(364)
(535)
(604)
شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الحج: باب وُقُوفِ مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ بِعَرَفَةَ، وباب تقديم النساء والصبيان.
فجر الأحد 24 ذي القعدة 1442هـ.
باب وُقُوفِ مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ بِعَرَفَةَ
1158- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: مَنْ لَمْ يَقِفْ بِعَرَفَةَ مِنْ لَيْلَةِ الْمُزْدَلِفَةِ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ، فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ، وَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ مِنْ لَيْلَةِ الْمُزْدَلِفَةِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ، فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ.
1159- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَدْرَكَهُ الْفَجْرُ مِنْ لَيْلَةِ الْمُزْدَلِفَةِ، وَلَمْ يَقِفْ بِعَرَفَةَ، فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ، وَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ مِنْ لَيْلَةِ الْمُزْدَلِفَةِ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ، َقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ.
1160- قَالَ مَالِكٌ فِي الْعَبْدِ يُعْتَقُ فِي الْمَوْقِفِ بِعَرَفَةَ: فَإِنَّ ذَلِكَ لاَ يَجْزِي عَنْهُ مِنْ حَجَّةِ الإِسْلاَمِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لَمْ يُحْرِمْ، فَيُحْرِمُ بَعْدَ أَنْ يُعْتَقَ، ثُمَّ يَقِفُ بِعَرَفَةَ مِنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَجْزَأَ عَنْهُ، وَإِنْ لَمْ يُحْرِمْ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ، كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ، إِذَا لَمْ يُدْرِكِ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ لَيْلَةِ الْمُزْدَلِفَةِ، وَيَكُونُ عَلَى الْعَبْدِ حَجَّةُ الإِسْلاَمِ يَقْضِيهَا.
باب تَقْدِيمِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ
1161 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ سَالِمٍ وَعُبَيْدِ اللَّهِ ابْنَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ : أَنَّ أَبَاهُمَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يُقَدِّمُ أَهْلَهُ وَصِبْيَانَهُ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى، حَتَّى يُصَلُّوا الصُّبْحَ بِمِنًى، وَيَرْمُوا قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ النَّاسُ.
1162 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أبِي رَبَاحٍ: أَنَّ مَوْلاَةً لأَسْمَاءَ بِنْتِ أبِي بَكْرٍ أَخْبَرَتْهُ قَالَتْ : جِئْنَا مَعَ أَسْمَاءَ ابْنَةِ أبِي بَكْرٍ مِنًى بِغَلَسٍ، قَالَتْ : فَقُلْتُ لَهَا لَقَدْ جِئْنَا مِنًى بِغَلَسٍ، فَقَالَتْ: قَدْ كُنَّا نَصْنَعُ ذَلِكَ مَعَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكِ.
1163 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ كَانَ يُقَدِّمُ نِسَاءَهُ وَصِبْيَانَهُ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى.
1164 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ سَمِعَ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَكْرَهُ رَمْيَ الْجَمْرَةِ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، وَمَنْ رَمَى فَقَدْ حَلَّ لَهُ النَّحْرُ.
1165 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، أنَّ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ أَخْبَرَتْهُ: أَنَّهَا كَانَتْ تَرَى أَسْمَاءَ بِنْتَ أبِي بَكْرٍ بِالْمُزْدَلِفَةِ، تَأْمُرُ الَّذِي يُصَلِّي لَهَا وَلأَصْحَابِهَا الصُّبْحَ يُصَلِّي لَهُمُ الصُّبْحَ حِينَ يَطْلُعُ الْفَجْرُ، ثُمَّ تَرْكَبُ فَتَسِيرُ إِلَى مِنًى وَلاَ تَقِفُ.
الحمد لله مُكْرِمِنا بشريعته وبيانها، وصلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم على عبده المُجتبى، مُحمَّد المخصوص من الرَّحمن -جلّ جلاله وتعالى في عُلاه- بأعلى مراتب الشَّرف وأحسنها. اللَّهم أدم صلواتك عليه وعلى آله وصحبه ومَن سار في دربه مقتديًا به في سرّه وإعلانه، وعلى آبائه وإخوانه من أنبيائك ورسلك الحائزين منك عظيم الامتنان، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المقربين وعبادك الصَّالحين ذوي العِرفان، وعلينا معهم وفيهم في كل وقتٍ وآن برحمتك يا رحيم يا رحمن.
أما بعدُ،
فيواصل سيِّدنا الإمام مالك -عليه رحمة الله تعالى ورضوانه- ذكر الأبواب المتعلّقة بمناسك الحج في الوقوف وما بعده، قال: "باب وُقُوفِ مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ بِعَرَفَةَ"؛ أي: فاته إدراك أن يقف بعرفة في الوقت المحدد لذلك. فذكر لنا حديث: "ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: مَنْ لَمْ يَقِفْ بِعَرَفَةَ مِنْ لَيْلَةِ الْمُزْدَلِفَةِ"؛ أي: ليلة العاشر من شهر ذي الحجة الحرام؛ ليلة العيد؛ ليلة النَّحر، "قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ، فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ". وإذا لم يقف؛ أي: من زوال الشَّمس -كما تقدَّم معنا- إلى طلوع الفجر، فهذا الوقت الذي حدده الشَّارع للوقوف بعرفة.
وتقدَّم معنا قول الإمام أحمد: أنه من فجر يوم عرفة.
وقال الجمهور: أنه من زوال يوم عرفة؛ من زوال الشَّمس في الظُّهر.
وعلِمنا أيضًا ما قال الإمام مالك: أن العبرة بالوقوف في اللَّيل، وأن مَن لم يقف بالليل وإن وقف أثناء النَّهار يوم عرفة في عرفة ثم خرج منها قبل غروب الشَّمس، فلم يقف بالليل حتى طلع الفجر؛ أنه فاته الوقوف؛ أنه لا يُعتد به وإن كان عنده السُّنَّة أن يجمع بين اللَّيل والنَّهار.
وهو كذلك عند أبي حنيفة ومالك وعند الشَّافعية: السُّنَّة أن يجمع بين اللَّيل والنَّهار.
إلا أن الإمام أبا حنيفة والإمام أحمد -عليهما رحمة الله- قالا:
○ فيمَن وقف بعرفة في النَّهار ثم لم يدرك شيئًا من اللَّيل في عرفة، بأن نفر منها قبل الغُروب؛ أن عليه دم؛ لأنه ترك نسكًا لم يجمع بين اللَّيل والنَّهار.
○ وكذلك إن جاء عرفة باللَّيل؛ بعد الغروب ولم يدرك شيئًا من النَّهار؛ فعليه دم من أجل الجمع بين اللَّيل والنَّهار، والوقوف صحيح، والحج أدركه وإن لم يقف في أثناء النَّهار، إلا عند مالك كما سمعنا.
وفي هذا تقويم وتثبيت للعبودية بحِكم اختصاص الأعمال بأوقات محددات معينات، وأن للحق تعالى حِكم في ترتيب العمل في وقته. وبالعموم لمَّا تولى سيِّدنا أبو بكر الصِّديق لمَّا استخلف سيِّدنا عُمَر، قال سيِّدنا أبا بكر له في آخر عمره: فاعلم أن لله عملًا بالنهار لا يقبل منك بالليل، وعملًا بالليل لا يقبل منك بالنهار؛ يعني فقم بكل عمل في وقته وأدِّه، فإن لذلك التوقيت حِكم كبيرة، فلا ينبغي للإنسان برأيه أو بتكاسله أن يؤخر عمل من وقت محدد ومعين له إلى وقت آخر.
وبذلك أيضًا جاءنا في الأخبار البركة في البكرة، وأن المبادرة إلى أداء العمل في أول وقته هو الأفضل، وكما جاءنا أن الصَّلاة لأول وقتها أفضل الأعمال. الصَّلاة لأول وقتها الأفضل عند الله. وهكذا قال الحق: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا) [النساء:103]. كما وقّت لنا في فرض الصِّيام شهر رمضان، ففي التوقيت سِرّ وحكمة.
وهكذا فيما وقّت صلَّى الله عليه وآله وصحبه وسلَّم لنا من أذكار وأعمال ما بين صباح وبين مساء، ما بين ظهر، ما بين مغرب، ما بين عصر، ما بين آخر العشية وما إلى ذلك. ففي ذلك التوقيت سِرّ وحكمة، ينبغي أن يُراعى وأن يُعطى كل شيء في وقته فذلك هو الأولى، وإن كان لمَن فاته الأمر بعذرٍ أو بغير عذر التّدارك والقضاء، نعم ولكن ليس كالأداء في وقته إلا لمَن غُلب غلبة يعلم الله تعالى بها عجزه التام عن الأمر، فإنه يعذره سبحانه وتعالى، وفيه من رحمة الله على أن من خلّف شيئًا بغير تكاسل منه وبغير رغبة منه، بأن غُلب على ذلك أن يجعله كمن أدّاه في وقته. يشهد ما جاءنا في الحديث: أن مَن نام عن ورده ليلة من اللَّيل فقضاه ما بين طلوع شمسه -فإذًا فيه مبادرة بالقضاء- ما بين طلوع الشَّمس إلى الزَّوال، كُتب له كأنما صلاه من اللَّيل. وفي هذا الفوات النَّادر الذي يقع ثم بعد ذلك التدارك السَّريع ما عاد يجيء الظُّهر إلا وقد قضى ما فاته من اللَّيل؛ ما يؤخره إلى ما بعد الظُّهر، فبهذا يتدارك ما فاته فكأنه صلاه من اللَّيل. وهكذا مَن كان معذورًا ثم بادر إلى القضاء.
ومن أسرار التوقيت الذي جعله الله -تبارك وتعالى- وربط الأشياء بالأوقات، كما ربط الأشياء بالأماكن مثل عرفة، الوقوف فيها في هذه السَّاعات المعينة رُكن من أركان الحج الذي هو رُكنٌ من أركان الإسلام، بعد ذلك طول السَّنة ما يؤثر الوقوف فيها شيء إن دخلت وإن خرجت وإن رحت، ما يحسب شيء ولا يعد شيء إلا في هذا الوقت، وقد يترتب عليه أمر كبير. وهكذا كما وقّت الوقت للحج نفسه وقال: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ) [البقرة:197].
يقول: "مَنْ لَمْ يَقِفْ بِعَرَفَةَ مِنْ لَيْلَةِ الْمُزْدَلِفَةِ"، وقد تعددت الأحاديث في ذلك أن الوقوف يستمر إلى طلوع الفجر يوم عرفة. وجاء في عددٍ من الرِّوايات عنه صلَّى الله عليه وآله وصحبه وسلَّم، منه ما جاء عند أصحاب السُّنن وغيرهم بالسند الصَّحيح، أن رجلًا من نجد جاء للنبي ﷺ يسأله فقال له: الحج عرفة، مَن أدركه قبل أن يطلع الفجر من ليلة جمعٍ؛ تمّ حجّه. وجاء أيضًا في ذلك روايات أُخر وعنه عليه الصَّلاة والسَّلام، ومن هنا:
قال الأئمة الثلاثة: أن مَن وقف في أي ساعة من ليل أو نهار بعرفة من زوال الشَّمس -وقال الإمام أحمَّد: من الفجر- إلى طلوع الفجر في اليوم الثاني.
فعند الإمام الشَّافعي والإمام أبي حنيفة: من الزّوال.
وعند الإمام أحمد: من الفجر. من الفجر إلى الفجر الثاني في اليوم الثاني، من فجر يوم عرفة إلى فجر يوم النَّحر.
مَن وقف في هذا الوقت أية ساعة؛ فقد تم حجّه، وقد أدرك الحج. وإن وقف ساعة من اللَّيل ولم يقف في النَّهار أو وقف ساعة من النَّهار ولم يقف شيئًا من اللَّيل؛ فقد تمّ حجَّه كذلك.
إلا أنه عند أبي حنيفة وأحمد، عليه دم.
وليس عليه شيء عند الإمام الشَّافعي.
وعلِمنا قول الإمام مالك:
○ أن مَن وقف ساعة من اللَّيل، ولم يقف في النَّهار؛ فصح حجّه وعليه دم.
○ وإن وقف في النَّهار، ولم يقف في اللَّيل؛ فلا يصح حجّه ولم يكن مدركًا للوقوف.
يقول عن عروة: "مَنْ أَدْرَكَهُ الْفَجْرُ مِنْ لَيْلَةِ الْمُزْدَلِفَةِ، وَلَمْ يَقِفْ بِعَرَفَةَ، فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ، وَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ مِنْ لَيْلَةِ الْمُزْدَلِفَةِ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ، َقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ".
"قَالَ مَالِكٌ فِي الْعَبْدِ"؛ أي: المملوك "يُعْتَقُ فِي الْمَوْقِفِ بِعَرَفَةَ"، وهو قد أحرم وهو مملوك رقيق قبل أن يعتق، ولمّا كان في عرفة، قال سيده: لنغتنم الفرصة في عرفة ونعتق هذا عسى الله أن يعتقنا، فأعتق مملوكه. فهل يُعدّ بذلك حج حجّة الإسلام أم لا؟
أما مذهب الإمام مالك فقال: قد مضى الإحرام على النَّفلية لم تكن فرضًا عليه، فعليه أن يستمر في هذا النَّفل ولا يعد عن حجّة الإسلام، وعليه أن يحج حجّة أُخرى، وكذلك قال أبو حنيفة.
ولكن قال الإمام الشَّافعي والإمام أحمد: ما دام العتق حصل قبل انتهاء الوقوف، وقد وقف بعرفة بعد العتق؛ فقد حُسبت حجّة الإسلام، وسقطت عنه حجّة الإسلام ما دام اُعتق وهو بعرفة؛ وقف بعرفة بعد العتق؛ فقد سقط عنه حجّة الإسلام.
وكذلك مَن كان صبيًا ثم بلغ في عرفة؛
فقال الإمام أبو حنيفة:
إن جدد إحرامًا؛ فوقع عن حجّة الإسلام.
وإن لم يجدد الإحرام؛ فلا.
وقال الإمام الشَّافعي والإمام أحمد بن حنبل:
أنه ما دام بلغ وهو في عرفة، فقد وقف بعد البلوغ؛ فسقط عنه حجّة الإسلام.
بخلاف إذا بلغ واُعتق بعد الخروج من عرفة، ولم يعد إلى عرفة قبل الفجر؛ فإنه لا تعد حجّة الإسلام وعليه أن يحج حجّة بعدها.
وقلنا: اشترط الحنفية أن يجدّد الإحرام.
ولم يشترط ذلك الشَّافعية ولا الحنابلة.
وكذلك المالكية قالوا: ما ينفع، قد أحرم وهو طفل وهو صبي، فما يمكن أن يمكن أن يعد هذا حجّة الإسلام.
وقالوا في مَن قال في تجديد الإحرام: ما يمكن حجّتين في سنة واحدة، وقد أحرمنا بواحدة هذه، والإحرام الأول هو المعتبر نفلًا، وعليه أن يستمر في هذا النّفل حتى يقضيه، هكذا عند المالكية.
"قَالَ مَالِكٌ فِي الْعَبْدِ يُعْتَقُ فِي الْمَوْقِفِ بِعَرَفَةَ: فَإِنَّ ذَلِكَ لاَ يَجْزِي عَنْهُ مِنْ حَجَّةِ الإِسْلاَمِ".
ومن هنا قال الشَّافعية: أن مراتب الحج خمس:
○ المرتبة الأولى: الصَّحة المطلقة، وهذه لها شرط واحد وهو: الإسلام، وكل مسلم يصح منه الحج بنفسه أو من غيره عنه، شرط الإسلام فقط. من أُكرِم بالإسلام صح الحج منه وعنه.
○ ولكن المرتبة الثانية: صحة مباشرة؛ بنفسه يباشر ويؤدي المناسك. فهذه لها شرط مع الإسلام العقل، فكل مسلم عاقل يجوز بنفسه يؤدي الحج، أما صبي غير مميز أو مجنون بنفسه ما يمكن؛ ما يقدر يباشر بنفسه ولكن يحج عنه وليه؛ ويحج عنه غيره يصح. أما المباشرة لا بُد لها مع الإسلام من العقل أن يكون مسلمًا عاقلًا.
○ ثم تأتي المرتبة الثالثة: وهي صحة الوقوع النَّذر؛ إذا نذر. فلا يصح النَّذر والوفاء به إلا بثلاثة شروط: إسلام، وعقل، وبلوغ. أما الصبي غير البالغ وإن كان مميز؛ يصح يباشر الحج بنفسه ولكن ما يصح منه النَّذر، ولا يقع النَّذر إذا حج.
○ أما المرتبة الرابعة: فهي الوقوع عن حجَّة الإسلام؛ تسقط بفرض الإسلام. فهذا لها أربعة شروط: الإسلام، والعقل، والبلوغ، والحرية؛ أن يكون حرًّا؛ فإذا حج مسلم بالغ عاقل حر؛ سقط عنه حجّة الإسلام.
○ وبقيت المرتبة الخامسة: وهي مرتبة الوجوب. متى يجب الحج؟ بخمسة شروط:
الإسلام
والبلوغ
والعقل
والحرية
والاستطاعة، قوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ) [آل عمران:97]؛ فيزيد شرط الاستطاعة.
فإذًا:
الشرط للمرتبة الأولى واحد وهو الإسلام، وهي مرتبة الصَّحة المُطلقة.
وشرط المرتبة الثانية اثنان؛ شرطان. والمرتبة هي أن يباشر بنفسه صحة مباشرة، والإسلام، والعقل.
والشرط في المرتبة الثالثة ثلاثة شروط، وهي مرتبة وقوع النَّذر. فلا بُد من الإسلام، والعقل، والبلوغ؛ هذه الثلاثة شروط.
والشرط للمرتبة الرابعة أربعة شروط، وهي الوقوع عن حجّة الإسلام لا بُد لها من أربعة شروط: الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحرية.
وأما المرتبة الخامسة فشروطها خمسة، وهي مرتبة الوجوب، وذلك بالإسلام، والبلوغ، والعقل، والحرية، والاستطاعة؛ (مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ).
قال الإمام مالك: "وَإِنْ لَمْ يُحْرِمْ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ، كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ، إِذَا لَمْ يُدْرِكِ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ لَيْلَةِ الْمُزْدَلِفَةِ"، ماذا عليه؟ عليه يقضي الحج العام المقبل وهذا أيضًا، عليه حج كذلك.
أما إن أُعتق أو بلغ قبل أن يُحرِم ثم أحرم فبالإجماع وقعت حجّة الإسلام. قال: "وَيَكُونُ عَلَى الْعَبْدِ حَجَّةُ الإِسْلاَمِ يَقْضِيهَا". وجاء فيما روى الإمام أحمد بن حنبل، عن مُحمَّد بن كعب القرظي يقول -رضي الله عنه-، قال رسول الله ﷺ: "إني أريد أن أجدد في صدور المؤمنين عهدًا، أيّما صبي حج به أهله فمات، أجزأت عنه، فإن أدرك يعني؛ البلوغ، فعليه الحج، وأيّما مملوك حجّ به أهله، أجزأت عنه، فإن أُعتق، فعليه الحج"، ورواه ابن سعيد في سُننه والشَّافعي في مسنده.
"باب تَقْدِيمِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ"؛ يعني من أين؟ من مزدلفة إلى منى، يُقدّمون من أجل التعب عليهم في أن يبيتوا في مزدلفة ثم يصبحوا الصَّباح في زحمة النَّاس يمشون وهم ضعفاء صبيان ونساء، فيجوز أن يتقدّموا من اللَّيل يسرون من مزدلفة إلى منى، فحتى الذي قدّمه ﷺ قال له: أتينا منى بغلَس، ورموا.
ومن هنا قال الإمام الشَّافعي ومَن وافقه: أنه يدخل وقت الرمي بنصف اللَّيل، كما يدخل وقت الطَّواف؛ فأكثر أعمال الحج؛ أعمال يوم النَّحر في نصف اللَّيل.
إذا انتصف اللَّيل ليلة النَّحر؛ ليلة العيد. إذا انتصف اللَّيل:
دخل وقت رمي جمرة العقبة
ووقت الحلق والتقصير
ووقت النَّحر
ووقت الطَّواف
كلها تدخل من نصف اللَّيل عند الإمام الشَّافعي.
وعند بعض الأئمة، إنما تكون بعد الفجر.
وعند بعض الأئمة: إنما تكون من بعد طلوع الشَّمس.
قال الشَّافعي: ورمي جمرة العقبة بعد طلوع الشَّمس أحب إلي ولا أكرهه من بعد نصف اللَّيل.
ما أكره أن يرمي قبل الفجر ولكن أحب إلي أن يكون الرمي بعد طلوع الشَّمس، هذا أفضل أوقات الرمي؛ لأنه ﷺ صلَّى الصُّبح في مزدلفة ثم مشى منها ووصل بعد طلوع الشَّمس إلى منى، ورمى جمرة العقبة ﷺ ثم نحر بُدنه وهَدْيه، ثم دعا الحلاق فحلقه، ثم نفذ إلى مكَّة فطاف، ثم عاد إلى مِنى ﷺ ليبيت بها ليلة الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، فكانت أسعد الحجّات -حجة العام العاشر من الهجرة- حجّته ﷺ مع مؤمنين خُلّص، ما فيهم مشرك، مئة ألف وأربع وعشرين ألف.
ولمّا خطب في عرفة سمعه المئة ألف كلهم وأربع وعشرين ألف، حتى كُنا النِّساء في خيامهن يسمعن صوته الكريم ويبلغهن ما يقول. قالوا: فكانوا في تلك الحالة يسمعه من بَعُد كما يسمعه من قَرُب، ولم يكن ابتُكر شيء من مكبّرات الصَّوت تلك الأيام والآن أنتم.. كم منكم مئة ألف؟ تسمعون من السماعات هذه، ولا ألف ولا خمسمائة.. ما تسمعون إلا بسماعة، هؤلاء مئة ألف كلهم سمعوا من دون ميكرفون، من دون سماعة، من دون مكبّر، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم. فتح الله الآذان لخطبته فكان يسمعه وهو يخطب من بَعُد كما يسمعه من قَرُب، كله صوت واحد، عند آخر واحد وعند الذي بجنبه، صلوات ربي وسلامه عليه.
وهذا المبيت بمزدلفة اختلفوا فيه،
فمن قال: أنه سُنّة وهو قول عند الشَّافعية.
ولكن المعتمد عند الشَّافعية أنه واجب من واجبات الحج؛ ولكن فسّروا المبيت بحضوره في أرض مزدلفة أية ساعة ولو لحظة من بعد نصف اللَّيل، من بعد نصف اللَّيل.
وقال المالكية: حضوره في أرض مزدلفة، نزوله بها مدة تسع حط الرّحل وشدّها، فهذا مقدّر بنحو 45 دقيقة ونحوها، أن يمكث سواء بعد نصف اللَّيل أو قبله، أية ساعة من ليلة المزدلفة.
إذا نزل بالمزدلفة بمقدار حطّ الرّحال وشدّها هذا فكفاه ذلك، وقال الشَّافعية: ولو لحظة ولكن بعد نصف اللَّيل، وهو فعل المعتمد عندهم واجب، وقيل سُنَّة.
وعلى المعتمد ما دام واجب، فعليه دم إذا لم يبت بمزدلفة.
فالدم ذبح شاة
فإن لم يتمكّن فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى بلده؛ عشرة أيام.
وفي هذا أيضًا ترخيصه ﷺ للضعفاء من النِّساء والصِّبيان والمرضى ونحوهم أن يتقدّموا، فلا يبيتوا في مزدلفة.
قال: عن ابن عُمَر: "كَانَ يُقَدِّمُ أَهْلَهُ وَصِبْيَانَهُ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى، حَتَّى يُصَلُّوا الصُّبْحَ بِمِنًى، وَيَرْمُوا قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ النَّاسُ."، والحديث في الصَّحيحين وغيرهما، وإنما فعل ابن عُمَر ذلك لما عرفه من هديه ﷺ. كان يقول: أرخص في أولئك رسول الله ﷺ.
وروى لنا بعد ذلك: "أَنَّ مَوْلاَةً لأَسْمَاءَ بِنْتِ أبِي بَكْرٍ أَخْبَرَتْهُ قَالَتْ: جِئْنَا مَعَ أَسْمَاءَ ابْنَةِ أبِي بَكْرٍ" وهي أخت سيِّدتنا عائشة، وهي ذات النِّطاقين "مِنًى بِغَلَسٍ"؛ يعني: في ظلمة آخر اللَّيل؛ يعني قبل طلوع الفجر أتوا مِنى، وصلوا إلى منى قبل الفجر. "قَالَتْ: فَقُلْتُ لَهَا لَقَدْ جِئْنَا مِنًى بِغَلَسٍ، فَقَالَتْ: قَدْ كُنَّا نَصْنَعُ ذَلِكَ مَعَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكِ"؛ تقصد أيام رسول الله ﷺ. فكأنها كانت مع السيِّدة عائشة وأُمهات المؤمنين الذين أرسلهم ﷺ وقدَّمهم بالليل من مزدلفة إلى منى فحضرت معهم، فلما انتُقد عليها بعد ذلك، قالت: "كُنَّا نَصْنَعُ ذَلِكَ مَعَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكِ"؛ مع رسول الله ﷺ قد أرسلنا وأنت تجيء بكلام ثاني!! الكلام كلام خير الأنام صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم.
ويقول: "عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ كَانَ يُقَدِّمُ نِسَاءَهُ وَصِبْيَانَهُ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى."
و "عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ سَمِعَ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَكْرَهُ رَمْيَ الْجَمْرَةِ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ"، وعلِمنا ما قالوا:
عند مالك وعند الإمام أبي حنيفة: إنما يدخل وقت رمي جمرة العقبة بعد الفجر.
وعلِمنا قول الشَّافعي: من بعد نصف اللَّيل. مَن رمى بعد نصف اللَّيل أجزأه لأن الضّعفاء الذين قدّمهم وصلوا بغَلَس؛ يعني: قبل الفجر ورموا؛ فعنده يدخل من نصف اللَّيل.
فإذًا؛ وقت فضيلته بعد طلوع الشَّمس، فقد رماها ﷺ ضحى ذلك اليوم. وثم في الأيام الأخرى كان إنما يرمي بعد الزّوال، إذا زالت الشَّمس خرج فرمى صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم.
وجاء في رواية أبي داود، عن عائشة، عن النَّبي ﷺ أمر أُم سلمة ليلة النَّحر، فرمت قبل الفجر ثم مضت، فأفاضت. وروي أنه أمرها أن تعجّل الإفاضة وتوافي مكَّة بعد صلاة الصُّبح.
وفي حديث أَسْمَاءَ أنها رمت ثم رجعت فصلَّت الصُّبح. وذكرت أن النَّبي ﷺ أذِنَ للظُعن.
ويجوز أن يؤخر الرَّمي في ذاك اليوم إلى الزّوال، بل إلى آخر النَّهار عند أكثر الأئمة.
ولكن عند الشَّافعي حتى إلى اليوم الثاني إلى اليوم الثالث يبقى رمي جمرة العقبة وما وراها من الرَّمي، يدخل رمي كل يوم من الزَّوال، ولا يخرج وقت رَّمي جمرة العقبة ولا وقت رمي كل يوم إلا في آخر يوم من أيام التَّشريق.
فلو أخّر الرّمي كله إلى اليوم الثالث عشر، أجزأه أن يرمي.
ولكن المعتمد أن يرمي جمرة العقبة أولًا، ثم يرمي الجمار الثلاث ليومه، ثم يرمي الثلاث لليوم الثاني، ثم يرمي الجمار الثلاث لليوم الثالث.
ولا يجوز في المعتمد أن يرمي الجمرة الأولى عن اليوم الأول والثاني والثالث، ثم يروح للجمرة الثاني لا، ولكن يرمي لليوم الأول ثم الثاني إلا أن يكون له عذر. ففي قول: يجوز أن يقدّم، فيرمي عند جمرة العقبة لليوم الأول والثاني والثالث عند الجمرة الأولى الصُّغرى، ثم الوسطى فيرمي لليوم الأول والثاني والثالث، ثم يذهب إلى جمرة العقبة فيرمي اليوم الأول والثاني والثالث. والمعتمد أنه يرمي جمار كل يوم بيومه، ثم يعود ويرمي جمار اليوم الثاني ثم الثالث. إذًا؛ فالوقت الأفضل لرمي جمرة العقبة من بعد طلوع الشَّمس إلى الزّوال ولكن يستمر وقتها إلى غروب شمس ذلك اليوم. وعرَفت عند الشَّافعي إلى آخر يوم من أيام التّشريق.
وذكر عن "فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ أَخْبَرَتْهُ: أَنَّهَا كَانَتْ تَرَى أَسْمَاءَ بِنْتَ أبِي بَكْرٍ بِالْمُزْدَلِفَةِ، تَأْمُرُ الَّذِي يُصَلِّي لَهَا وَلأَصْحَابِهَا الصُّبْحَ يُصَلِّي لَهُمُ الصُّبْحَ حِينَ يَطْلُعُ الْفَجْرُ، ثُمَّ تَرْكَبُ فَتَسِيرُ إِلَى مِنًى وَلاَ تَقِفُ"؛ يعني: بعد الصَّلاة ما تقف بمزدلفة، والله أعلم.
رزقنا الله الاستقامة وأتحفنا بالكرامة، وحفظ الحرمين الشَّريفين والمشاعر العِظام، وسخّر الأسباب والوسائل لكثرة الوفادة عليها والزيارة لها من المؤمنين والمؤمنات من مشارق الأرض ومغاربها، ودفع السّوء عنّا وعن المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، وخلّص بيت المقدس من أيدي المُغتصبين والظّالمين والعادين، وأصلح شؤوننا وشؤون المسلمين في المشارق والمغارب، وختم لنا بالحسنى وهو راضٍ عنا بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
27 ذو القِعدة 1442