد أجمع فقهاء الشريعة الغرّاء على أنّه في حق الرجل الحلقُ أفضل، وأنّ حلق جميع الرأس هو الأتمُّ والأكمل. 

  • قال الإمام مالك والإمام أحمد ابن حنبل: لا يجزئ إلاّ حلق جميع الرأس، فلا يجزئ حلقُ بعضه.

  • وقال الإمام أبو حنيفة: إذا حلق ربع الرأس فزيادة أجزأه، وأقلُّ من الرُّبع لا يُجزِئ.

  • قال الإمام الشافعي: إذا أزال ثلاث شعرات حصل الإجزاء ونسكُ التقصير، إذا أزال ثلاث شعرات إما بحلق أو بقصّ أو بنتفٍ أو بإحراقٍ أو بأي وسيلة لإزالة ثلاث شعرات من شعر الرأس.

 ولكن أجمعوا على: 

  • أنّ الأفضل حلقُ جميعه بالنسبة للرجل. 

  • وأن الأفضل للمرأة أن تُقصِّر، ولكن تأخذُ من جميع أطراف شعرها، فذلك أتمُّ وأكمل وأفضل.

وهكذا قال جماهير أهل العلم: أنّ الحلق أو التقصير من جُملة النُّسك، من جملة العبادة المخصوصة بالحجّ وبالعمرة. وبذلك جاء الدعاء من النبي  لمن فعل ذلك، ولو كان مجردَ استحلالِ محرّمٍ ما كان فيه الدعاءُ ولا التفضيلُ بين الحالق والمقصِّر، ولكنّه فرَّق بينهما ودعا للحالق ثلاث مراتٍ وللمقصّر مرة، فدلَّ ذلك على أنه عبادة ونُسك يتفاوت ثوابها ويُتقرب بها إلى الله، جلّ جلاله وتعالى في علاه.

ويقول: "باب الْحِلاَقِ"، قال البخاري في صحيحه: باب الحلق والتقصير عند الإحلال. إذًا؛ فالحَلْقُ نُسك كما قال جماهير أهل العلم. وفي رواية عند الإمام أحمد: أنه استحلال لمحظور، كما هو في رواية عند الشافعية، ولكنّ المعتمد عندهما كغيرهما: أنّ الحلق أو التقصير نُسكٌ من أنساك وعبادة الحج والعمرة.

ويروي لنا حديثَ دعائه ﷺ للمُحلِّقين وتكريرَه الدعاءَ لهم، ودعاؤه للمقصِّرين مرًة واحدًة. "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ:" قال هذا في حجة الوداع "اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ" ويُعلَم منه أفضليةُ حلق جميع الرأس. 

وعلمنا ما قال الإمام مالك والإمام أحمد: أنّه يجب حلقُ جميع الرأس ولا يُجزئ بعضُه، مع قول الحنفية: أنه يُجزئ الربع فأكثر، مع قول الشافعية: أنّه يُجزئه إزالةُ ثلاث شعرات فأكثر. لما قال: "اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ"، أي: الذين يحلقون رؤوسهم عند الحج أو العمرة "قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ" وفيه: تبادر الصحابة إلى دعائه ﷺ أن يشمل أصناف أمته، فرأوا ما اختصّ به الدعاء للمحلّقين، فأرادوا من رسول الله ﷺ أن يوسّع نطاق الدعاء لمن يقصّر ولا يحلق، "قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ" مرة ثانية "قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ. قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: وَالْمُقَصِّرِينَ" في الثالثة، وفي رواية في الرابعة، "قَالَ: وَالْمُقَصِّرِينَ"، فكان رحمةً منه للمقصّرين، ولأجل أن يشملَهم دعاءُ سيدِ المرسلين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. 

هذا، جاء في رواية عنه ﷺ، أنه فيما أخرجه الإمام أحمد ابن حنبل: "اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: والمقصرين؟ قال: اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: والمقصرين؟ اللهم اغفر للمحلقين"، حتى قالها ثلاثاً أو أربعًا ثم قال: "والمقصرين". كما جاء أيضاً في رواية الإمام البخاري: "اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: والمقصرين؟ قال: اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: والمقصرين؟" قالها ثلاثاً، ثمّ قال: "وللمقصرين"، صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله. 

وروى لنا الحديث الثاني عن القاسم: "أَنَّهُ كَانَ يَدْخُلُ مَكَّةَ لَيْلاً وَهُوَ مُعْتَمِرٌ" وفي هذا اتباعُه ﷺ لأنّه في أيام الجِعِرَّانة دخل ليلاً إلى مكة ﷺ، حتى أنّ أكثرَ الصحابة لم يشعروا به، وما شعرَ به إلا قليلٌ ممّن كان قريبًا منه، سرَى من الجِعِرَّانة معتمرًا وأكمل العُمرة وعاد إلى الجعرانة، فصلّى بهم الصبحَ في الجعرانة، فلم يشعروا أنّه اعتمرﷺ . 

"أَنَّهُ كَانَ يَدْخُلُ مَكَّةَ لَيْلاً وَهُوَ مُعْتَمِرٌ" واختلف الفقهاء، وقال بعضهم: إن الدخول في النّهار أفضلُ من الدخول في الليل إلى مكة، وقال بعضهم: الليل، وبعضهم قال: هما سواء لا فضلَ لأحدهما على الآخر. 

فيما بوَّبَ الإمامُ البخاري في صحيحه يقول: "بابُ دخولِ مكةَ نهاراً وليلاً". وأشار إلى دخول اللّيل في عُمْرة الجِعِرَّانة، فالأكثرُ على أنّ دخولَها بالنّهار أفضل، وبعضُهم فرّق بين من كان إمامًا يُقتدى به فيدخلها نهارًا، ومن لم يكن لا إمامًا ولا معروفًا بين النّاس فيدخلها سواءً ليلاً أو نهارًا.

 قال: "فَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ" القاسم ابنُ أبي بكر، ويسعى "بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَيُؤَخِّرُ الْحِلاَقَ" حَلْقَ الرأس "حَتَّى يُصْبِحَ" إلى الصباح، لشُغلِه عنه بتعبٍ عند وصوله في الليل وقيامِه بالطواف والسعي، وفيه: أنّه يجوز تأخيرُ الحلق. 

"وَلَكِنَّهُ لاَ يَعُودُ إِلَى الْبَيْتِ فَيَطُوفُ بِهِ حَتَّى يَحْلِقَ رَأْسَهُ" يقول عبد الرحمن بنُ القاسم: ولكن، يعني أباه القاسم، لا يعودُ إلى البيت فيطوفُ به مرةً أخرى تطوُّعًا حتى يحلقَ رأسَه، لأنّه ما زال مُعلَّقًا بالعمرة، لم يُتمِّمْ مناسكَ العمرة بعدُ، فلا يصحُّ أن يطوفَ حتى يُكملَ العمرة، ثم إذا أراد فلْيَطُفْ، فإن الطواف عبادة يتقرب بها إلى الحق في أي وقت من ليلٍ أو نهار. وقد جاء النصُّ عن نبيِّنا ﷺ قال: "يا بَني عبدِ منافٍ، لا تمنعوا أحداً طافَ بهذا البيت وصلّى أيةَ ساعةٍ شاءَ من ليلٍ أو نهار"، فهكذا شرّعَ صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. 

ولكنْ من كان مُشتغِلاً بحجٍّ أو بعمرة فليس له طواف، وأنّ الحاجَّ لا يمكنه أن يعتمرَ حتى يُكملَ مناسكَ الحج. فلو كان في أيام مِنى وقال: عندنا وقت، فرصة نروحُ نعتمرُ، أكملْ المبيتَ في مِنى، وأكملْ الرَّميَ للجِمار، بعد أن تَكمُلَ جميعُ أعمال الحج اعتمر، أما قبلَ أن تكملَ فلا يصحُّ منك الاعتمار حتى تقضيَ نُسكَكَ وتكمل ما يتعلّق بحجك.

 قال: "وَرُبَّمَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ"؛ يعني: في أثناء الليل بعد أن ينهيَ العمرة "فَأَوْتَرَ فِيهِ" أي صلّى الوِترَ "وَلاَ يَقْرَبُ الْبَيْتَ".

"قَالَ مَالِكٌ: التَّفَثُ: حِلاَقُ الشَّعَرِ، وَلُبْسُ الثِّيَابِ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ" (ثُمَّ لۡیَقۡضُوا۟ تَفَثَهُمۡ) يزيلون ما علق بهم من الشعر الزائد ومن الأوساخ (ثُمَّ لۡیَقۡضُوا۟ تَفَثَهُمۡ وَلۡیُوفُوا۟ نُذُورَهُمۡ وَلۡیَطَّوَّفُوا۟ بِٱلۡبَیۡتِ ٱلۡعَتِیقِ) [الحج:29]. 

"قَالَ يَحْيَى: سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَجُلٍ نَسِيَ الْحِلاَقَ بِمِنًى فِي الْحَجِّ، هَلْ لَهُ رُخْصَةٌ فِي أَنْ يَحْلِقَ بِمَكَّةَ؟ قَالَ: ذَلِكَ وَاسِعٌ، وَالْحِلاَقُ بِمِنًى أَحَبُّ إِلَيَّ"، اتباعًا للنبي ﷺ، فيجوز أن يحلق بمكة أو أيِّ مكان آخر، ولكنّ الأفضل أن يحلق بمنى لأجل الاتباع.

  • وجاء عن الإمام أحمد بنِ حنبل: أنّه إذا أخَّر الحَلْق في العمرة أو في الحج عن مِنى فإنّه عليه دمٌ لتأخيره الحِلاق.

  • وقال الشافعية وغيرهم: إنّما بداية وقتِ الحِلاق حتى يبلغَ الهَدْيُ مَحِلَّه، وبعد ذلك يستمر، فعندهم هو مما لا يفوت، كالطواف والسعي والحلق، فهذه أركانٌ لا تَفوت أبدًا ما دام حيًا يستطيع أن يعملها.

"قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ الَّذِي لاَ اخْتِلاَفَ فِيهِ عِنْدَنَا: أَنَّ أَحَداً لاَ يَحْلِقُ رَأْسَهُ وَلاَ يَأْخُذُ مِنْ شَعَرِهِ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْياً إِنْ كَانَ مَعَهُ" أخْذًَا من قوله: (وَلَا تَحۡلِقُوا۟ رُءُوسَكُمۡ حَتَّىٰ یَبۡلُغَ ٱلۡهَدۡیُ مَحِلَّهُۥۚ) [البقرة:196] وهذا إنّما هو على السُّنّيّة لا على الوجوب. وقد تقدّم معنا وقتُ الحلق، 

  • وأوسع المذاهب فيه مذهبُ الشافعية، قالوا: مِن نصف اللّيل.

  • قال غيرهم: من الفجر.

  •  قال غيرهم: من بعد الإشراق في يوم النحر.

 "وَلاَ يَحِلُّ مِنْ شَىْءٍ حَرُمَ عَلَيْهِ حَتَّى يَحِلَّ بِمِنًى يَوْمَ النَّحْرِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ: (وَلَا تَحۡلِقُوا۟ رُءُوسَكُمۡ حَتَّىٰ یَبۡلُغَ ٱلۡهَدۡیُ مَحِلَّهُۥۚ) [البقرة:196]".

        

باب التَّقْصِيرِ

 

  ثمّ ذكر: "التَّقْصِيرِ"، ذكر: "أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا أَفْطَرَ مِنْ رَمَضَانَ وَهُوَ يُرِيدُ الْحَجَّ، لَمْ يَأْخُذْ مِنْ رَأْسِهِ وَلاَ مِنْ لِحْيَتِهِ شَيْئاً، حَتَّى يَحُجَّ."؛ لم يأخذْ من أطرافها، فإنّه عُرِف عنه أنه كان يقبضُ على لحيته فما زادَ على القبضةِ قَصَّهُ، وإنّما كان لا يفعل مِن بعدِ رمضانَ شيئًا إذا أراد الحجَّ، ليَتَوفَّر شعرُ رأسه ولحيته لأجل أن يقضيَ تَفَثَهُ بعد الرجوع من عرفة. (ثُمَّ لۡیَقۡضُوا۟ تَفَثَهُمۡ وَلۡیُوفُوا۟ نُذُورَهُمۡ وَلۡیَطَّوَّفُوا۟ بِٱلۡبَیۡتِ ٱلۡعَتِیقِ) [الحج:29]، ولِما وردَ: أن "الحاجَّ الشَّعِث التَّفِل" و "الحاجُّ أشعث أغبر". 

"قَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ"؛ يعني: لا يجب، إنّما من السُّنّة، الآن عندنا لمّا تدخلُ العشرُ من ذي الحجّة، -في هذا الأسبوع يدخلُ عندنا العشرُ- وتكون أولُها ليلةَ الأحد -مساءَ السبتِ ليلةَ الأحد-، فإذا كان كذلك فمَنْ أرادَ أن يُضحِّيَ فيُسَنُّ ألّا يَمسَّ شيئاً من شعره ولا ظُفره في أيام العشر حتى يأتيَ يومُ العيد، فينحر ثم يحلق، وهكذا جاءت السنة، وجاء في ذلك الأمر عنه ﷺ، فيُسنُّ لمن أراد أن يضحيَ ألّا يمسَّ شيئًا من شعره من أول يومٍ من أيام العشر حتى يذبحَ أُضحِيَته.

  • ويقول أهل الفقه: ليعمّ المغفرة جميعَ أجزائِه وشعره وهذا الذي يبقيه وأظفاره. 

والحديث جاء به في الأمر، فالحِكمُ من غير شكّ أوسعُ مما ذَكر أهل الفقه، وكان فيه:

  • معنى من التشبُّه بالحُجّاج الذين حَرُم عليهم أخذُ شيءٍ من شعورهم وأظفارهم إذا أحرموا، حتى يقضوا تَفَثهُم بوصولهم إلى يوم النحر أو ليلة النحر في النصف الأخير من الليل على مذهب الشافعي. 

يقول: "أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا حَلَقَ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، أَخَذَ مِنْ لِحْيَتِهِ وَشَارِبِهِ."؛ يعني: قصَّر من أطرافهما؛ لأنّه يترك الأخذَ منهما مِن شوال، من أول شوال، فيكون قد طال فيحتاج إلى أخذٍ منها. 

وهكذا جاء في رواية أبي داود: كان يقبِضُ بيده على لحيته ويأخذُ من طرفها مما يخرج من قبضته. ويقول مالك: ليس على أحدٍ الأخذُ من لحيته وشاربه، وإنما النُّسكُ في الرأس، الذي يتعلق به النُّسك في الحج والعمرة الرأسُ، لا دخلَ للشارب واللحية وإنّما هو في عموم (ثُمَّ لۡیَقۡضُوا۟ تَفَثَهُمۡ).

وهكذا استحب الإمام مالك وغيره، لأنّ الأخذَ منهما على وجهٍ لا يُغيّر الخِلقة، من جملة الجمال، الاستئصال لهما مُثْلَة، فالاستئصال للّحية مُثْلَةٌ باتفاق وعارٌ ونقصٌ، وأما الاستئصال للشارب فلا يضر؛ لأنّ الأمر فيه بالإحفاء جاء بلفظ: "حفّوا"، وبلفظ: "احفُوا"

  • أما حفّوا: خذوا من جوانبها؛ حافتها.

  • وأمّا احفُوا: بالغوا في إزالة الشعر.

 فلم يرَ بذلك بأسًا عامةُ الأئمة. 

وقال الإمام مالك: لا، حلقُ الشارب أيضًا مُثلة، ما يحلقه ولكن يَقصُّه فقط، يقصّه ويأخذُ منه. وغيره لم يرَ بذلك بأسًا. وهكذا كان يقول عطاء وطاووس والشافعي وغيره: يحبون لو أخذ بعد الحِلاق إذا حلق رأسه، يأخذُ من أطراف لحيته وشاربه كذلك، حتى يُستحب إذا حلق رأسه أن يقصّ ظفره وشواربه. 

وجاء أيضًا: "أَنَّ رَجُلاً أَتَى الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ فَقَال: إنِّي أَفَضْتُ وَأَفَضْتُ مَعِي بِأَهْلِي، ثُمَّ عَدَلْتُ إِلَى شِعْبٍ، فَذَهَبْتُ لأَدْنُوَ مِنْ أَهْلِي فَقَالَتْ: إنِّي لَمْ أُقَصِّرْ مِنْ شَعَرِي بَعْدُ، فَأَخَذْتُ مِنْ شَعَرِهَا بِأَسْنَانِى، ثُمَّ وَقَعْتُ بِهَا، فَضَحِكَ الْقَاسِمُ وَقَالَ : مُرْهَا فَلْتَأْخُذْ مِنْ شَعَرِهَا بِالْجَلَمَيْنِ."؛ يقصد: المقراض، فكلُّ طرفٍ منه جَلَم جَلَم فصار جَلَمَين، الطرف والطرف للمقراض يُجمعان على هيئة يتمكّن بها من قص الشعر، فشفرتا المقراض يُقال لها: جَلَمَان. 

وعند الحنفية: إذا قد أخرج بأسنانه أو بغيره ربعَ الرأس -هذا بالنسبة للرجل- فيكفيه. وعند الشافعية: ثلاث شعرات بسنٍّ أو بغيره يكفي فقد حصل بها أداءُ واجبةِ التقصير.

" قَالَ مَالِكٌ: أَسْتَحِبُّ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يُهْرِقَ دَماً"؛ أن يذبح دمًا وعلى سبيل الاستحباب لا الوجوب، يعني: اعتبرَ بأنّ هذا التقصيرَ حاصلٌ ولكنه غيرُ كاملٍ، ولذلك استحبُّ له أن يُخرجَ دمًا. قال: "أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: مَنْ نَسِيَ مِنْ نُسُكِهِ شَيْئاً فَلْيُهْرِقْ دَماً".

 وأوردَ لنا أيضًا: "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ لَقِيَ رَجُلاً مِنْ أَهْلِهِ يُقَالُ لَهُ الْمُجَبَّرُ، قَدْ أَفَاضَ وَلَمْ يَحْلِقْ وَلَمْ يُقَصِّرْ، جَهِلَ ذَلِكَ، فَأَمَرَهُ عَبْدُ اللَّهِ أَنْ يَرْجِعَ فَيَحْلِقَ أَوْ يُقَصِّرَ، ثُمَّ يَرْجِعَ إِلَى الْبَيْتِ فَيُفِيض". أفاضَ يعني: طاف طواف الإفاضة، ولم يحلق ولم يقصّر، فأمره عبد الله بن عمرَ أن يرجعَ.. إلى أين؟ إلى منى، يريده يحلق في منى أم أين؟… فيحلق أو يقصر، ثمّ يرجع إلى البيت فيُفيض، ليأتيَ على الترتيب المطلوب، وإلاّ فقد صحَّ منه الطواف. 

فعامة الأئمة يقولون: لا يلزم الترتيب بين الحلق والطواف، وهي من المسائل التي سُئل عنها ﷺ في حجة الوداع، الحلق والطواف والرّمي، فقُدّم بعضَه على بعضٍ، فجعل لا يُسأل أني حلقتُ قبل أن أنحر، أو نحرتُ قبل أن أحلق، أو طفتُ قبل أن أنحر، أو حلقتُ قبل أن أطوف، إلا قال: "افعل ولا حَرَج"، كلما سُئل عن تقديم أو تأخير شيءٍ من هذه الأعمال قال: "افعل ولا حَرَج"، يشير إلى أن الأمر واسعٌ، وإنّما الترتيب سنةٌ أن يبدأ بالرمي ثمّ النّحر ثمّ الحلق ثمّ الطواف. 

وذكر لنا: "أَنَّ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ دَعَا بِالْجَلَمَيْنِ فَقَصَّ شَارِبَهُ وَأَخَذَ مِنْ لِحْيَتِهِ، قَبْلَ أَنْ يَرْكَبَ وَقَبْلَ أَنْ يُهِلَّ مُحْرِماً"، على غير عادة أبيه، الذي كان من شوال ما يلمس شعره حتى يحجَّ، الله أعلم.

رزقنا الله الاستقامة، وأتحفنا بالكرامة، ودفعَ عنا الآفاتِ والنّدامة، في الدنيا والبرزخ ويوم القيامة، وأصلحَ شؤونَنا بما أصلح به شؤون الصالحين في لطفٍ وعافية وتمكين، بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي الأمين ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

28 ذو القِعدة 1442

تاريخ النشر الميلادي

07 يوليو 2021

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام