شرح الموطأ - 212 - كتاب الحج: باب الْوُقُوف بعرفة والمزدلفة، وباب وقوف الرجل وهو غير طاهر ووقوفه على دابّته

شرح الموطأ - 212 - كتاب الحج: باب الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ ، من حديث مالك (عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ)
للاستماع إلى الدرس

شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الحج: باب الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ والمزدلفة، وباب وقوف الرجل وهو غير طاهر ووقوفه على دابته.

 فجر السبت 23 ذي القعدة 1442هـ. 

باب الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ

1153- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ، وَالْمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ مُحَسِّرٍ".

1154- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: اعْلَمُوا أَنَّ عَرَفَةَ كُلَّهَا مَوْقِفٌ إِلاَّ بَطْنَ عُرَنَةَ، وَأَنَّ الْمُزْدَلِفَةَ كُلَّهَا مَوْقِفٌ إِلاَّ بَطْنَ مُحَسِّرٍ.

1155- قَالَ مَالِكٌ: قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِی ٱلۡحَجِّۗ) [البقرة:197] قَالَ: فَالرَّفَثُ إِصَابَةُ النِّسَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (أُحِلَّ لَكُمۡ لَیۡلَةَ ٱلصِّیَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَاۤىِٕكُمۡۚ) [البقرة:187] قَالَ: وَالْفُسُوقُ الذَّبْحُ لِلأَنْصَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (أَوۡ فِسۡقًا أُهِلَّ لِغَیۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦۚ) [الأنعام:145]. قَال:َ وَالْجِدَالُ فِي الْحَجِّ، أَنَّ قُرَيْشاً كَانَتْ تَقِفُ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بِالْمُزْدَلِفَةِ بِقُزَحَ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ وَغَيْرُهُمْ يَقِفُونَ بِعَرَفَةَ، فَكَانُوا يَتَجَادَلُونَ، يَقُولُ هَؤُلاَءِ: نَحْنُ أَصْوَبُ، وَيَقُولُ هَؤُلاَءِ: نَحْنُ أَصْوَبُ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (لِّكُلِّ أُمَّةࣲ جَعَلۡنَا مَنسَكًا هُمۡ نَاسِكُوهُۖ فَلَا یُنَـٰزِعُنَّكَ فِی ٱلۡأَمۡرِۚ وَٱدۡعُ إِلَىٰ رَبِّكَۖ إِنَّكَ لَعَلَىٰ هُدࣰى مُّسۡتَقِیمࣲ) [الحج:67] فَهَذَا الْجِدَالُ فِيمَا نُرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَدْ سَمِعْتُ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ.

باب وُقُوفِ الرَّجُلِ وَهُوَ غَيْرُ طَاهِرٍ وَوُقُوفِهِ عَلَى دَابَّتِهِ

1156- قَالَ يَحْيَى: سُئِلَ مَالِكٌ هَلْ يَقِفُ الرَّجُلُ بِعَرَفَةَ، أَوْ بِالْمُزْدَلِفَةِ، أَوْ يَرْمِى الْجِمَارَ، أَوْ يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَهُوَ غَيْرُ طَاهِرٍ؟ فَقَالَ: كُلُّ أَمْرٍ تَصْنَعُهُ الْحَائِضُ مِنْ أَمْرِ الْحَجِّ، فَالرَّجُلُ يَصْنَعُهُ وَهُوَ غَيْرُ طَاهِرٍ، ثُمَّ لاَ يَكُونُ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي ذَلِكَ، وَالْفَضْلُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ طَاهِراً، وَلاَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَعَمَّدَ ذَلِكَ.

1157- وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ لِلرَّاكِبِ أَيَنْزِلُ، أَمْ يَقِفُ رَاكِباً؟ فَقَالَ: بَلْ يَقِفُ رَاكِباً، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ بِهِ أَوْ بِدَابَّتِهِ عِلَّةٌ، فَاللَّهُ أَعْذَرُ بِالْعُذْرِ.

 

نص الدرس مكتوب: 

 

الحمد لله مُكْرِمِنا بالشريعة الغرَّاء، وبيانها على لسان خير الورى، سيِّدنا مُحمَّد صلى الله وسلَّم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وصحبه الكُبراء، وعلى مَن والاهم في الله وسار في سبيلهم وبمجراهم جرى، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين المرتقين في الفضل والشَّرف والكرامة أعلى الذُّرى، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، والملائكة المُقربين، وجميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين.

وبعدُ،

فيذكر لنا الإمام مالك -عليه رضوان الله- الأحاديث المتعلّقة بالوقوف بعرفة وبمُزدلفة، قال: "باب الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ"، فأما الوقوف بعرفة فهو مُجمعٌ عليه أنه ركنٌ من أركان الحج؛ لا يتمّ الحج إلا به؛ فهو أعظم أركان الحج وقال ﷺ: "الحج عرفة". 

  • والوقوف في الوقت المحدد الذي حدده الشَّارع من حين زوال الشَّمس في اليوم التاسع إلى طلوع الفجر في اليوم العاشر. 

  • وقال الإمام أحمد: من فجر يوم التاسع؛ فمن الفجر يبدأ وقت الوقوف عنده بعرفة؛ لأنه يوم عرفة، فاليوم كله عنده وقتٌ، من الفجر إلى فجر اليوم الثاني؛ فجر يوم النَّحر. 

  • وقال غيره من الأئمة: إنما يبدأ وقت الدُّخول من الزّوال؛ من بعد الزَّوال. فلا يكفي الوقوف في عرفة قبل أن تزول الشَّمس بل جعلوا من النُّسك أن يجمع بين النَّهار واللَّيل. 

  • حتى قال الإمام مالك: إن الأصل في الوقوف بعرفة إنما هو اللَّيل، فلا بُد أن يكون وقف أيضًا بالليل؛ أي: من عند غروب الشَّمس وبعد غروب الشَّمس. 

وبذلك قالوا لمَن خرج من عرفة قبل غروب الشَّمس:

  • قال الحنفية والحنابلة: عليه دم؛ لأنه ترك نسكًا، وفي قولٍ عند الشَّافعية كذلك. 

  •  أما الإمام مالك يقول: هذا الذي خرج من عرفة قبل غروب الشَّمس لا حجّة له، وعليه أن يقضي الحج من العام القابل. 

  • وأما بقية الأئمة فقالوا: مادام وقف بعد الزَّوال فقد صحّ حجّه. 

  • وقال أبو حنيفة والإمام أحمد: عليه أن يُخرِج دمًا لكونه ترك نسكًا وهو الوقوف في اللَّيل، فإن الجمع بين النَّهار واللَّيل من النُّسك عندهم. 

  • وهو سُنَّة مؤكدة كذلك عند الشَّافعية.

ويوم الوقوف يوم اجتماع الوجهات والقلوب إلى ربّ العباد -جلّ جلاله- خاضعين خاشعين تائبين مُستغفرين، سائلين الله لهم ولمَن ورائهم من أهلٍ وقرابةٍ وأصحابٍ وأهل بلدانهم والمسلمين، والحق يباهي بهم ملائكته، ويقول: غفرت لكم ولمَن شفعتم له، ويحصل ذلك التجلي العظيم، الله أكبر!.. وفي ذلك يحصل الغفران لأنواع الذُّنوب حتى أن إبليس لا يُرَ أصغر وأحقر يوم في السَّنَة في يوم عرفة؛ فلا يُرَ في أي يوم من أيام السَّنَة لا أحقر ولا أدحر ولا أصغر منه من يوم عرفة لما يرى من تجاوز الله عن الذُّنوب العِظام، والمغفرة لعباده -جلّ جلاله وتعالى في عُلاه-. قال الإمام الحداد: 

وفــــي عـــرفـــاتٍ كـــل ذنـــبٍ مـــكـــفَّرٌ *** ومــغــتــفــرٌ مــنّــا بــرحــمــةِ غــافــر

 وقــفــنــا بــهــا والحـمـدُ للَه والثنا *** وشـــكـــرًا له إن المـــزيـــدَ لشــاكــر

عــشــيــة وافـى الوفـدُ مـن كـل وجـهـةٍ *** وفـــجٍّ وهُـــمْ مـــا بـــيــن داعٍ وذاكــر

وراجٍ وبــــاكٍ مــــن مـخـــافـــة ربـّــه *** بــفــائض دمــعٍ كــالســحــابِ المواطر

 وفي الوفدِ كَمْ عبدٍ منيـــــــــــبٍ لِرَبِّهِ *** وكم مخبتٍ كم خاشــــــــعٍ متصاغِرِ

وذي دعــوةٍ مــســمــوعــةٍ مــســتــجـابـةٍ *** مـن الأوليـا أهـل الصفا والبصائر

فهو موقف عظيم يذكّر بموقف القيامة، ويجود فيه الربّ الرَّحيم -جلّ جلاله وتعالى في عُلاه-. ويكون فضله لمَن وقف بعرفات خاصّة، ثم لمَن تعرّض لنفحاته من المؤمنين والمؤمنات في مشارق الأرض ومغاربها، "إنَّ لربكم في أيام دهركم لنفحات ألا فتعرّضوا لها". 

بل قال جمهور العلماء أيضًا في السُّنَّة: أنه لا يدخل إلى عرفة إلا عند زوال الشَّمس، فإن رسول الله ﷺ في حجة الوداع أمر بخيمة تُضرب له بنَمِرة -بجانب عرفة- فلمَّا خرج في الصَّباح من منى وأتى في اليوم التاسع إلى جانب عرفة في نَمِرة، دخل في الخيمة التي ضُربت له حتى زالت الشَّمس، ولمَّا زالت الشَّمس دخل وخطب وصلى بالناس ﷺ صلاة الظُّهر وصلاة العصر جمعًا وقصرًا. وهكذا جعل القصر في عرفة وفي مُزدلفة وفي منى

  • المالكية جعلوه من النُّسك تبع للإحرام.

  •  وجعل الحنفية الجمع كذلك للنُسك، ولا جمع عندهم للمسافر. 

  • وقال الشَّافعية: القصر والجمع كلاهما للسفر؛ لأجل السّفر؛ لا يتعلق بالنسك منه شيء،

    • فمَن كان مسافرًا جمع وقصر

    •  ومَن كان من أهل مكة أو ساكنًا بمنى أو بعرفة؛ فلا يجمع ولا يقصر.

يقول: "باب الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ"، وعرفنا أن الوقت جاء في قول الإمام أحمد: أنه من الفجر إلى الفجر؛ من فجر يوم التاسع إلى فجر يوم النَّحر. فمَن بعرفة ولو لحظة في هذا الوقت؛ صحّ حجّه، وإن كانوا قالوا: بالدم لمَن لم يقف باللَّيل ولكن الحج صحيح. كما هو قولٌ عند المالكية: أن عدم الوقوف باللَّيل ينجبر بدم،  ولكن المعتمد في مذهبهم: لا، لابُد من الوقوف في اللَّيل وأنه هو الأصل. 

  • فيقول الإمام مالك: 

    • أن وقت الوقوف من الغروب إلى الفجر؛ من غروب الشَّمس؛ بأن يقف ساعة بعد غروب الشَّمس في عرفة فهذا وقت الغروب عنده؛ أن يحضر عرفة ساعةً ليلة النَّحر من بعد الغروب إلى وقت طلوع الفجر، فهذا وقت الوقوف عنده. والوقوف بالنهار عنده أيضًا من واجبات الحج لكن ليس الرُّكن. 

    • الرُّكن الوقوف في الليل هذا المعتمد عند المالكية. 

    • ويدخل من الزَّوال كقول غيره من الأئمة: أن وقته يدخل من الزَّوال. إلا ما جاء عن الإمام أحمد أنه من الفجر. 

  • فقال أبو حنيفة والشَّافعي: أن وقت الوقوف بعرفة يدخل من زوال الشَّمس في يوم عرفة إلى فجر النَّحر، وهو القول المشهور بين النَّاس أن وقت الوقوف بعرفة يدخل من الظُّهر من زوال الشَّمس في اليوم التاسع، يستمر إلى طلوع الفجر في يوم العيد -يوم النَّحر-. 

إذًا: فالجمع بين اللَّيل والنَّهار 

  • مستحب عند الشَّافعية.

  • وواجب عند المالكية أن يجمع بين اللَّيل والنَّهار، والرُّكن عندهم بالليل ووقوف النَّهار واجب يُجبر بدم، وهذا ما قال المالكية. 

 

  • ويقول الحنفية وعامة الحنابلة: الواجب امتداد الوقوف إلى ما بعد الغروب، فأوجبوا أن يجمع بين اللَّيل والنَّهار. 

وهو سُنة عند الشَّافعية أن يجمع بين اللَّيل والنَّهار. وعندهم أيضًا مَن وقف في هذا الوقت بعرفة ولو كان نائمًا؛ يعني من أهل العبادة غير مغمى عليه، المغمى عليه ليس من أهل العبادة ولكن ولو كان نائمًا ومرّ في أرض عرفة في هذا الوقت ولو مرورًا من دون توقف فقد حصل له الوقوف بعرفة، ولو مرّ في أجواء عرفة بطائرة كذلك كان قد وقف بعرفة، فحضوره في أرض عرفة أي ساعة من وقت الزَّوال إلى وقت طلوع الشَّمس يكفيه للوقوف بعرفة.

أورد لنا الإمام -عليه رضوان الله تبارك وتعالى- هذا الحديث: "أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ"؛ أي بحدودها المحددة يقفون حيث شاؤوا، وقد اختار ﷺ لهم موقفًا في أسفل جبل الرَّحمة عند الصَّخرات المفروشات ولكن قَالَ: "عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ"، وهو الوادي الذي بجانب عرفة يقال له: عُرنة، وفيه أول المسجد عندما اتسع يقال له: مسجد إبراهيم ومسجد نَمِرة، فأوله من عُرنة وآخره من عرفة. فيكفي الوقوف في عُرنة على ما اعتمده جماهير أهل العلم ولكن يجب الدُّخول إلى أرض عرفة. 

وجاء أيضًا عن جبير بن مطعم عنه ﷺ قال: "كل عرفات موقف وارفعوا عن عُرنة" بنفس المعنى، "عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ، وَالْمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ مُحَسِّرٍ"؛ وهو المكان الذي خسف الله فيه أو أرسل الله الطير ترمي بحجارة من سجيل أهل الفيل الذين وفدوا لأجل تهديم الكعبة فأهلكهم الله، (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ) [الفيل:1-5].

"عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ"؛ أي: الواقف بأي جزء منها فقد أتى بالواجب الذي عليه واتبع سُنَّة محمد ﷺ وسُنَّة إبراهيم الخليل -عليهم الصَّلاة والسَّلام-. جاء في رواية: وإن بَعُد موقفه عن موقفي؛ "كونوا على مشاعركم فإنكم على إرث من إرث إبراهيم" وأيّا ما كان أجمعوا على أن عرفة كلها موقف سواء لا تخصيص لموضع دون موضع، واختلفوا في تحديد عرفة. 

  • يقول الشَّافعي: عرفة ما جاوز بطن عُرنة، وليس الوادي والمسجد منها. ليس من عرفة وادي عُرنة ولا نَمرة، ولا المسجد الذي يصلي فيه الإمام، قال هذه المواضع خارجة عن حدود عرفات. 

  • وهكذا يقول أصحاب الإمام الشَّافعي: مقدَّم هذا المسجد وأوله في طرف وادي عُرنة ليس في عرفة، وآخره في عرفات. 

والسُّنّة للإمام أو من ينوب عنه، أن يكون من اليوم السابع في مكَّة المُكرمَّة ويخطب النَّاس، يخطب النَّاس بعد صلاة الظُّهر في اليوم السابع في مكَّة، يعلمهم ما أمامهم من المناسك. ولم يبلغ الخبر الإمام أحمد بن حنبل في هذه الخُطبة في اليوم السابع فلم يقل بها، قال: أنها لا تسن الخطبة؛ لأنها لم ترد حسب ما بلغه لكنها وردت، ولم تبلغ الإمام أحمد بن حنبل أنه خطب ﷺ في مكَّة قبل أن يطلع النَّاس إلى منى. ثم طلع إلى منى في اليوم الثاني وهو اليوم الثامن، وينبغي أن يطلع بعد الفجر والإشراق فيصلي الظُّهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر بمِنى، وهذه سُنَّة، ثم في يوم الثامن أيضًا له خطبة يذكر النَّاس بها بواجبهم، ثم في اليوم التاسع يخرج من منى إلى عرفة، ويخطب عند دخوله بعد الزَّوال. 

  • قال أبو حنيفة: يؤذّن ثم يخطب. 

  • قال غيره من الأئمة: بل يخطب أولًا وفي قيامه للخطبة الثانية يؤذّن المؤذن، وهو يقتصر فيُنهي خطبته على انتهاء الأذان. 

  • وقيل: على انتهاء الإقامة.

  • والأصح أنه على انتهاء الأذان. فإذا انتهى من خطبته أقام المقيم فصلى بالناس الظُّهر والعصر

 ثم يدخل إن تيسر له إلى جانب جبل الرَّحمة، وإلا فعرفة كلها موقف كما سمعنا. وكذلك صحّ قوله: "وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ"؛ وهذا موضع ما بين منى وعرفات، وما بين العلمين الكبيرين جهة عرفة، والعلمين الكبيرين جهة منى، هذا وادي عُرنة. لا ينبغي أن يقف في بطن عُرنة. إذًا: فعامة العلماء، على أنه لا يصح الوقوف في عُرنة، ولا بُد من الدخول إلى عرفة.

 و "الْمُزْدَلِفَةَ كُلَّهَا مَوْقِفٌ" وهذه كلها من الحرم، "وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ مُحَسِّرٍ". فأبرهة كلّ فيه وأعيا، فحسر أصحابه بفعله؛ فسمي وادي مُحَسِّرٍ. "وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ مُحَسِّرٍ" وهكذا؛ فالمزدلفة ما بين وادي مُحَسِّرٍ وعرفة.

ثم أورد لنا كلام "عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ كَانَ يَقُولُ: اعْلَمُوا أَنَّ عَرَفَةَ كُلَّهَا مَوْقِفٌ إِلاَّ بَطْنَ عُرَنَةَ"، 

  • ويقال: أن أرض عرفة وُصفت لإبراهيم -عليه السَّلام- فلمّا أبصرها عرفها، فسّميَّت عرفة. 

  • وقيل: أن سيِّدنا جبريل حين كان يدور به في المشاعر أراه عرفة، فقال له: عرفت؟ قد عرفت.. فسميت بعرفة. 

  • وقيل: لأن النَّاس يتعارفون فيها. 

  • وقيل: لأن سيِّدنا الخليل عرف حقيقة رؤياه في ذبح ابنه إسماعيل. 

  • وقيل: لأنها محل الاعتراف بالذنوب؛ فالخلق يعترفون فيها بذنوبهم لربهم -جلّ جلاله-. 

  • وقيل: أن الجبال هي الأعراف وهي محاطة بالجبال وفيها جبال، فقيل لها عرفة. 

"اعْلَمُوا أَنَّ عَرَفَةَ كُلَّهَا مَوْقِفٌ إِلاَّ بَطْنَ عُرَنَةَ، وَأَنَّ الْمُزْدَلِفَةَ كُلَّهَا مَوْقِفٌ إِلاَّ بَطْنَ مُحَسِّرٍ".

  •  وقيل: بسُنيّة الوقوف بمزدلفة في ليلة النَّحر. 

  • وقيل: بوجوبه. 

  • وقال المالكية: أنه يجب بمقدار ما يحط الرَّحل؛ فمُقدّر بنحو خمس وأربعين دقيقة.

  •  وقال الشَّافعية: لا بُد من بعد نصف اللَّيل أن يحضر في مزدلفة ولو لحظة بعد نصف اللَّيل.

"قَالَ مَالِكٌ: قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي ٱلۡحَجِّۗ) [البقرة:197] قَالَ: فَالرَّفَثُ إِصَابَةُ النِّسَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ ۚ) [البقرة:187] قَالَ: وَالْفُسُوقُ الذَّبْحُ لِلأَنْصَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ۚ) [الأنعام:145]. قَال: وَالْجِدَالُ فِي الْحَجِّ، أَنَّ قُرَيْشاً كَانَتْ تَقِفُ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ" وما يتجاوزونه ويبقون في حدود الحرم، والنَّاس يخرجون إلى عرفة، "فَكَانُوا يَتَجَادَلُونَ، يَقُولُ هَؤُلاَءِ: نَحْنُ أَصْوَبُ، وَيَقُولُ هَؤُلاَءِ: نَحْنُ أَصْوَبُ"؛ والمراد: النَّهي عن الجدال كله بأي وجه من وجوه وأي معنى من معانيه. "(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ) [الحج:67] فَهَذَا الْجِدَالُ فِيمَا نُرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَدْ سَمِعْتُ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ"، يقول سيِّدنا الإمام مالك. 

إذًا؛ فأنواع الجدال منهي عنه، فمنها:

  • الجدال الذي يخاف منه الخروج إلى السِّباب.

  • ومنها أن قريش اجتمعوا في منى، قال بعضهم: حجُّنا أتم. قال آخرون: حجُّنا أتم.

  • ومن هذا الذي في الموطأ أنهم يقولون: نحن أصوب؛ من حيث وقوفهم. يقولون: نحن أصوب. 

  • وكذلك ما يختلف فيه الحجاج من أن يقول اليوم ومن يقول غدًا، وإنما عرفة يوم يعرّف الإمام.

 وكذلك كانوا يختلفون في النّسىء وما يعملون في الجاهلية، والقصد أن أنواع الجدال منهيٌ عنها. 

 

باب وُقُوفِ الرَّجُلِ وَهُوَ غَيْرُ طَاهِرٍ وَوُقُوفِهِ عَلَى دَابَّتِهِ

 

ثم لا يشترط للوقوف بعرفة الطَّهارة؛ لأنه ﷺ قال عن الحائض: تصنع كل شيء، كل ما يفعل الحاج إلا الطَّواف بالبيت، فلا يشترط الطَّهارة ولكن يُسن؛ يُسن أن يغتسل لأجل الدخول إلى عرفة ويدخل متطهرًا فيصلي ويقف وهو على طهارة فذلك أفضل. 

"سُئِلَ مَالِكٌ هَلْ يَقِفُ الرَّجُلُ بِعَرَفَةَ، أَوْ بِالْمُزْدَلِفَةِ، أَوْ يَرْمِى الْجِمَارَ، أَوْ يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَهُوَ غَيْرُ طَاهِرٍ؟"  أي: عليه حدث "فَقَالَ: كُلُّ أَمْرٍ تَصْنَعُهُ الْحَائِضُ مِنْ أَمْرِ الْحَجِّ، فَالرَّجُلُ يَصْنَعُهُ وَهُوَ غَيْرُ طَاهِرٍ"،  إلا الطَّواف فقط مستثنى، وباقي الأشياء لا يلزم فيها الطَّهارة "ثُمَّ لاَ يَكُونُ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي ذَلِكَ، وَالْفَضْلُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ طَاهِراً، وَلاَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَعَمَّدَ ذَلِكَ".

"وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ لِلرَّاكِبِ أَيَنْزِلُ، أَمْ يَقِفُ رَاكِباً؟ فَقَالَ: بَلْ يَقِفُ رَاكِباً"، فهو أفضل عند الإمام مالك. وجاء عن الإمام أحمد بن حنبل كذلك وجماعة من أهل العلم: أن الأفضل أن يقف راكبًا اتباعًا للنبي ﷺ، وليكن أعون له على الدُّعاء والتَّضرع. فهذا من باب الأفضلية أن يقف راكبًا أو واقفًا، والقصد حضور القلب والخضوع للرب والتَّذلل له، ولم يزل ﷺ يدعو خاشعًا خاضعًا بعد أن أكمل خطبته ودخل إلى أن غربت الشَّمس، ثم دفع إلى منى ﷺ وأمرهم بالسكينة. 

إذًا: السُّنّة أن يكون الحاج طاهرًا مُدة الوقوف بعرفة. 

  • عبَّر بالسُّنيّة عنه الحنفية والشَّافعية، وكذلك في قول للمالكية. 

  • وعبَّر الحنابلة بالاستحباب قالوا: يستحب أن يقف وهو طاهر. 

كذلك مسألة الرُّكوب والوقوف على رجليه أيهما أفضل؟ 

  • قيل: هما سواء. 

  • وقيل: الأفضل الركوب. 

  • وقيل: الأفضل أن يقف واقفًا.

والله أعلم.

رزقنا الله الاستقامة وأتحفَنا بالكرامة، وبارك لنا وللمؤمنين في بيته الحرام ومشاعره العِظام وفي بلد حبيبه خير الأنام ومآثره الكبار الفِخام، وجعلنا الله ممَن بارك في أعمارهم وأحسن لهم الختام، وتولّاهم في كل عام وخاص وإقدام وإحجام وفعل ونية وكلام بما هو أهله، وأصلح لنا ولكم وللأمة الشأن كله بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

27 ذو القِعدة 1442

تاريخ النشر الميلادي

06 يوليو 2021

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام