(364)
(535)
(604)
شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الحج: باب ما جاء في بناءِ الكعبة.
فجر الأربعاء 28 شوال 1442هـ.
باب مَا جَاءَ فِي بِنَاءِ الْكَعْبَةِ
1057- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَخْبَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: "أَلَمْ تَرَىْ أَنَّ قَوْمَكِ حِينَ بَنَوُا الْكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ". قَالَتْ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ تَرُدُّهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "لَوْلاَ حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَفَعَلْتُ". قَالَ: فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: لَئِنْ كَانَتْ عَائِشَةُ سَمِعَتْ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، مَا أُرَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ تَرَكَ اسْتِلاَمَ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيَانِ الْحِجْرَ، إِلاَّ أَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يُتَمَّمْ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ.
1058- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: مَا أُبَالِي أَصَلَّيْتُ فِي الْحِجْرِ أَمْ فِي الْبَيْتِ.
1059- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ شِهَابٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ بَعْضَ عُلَمَائِنَا يَقُولُ: مَا حُجِرَ الْحِجْرُ، فَطَافَ النَّاسُ مِنْ وَرَائِهِ، إِلاَّ إِرَادَةَ أَنْ يَسْتَوْعِبَ النَّاسُ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ كُلِّهِ.
الحمد لله مُكْرِمِنا بالبيت الحرام والمشاعر العظام، وإرسال الذي ختم به الرِّسالة والنُّبوة فكان خير ختام، سيِّدنا مُحمَّد خير الأنام، اللَّهم صلّ وسلِّم وبارك وكرِّم عليه أفضل الصَّلاة وأزكى السَّلام، وعلى آله وأصحابه الكرام وعلى مَن والاهم فيك وعلى منهجهم استقام، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين أهل المراتب الرَّفيعة والمراقي العظام، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المُقربين وعبادك الصَّالحين أجمعين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الرَّاحمين.
ويذكر الإمام مالك -عليه رحمة الله تعالى- في الموطأ: "مَا جَاءَ فِي بِنَاءِ الْكَعْبَةِ" المُشرَّفة، التي قال الرَّحمن عنها: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) [آل عمران:96-97]. فكان وُضع للناس من آدم فمَن بعده من الذُّرية، فكان البناء الأول للبيت المصون على أيدي الملائكة الكِرام. وفي الخبر: أنه لما حجّ أبونا آدم -عليه السَّلام- قالت له الملائكة: بَرّ حجّك يا آدم، لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام، فكانوا يحجون في تلك الألفين من السنوات بيت الله -تبارك وتعالى- قبل خلق آدم -عليه السَّلام-، ثم خُلِق آدم واُهبِط إلى الأرض، فأمره الحق أن يحجّ فحجّ. وعامة سادتنا الأنبياء حجّوا بيت الله الحرام جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه.
ثم حصل تجديدات بعد ذلك. فتبين أن البيت المصون تجدد بناؤه مرّات إما تجديدًا كُليًا وإما جُزئيًا في شيء من أجزائه؛ من سقفه أو شيء من جدرانه. وهو البيت المبارك كما ذكر الله -تبارك وتعالى-، وفيه الحجر الأسود الذي يُقال أنه خرج به آدم معه من الجنة. وجاء في الحديث أنه الذي يشهد لمَن استلمه بالموافاة يوم القيامة في مُسند الإمام أحمد: أن الحجر يأتي يوم القيامة وله عينان ولسان طلق دلق، يشهد لمَن استلمه بالموافاة.
إذًا، فقد تعددت البنايات للبيت العتيق. فالأول بناء الملائكة قبل خلق آدم -عليه السَّلام-، ويقال: أنه لما قالت الملائكة: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) [البقرة:30]، خافوا وحفَّوا بالعرش ثم أمرهم الله أن يبنوا في كل سماء بيتًا، وفي كل أرض بيتًا. قال مجاهد: فبنوا البيوت. وأن الملائكة حين أسست الكعبة، انشقت الأرض إلى مُنتهاها وقُذِفت فيها حجارةٌ أمثال الإبل، فتلك القواعد من البيت التي وضع عليها إبراهيم وإسماعيل عليهم السَّلام.
وجاء عن علي بن الحسين -رضي الله عنه- أن الله وضع تحت العرش بيتًا وهو البيت المعمور، وأمر الملائكة أن يطوفوا به، ثم أمر الملائكة الذين في الأرض أن يبنوا بيتًا في الأرض على مثاله، قدر تحته، فبنوا هذا البيت. وأمر الذين في الأرض أن يطوفوا بالبيت كما يطوف أهل السَّماء بالبيت المعمور فوق السَّماء السَّابعة. وجاء أيضًا عن علي بن الحسين وقد سئل عن بدء الطَّواف بالبيت، قال: إن الله تعالى لما قال: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) قالت الملائكة: أي ربي أخليفة من غيرنا ممَن يفسد فيها ويسفك الدماء؟ ثم هابوا ربهم، فلاذوا بالعرش ورفعوا رؤوسهم يتضرّعون ويبكون إشفاقًا وخوفًا، فرضيَ عنهم الرَّب -جلّ جلاله-. فقال: ابنوا لي بيتًا في الأرض، يعوذ به كل من سخطت عليه من خلقي، فيطوف حوله كما فعلت بعرشي، فاغفر له.
ثم جاء بناء سيدنا آدم -عليه السَّلام-، وقد جاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: أول بيت بناه آدم في الأرض، بناء الكعبة. إن آدم لما نزل إلى الأرض استوحش فشكى، فأمره عليه -سبحانه وتعالى- ببناء الكعبة، فبناها وطاف بها وبقي ذلك البناء إلى زمن نوح عليه السَّلام. واختص الله بقعة البيت العتيق فكانت سُرّة الأرض والوسط الذي تجتمع إليه شؤون هذه الأرض. وقال ابن عباس: حج آدم أربعين حجة من الهند إلى مكَّة على رجليه، فكان ذلك؛ أي: البيت إلى أيام الطُّوفان.
وجاء في رواية عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر، عن عطاء قال: قال آدم: أي ربي ما لي لا أسمع أصوات الملائكة؟ قال: بخطيئتك، ولكن اهبط إلى الأرض وابن لي بيتًا ثم احفف به كما رأيت الملائكة تحف ببيتي الذي في السَّماء. وأولاده جدّدوا البيت من بعده إلا أن القرون الكثيرة ما بين نوح وعادٍ إلى إبراهيم يُحتمل أن يكون حصل فيها تجديدات لا تُذكر لجهل البشر بأحداث تلك الحقبة من الزمان وتلك الفترة (وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَٰلِكَ كَثِيرًا) [الفرقان:38].
وجاء بعد ذلك بناء سيِّدنا إبراهيم -عليه السَّلام- وقد أثَّرت السُّيول على البيت العتيق وبقي فقط مكانه معلوم، فبوَّأه الله لإبراهيم -عليه السَّلام- وأمره أن يبني البيت، فرفع القواعد من البيت هو وولده إسماعيل. والبيت موجود من قبل، ولكن قد صار رُكامًا، ثم عيّنه له الحق وبنى عليه. وأما القول أنه من أيام نسفه الطّوفان، أيام سيِّدنا نوح -عليه السَّلام- إلى أن بناه إبراهيم فبعيد جدًا، فإن قرونًا كثيرة بين ذلك. وقد ثبت في الحديث أن هودًا حجّ، وأن صالح حجّ هذا البيت، وهؤلاء من بعد نوح، وبينهم وبين إبراهيم قرون طويلة؛ فيدل على أن البيت كان موجودًا بعد نوح -عليه السَّلام- وأنه جُدِد فلم يبقَ تجديده إلى أن يجئ إبراهيم، فإن ذلك وقت طويل جدًا وقرون كثيرة. فكان قد عُمِر البيت وحج أنبياء الله وأتباعهم إلى أن تخرَّب من السُّيول، فأمر الله إبراهيم أن يجدد البيت وجدّد البيت (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ) [الحج:26]، وأقام بناءه ورفعه هو وابنه إسماعيل.
ثم يقال بعد ذلك بناء العمالقة وبناء جُرْهُم. ويقول سيِّدنا النَّووي في المناسك: أنه بنته العمالقة بعد إبراهيم، وبنته جُرْهُم بعد العمالقة؛ فصار بناءين بناء العماليق وبناء جُرْهُم. وعند خروج جُرْهُم من هناك وضعوا خزائن الكعبة وأموالها في زمزم وطمّوها، سقفوها فلا تُعرَف، فبقيت نحو خمسمئة سنة مطمومة ثم ألهم الله عبد المُطّلب بالرؤيا مكان زمزم، وقام وحفر وتصدّت له قريش فلم يبالي. ومنها نذر إن كمل له عشرة من الأولاد أن يذبح واحدًا منهم، وكملوا وخرجت القُرعة على عبد الله، وهمَّ بذبحه وصاح النَّاس ولجؤا إلى سؤال من بقي من أهل العلم من أهل الكتاب، فأمرهم أن يجعلوا عشرة من الإبل في جانب وعبد الله في جانب ويضعوا القرعة، فإن خرجت على عبد الله فيرجعوا القرعة مرة ثانية، فإن خرجت على الإبل فقد رضي الحق. وإن خرجت على عبد الله فيزيدوا عشرة فوق الإبل حتى يكون عشرين، ويضربوا القرعة ثم يكون ثلاثين وهكذا حتى يرضى ربهم، فتخرج على الإبل فيذبحونها بدل عبد الله. ورجعوا فوضع الإبل وعبد الله فلم تزل تخرج القرعة على عبد الله حتى بلغت مائة، فلما بلغت مائة من الإبل خرجت القُرعة على الإبل، فقال: أعيدوها، فأعادوها فخرجت على الإبل، فقال: أعيدوها فأعادوها ثالثة فخرجت على الإبل، فقال: رضي ربنا وذَبَح مائة من الإبل مكان عبد الله بن عبد المُطّلب.
ثم جاء بناء قُصيّ -قُصيّ خامس جد للنبي ﷺ- بناء قُصي بن كِلاب. وكان اسمه زيد ولكنه تقاصى في البلاد؛ لأن أباه كِلاب بن مُرَّة بن كعب بن لؤي، لمَّا مات تزوجت أمه بربيعة بن حرام القضاعي -من بلاد قُضاعة-، فاحتملها إلى بلاده في أرض بني عُذرة من أشراف الشام، فاحتملت معها زيدًا، فلُقب بقُصيّ لبعده وتقاصيه. لُقب بقُصيّ فغلب على اسم زيد. فلمَّا رجع قُصي إلى مكَّة تزوّج بمكَّة، وكان الذي تزوج عنده يلي الكعبة وأمر مكَّة، فلما ثقل جعل ولاية البيت إلى ابنته هذه زوجة قُصيّ، وقالت: قد عَلِمت أني لا أقدر على فتح الباب وإغلاقه، قال: فإني أجعل الفتح والإغلاق إلى رجل يقوم لك، فجعله إلى أبي غبشان، فاشترى قُصيّ ولاية البيت منه، فرجع البيت إلى قريش واستمر حتى جاء التَّجديد.
وكان قد تصدَّع لسببين:
فقويت التّصدُّعات في الكعبة، ففكرت قريش في بناء الكعبة وهذا في وقته ﷺ وهو ابن خمس وثلاثين سنة، قبل نزول الرسالة والوحي عليه. وأقاموا البيت، جمَّعوا الأموال واحتاطوا فيها؛ قالوا: لا تدخلوا مال من خمر، ولا من مَيسر، ولا من نهب، ولا من سرقة. فهم وهم في الجاهلية يعلمون ماذا ينبغي لتفرقة الفطرة السَّليمة بين الخبيث والطّيب، فجمَّعوا من أموالهم التي استحلّوها واستطابوها فأرادوا أن يهدموا الكعبة لأجل يجدّدوا بناءها، وهابوا البيت وخافوه، وقالوا: ربما من اعتدى على البيت يصيبه مكروه. فقال بعضهم: أتريدون الإصلاح أو التخريب؟ قالوا: نريد الإصلاح. قال: فلا عليكم، قالوا: تقدم أنت، فتقدم وضرب في الكعبة فأبعد بعض حجارها، قالوا: انتظروا شوفوا الليلة وغدًا وبعد غد إن حصل له شيء ففي رأسه ونحن سلمنا، ولن نقرب من الكعبة، وإن ما طرأ عليه شيء فقد رضي ربنا، سنهدمها ونجدد بناءها. فبقي ثلاثة أيام ما أصابه شيء، فعملوا على هدم الكعبة ثم بنوها.
فلما بنوها قصرت بهم النَّفقة بهذه الشروط.؛ عندهم أموال ثانية ما أرادوا إدخالها في الكعبة، فقالوا: كيف نعمل؟ فنقصوا ست أذرع من قواعد إبراهيم من جهة الحجر، نقصُّوها من الكعبة لقصر النَّفقة. ثم أنه كانت الكعبة من أيام إبراهيم على بابين، فجعلوا باب واحد فقط. وكان البابان ملتصقين في الأرض، فرفعوا الباب الواحد ليُدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا.
فكذلك بنوها، فلما بنوها أكملوا البناء إلا موضع الحجر الأسود، وكانوا يُعظِّمون البيت ويُعظِّمون الحجر زيادة، فقالوا: مَن يضع الحجر؟ فتنازعوا، كل قبيلة تقول: رئيسنا يضع الحجر الأسود، قالوا: بل نحن، قالوا: بل نحن، قالوا: إن رفعتم أنتم الحجر فسيكون بيننا.. حتى جاءوا بالدم يضعوا أيديهم فيه؛ إشارة إلى أنهم سيتقاتلون. فسعى علمائهم وكبارهم وقالوا: هدأوا الفتنة واجعلوا حل فهدّأوهم، وقالوا: أول داخل من الباب؛ باب بني شيبة هو الذي يحكم بيننا وله الحكم، فهدأوا وارتضوا ذلك، فصادف أنه ﷺ طلع من الباب، فلما أقبل قال: هذا الأمين، كلنا رضينا به.
فعرضوا عليه المشكلة وما حصل لهم في وضع الحجر الأسود، فمباشرة من دون أن يفكر وضع الرِّداء على الأرض ووضع الحجر فوق الرِّداء، وقال: كل رئيس قبيلة يأتي، فجاؤوا. قال: خذوا طرف طرف وامسكوا الثَّوب -الرِّداء- فمسك كل واحد منهم بطرف الرِّداء وقال: احملوه كلكم، وحملوه وجاءوا به عند مكان الحجر وأخذه ووضعه بيده الشَّريفة في مكانه ﷺ وانحلّت المشكلة. ولا قدَّم عمه أبا طالب، ولا قدَّم قبيلته، ولا قبيلة أُخرى، بل القبائل كلهم جعلهم يحملون، فتعجبوا في حُسن حلّه للمشكلة بسرعة ومن دون تفكير.. بمجرّد ما أخبروه، وضع رداءه على الأرض، وحمل الحجر، وقال: هاتوا رأس كل قبيلة، واحملوا كلكم، فحملوه حتى جاءوا به فوضعه في مكانه بيده الشَّريفة صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم.
فاستمر ذلك البناء، وجاء سيِّدنا عبد الله بن الزُّبير وكان الحَجّاج يرميه بالمنجنيق، فتوهّنت الكعبة من حجارة المنجنيق التي أصابتها حين حُوصِر ابن الزُّبير بمكة أوائل سنة أربع وستين بمعاندة يزيد بن معاوية، فهدمها ابن الزُّبير لمَّا وهنت، وبعد أن استخار الله واستشار، سنة 64 هـ بلغ بالهدم قامة ونصف حتى وصل قواعد إبراهيم فوجدها كالابل المُسنَّمة بعضها مُتّصل ببعض، حتى أن من ضرب بالمعول طرف البناء، تحرك طرفه الآخر، فبناها على قواعد إبراهيم، وأدخل ما أخرجته منها قريش من الحِجر، وجعل لها بابين وألصقهما بالأرض كما أراد ﷺ وكما أحب.
لأنه لما جاء في عام الفتح يقول للسيِّدة عَائِشَة كما ذكر الحديث عندنا، أنها كانت قواعد إبراهيم للكعبة بابان وملصقان بالأرض، وأن قومك رفعوهما ونقصوا من جهة الحِجر أذرع من الكعبة. قالت: لمَ لا تردها يا رسول الله؟ قال: إن قومك حديثو عهد بالكفر، عادهم كُفَّار خرجوا الآن من الشّرك، عاد قلوبهم ما تطمئن بالإيمان أفنهدم البيت ونردّه؟ فترك ذلك ﷺ مراعاة لنفسيات من حواليه. فردَّها ابن الزُّبير على ما أحب ﷺ، كان هذا في سنة أربع وستين من هجرته ﷺ.
وروى البُخاري عن عُروة، عن عائشة أن النبي ﷺ قال لها: "يا عائشة، لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه، وألزقته بالأرض، وجعلت له بابين: بابا شرقيًا، وبابا غربيًا" فالشرقي هذا الموجود الآن، والغربي مُقابله من الجهة الأُخرى، "فبلغتُ به أساس إبراهيم". "فذلك الذي حمل ابن الزبير على هدمه" وجعله هكذا. وجاء في رواية مُسلم: لمَّا احترق البيت في زمن يزيد بن معاوية بالشام حين غزاه أهل الشَّام، لمَّا أحرق أهل الشَّام الكعبة ورموه بالمنجنيق، وَهَنت الكعبة، فلما أتاهم موت يزيد بن معاوية، أمر ابن الزُّبير بالخصاص الذي كانت حول الكعبة فهُدِمت، وحينئذ جدّد بناء الكعبة. وكان ذلك إلى أن جاء الحَجّاج فقام به مرة أخرى، وردّها إلى ما كانت عليه قريش، فجعل لها باب واحد ورفعه.
حصلت بعد ذلك تجديدات منها، في عهد السُّلطان أحمد في سنة 1012 هـ، حدث بعض التَّصدُّع في جداري الكعبة الشرقي والغربي، وفي جدار الحِجر كذلك، فأراد هدم البيت، منعه من ذلك العُلماء فأشاروا عليه بعمل نطاق يلم التشعب، فعمل نطاقين من نحاس أصفر وكُتِب في بعضه بالرسم: لا إله إلا الله مُحمَّد رسول الله. وهكذا تمّ هذا البناء ثم جاء بعده السُّلطان مراد الرابع في سنة 1039هـ، نزلت أمطار كثيرة غمّت مكَّة وحاراتها، وعلت المياه عن قفل باب الكعبة بذراعين حتى إذا مضى يومين، انهدمت ما عدا الجهة اليمانية، فجرَّدها السُّلطان مراد خان سنة 1040هـ، وأقام بناءها من جديد ورمّمها، وهو ابن السُّلطان أحمد المذكور قبل.
وأورد لنا الإمام مالك قول النَّبِيَّ ﷺ لعَائِشَةَ: "أَلَمْ تَرَىْ أَنَّ قَوْمَكِ حِينَ بَنَوُا الْكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ"؛ يعني: نقَّصوا من ذلك. وفي رواية في الصَّحيحين جاءت: "إن قومك قصُرت بهم النَّفقة"، قالت له: فما شأن بابه مرتفعًا؟ قال: فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا، حتى يتحكموا بالكعبة. "فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ تَرُدُّهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَوْلاَ حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَفَعَلْتُ"؛ أي: عهدهم قريب وحادثٌ بالكفر والجاهلية، ربّما أنكرت نفوسهم تخريب الكعبة فيوسوس لهم الشَّيطان ويحصل لهم شك أو ارتياب، فراعى ذلك رسول الله ﷺ؛ ففيه:
"قَالَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: لَئِنْ كَانَتْ عَائِشَةُ سَمِعَتْ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، مَا أُرَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ تَرَكَ اسْتِلاَمَ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيَانِ الْحِجْرَ، إِلاَّ أَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يُتَمَّمْ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ". أحده ناقص، فما كان في نفس الرُّكن الذي كان أيام الخليل إبراهيم؛ بسبب ذلك كان يستلم الرُّكن اليماني ويُقبِّل الحجر الأسود، "إِلاَّ أَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يُتَمَّمْ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ". وكان المشهور الذي أدركه الإمام الشَّافعي من كلام النَّاس في مكة:
وهكذا ما جاء عن السيِّدة عَائِشَةَ وذلك أنها طلبت من رسول الله ﷺ أن تدخل الكعبة، فما أحب أن يزاحم الرِّجال النِّساء للدخول، ولا أن تتعرض أُم المؤمنين لمزاحمة الرِّجال وسط الكعبة، فقال: صلِّ في الحجر فإنه من الكعبة، وإن قومك نقصوا الأذرع من الكعبة لمَّا قصرت بهم النَّفقة، فصلِّ فيه. ولهذا جاء عنها أنها قَالَتْ: "مَا أُبَالِي أَصَلَّيْتُ فِي الْحِجْرِ أَمْ فِي الْبَيْتِ"؛ أي: وسط الكعبة أو في الحِجر؛ فإنه من جُملة موضع الكعبة المُشرَّفة. فكأنها تشيرإلى أن فضل الصَّلاة في البيت يحصل من الصَّلاة في الحِجر، وقد أرشدها إلى ذلك ﷺ.
وذكر: "أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ شِهَابٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ بَعْضَ عُلَمَائِنَا يَقُولُ: مَا حُجِرَ الْحِجْرُ، فَطَافَ النَّاسُ مِنْ وَرَائِهِ، إِلاَّ إِرَادَةَ أَنْ يَسْتَوْعِبَ النَّاسُ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ كُلِّهِ"؛ يعني: لو لم يحجر لأوشك أن يمرّ به الطائف، فيطوف وسط البيت، فلا يصحّ طوافه. وأما استيعاب الحِجر كله وإن لم يكن كله من الكعبة؛
فصاروا يطوفون أجمعين من عهده ﷺ وبعده من وراء الحِجر، فلا يتخطّون الحِجر ولا يدخلون أثناء الطواف. وهكذا رجّح الكثير من الأئمة أن الحِجر كله ليس من الكعبة ولكن على سبيل الاحتياط والأذرع الأولى منه، ولهذا ينبغي أن يُبعَد عنه. وقيل: أن الحِجر كله من الكعبة، والله أعلم.
رزقنا الله الإيمان واليقين والإخلاص والصِّدق، وألحقنا بخيار الخلق، وأعلى درجة المنتقلين إلى رحمة الله … وجعفر بن محسن بن عبدالله المحضار، ورفع لهم المراتب والدرجات، وجمعنا بهم في أعلى الجنات، وجعل قبورهم روضة من رياض الجنات، وجعل لهم كفارة لجميع الذنوب والسيئات، وبدل جميع سيائتهم إلى حسنات تامات موصلات، وتحمل عنا وعنهم جميع التبعات، وجمعنا بهم في اعلى الجنات من غير سابقة عذاب ولا عتاب ولا فتنة ولا حساب، ويبارك في جميع قراباتهم والمنتمين إليهم أكمل البركة، ووقانا وإياهم من كل سوء وعِلة وهلكة، وتولانا بما يتولى به المحبوبين، وأدخل عليهم روحًا منه وسلامًا منّا ومن قراباتهم في كل لمحة ونفس، وأصلح شؤون المسلمين، وارحم موتانا وأحيانا بالرحمة الواسعة بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
28 شوّال 1442