(364)
(535)
(604)
شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الحج: باب وداع البَيْتِ.
فجر الأربعاء 6 ذي القعدة 1442هـ.
باب وَدَاعِ الْبَيْتِ
1081 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: لاَ يَصْدُرَنَّ أَحَدٌ مِنَ الْحَاجِّ حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ، فَإِنَّ آخِرَ النُّسُكِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ.
1082 - قَالَ مَالِكٌ فِي قَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: فَإِنَّ آخِرَ النُّسُكِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ، إِنَّ ذَلِكَ فِيمَا نُرَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج:32] وَقَالَ: (ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج:33] فَمَحِلُّ الشَّعَائِرِ كُلِّهَا وَانْقِضَاؤُهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ.
1083 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَدَّ رَجُلاً مِنْ مَرِّ الظَّهْرَانِ، لَمْ يَكُنْ وَدَّعَ الْبَيْتَ، حَتَّى وَدَّعَ.
1084 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَفَاضَ فَقَدْ قَضَى اللَّهُ حَجَّهُ، فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ حَبَسَهُ شَيْءٌ، فَهُوَ حَقِيقٌ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ، وَإِنْ حَبَسَهُ شَيْءٌ، أَوْ عَرَضَ لَهُ، فَقَدْ قَضَى اللَّهُ حَجَّهُ.
1085 - قَالَ مَالِكٌ: وَلَوْ أَنَّ رَجُلاً جَهِلَ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ, حَتَّى صَدَرَ، لَمْ أَرَ عَلَيْهِ شَيْئاً، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا فَيَرْجِعَ فَيَطُوفَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ يَنْصَرِفَ إِذَا كَانَ قَدْ أَفَاضَ.
الحمدُ لله مُكرِمنا بشريعته المُباركة، وبيان نبيِّها صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم عليه، وقد مجّد الله تبارك وتعالى خُلقه ومنهجه ومسالكه، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الذين جعل لهم قلوبًا واعيةً عنه وأصبحت للأنفُس مالكة، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم بإحسان إلى يوم وضع الميزان، وعلى الأنبياء والمرسلين، وآلهم وصحبهم والتابعين، وعلى الملائكة المقرّبين، وعلى جميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
ويذكر الإمام مَالِكْ -عليه رضوان الله تبارك وتعالى- في هذا الباب: "باب وَدَاعِ الْبَيْتِ"؛ أي: الطواف به لأجل توديعه.
وطواف الوداع:
لكل من حجَّ إذا قضى نُسكه وحجَّه
وكذلك لكل مَنْ كان مقيمًا بمكة فأراد أن يخرج منها وأن يسافر عنها، فيجعل آخر عهده بالبيت، بالطواف بالبيت ثُمَّ ينصرف.
فهو الطواف المُسمى بطواف الصَّدَر، معنى الصَّدَر: الرجوع، وما المراد بالصَّدَر هنا؟
قال الشَّافعية الرجوع عن البيت إلى موطنه ومنزله وبلاده.
قال الحَنَفِية الصَّدَر عن أفعال الحجّ، أن يرجع عن أعمال الحجّ فإذا أتمّها فهذا هو طواف الصَّدَر.
فعلى هذا يترتب أنه لو طاف بعد أن قضى أعمال الحجِّ لأجل الوداع، ثُمَّ أقام بمكة أيام كان عند الحَنَفِية أدى طواف الصَّدَر فليخرج، وأما عند الشَّافعية لا بُدَّ أن يكون آخر عهده بالبيت الطواف قبل أن يخرج من مكة، ولا يشتغل بعد الطواف بشيءٍ غير تهيئة الزاد ونحوه، مِن شَدِ الراحلة ونحوها، فإذا اشتغل بشيءٍ غير ذلك احتاجَ أن يُعيد الطواف، ويُقال له:
طواف الصَّدَر.
وطواف الوداع.
وقد يُطلق عليه طواف الإفاضة أيضًا؛ لأنه يُفيض إلى البيت مِنْ مِنَى بعد إكمال أعمال الحجّ.
كما أنَّ طواف الرُكن يُسمى طواف الإفاضة؛ لأنه يُفيض مِنْ عرفات في أيام أعمال الحجّ، قبل إكمال الحجّ (فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ) [البقرة:198]
ويُقال له أيضًا: طواف آخر عهدٍ بالبيت؛ لأنه لا طواف بعده.
ويُقال: طواف الواجب؛
لأنه عند الأئمة الثلاثة واجب
وهو عند المَالِكْية سُنَّة كما سمعنا في كلام الإمام مَالِكْ.
إذًا فالأئمة الثلاثة يقولون أنَّ طواف الوداع واجب، فالطواف بالبيت العتيق:
إما أن يكون رُكنًا من أركان الحجّ.
وإما أن يكون واجبًا.
وإما أن يكون سُنَّة، أو مُتطوّع به.
فطَواف الرُكن: هو طواف الإفاضة الذي يكون بعد الوقوف بعَرفة من أركان الحج.
والطواف الواجب:
عند المَالِكْية: هو طواف القدوم، لِمَن قَدِم الحجّ.
وعند غيرهم هو طواف الوداع، واجب وليس برُكن.
وأما طواف السُّنة:
فهو طواف القدوم عند الأئمة الثلاثة.
وعند المَالِكْية السُّنة طواف الوداع.
ثم ما بعد ذلك، فالطواف عبادةٌ يجوز التطوع بها أي وقت شاء مِنْ ليلٍ أو نهار. وقد قال ﷺ: "يا بني عبدِ مَنافٍ لا تمنَعوا أحَدًا طاف بهذا البيتِ وصلّى أيَّ ساعةٍ شاء مِن ليلٍ أو نهارٍ". شرَع الله ذلك رحمةً بعباده، وتهدئةً للاعج أشواقهم إلى لِقاءه، ما داموا في عالم الدُنيا نَصَب لهم هذا البيت مثابةً وأمنًا، ولتُحَط فيه لواعج الأشواق الى الخلاق جلَّ جلاله، قال سيدنا الإمام الحداد رضي الله عنه في وصفه للبيت المصون، والكعبة المشرفة:
وطَلسمُ سِرِ الذات رمزٌ به اهتدى *** إليها رجالُ الحقِ مِنْ كل ناظرِ
ومن هَهُنا جذبُ القلوب ومَيلُها *** ومنه مُطُارُ الرُّوحِ مِنْ كلِ طائر
ومن هَهُنا؛ من كل ناظر إلى هذا البيت العتيق.
وبهذا قالوا إنَّ سَير الأجسام إلى الحق ينتهي إلى الكعبة، فسَير الأجسام ينتهي الى الكعبة المشرفة هذه نهايته، ولكنَّ المقصود منه تقويم سَير القلب، وسَير الروح، وسَير السِر إلى الرَّب جلَّ جلاله.
وبذلك كانت لهم بالطواف مشاهد وأذواق، ومعاني في العبودية للخلَّاق، وأحوال مُلائَمة ووفاق، وشهودُ رفعةٍ و سباق، وحقائق ذلَةٍ وأخلاق، ومعاني شريفة في ذلك السياق، فاز بها السُّبَّاق. قال سيدنا الإمام الحداد:
وصلنا إلى الحيّ الذي دونه المُنى *** فللّهِ رب الحمد والشكر والثناء.
وأشار إلى الكعبة فقال:
وزُرنا عروس الحَي وسط خِبائها *** مُسربَلةً بالحُسن والنورِ والسناء
وَطُفنا بها مستأنسين بقُربها *** ………….
لا أحد في زمانهم يقول كورونا ولا غيرها ولا يمنع النَّاس مِنَ البيت! قال:
وَطُفنا بها مستأنسين بقُربها *** وتقبيل خال الخد يا سَعِد مَن دَنا
خال الخد: الحجر الأسود
وشاهدت الأرواح مِنّا شعائرًا *** معظمةً قد ضمّها البيت والفِناء
مقامٌ وحِجرٌ والشراب وإنه *** لكوثر دار الخُلد في عالم الفَناء
وهكذا استرسل في ذكر مشاعره، وهكذا كانوا يحجُّون ويَسعون ويطوفون، فقالت بعض الصَّالحات لطائفٍ بمَ طفت؟ قال بهذه البُنية. قالت: جسوم تطوف على جسوم! ما عندك ذوق، ما تعرف سِرّ هذا الطواف ومعناه! الله.. لا إله إلا الله..
وهو كما سمعنا بمنزلة الصَّلاة؛ إلا أن الله أحلَّ فيه النُطق، فكان مِنْ جُملة أحكام الطواف:
الوجوب عند الأئمة الثلاثة بالنسبة للوَداع، فطواف الوداع واجب كما يقول الحَنَابِلَة، ينوب عنه الدم إذا تركه، وهكذا يقول الحَنَفِية والإمام الشَّافعي.
ومن أتى مكة لا يخلو: إما أن يريد الإقامة بها، أو الخروج منها؛
فإن أقام بها فلا وداع عليه، لأن الوداع مِنَ المُفارق لا مِنَ المُلازم.
وقال الإمام أبو حَنِيفَة: إن كان نوى الإقامة بعد أن حلَّ له النفر لم يسقط عنه طواف الوداع، لإنَّه كما سمعت أنَّ معنى الصَّدَر عندهم الصَّدَر عن أفعال الحجّ، وأنت كم ستُقيم بمكة؟ أنت الآن قد نويت الإقامة، وأنت جئت إلى الحجّ، فإذا صَدَرت عن أعمال الحجّ فَطُف طواف الوداع.
أما بالنسبة للخارج من مكة فبالاتفاق عند الجميع: ليس أن يخرج حتى يُودّع
وجوبًا عند الثلاثة
وسُنَّة عند الإمام مَالِكْ
وقال ابِنْ عباس: أُمِرَ النَّاس أن يكون آخر عهدهم بالبيت؛ إلا أنه خُفِّف عن المرأة الحائض، كما جاء في الصَّحيحين عن ابِنْ عباس أنه ﷺ لما أراد الصَدَّرَ والرجوع قِيل له أنّ صفية حاضت، قال: "أحابِسَتُنا هِي"، وقال: "هل قد طافت؟" مَعكم يعني طواف الإفاضة، قالوا: نعم، قال: "فلا إذًا" بل تمشي معنا. فأسقط عنها الإنتظار لأجل طواف الوداع.
وهكذا قال أكثر الأئمة: الحائض ومثلها مِنْ باب أولى النُفساء إذا أراد رِفقتُها أن يذهبوا، فلتخرج معهم ويسقط عنها طواف الوداع.
واسْتدلّ بعض المَالِكْية طالما أنه يسقط عن الحائض أنه ليس بواجب، لو كان واجبًا لم يسقط عن الحائض. وقال غيرهم: بل هو واجب وإنما عُذِرت هي لا تستوحش عن رفقتها، فمعذورةٌ يسقط عنها.
وَيلزم بتركه:
دم
فإن لم يجد فصيام عشر أيام
ووافق الإمام مَالِكْ في سنيّته داود الظاهري وقالوا: لا شيء في تركه. ويقول الحَنَفِية: واجب على الآفاقي دون المَكي، وسمعت كلامهم عن الذي ينوي الإقامة إن كان نوى بعدما يجوز له الصَدَّر ما يسقط عنه طواف الوداع -كما تقدم معنا- أنه إذا قد صَدَر عن أعمال الحجّ فطاف بنيِّة الوداع فمهما أقام بمكة فلا شيء عليه، وقد نَفَذ منه طواف الوداع الذي هو الصَّدَر من أفعال الحجّ.
وأبو يوسف من الحَنَفِية يقول: أحب إليّ أن يطوف المكي -يعني: طواف الوداع- لأنه يختم به المناسك، وهو عندهم كما هو عند الشَّافعية يسقط على الحائض والنُفساء، ولا يلزم المُعتمر؛ لأنه يُكمل أعمال العمرة، فإذا أراد الإنصراف بعد أعمال العُمرة فقد كان آخر عهده بالبيت، فما عليه فليَنصرف.
وهكذا يقول الإمام مَالِك أيضًا: إذا أخرَّ طواف الوداع وخرج، لم يَطُف طواف الوداع وخرج،
إن كان قريبًا يُسُن له أن يرجع كما هو سُنَّة عنده فيطوف
وإن لم يرجع فلا شيء عليه
ويقول غيره:
إن كان قريبًا رجع فطاف.
وإن تباعد يمشي ولكن يُخرِج دم.
ويُروى: "أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَدَّ رَجُلاً مِنْ مَرِّ الظَّهْرَانِ، لَمْ يَكُنْ وَدَّعَ الْبَيْتَ" مع أنه بينه وبين مكة أميال!
والقُرب والبُعد عن البيت
ردَّه الإمام مَالِكْ إلى المشقة، إن صارَ يشق عليه الرجوع فهو بعيد.
ويقول الإمام أبي حَنِيفَة: يرجع ما لم يبلغ المواقيت، فيرجع ليطوف طواف الوداع.
يقول الشَّافعي والإمام أحمدْ بن حَنبَل: إذا كان بينه وبين البيت أقل مِنْ مسافة قَصر يرجع، وإذا قد جاوز مسافة القَصر خلاص انتهى قد بَعُد فعليه أن يُخرج الدم.
ويُذكر عن سُفيان الثَّوري: أن الرجوع ما لم يجاوز حدود الحَرم، فإذا جاوز حدود الحَرم وجب عليه الدم.
وهكذا فإذا طاف طواف الوداع فليَخرج بعد ذلك مباشرةً ولا يَشتغل إلا بشُغل السفر، فإذا اشتغل بشيءٍ آخر فعليه أن يُعيد طواف الوداع.
ويقول الإمام مَالِكْ: لا بأس أن يشتري بعض حوائجه وطعامه في السوق ولا شيء عليه، لكن إن أقام يومًا أو نحوه أعاد.
والإمام أبو حَنِيفَة: يقول إذا قد طاف بِنيَّة الوداع أجزأه، وإن تأخر بعد ذلك بمكة لا يضره.
وهكذا يقول الإمام مَالِكْ: ينبغي أن يقع بعد الفراغ مِنْ جميع أشغاله، يعقبه الخروج مِنْ غير مُكث، فإن مَكث بعده لغير عُذرٍ أو لشغلٍ غير أسباب الخروج، كشراء متاع، أو قضاء دَين، أو زيارة صديق ونحو ذلك فعليه أن يُعيد الطواف؛ عليه الإعادة. فإذا أشتغل بأسباب الخروج حتى اشترى زاد مثلًا بلا مُكث، أو َشدّ الراحلة ونحوها، لم يُعِد الطواف، لو بقي منتظر في خط السيارات ينتظر سيارة ومرت عليه ساعة ساعتين، ثلاث ساعات، ولم تصل سيارة؛ لا بأس ما عليه شيء؛ لأن هذا كله مُشتغل بأعمال الخروج.
وهكذا يقول: "عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ : لاَ يَصْدُرَنَّ أَحَدٌ مِنَ الْحَاجِّ"؛ يعني: مِنَ الحُجّاج خصصه أنهُ يجب على الحاجِّ دون الخارج مِنْ مكة، وهو حُجَّة إلى الحَنَفِية على أنه الصَّدَر مِنْ أعمال الحجّ.
ويقول الإمام مَالِك: ختلف أصحابنا؛ يعني: الشَّافعية، في طواف الوداع هل هو مِنْ مناسك الحجّ أم عبادة مُستقلة؟ قال: إمام الحرمين: مِنْ مناسك الحجّ، وليس على غير الحاج طواف الوداع إذا خرج من مكة. وقال البَغوي أبو سعيد المُتولي وغيرهما مِنْ علماء الشَّافعية: ليس هو مِنْ مناسك الحجّ بل يؤمر به مَنْ أراد مُفارقة مكة إلى مسافة تُقصَر فيها الصَّلاة، سواءً كان مكيّ أو غير مكيّ، حجّ أو لم يحجّ، وهذا هو الأصح عند الشَّافعية.
ويَذكر ابِن حَجر أنَّ الإمام السُّبكي قوَّى قول الغزالي وإمامه: أنه مِن مناسك الحجّ، يُختصّ به مُريد الخروج مِنْ ذوي النُسك، ويَقرُب أن يكون هو عبادةٌ لكل مَنْ أراد مُفارقة مكة ومنهم الحاجّ، كما قال سيدنا عُمَر: "لاَ يَصْدُرَنَّ أَحَدٌ مِنَ الْحَاجِّ"؛ يعني: من الحُجاج.
فهو بالنسبة لمن حجّ تعلَّق طواف وداعه بِنُسكه
ولِمَن لم يحجّ فطواف الوداع أيضًا عبادةٌ مستمرة لمن أراد مُفارقة مكة
فليس مخصوصًا بخالص النُسك، وليس مقطوعًا عن النُسك أو غير مُعتّدٍ بالنُسك.
ومِنْ هنا قال الحَنَفِية أيضًا: أنه على مَنْ حجَّ -ولو كان غير مكي- ولكنه عندهم للصَّدَر مِنْ أعمال الحجّ، أما مَنْ كان مكيًا فلا.
وكذلك يقول الشَّافعي: إذا كان مِنْ حاضر المَسْجد الحرام يسقط عنه طواف الوداع، وهو مَنْ بينه وبين مكة، بلده الذي يريد أن يذهب إليها، أقل مِنْ مسافة القَصر، فليس عليه طواف الوداع،
والحاجُّ كغيره إذا أراد أن يخرج مِنْ مكة إلى مسافة قَصرٍ وأطول منها عليه أن يطوف بالبيت، "فَإِنَّ آخِرَ النُّسُكِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ"
"قَالَ مَالِكٌ فِي قَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: فَإِنَّ آخِرَ النُّسُكِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ: إِنَّ ذَلِكَ فِيمَا نُرَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج:32]"؛ أي: علامات دينه، ومن أعظمها الكعبة المُشرفة، فلا يُفارقها حتى يطوف بها.
وذكر زيد بِنْ أسلم مِنْ جُملة الشعائر قال: الصفا والمروة، والجِمار، والمَشعر الحرام، وعَرفة، والرُّكن، والحُرمات خمس:
الكعبة الحرام.
والبلد الحرام.
والمسجد الحرام.
والشهر الحرام.
والمُحرِم حتى يُحل.
(وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ ۗ) [الحج:30].
"وَقَالَ: (ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج:33] فَمَحِلُّ الشَّعَائِرِ كُلِّهَا وَانْقِضَاؤُهَا" جميعها "إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ."
وقد جاء عن مُحمد بِنْ موسى في قوله تعالى: (وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ) [الحج:32]، قال:
الوقوف بعَرفة من شعائر الله.
وبجمعٍ يعني مِنَى مِنْ شعائر الله.
والبُدن من شعائر الله.
رميَّ الجِمار مِنْ شعائر الله.
والحَلق من شعائر الله.
فمن يُعظِّمها (فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ * لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى) فلكم في كل مَشعَر منها منافع إلى أن تخرجوا منه إلى غيره، (ثُمَّ مَحِلُّهَا) نهايتها (إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج:33]، ومحِل هذه الشعائر كلها: الطواف بالبيت العتيق. فهذا قال طواف الصَّدَر؛ لأنه مُنتهى الشعائر مَحِلها، ونهايتها، وغايتها إلى البيت العتيق، ولهذا قال سيدنا عُمَر: "آخِرَ النُّسُكِ".
وذكر لنا: "أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَدَّ رَجُلاً مِنْ مَرِّ الظَّهْرَانِ"، وادي خارج مكة بينه وبينها أميال، نحو ثمانية عشر ميل، "لَمْ يَكُنْ" هذا الرجل الذي رَدَّه سيدنا عُمَر "وَدَّعَ الْبَيْتَ، حَتَّى وَدَّعَ" البيت، فمعنى أنه لم يَفُته أو أراد سيدنا عُمَر تأديبه، فيكون طوافه الآن لمجيئه الثاني هذا إلى مكة. ورأوا أدبًا له أن ردَّه هذه المسافة كلها، لمَّا استهان بطواف الوداع، قال: ارِجع إلى مكة طُف بالبيت، أو أنه لم يَفُت بعد وقد جاوز مسافة القَصر كما قال الشَّافعية، وجاوز القُرب كما قال المَالِكْية، وجاوز هذا كله قد خرج، فأقربَ أن يكون أراد تأديبه وتربيته.
لما أراد تربية بعض كُبار تلاميذته الإمام الحدّاد، لمَّا عاد من الحجِّ وجاءوا إلى تريم، قال: زُرت نبيّك؟ قال: لم أتمكن، قال ارجع الآن، أرجع إلى الحرم. كان مسيرة شهرين في الطريق، خرج من عنده وأرسل إلى أهله في سيئون يقول لهم: أنا راجع رجوع إن شاء الله، أمرني شيخي بالرجوع، فرجع شهرين ثانية إلى مكة، ورجع إلى المدينة مِنْ أجل تعظيم الزيارة، هذا من باب التربية والتأديب الخاص، لا إله إلا الله.
ويقول عن عروة "مَنْ أَفَاضَ فَقَدْ قَضَى اللَّهُ حَجَّهُ، فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ حَبَسَهُ شَيْءٌ، فَهُوَ حَقِيقٌ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ، وَإِنْ حَبَسَهُ شَيْءٌ، أَوْ عَرَضَ لَهُ، فَقَدْ قَضَى اللَّهُ حَجَّهُ." كمُل حجّه، تم، فأما معنى أنه لا يَبطُل حجّه فهذا باتفاق، ومعنى أنه لا شيء عليه ولا دم ولا غيره فهذا عند المَالِكْية، "فَقَدْ قَضَى اللَّهُ حَجَّهُ."
"قَالَ مَالِكٌ: وَلَوْ أَنَّ رَجُلاً جَهِلَ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ, حَتَّى صَدَرَ، لَمْ أَرَ عَلَيْهِ شَيْئاً، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ قَرِيباً" مِنْ مكة، يعني: فُيسن له الرجوع، "فَيَرْجِعَ فَيَطُوفَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ يَنْصَرِفَ إِذَا كَانَ قَدْ أَفَاضَ". وبهذا أيضًا عند الشَّافعية يقولون: أنه إذا أخّر طواف الإفاضة عن عَرفة حتى أكمل أعمال الحجّ كلها بمِنَى، رجع إلى مكة طاف طواف الإفاضة ويريد أن يسافر، سقطَ عنهُ طواف الوداع؛ لأنه آخر عهده بالبيت الطواف. وكذلك المُعتمر إذا دخل مكة واعتمر وأراد أن يُسافر بعد العُمرة مباشرةً خلاص قد كان آخر عهده بالبيت الطواف. ولكن من رأى أنه مِنْ أجل الصَّدَر عن أعمال الحج يقول: لا هذا طواف الإفاضة عاده ما صَدَر عن أعمال الحجّ، عاده مِنْ أعمال الحجّ ، إذا كمَّل يطوف طواف الوداع بعد ذلك، والله أعلم.
رزقنا الله الاستقامة، وَأتحفنا بِالكرامة، وأعاد علينا عوائد الشعائر والمشاعر بعائدات الفضل على كل قلبٍ طاهر، مِنَ المُترقين في مراقي الصدق مع العزيز الفاطِر في الباطن والظاهر، مِمّن تذوّقوا أسرار الأحكام، وحكمة الملك العلَّام، في كل فعلٍ من أفعال الشريعة، وعملٍ من أعمالها العظام، حتى طاب لهم مع الحقّ شريف المواصلة بحسن الائتمام، بسيّد أهل وصله، وإمام أهل وصاله، عبده المخصوص بأعلى تكريمه وإفضاله، وأن يُجزل لنا به الحظ مِنْ مِنّته ونواله، ويرزقنا الاستقامة على منهاجه، والسير على منواله، ويحمينا به من الآفات والعاهات في الدنيا والآخرة بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النَّبي ﷺ.
07 ذو القِعدة 1442