(364)
(535)
(604)
شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الحج، باب السَّير في الدَّفْعة، وباب ما جاء في النحر في الحج، وباب العمل في النحر.
فجر الإثنين 25 ذي القعدة 1442هـ.
باب السَّيْرِ فِي الدَّفْعَةِ.
1166- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: سُئِلَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ -وَأَنَا جَالِسٌ مَعَهُ- كَيْفَ كَانَ يَسِيرُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، حِينَ دَفَعَ؟ قَالَ كَانَ يَسِيرُ الْعَنَقَ، فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ.
قَالَ مَالِكٌ: قَالَ هِشَامٌ: وَالنَّصُّ فَوْقَ الْعَنَقِ.
1167- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يُحَرِّكُ رَاحِلَتَهُ فِي بَطْنِ مُحَسِّرٍ قَدْرَ رَمْيَةٍ بِحَجَرٍ.
باب مَا جَاءَ فِي النَّحْرِ فِي الْحَجِّ
1168- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ بِمِنًى: "هَذَا الْمَنْحَرُ، وَكُلُّ مِنًى مَنْحَرٌ". وَقَالَ فِي الْعُمْرَةِ: "هَذَا الْمَنْحَرُ" يَعْنِى الْمَرْوَةَ "وَكُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ وَطُرُقِهَا مَنْحَرٌ".
1169- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: أَخْبَرَتْنِي عَمْرَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ تَقُولُ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لِخَمْسِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ ذِى الْقَعْدَةِ وَلاَ نُرَى إِلاَّ أَنَّهُ الْحَجُّ، فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنْ مَكَّةَ، أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ إِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ، وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَنْ يَحِلَّ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَدُخِلَ عَلَيْنَا يَوْمَ النَّحْرِ بِلَحْمِ بَقَرٍ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: نَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ أَزْوَاجِهِ.
قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: فَذَكَرْتُ هَذَا الْحَدِيثَ لِلْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ فَقَالَ: أَتَتْكَ وَاللَّهِ بِالْحَدِيثِ عَلَى وَجْهِهِ.
1170- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ حَفْصَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، أَنَّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ؟ فَقَالَ: "إنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي وَقَلَّدْتُ هَدْيِي، فَلاَ أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ".
باب الْعَمَلِ فِي النَّحْرِ
1171- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طَالِبٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَحَرَ بَعْضَ هَدْيِهِ بيَدِهِ، وَنَحَرَ غَيْرُهُ بَعْضَهُ.
1172- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: مَنْ نَذَرَ بَدَنَةً فَإِنَّهُ يُقَلِّدُهَا نَعْلَيْنِ وَيُشْعِرُهَا، ثُمَّ يَنْحَرُهَا عِنْدَ الْبَيْتِ أَوْ بِمِنًى يَوْمَ النَّحْرِ، لَيْسَ لَهَا مَحِلٌّ دُونَ ذَلِكَ، وَمَنْ نَذَرَ جَزُوراً مِنَ الإِبِلِ أَوِ الْبَقَرِ، فَلْيَنْحَرْهَا حَيْثُ شَاءَ.
1173- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ: أَنَّ أَبَاهُ كَانَ يَنْحَرُ بُدْنَهُ قِيَاماً.
1174- قَالَ مَالِكٌ: لاَ يَجُوزُ لأَحَدٍ أَنْ يَحْلِقَ رَأْسَهُ، حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ، وَلاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ أَنْ يَنْحَرَ قَبْلَ الْفَجْرِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَإِنَّمَا الْعَمَلُ كُلُّهُ يَوْمَ النَّحْرِ، الذَّبْحُ، وَلُبْسُ الثِّيَابِ، وَإِلْقَاءُ التَّفَثِ، وَالْحِلاَقُ، لاَ يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ يُفْعَلُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ
الحمد لله مُكْرِمِنا بالدين القويم، وبيانه على الهادي إلى الصِّراط المستقيم، عبده المُصطفى مُحمَّد صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أفضل الصَّلاة والتَّسليم، وعلى من تبعهم بإحسانٍ من كل ذي قلبٍ سليم، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين أهل المكانة والتّكريم والتّفخيم، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم رحيم.
وبعدُ،
فيذكر لنا الإمام مالك -عليه رحمة الله تعالى- في الموطأ ما يكون من الدَّفع من عرفة إلى المزدلفة ثم إلى منى، وما يكون من النَّحر للهدي وللفدية كذلك. فيقول: "باب السَّيْرِ فِي الدَّفْعَةِ"؛ أي: الانطلاق والخروج من عرفة إلى المزدلفة، ومن المزدلفة إلى منى، وسمّي دفعًا لازدحامهم حين ينصرفون، فيدفع بعضهم بعضًا.
وروى لنا عن "عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: سُئِلَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ" وكان رديف النَّبي ﷺ عند الدفع من عرفة، أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِب رسول الله وابن حِبه، فكان لسيِّدنا زيد بن حارثة ثم لابنه أسامة مكانة عند رسول الله ﷺ. وقال عنه ﷺ وعن أبيه: إن كان خليقًا بالإمارة؛ أي: جديرًا بها وهو أحق بها. وقد أمّر زيد بن حارثة في بعض السّرايا، وفي السّرية التي استُشهد فيها زيد بن حارثة وهي سرية مؤتة، وانتقل ﷺ إلى الرفيق الأعلى، وقد عقد اللواء بإمارة أسامة بن زيد وكان في الجيش أبو بكر وعُمَر، ولذا كان سيِّدنا عُمَر كلمّا لقي سيِّدنا أسامة قال: السَّلام عليك يا أميري. يقول: أنت أمير المؤمنين. يقول: لكنك أنت توفيَ رسول الله ﷺ واللواء معقود بالإمارة لك عليّ. سيِّدنا أسامة بن زيد قال عنه ﷺ لما جاء هو والحسن بن علي، فقال: "اللَّهم إني أُحبهما فأحبهما". توفي النَّبي وأسامة في تسعة عشر سنة، الأمير الذي ولّاه كان عمره تسعة عشر سنة، وتوفي بواد القرى من المدينة سنة 54 هـ.
يقول: "سُئِلَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ -وَأَنَا جَالِسٌ مَعَهُ- كَيْفَ كَانَ يَسِيرُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، حِينَ دَفَعَ؟" يعني: خرج من عرفة، وذلك أنه كان معه رديفه في الجمل الذي عليه رسول الله ﷺ يمشي..
كان أردف معه أسامة بن زيد من عرفة إلى مزدلفة.
ثم أردف سيِّدنا الفضل بن العباس من مزدلفة إلى منى.
وهذا هو وقت الدَّفع وهو السّير والخروج من عرفة بعد غروب الشَّمس إلى مزدلفة. فيُسنّ أن يخرج وعليهم السكينة كما أمرهم صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم. ولمَّا أصدر أمره الكريم بعد عرفة لذلك الجمع مئة ألف وأربع وعشرين ألف، أول ما خرجوا سمع حركة يريدون السُّرعة، قال: أيّها النَّاس ليس البر بالإيضاع؛ يعني بالإسراع والعجلة في المشي، فعليكم بالسّكينة. قال: فوضع النَّاس أزمَّة دوابهم على ركابها، ما أحد منهم يحركها، وهكذا، كلمة واحدة والجمع كله امتثل، وأحيانًا أربعة أو خمسة وتقول لهم كذا وكذا… وهؤلاء مئة ألف وعشرين ألف بكلمة واحدة من الحبيب، وهكذا الإيمان، وهكذا العقل، وهكذا الرابط القلبي والمحبة، فصاروا ما أحد منهم لا يضرب راحلته، ولا يقود زمامها؛ وضعوا أزمّتها على رقابها بعد أن أمرهم عليه الصَّلاة والسَّلام، وخرج عليه الصَّلاة والسَّلام. فمن السُّنة:
أن يؤخّر صلاة المغرب إلى العشاء فيصليهما بمزدلفة كما فعل ﷺ.
وإن قدَّم أو حضر وقت العشاء فصلاهما تأخيرًا في عرفة فذلك جائز
ولكن الأفضل التأخير أن يصليهما بمزدلفة.
فلما سُئِلَ سيِّدنا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ الذي كان رديف النَّبي ﷺ حِينَ دَفَعَ من عرفة عن سير رسول الله ﷺ "قَالَ: كَانَ يَسِيرُ الْعَنَقَ"؛ وهو نوع من السير متوسط، لا إسراع فيه، ولا تراخي وتأني، فكان يمشي متوسطًا على حسب ما يجد من المسار. "فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً"؛ فراغ ومحل؛ فراغ من النَّاس. "نَصَّ"؛ أي: أسرع قليلًا؛ أي: مشى فوق العَنَق، فالنصّ دون الإسراع القويّ وفوق العنق. "قَالَ مَالِكٌ: قَالَ هِشَامٌ: وَالنَّصُّ فَوْقَ الْعَنَقِ." إذًا فهو يمشي العنق وإذا وجد المكان فارغًا مشى ﷺ النصّ؛ يعني: أسرع فوق تسيير الدّابة والبعير؛ سيرًا مسرعًا ما. فوصف دفعه -عليه الصَّلاة والسَّلام- وسيره.
"قَالَ مَالِكٌ: قَالَ هِشَامٌ: وَالنَّصُّ فَوْقَ الْعَنَقِ". وقال: "وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يُحَرِّكُ رَاحِلَتَهُ فِي بَطْنِ مُحَسِّرٍ". أما بطن وادي مُحَسِّر فهذا بين مزدلفة ومنى؛ والمراد: أنه يسرع شيئًا عند المرور بالبقعة التي أهلك الله فيها أصحاب الفيل. فلمّا كان محل هلكة؛ أسرع بالمشي فيها ولم يتأن فيها، وبهذا وصفوه. قال: فلمَّا وصل وادي المُحَسِّر، حرَّك دابته فأسرع قرابة من ميل، قدر ميل، أسرع السير ﷺ، قَدْرَ رميةٍ بِحَجَرٍ في البقعة التي هلك فيها أصحاب الفيل إذ ضربوا معسكرهم هناك ومعهم الفيل وعدد من الفيلة والجيش، يريدون دخول مكَّة، فأرسل الله عليهم الطير من فوقهم أبابيل جماعات جماعات، ترميهم بحجارة من سجيل، كلمّا وصلت حجارة رأس أحدهم خرقته حتى تنزل من أسفله ويقع ميتًا، فماتوا كلهم وجعلهم كعصفٍ مأكول مثل السَّبول هذا والذي تأكله البهائم إذا أكلته يتفرّق واحد هنا، واحد هنا، واحد هنا، وهم كانوا كذلك كأنهم عصف أكلته الأنعام والدَّواب، فالزرع الذي يخرج لتأكله الدّواب، فإذا أكلته، تناثر حبة هنا، وحبة هنا، ملقى على الأرض، فكانوا كذلك.
وسلِم الفيل ولم يصب بشيء لأنه لم يرضَ الدُّخول إلى مكَّة، لأنه عند دخولهم إلى مكَّة عالجوا الفيل، برك الفيل الكبير، ذاك أكبر الفيلة، كان يأتي أمام البيت يضربه بخرطومه، فيسقطه يكسره، يكسر الحوائط بخرطومه من شدته وقوته. فلمَّا أرادوا القيام والدخول إلى مكَّة برك، فهددوه ما رضي يقوم، وجاء سائسه بالفأس يضربونه ووجهه نحو اليمن، قام يهرول، رجعه نحو مكَّة بَرَك.. فبينما هم يعالجونه أقبلت الطّيور من فوقهم وكانت هلكتهم، وعاد الفيل إلى اليمن، ودخل واحد منهم نحو مكَّة يجري والطائر فوقه يمشي، ودخل أهل مكَّة يصيح.. ماذا بك؟ قال: جاءت طيور مثل هذه وبلَّغهم الخبر، ولمَّا كمل الخبر، رمى الطائر الحجر على رأسه سقط محله ميت. وإنما تأنّى به من أجل أن يبلّغ الخبر إلى مكَّة فقط، يصير مُبشّر لهم بما فعل الله تعالى بأصحابه.
كان ذلك عام ولادته ﷺ، حتى تعبير القرآن جاء عن هذه الحادثة بإضافةٍ إليه فيقول: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ) [الفيل:1] إشارة إلى أنه بعنايته بك ورعايته لك دفع هؤلاء عن البيت الحرام (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ)، ما قال رب البيت ولا رب مكَّة، ما فعل ربك أنت يا مُحمَّد (بِأَصْحَابِ الْفِيلِ)؟ ( أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ) [الفيل:2-3]. أكثر أهل السّيرة يقولون: كان قبل يوم المولد بخمسين يوم. قال بعضهم: بل كان أيام المولد. ويقول الشيخ عبد العزيز الدَّباغ: أنه كان لأسبوعٍ من مولده ﷺ، وأنهم رُدّوا عن البيت وعن مكَّة تعظيمًا للبيت وإكرامًا من الله لرسوله ﷺ، (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ).
ففي وادي مُحَسِّر يُسنّ الإسراع كما أسرع ﷺ وهو متوجّه إلى تبوك عندما مرّ بديار ثمود قوم النَّبي صالح حيث أهلكهم الله -تبارك وتعالى- ونزلت عليهم الصَّيحة. فلمّا وصل إلى عند أماكنهم؛ ديارهم، غطّى رأسه الشَّريف، أقنَعَ وأسرع بالمشي، وقال: "لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، إلا أن تكونوا باكين، أن يصيبكم ما أصابهم". وهكذا ربّى قلوب المؤمنين على الخشية والإنابة والذكرى والتَّذكُر، وتعظيم جناب المولى -جلّ جلاله وتعالى في عُلاه- والعبودية له. فحتى وجد الذين سبقوا من الصَّحابة انتزحوا من البئر للقوم -لقوم صالح-، فأمرهم أن يريقوا الماء الذي انتزحوه منها، وأن ينزحوا من بئر النَّبي صالح. فقالوا: إنا قد عجنّا به عجين. فقال: اعلفوه دوابّكم؛ أعطوه دوابّكم ولا تأكلوه، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم.
ففيه: بعده عن آثار الذين غضب الله عليهم، حتى قال من الفقهاء مَن قال: إنه يُكره الوضوء من مياه الذين غضب الله عليهم، فأمرهم أن يستقوا من البئر التي كان يستقي منها النَّبي صالح على نبينا وعليه أفضل الصَّلاة والسَّلام. وهذا وادي مُحَسِّر، والذي قدر رمية بحجر أسرع فيه ﷺ، فيُسن الإسراع فيه للماشي، والرَّاكب. "كَانَ" ابن عمر "يُحَرِّكُ رَاحِلَتَهُ فِي بَطْنِ مُحَسِّر" إنما يفعل ذلك مقتديًا برسول الله ﷺ "كقَدْرَ رَمْيَةٍ بِحَجَرٍ".
"عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ بِمِنىً: هَذَا الْمَنْحَرُ، وَكُلُّ مِنًى مَنْحَرٌ"؛ الموضع الذي نَحَر فيه ﷺ قال هذا المنحر؛ أي: والأفضل منحري "وَكُلُّ مِنًى مَنْحَرٌ"؛ ففيه: أي بقعة من البقاع يذبح فيها الهدي فذلك يجزيه. وفي لفظٍ: "نحرتُ هَهُنا، ومنى كلّها منحر". وكان سيِّدنا ابن عمر لشدة اتباعه يأتي إلى نفس المحل الذي نحر فيه النَّبي ينحر فيه،
فهذا المَنْحَر للحاج.
أما المُعتمر فالمنحر مكَّة؛ كما جاء في رواية في الحديث: وكل بقع مكَّة وشوارعها مَنْحَر؛ فلا يتقيّد بمحل.
وهو نحر عند الْمَرْوَةَ في عمرته. "وَقَالَ فِي الْعُمْرَةِ: هَذَا الْمَنْحَرُ"؛ يَعْنِى الْمَرْوَةَ"؛ يعني: الأفضل، وهناك حيث يكمل المعتمر عمرته، "وَكُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ وَطُرُقِهَا مَنْحَرٌ"؛ يعني يجوز النَّحر فيها. قال تعالى: (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) [المائدة:95].
يقول: عن: "عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ تَقُولُ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لِخَمْسِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ ذِى الْقَعْدَةِ" خروجهم من المدينة المنورة في آخر شهر ذي القعدة، في الخامس والعشرين منه، بقيت خمس ليال ثم رؤي الهلال في الطريق، فأثبت ﷺ الشَّهر دخل بيوم الخميس، فكان يوم الوقوف يوم الجمعة، "لِخَمْسِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ ذِى الْقَعْدَةِ". فذكر بعضهم أن خروجه كان من المدينة في يوم خميس لستٍ بقين من ذي القعدة. على كل حال، مُجمَع على أن شهر ذي الحجة كان أول يوم فيه يوم الخميس، فأما على ما أشارت السيِّدة عائشة وهو الذي اختاره المحقّقون: أن خروجه ﷺ كان يوم السبت من المدينة المنورة إلى ذو الحُليفة أحرَم ومشى، فبقي معه الأحد والإثنين والثلاثاء والأربعاء مع السبت خمس أيام باقي في الشّهر، أما ليلة الخميس فقد ثبت فيها هلال ذا الحجة، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم.
"وَلاَ نُرَى إِلاَّ أَنَّهُ الْحَجُّ"، فما كانوا يعتادون العُمرة في أشهر الحج وأثبتها ﷺ، وأثبت التمتع. فمن الصَّحابة متمتع، ومنهم قارن، ومنهم مفرد. "فَلَمَّا دَنَوْنَا"؛ أي قربنا "مِنْ مَكَّةَ"، في بقعة يسمونها سرف "أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ" مَن لم يسق الهدي من الإبل والبقر والغنم، "مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ إِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ، وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَنْ يَحِلَّ." في هذه الحالة، يكمل عمرته فتصير عُمرة؛ فيصير متمتع. "قَالَتْ عَائِشَةُ: فَدُخِلَ عَلَيْنَا يَوْمَ النَّحْرِ بِلَحْمِ بَقَرٍ"، وذلك أنه ذبح عنهن صلَّى الله عليه وآله وصحبه وسلَّم وهنَّ لا يدرينَّ فكأنهن من أجل التَّمتع، مَن تمتعت منهنّ لأنهن لم يسقن الهدي فعليهنّ دم، فنحر عنهن ﷺ غير الهدي الذي نحره وهو البُدن الذي جاء به، ولكن هذا بقر فذبحه عن أزواجه أمهات المؤمنين.
"فَدُخِلَ عَلَيْنَا يَوْمَ النَّحْرِ بِلَحْمِ بَقَرٍ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: نَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ أَزْوَاجِهِ."، قد حمله بعضهم على أنه ضحّى عنهنّ، وهنّ تبعه ﷺ أن أهل البيت يُضحي بعضهم، فكان نحره للبقر أيضًا:
إما لأجل مَن تمتع منهن ولكن هذا يلزم منهن أنه لا يأكلن منه.
والثاني أنه نحر من أجل التَّضحية عنهن والتَّضحية المسنونة يجوز أكل المُضحي منها.
"نَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ أَزْوَاجِهِ".
"قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: فَذَكَرْتُ هَذَا الْحَدِيثَ لِلْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ فَقَالَ: أَتَتْكَ وَاللَّهِ بِالْحَدِيثِ عَلَى وَجْهِهِ". والحديث أيضًا في الصَّحيحين.
ثم ذكر لنا حديث "حَفْصَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، أَنَّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا"؛ يعني: بعد العُمرة قبل الحج "وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ؟ فَقَالَ: إنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي"، وهو ما جعله فيه مما يجمع الشَّعر حتى لا يتفرّق ولا يطرأ عليه شيء من القمل ولا غيره. "لَبَّدْتُ رَأْسِي وَقَلَّدْتُ هَدْيِي"، يعني: جعلت القلائد في أعناقها "فَلاَ أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ" الهدي.
ثم ذكر في "باب الْعَمَلِ فِي النَّحْرِ"، "عنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طَالِبٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَحَرَ بَعْضَ هَدْيِهِ" وهو ثلاث وستون بدنة من جملة الهدي، "بيَدِهِ" الشَّريفة ﷺ "وَنَحَرَ غَيْرُهُ بَعْضَهُ." وهو نفسه علي بن أبي طالب ناوله المدية وأمره أن ينحر ما بقي من المئة؛ يعني باقي سبع وثلاثين، "ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثا وستين بيده ثم أعطى عليا فنحر ما غبر"؛ أي: ما بقي. وكان من جملة الحكم التي استجلوها أنها كانت على عدد سنيّ عمره الشَّريف ﷺ؛ ثلاث وستين سنة. ونحر بيده ثلاث وستين بدنة، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم.
وروى لنا عن "ابْنَ عُمَرَ قَالَ: مَنْ نَذَرَ بَدَنَةً فَإِنَّهُ يُقَلِّدُهَا نَعْلَيْنِ"؛ يجعلهما في عنقها، "وَيُشْعِرُهَا" في سنامها، "ثُمَّ يَنْحَرُهَا عِنْدَ الْبَيْتِ" إن كان معتمرًا "أَوْ بِمِنًى يَوْمَ النَّحْرِ"، إن كان حاجًا "لَيْسَ لَهَا مَحِلٌّ دُونَ ذَلِكَ"، فكانت هديًا للبيت. "وَمَنْ نَذَرَ جَزُوراً مِنَ الإِبِلِ أَوِ الْبَقَرِ"؛ أي: عليه ذبح البقرة أو ذبح الجزور من الجمال "فَلْيَنْحَرْهَا حَيْثُ شَاءَ"، أما إذا قال بدنة، "مَنْ نَذَرَ بَدَنَةً"، فإنه يشعر هذا اللفظ بأنه هدي للبيت (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ) [الحج:36].
وذكر: "عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ: أَنَّ أَبَاهُ كَانَ يَنْحَرُ بُدْنَهُ قِيَاماً"، وهذا الأفضل بأن يضع المُدية والسكين في لبّتها فيخرج الدَّم ثم يقطعها من رقبتها. "قَالَ مَالِكٌ: لاَ يَجُوزُ لأَحَدٍ أَنْ يَحْلِقَ رَأْسَهُ، حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ"، قال تعالى: (وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ۚ) [البقرة:196]. "وَلاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ أَنْ يَنْحَرَ قَبْلَ الْفَجْرِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَإِنَّمَا الْعَمَلُ كُلُّهُ يَوْمَ النَّحْرِ، الذَّبْحُ، وَلُبْسُ الثِّيَابِ، وَإِلْقَاءُ التَّفَثِ، وَالْحِلاَقُ، لاَ يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ يُفْعَلُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ".
وهو كما مرَّ معنا يدخل -عند الشَّافعية- من منتصف اللَّيل، ولكن الأفضل تأخيره إلى ما بعد الإشراق. ويجوز من نصف اللَّيل أكثر أعمال الحج، ولهذا يُسمى يوم الحج الأكبر؛ لأن أكثر أعمال الحج فيه، -يوم النَّحر- ففيه رمي جمرة العقبة، وفيه نحر البُدن؛ الهدي، وفيه حلق الرأس أو قصّه، وفيه طواف الإفاضة، فهذه أعمال الحج الكثيرة كلَّها موعدها في ذاك اليوم، فهو يوم الحج الأكبر، وترتيبها في السُّنّة:
أن يبدأ بالرمي
ثم النَّحر
ثم الحلق
ثم الطَّواف
إذًا؛ ما يُهدى إلى البيت من بهيمة الأنعام:
إما تطوع
أو هدي تمتع أو قِران
أو بنذر كما سمعنا كلام ابن عباس
وهذا يختصّ ذبحه بالحرم (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) [المائدة:95]. ورأى أنه:
من حين قوله بَدنة؛ أنه لا بُد يوصلها هناك.
بخلاف من نذر ينحر جزور أو ينحر غنمة أو شاة، فما يُشعر بلفظ الهدي أو بمعنى الهدي فينحرها ويذبحها أضحية في أي بقعة من بقاع الأرض.
فكذلك ما يُذبح ممَن حلق رأسه للضرورة فعليه النُّسك، فأين يذبحه؟
يقول الحنفية والمالكية ومثلهم الشَّافعية: يعني يجب أن يذبحه في مكَّة؛ كل ما وجب بسبب الحج يجب أن يذبح بمكَّة المُكرَّمة؛ لا يجزيه بقعة أُخرى عند عامة أكثر الفُقهاء وعلماء الشَّرع المصون.
صلَّى الله على سيِّدنا مُحمَّد ورزقنا حُسن متابعته.
وما ذكر من التَّقليد؛ وهو: أن يجعل في عنق الدَّابة علامة من نعلٍ، والإشعار؛ وهو أن يقص من جلدها ما يخرج به الدَّم فيمسح بها من عند السّنام، فهذا من السُّنّة. وبعد ذلك أيضًا لو ترك الإشعار والتقليد لا شيء عليه ولكن ذلك من السُّنّة والأولى تقديم الإشعار على التقليد. يقول المالكية: تقديم التقليد على الإشعار. أحيا الله فينا السُّنن، ورزقنا اتباع عبده المُصطفى في السِّر والعلن.
عرفنا أن الحرم محل الذَّبح لكل ما وجب بسبب الحج أو العُمرة، إما منى وإما مكَّة، إلا دم المُحصَر؛ فالمحصّر حيث أُحصر، فينحر دمه في المكان الذي أُحصر فيه. وأما طريقة النَّحر؛ فالسُّنة التي أشار إليها الشيخ -عليه رحمة الله- متضمّن ذبح الإبل وهي قائمة على ثلاث، معقولة اليد اليسرى، فإذا نحرها في لبّتها؛ سقطت، (فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا) سقطت ( فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ) [الحج:36].
ولكن لو وضعها على الأرض وذبحها يجوز.
لكن الأفضل في الإبل أن تكون معقولة الرِّجل اليسرى؛ وهي قائمة يذبحها على ثلاث، فينحرها وهي قائمة.
أصلح الله شؤوننا والمسلمين، ورقّانا أعلى مراتب علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين، وفرّج كروبنا وكروب الأُمة أجمعين، وحفظ لنا الشَّعائر والمشاعر وزادها هيبةً وإجلالًا وتعظيمًا وتكريمًا، ورزقنا -سبحانه وتعالى- أسرار ما بَسَط في تلك الشَّعائر، وما جعل لأهل الاقتداء بآثار حبيبه في الباطن والظاهر، وجعلنا ممَّن ترعاهم عين عنايته في جميع الشؤون بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
28 ذو القِعدة 1442