شرح الموطأ - 198 - كتاب الحج: باب الاستلام في الطواف، وباب تقبيل الركن الأسود في الاستلام

شرح الموطأ - 198 - كتاب الحج: باب الاستلام في الطواف، من حديث الإمام مالك
للاستماع إلى الدرس

شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الحج، باب الاستلام في الطواف، وباب تقبيل الركن الأسود في الاستلام.

فجر الأحد 3 ذي القعدة 1442هـ.

 باب الاِسْتِلاَمِ فِي الطَّوَافِ.

1065- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، أَنّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ إِذَا قَضَى طَوَافَهُ بِالْبَيْتِ، وَرَكَعَ الرَّكْعَتَيْنِ، وَأَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ الأَسْوَدَ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ.

1066- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: "كَيْفَ صَنَعْتَ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ فِي اسْتِلاَمِ الرُّكْنِ؟" فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: اسْتَلَمْتُ وَتَرَكْتُ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَصَبْتَ".

1067- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ: أَنَّ أَبَاهُ كَانَ إِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ، يَسْتَلِمُ الأَرْكَانَ كُلَّهَا، وَكَانَ لاَ يَدَعُ الْيَمَانِيَ، إِلاَّ أَنْ يُغْلَبَ عَلَيْهِ.

باب تَقْبِيلِ الرُّكْنِ الأَسْوَدِ فِي الاِسْتِلاَمِ

1068- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ لِلرُّكْنِ الأَسْوَدِ: إِنَّمَا أَنْتَ حَجَرٌ، وَلَوْلاَ إنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَبَّلَكَ مَا قَبَّلْتُكَ، ثُمَّ قَبَّلَهُ.

1069- قَالَ مَالِكٌ: سَمِعْتُ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَسْتَحِبُّ إِذَا رَفَعَ الَّذِي يَطُوفُ بِالْبَيْتِ يَدَهُ عَنِ الرُّكْنِ الْيَمَانِي، أَنْ يَضَعَهَا عَلَى فِيهِ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مُكْرِمِنا بنور الشَّريعة والإسلام، والهدي الذي بَعَث به خير الأنام عبده المُصطفى مُحمَّد صلَّى الله وسلَّم وبارك أفضل الصَّلاة والسَّلام، عليه وعلى آله وأصحابه الكرام، وعلى مَن والاهم في الله وتبعهم بإحسان في الائتمام، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين وآلهم وصحبهم وتابعيهم إلى يوم القيام، وعلى ملائكة الله المُقربين وجميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الرَّاحمين.

وبعدُ،

يتكلم الإمام مالك -عليه رضوان الله تبارك وتعالى- عن استلام الحجر الأسود وتقبيله في الطَّواف، واستلام الرُّكن المقابل له أيضًا، يقول: "باب الاِسْتِلاَمِ فِي الطَّوَاف"؛ ويعْنون باستلم الحجر أو استلمه: قبَّله أو اعتنقه. 

  • وهو افتعالٌ من السَّلام الذي هو التحية، فإنه بذلك يُحيِّي الحجر الأسود والبيت المصون.
  •  وهو كذلك مأخوذ من السِّلام بالكسر وهو الحجارة؛ معناه لمس الحجر الأسود وتقبيله ووضع الخد عليه. 
  • واستنبط بعضهم أن أصله من اللامة؛ الدِّرع والسَّلاح يُلبَس ليمتنع به من العدو، فكذلك يُتقرَّب إلى الحق ويستلم الحجر الأسود فيُتحصّن به من العذاب. 
  • وكذلك مأخوذ من اللامة وهي الصَّلاح
  •  ومن الملائمة 

إلى غير ما ذكروا من معنى الاستلام؛ والقصد أن استلام الحجر الأسود والرُّكن اليماني وكذلك تقبيل الحجر الأسود ووضع الجبهة عليه؛ له معانٍ شريفات ودلالات معنويات عظيمات، وفيه تعظيم شعائر الله -جلَّ جلاله- (وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج:32] كما قال -جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه-. وفيه إقامة العبودية لهذا الإنسان وخضوعه للرحمن -جلَّ جلاله- بهذا الحال مع هذه الجمادات التي أقامها الله علامات على معاني شريفات عظيمات. 

فذكر: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ" والحديث رواه الإمام مسلم أيضًا وأبو داود "كَانَ إِذَا قَضَى"؛ بمعنى: أدّى "طَوَافَهُ بِالْبَيْتِ"؛ أكمل "طَوَافَهُ بِالْبَيْتِ، وَرَكَعَ الرَّكْعَتَيْنِ"، وهي سُنَّة الطواف، فيُسنّ بعد أن يطوف بالبيت سبع مرات أن يصلي ركعتين، ويجوز أن يواصل السبع بسبعٍ أُخريات فيطوف أربعة عشر ثم يصلي بعدها، أو إحدى وعشرين أو ثمانٍ وعشرين، وهكذا سبعًا فسبعًا فسبعًا. 

  • والأفضل بعد كل سبع أن يصلي ركعتين
  • والأفضل أن تكون الركعتان أمام مقام إبراهيم لقوله: (وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) [البقرة:125]، فيصلي خلف المقام إن تيسر
    •  وإلا ففي الحِجر 
    • وإلا ففي المسجد 
    • وإلا ففي مكَّة 
    • وإلا ففي الحرم كلّه إلى حيث ينتهي الأرض المُحرَّمة إلى أماكن الأعلام. 

فيُسن الصَّلاة بعد الطَّواف بالبيت؛ أن يصلي ركعتين سنة الطواف، وفيهما ينوي تحية المسجد فإن تحية البيت هي الطَّواف؛ تحية الكعبة المُشرَّفة الطَّواف. وتحية المسجد حواليها تكون بركعتيّ الطَّواف، ينوي بهما سُنَّة ركعتي الطَّواف وسُنَّة تحية المسجد. وجاء فيهما قراءة الكافرون والإخلاص في ركعتي الطَّواف. 

والطَّواف إذا كان بعده سعي كما أشار هنا، "وَرَكَعَ الرَّكْعَتَيْنِ، وَأَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ"؛ يعني للسعي؛ يسعى بينهما، "اسْتَلَمَ الرُّكْنَ الأَسْوَدَ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ"؛ أي من المسجد إلى الصَّفا. فالطواف الذي يتعقبه سعي إذا أكمله وأكمل الركعتين بعده، يصل ذلك بالمرور على الحجر الأسود فيستلمه ويقبِّلُه. فإذا صلَّى الركعتين خلف المقام فيكون طريقه إلى الصَّفا ويقرب من الحجر الأسود. فقيل: لأن الركعتين من توابع الطَّواف، فينفصل عنهما باستلام الحجر كمثل الطَّواف. وهكذا اتفق الأئمة على أن ذلك من السُّنّة إذا تيسر الأمر، 

  • ومَن صعُب عليه تقبيل الحجر فأمكنه أن يضع شيئًا من محجن وغيره على الحجر ثم يقبِّله فليفعل.
  •  إن أمكنه قبل ذلك أن يستلمه بيده من دون تقبيل فليستلمه 
  • وإلا فبشيء أو بواسطة عصاه ونحوها 
  • وإلا فبالإشارة إليه 

وليحذر من المزاحمة المؤدية إلى الأذى والإضرار بالغير؛ فذلك حرام لا يجوز. 

حتى يروى أنه ﷺ قال لسيِّدنا عُمَر: إنك رجل جَلْد، فإن وجدت فجوةً فقبِّل الحجر وإلا فأشِر إليه، استلمه، ولا تزاحم عليه. وكان ابن عُمَر يرى المزاحمة على الحَجَر، ويرى أن ذلك من السُّنة وهو قُربة، حتى قال لبعض أهل اليمن يسأله عن استلام الحجر، فقال: رأيت رسول الله ﷺ يستلمه ويقبِّله. قال: فإذا زُوحمت عليه وغُلبت عليه؟ قال: اجعل أرأيت في اليمن، رأيت رسول الله يستلمه ﷺ يقبِّله! أنا أقول لك رأيت النبيّ يقبّله وأنت تقول أرأيت إن غُلبت؟ أرأيت إن زُحمت؟! دع هذه غلبت وزوحمت في اليمن، اسمع مني الكلام هذا.. رسول الله ﷺ كان يقبِّله صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله. 

قال: "وَأَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الصَّفَا"؛ يعني بعد صلاة ركعتين خلف المقام فهذا أفضل، وذلك أن سيِّدنا عُمَر قال لرسول الله ﷺ: لو اتخذت من مقام إبراهيم مُصلَّى ونزلت الآية الكريمة  (وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) [البقرة:125]، وهو الحجر الذي كان يقوم عليه. وهكذا اتفق الأئمة على أن مَن أراد أن يسعى فيُسنّ بعد أن يصلي ركعتي الطَّواف أن يقبِّل الحجر إذا تيسر له ذلك، ثم يتوجّه. وكما أنه يبتدأ الطَّواف بتقبيل الحجر واستلامه، فكذلك السَّعي إذا أراد أن ينصرف إلى السَّعي فيأتي إلى الحجر ويقبِّله ثم يتوجه إلى الصَّفا.

وجاء في الحديث الثاني: "أَنَّهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: كَيْفَ صَنَعْتَ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ فِي اسْتِلاَمِ الرُّكْنِ؟" سيِّدنا عبد الرَّحمن بن عوف أحد العشرة المُبشرين بالجنة، يسأله النَّبي ﷺ اختبار منه لأصحابه وأهل العلم، يعلم مقدار علمهم وكيفية تصرّفهم وحملهم لأقواله وأفعاله على وجهها. يقول: "كَيْفَ صَنَعْتَ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ فِي اسْتِلاَمِ الرُّكْنِ؟ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: يا رسول الله "اسْتَلَمْتُ وَتَرَكْتُ؛" يعني: في بعض الأشواط استلمت وقبَّلت وتركته؛ اسْتَلَمْتُ حين قدرت، وتركت حين عجزت أو اسْتَلَمْتُ حين وجدت الفجوة، وَتَرَكْتُ الاستلام حين جاءت الزَّحمة. "اسْتَلَمْتُ وَتَرَكْتُ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَصَبْتَ". فصوَّبه على فعل مثل ذلك؛ حرص على السُّنّة من دون المزاحمة الشَّديدة والأذى كما يفعل بعض النَّاس، ويضرّ ويدق إما عجوز أو شايب أو مريض فيكون ما اكتسبه من الإثم أشد مما حصَّله من ثواب التَّقبيل للحجر الأسود -والعياذ بالله-. وذا إثم بجنب البيت العتيق بمائة ألف، والمعصية بمائة ألف معصية! إيش الذي جاءه يصلّح هكذا؟! ويكتفي بالإشارة. وقد طاف ﷺ بعض المرات على ناقته فمد المحجن حتى وضعه على الحجر ثم تناول طرفه وقبَّله ﷺ. 

وفي سيرته أنه إذا ركِب دابة جمل أو حمار أو غيره، لم يبُل ذلك الحيوان ولم يخرج الرّوث حتى يخرج عنه ﷺ، ولذلك أمِنَ من تلويث المسجد ونحوه لمّا أدخل الناقة وطاف عليها، وليراه النَّاس ﷺ ويقتدوا به. "اسْتَلَمْتُ وَتَرَكْتُ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:  أَصَبْتَ". 

وجاءنا: "عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ: أَنَّ أَبَاهُ" أي: عُروة بن الزُّبير "كَانَ إِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ، يَسْتَلِمُ الأَرْكَانَ كُلَّهَا"، فحمل بعضهم هذا على أنه في الأيام التي رد فيها الكعبة إلى قواعد إبراهيم. وفيما جاء في رواية ابن أبي شيبة، عن عبَّاد بن عبد الله بن الزُّبير أَنَّ أَبَاهُ يَسْتَلِمُ الأَرْكَانَ كُلَّهَا، وقيل: أن ذلك رأيه، ولكن الذي استقرت عليه السُّنّة وأمرها أنه يُسن أن يقبِّل الحجر الأسود ويضع جبهته عليه، ويقول عند استلامه: اللهم إيمانًا بك وتصديقًا بكتابك ووفاءً بعهدك واتباعًا لسُنة نبيك. وفاءً بعهدك فإن الله -تبارك وتعالى- لمّا أخذ الميثاق علينا في عالم الأرواح وعالم الذَّر، وأشهدنا على أنفسنا ألست بربكم؟ كتب في ذلك كتابًا فألقمه الحجر الأسود فهو يشهد لمَن استلمه بالموافاة يوم القيامة.

وفي هذا جاءنا الحديث الذي سيأتي ذِكره من كلام سيِّدنا عُمَر، وما جاء في رواية الإمام الحاكم من جواب سيِّدنا عليّ عليه، قال: "وَكَانَ لاَ يَدَعُ الْيَمَانِيَ، إِلاَّ أَنْ يُغْلَبَ عَلَيْهِ". 

  • فاستقرت السُّنّة على تقبيل الحجر الأسود وعلى استلام الرُّكن اليماني بوضع اليد عليه من دون تقبيل. 
  • وفي رواية عن الإمام أحمد، يُقبِّل. 
  • وقال الأئمة: لا، إنما يضع يده عليه ثم لا بأس أن يُقبِّل يده إذا وضعها على الرُّكن. 
  • وقال بعضهم: إما أن يقبِّلها ثم يضعها على الرُّكن؛ فكأنه يرسل خدمة. وإما أن يضعها على الرُّكن ثم يقبِّلها، فكأنه يتلقّى تيمنًا؛ يُمنًا وبركة باستلام يده أو تقبيل يده بعد أن يستلم بها الرُّكن. 
  • وقال الإمام مالك: لا يُقبِّل يده ولا غيره ولكن يستلم فقط. 

ومضت السُّنّة باستلام الرُّكن اليماني وتقبيل الحجر الأسود، ولا يمس الرُّكنين الآخرين لأنهما من البيت، ويدخل إذا جاء إلى استلامهما؛ يدخل بعض جسده حدود البيت فيختل طوافه؛ فلهذا يجب أن يبتعد ويخرج ويكمِّل دورته من وراء الحِجر، ولا يقرُب من الرُّكنين هذين للاتباع، ولأجل ما ذُكِر من هذه الحِكم. 

ولذا قال الإمام الشَّافعي عن الذي قال: إنه ليس يُهجر شيء من البيت، ما عندنا هجران للبيت، وليس عدم تقبيل الرُّكنين بهجر لهما. ونحن نُقبِّل أركانًا وما بين الأركان هل نهجره؟ هل نُقبِّل كل حجرة في البيت وبعد ذلك حتى لا نهجرها! قال: لا يهجر وليس بهجران وهو يطوف عليها ويدور به، فأين الهجران للبيت؟ فليس هذا بشيء يقول الإمام الشَّافعي.

 

باب تَقْبِيلِ الرُّكْنِ الأَسْوَدِ فِي الاِسْتِلاَمِ

 

وجاء في تقبيل الرُّكن الأسود؛ والمراد به هذا الحجر الذي يُقال أنه أُخرِج من الجنَّة عندما أُخرِج آدم -عليه السَّلام-. إذًا: فالركن الأسود يستحب الجمع فيه بين التّقبيل والاستلام. في صحيح البُخاري عن ابن عباس قال: "طاف النَّبي ﷺ في حَجَّة الوداع على بعيره، يستلم الرُّكن بمحجن". وجاء في رواية الإمام مُسلم: "ويُقبِّل المحجن". وفي رواية: "استلم الحجر بيده ثم قبَّل يده". وهكذا ويقول عطاء: رأيت أبا سعيد وأبا هريرة وابن عُمَر وجابر إذا استلموا الحجر، قبَّلوا أيديهم. فالسُّنّة أن يستلم الرُّكن ويُقبِّل يده. فإن لم يستطع أن يستلمه بيده، استلمه بشيء في يده وقبَّل ذلك الشيء، فإن لم يستطع أشار إليه واكتفى بذلك. وتقدَّمت الإشارة إلى أن مالك يقول: لا يُقبِّل يده. وفي رواية عند مالك: أنه يضعها على فمه. فالمستحب لمَن دخل المسجد الحرام أن لا يُعرِّج على شيء قبل الطَّواف، ويبتدأ بالحجر الأسود يستلمه، فتحية البيت الطَّواف. 

ثم أنه جاء بعض أهل الفقه وقيل له: نأتي لك بمطوِّف من مكة، قال ما يحتاج. ويقرر أحكام الفقه فقيه -من كبار العُلماء-. دخل إلى المسجد، غفل، صلَّى ركعتين. جاء له طفل من أطفال مكة يقول: يا شيخ تحية البيت الطَّواف. قال: أوه، صدق، وأنا أقرر هذا دائمًا ونسيت إلا لأنني تطاولت وقلت ما أحتاج أحد، هاتوا لنا مطوِّف يطوّفنا من أهل مكة، نمشي وراه. فسهى عن المسألة، أول مسألة لينبهّه الله -تبارك وتعالى- إلى التواضع وحُسن الأدب في موضع الخضوع. 

فإنه جاء أن النَّبي ﷺ لمَّا دخل في حَجَّة الوداع، ودخل المسجد، وقصد الحجر الأسود، فاستلمه ثم قبَّله وفاضت عيناه ﷺ بالبكاء. وكذلك لمَّا جاء إلى ما بين الحَجَر والباب بعد أن صلّى، فالتصق به؛ ألصق صدره الشَّريف بالكعبة ورفع يديه يدعو وبكى ثم التفت سيِّدنا عُمَر وراءه، قال: ها هنا يا عُمَر تُسكَب العبرات، ها هنا يا عُمَر تُسكَب العبرات.

 وهكذا يستلم بيمنه، فإن عجز بيساره، يمسح بها، ولكن يبدأ بالاستلام ثلاثًا ثم التقبيل ثلاثًا ثم وضع الجبهة عليه كذلك ثلاثًا، فإن عجز عن التقبيل لزحمة أو غيرها اقتصر على الاستلام باليد، فإن عجز بنحو خشبة، فإن عجز أشار بيده، فإن عجز أشار بما في يده. 

و "عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ لِلرُّكْنِ الأَسْوَدِ: إِنَّمَا أَنْتَ حَجَرٌ، وَلَوْلاَ إنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَبَّلَكَ مَا قَبَّلْتُكَ، ثُمَّ قَبَّلَهُ". والحديث أيضًا في الصَّحيحين وغيرهما، "أما والله إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، وَلَوْلاَ إنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يقَبَّلَكَ مَا قَبَّلْتُكَ". أفاد إلى أن الأمر قائم على التبعية والاقتداء برسول الله ﷺ، وما فيه من معاني تعظيم شعائر الله وليس بشيء مما كان يعتقد أهل الجاهلية. 

وروى الإمام الحاكم أنه لمَّا قال هذا سيِّدنا عُمَر كان خلفه سيِّدنا علي، قال: بلى يا أمير المؤمنين أنه يضرّ وينفع. قال: كيف تقول يا ابن أبي طالب؟ قال له: إن الله تعالى لمَّا أخذ المواثيق على ولد آدم، كتب ذلك في رقٍ فألقمه الحجر. قال: وقد سمعت رسول الله ﷺ يقول: يؤتى يوم القيامة بالحجر الأسود وله لسان ذلق، يشهد لمَن استلمه بالتوحيد. وجاء في رواية ابن أبي شيبة والحاكم أيضًا أنه قال لسيِّدنا عُمَر: بلى يا أمير المؤمنين أنه يضر وينفع، ولو علمت تأويل ذلك في كتاب الله لقلت كما أقول، (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ) [الأعراف:172] ذكر هذا الحديث، قال له عُمَر: ما ألقاني الله بأرضٍ لست بها يا أبا الحسن. وفي رواية: بئس المُقام بأرض ليس فيها أبو الحسن -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى-.

و "قَالَ مَالِكٌ: سَمِعْتُ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَسْتَحِبُّ إِذَا رَفَعَ الَّذِي يَطُوفُ بِالْبَيْتِ يَدَهُ عَنِ الرُّكْنِ الْيَمَانِي، أَنْ يَضَعَهَا عَلَى فِيهِ". وهذه هي الرِّواية. 

  •  
    • قال تعالى: (وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج:32]. 
    • وقال تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ) [آل عمران:96].
    •  وقال تعالى: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا) [البقرة:125]. 
    • وقال تعالى: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ) ، يقوم به أمرهم ويصلح به شأنهم ويُحفظ به دينهم، (قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ عَلِيمٌ *  اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ) [النحل:97-99].

 روى أبو داود والنَّسائي عن ابن عُمَر: "كان رسول الله ﷺ لا يدع أن يستلم الرُّكن اليماني والحَجَر في كل طوفة" لأنه كان يسهل عليه في كل طوفه، وكان النَّاس يرقبون فعله ويمشون من ورائه، فإذا دنا من الحجر تنحّى النَّاس له عنه فقبَّله ﷺ. وقد طُفنا في بعض الأيام وبعيد عن أيام المواسم والزحمة، فكان من المتيسّر تقبيل الحجر في كل طوفة، وإذا جئنا من الشَّوط إلى عنده فيكون ثلاثة أو أربعة أمامك في الطابور أمام الحجر فسهل تقبيله في كل طوفه. ولهذا يقال عند استلامه: اللَّهم إيمانًا بك وتصديقًا بكتابك ووفاء بعهدك. إشارة إلى ما ألقم الله هذا الحجر من الكتاب في الميثاق علينا والعهد الذي بيننا وبين ربنا -جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه-. رزقنا الله تعظيم شعائره. يقال أن الحجر كان أبيض يلمع، ولمَّا مسّته أيدي المشركين والعصاة اسودّ. 

أصلح الله أحوالنا والمسلمين، ورقّانا أعلى مراتب علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين، ودفع عنا الآفات وعن جميع المؤمنين بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

03 ذو القِعدة 1442

تاريخ النشر الميلادي

13 يونيو 2021

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام