شرح الموطأ - 192 - كتاب الحج: باب ما يَقتُل المُحرِم من الدَّواب

شرح الموطأ - 192 - كتاب الحج: باب ما يَقتُل المُحرِم من الدَّواب، من حديث: (خمسٌ مِنَ الدَّواب ليس على المُحْرِم في قَتْلِهِنَّ جُناحٌ..)
للاستماع إلى الدرس

شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الحج: باب ما يَقتُل المُحرِم من الدَّواب.

فجر السبت 24 شوال 1442هـ.

 باب مَا يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ مِنَ الدَّوَابِّ

1029 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ: الْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ".

1030 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ مَنْ قَتَلَهُنَّ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ: الْعَقْرَبُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ".

1031 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِي الْحَرَمِ: الْفَأْرَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ".

1032 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَمَرَ بِقَتْلِ الْحَيَّاتِ فِي الْحَرَمِ.

1033 - قَالَ مَالِكٌ فِي الْكَلْبِ الْعَقُورِ الَّذِي أُمِرَ بِقَتْلِهِ فِي الْحَرَمِ: إِنَّ كُلَّ مَا عَقَرَ النَّاسَ وَعَدَا عَلَيْهِمْ وَأَخَافَهُمْ، مِثْلُ الأَسَدِ، وَالنَّمِرِ، وَالْفَهْدِ، وَالذِّئْبِ، فَهُوَ الْكَلْبُ الْعَقُورُ، وَأَمَّا مَا كَانَ مِنَ السِّبَاعِ لاَ يَعْدُو، مِثْلُ الضَّبُعِ، وَالثَّعْلَبِ، وَالْهِرِّ، وَمَا أَشْبَهَهُنَّ مِنَ السِّبَاعِ، َلاَ يَقْتُلُهُنَّ الْمُحْرِمُ، فَإِنْ قَتَلَهُ فَدَاهُ.

1034 - قَالَ مَالِكٌ: وَأَمَّا مَا ضَرَّ مِنَ الطَّيْرِ، فَإِنَّ الْمُحْرِمَ لاَ يَقْتُلُهُ، إِلاَّ مَا سَمَّى النَّبِيُّ ﷺ: الْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وإِنْ قَتَلَ الْمُحْرِمُ شَيْئاً مِنَ الطَّيْرِ سِوَاهُمَا فَدَاهُ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مُكرمِنا بشريعته الغرّاء، وبيانِ أحكامها على لسان خير الورى، سيدِنا محمدٍ صلى الله وسلم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله الأطهار وصحبه الكُبراء، ومَن على مسارهم سار وفي مجراهم جرى، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين المرتقين في الفضل إلى أعلى الذُّرى، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكةِ المقربين وعبادِ الله الصالحين طُرَّا، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين. 

ويواصل سيدنا الإمام مالك -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- ذكرَ الأحاديث المتعلقة بما يقتل المُحرِمُ من الدَّواب؛ جمع دابَّة وهي في الأصل: كل ما يَدِبُّ على وجه الأرض، قال تعالى: (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) [الأنعام:38].

في تناوُلِنا لهذه الأحكام الواردة عن الحق ورسوله نعلم عظمةَ شريعة الله -جلّ جلاله-، وامتدادَ أحكامها لترتيب وتنظيم العلائق بين الخلائق، حتى بين الإنسان والحيوان والدّواب التي يعيش معها على ظهر الأرض، كيف تكون علاقته، وما يحِلُّ له أكله وما يحرم عليه، وما يحل له قتله وما يحرم عليه. واختلاف الأحوال واختلاف الأشهر واختلاف الأماكن أيضًا، كل ذلك بسطتْهُ لنا الشريعة، فما من نظامٍ على ظهر الأرض أوسعَ ولا أشملَ ولا أجملَ من نظام ربّ الأرض والسماء -جلّ جلاله-، فيجب أن تمتلئ قلوبُ المؤمنين وعقولُهم بتعظيم منهج ربهم جل جلاله.

وهذا النظام الذي أوحى إلى رسوله لا تستطيع عقول عربٍ ولا عجمٍ ولا أهلِ شرق ولا أهلِ غرب أن يقربوا من عظمة هذا المنهج، فضلاً عن أن يأتوا بمثله، فضلاً عن أن يكون عندهم أحسن منه، ومن هم؟ وماذا عندهم؟ وهم الذين في الأصل عَدَم، ثمّ كان بداية تخليقهم نُطَف وعلق ومُضغ، ثمّ خرجوا إلى الأرض لا يعلمون شيئًا، فما العلم إلا لله -جلّ جلاله وتعالى في علاه الله-، فوجب أن يُعظم هذا الشرع وأن يُعمل به في حق كل مؤمن ويعرف هذا الشمول لمختلف شؤونه في الحياة.

 ومنها نظامنا مع الحيوانات، ومن الحيوانات ما أباح لنا أكله -جلّ جلاله وتعالى في علاه- تكريمًا منه للإنسان وتسخيرًا لذلك الحيوان، وقد دفع الأضرار في تركيبته عن هذا الإنسان إذا أكله، وحرَّم حيواناتّ

  • منها ما جعل في تركيبته وتكوينه أنواعًا من الضرر على هذا الإنسان فحرَّمه لذلك.
  • ومنها ما قد يحرم على بعض الأمم السابقة تأديبًا لهم، فحُرِّمت عليهم طيبات أُحلت لهم تأديبًا، لجَراءَتِهم على أمر الله ومخالفتهم، كما حُرمت بعض الأشياء على اليهود.

 لكنّ الله في حكمة تشريعه بعد أن توالى الأنبياء والمرسلون بشرائع من عنده سبحانه وتعالى، ختم الشرائع كلها بالشريعة التي بَعث بها محمدًا صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وجعلها شاملةً كاملةً غايةً فيما يُصلح الناس إلى يوم البعث، إلى يوم النفخ في الصور، فلا يصلح لهم إلا مثل هذا المنهج الرباني الكامل التام، (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِيْنَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِيْ وَرَضِيْتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيْنَاً) [المائدة:3].

 فرتَّب من الحيوانات ما يقتل: 

  • منه ما يُقتل إلاّ في الحرم
  • ومنه ما يقتل في الحلّ والحرم
  • ومنه ما لا يقتل لا في الحِلّ ولا في الحرم
  • ومنه ما يقتل المُحرم ومنه ما يقتل غير المحرم
  • ومنه ما أجاز للمُحرم ولغير المُحرم أن يقتله

 كمل النظام؟ كمُل.. رتب لهم كيف يتعاملون مع الحيوانات فهل يعجز أن يرتب لهم كيف يتعاملون مع بعضهم بعضًا -جلّ جلاله-؟! لكن هم يخالفون، وهم يهملون، وهم يتجاهلون، وهم يتركون… فيحصل مشاكل، وإلاّ قد رتب حتى النظام بيننا والعلائق بيننا وبين الدوابّ، فهل يعجز يرتب العلائق بيننا بني آدم؟ لكننا نخرج عن منهجه، ونخرج عن نظامه -جل جلاله- فتحصل البلايا والآفات والمشاكل المختلفة والفساد، وهذه نتيجة حتمية لكل من خرج عن أمر الله؛ أن يتعب في الحياة ثمّ في الأُخرى (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى* وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِيْ فَإِنَّ لَهُ مَعِيْشَةً ضَنْكَاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) [طه:123-124].

 قال:  "باب مَا يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ مِنَ الدَّوَابِّ"، ما يجوز له صيده، فقد تقدّم معنا فيما أحلّ الله من صيد البحر للمحرم ولغير المحرم، قال تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعَاً لَّكـُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمَاً) [المائدة:96]. 

  • والصَّيد عند الحنفية ما يَمْتنع بنفسه، فهذا ضابط الصيد عندهم. 
  • قال الحنابلة والشافعية ما يُؤكل، أي: الذي يؤكل، والذي ما يؤكل لا يُعد من الصيد.

 وذكر أنواعًا من الحيوانات هذه أباح لنا قتلها حتّى في الحرم، لِما خلقها الله -تبارك وتعالى- اختبارًا لبني آدم في أنواعٍ من المضرات تحملها للناس، وليعلموا أنهم وإن سُوِّدُوا في هذا الوجود فليسوا بالآلهة ولا بالمُطْلقين في أمورهم، وأنّه يوجد ما يؤذيهم ويضرّهم حتى حشرات صغيرة، ليعلموا أن المُلك لواحد وأنَّ الحكم لواحد، وأنهم خَلْقٌ بشرٌ مصنوعون، وهم يتجاهلون هذه الحِكَم، والمذكِّراتُ بها كثيرة، كل ما حواليهم يذكرهم بهذه الحكمة، وبضعفهم وعجزهم وعظمة ربهم، لكنهم يتجاهلون وكأنهم وكأنهم… فشأنهم في هذا الغرور ما وصل به إلى من تمكن أن يقول: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ)[ النازعات:24] ، ثم يقول: (مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي)[القصص:38]!

 قال: ولو كان تيسرَ الأمرُ لكثير من الناس لادّعوا ما ادّعى فرعون، لا فرعون وحده، إلا أنه ما عندهم فرصة، لو وجدوا فرصة وهل من سيسمعهم؟ كما قوم فرعون سيقولون.. لكن ما من إمكانية.. يعني: هذه الطبيعة البشرية إذا لم تُهذب فهي خسيسة خبيثة متطاولة، وتدَّعي ما ليس لها وتغترُّ بمجرد أن ترى لها استغناءً في جانب تقفز إلى طغيانها

(كَلَّاۤ إِنَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ لَیَطۡغَى * أَن رَّءَاهُ ٱسۡتَغۡنَىٰۤ) [العلق:6-7]، هو ما يستغني في الحقيقة لكن (أَن رَّءَاهُ) يتخيل ويظن أنه استغنى فيطغى.. وبعدها ينتكس ويذهب كل شيء عليه.. مسكين! ما له حق أن يَطغى، ولكن يظن نفسه أنّه استغنى، ويستغني عن ماذا؟ وهو في تركيبته كلِّها مقهورٌ ومصنوعٌ وتحتَ حكمٍ، لا يقدر يستغني عن الهواء، لا يقدر يستغني عن الغذاء، ليس يقدر يستغني عن الماء لضعفه أم لقوَّتِه؟ كيف لقوّته! بل هذا لضعفه محتاج إلى الأشياء من حواليه، ليس هو الذي رتبها ولا الذي يجلبها، والله هو الذي يخلقها، ثم يجيء  يتطاول هذا الإنسان؟! إنا لله وإنا إليه راجعون.

 قال: "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ"، إلاّ أن مفهوم العدد مُختلَفٌ فيه، دائمًا إذا جاء عدد في حديث وغيره، هل له مفهوم معنى ما تزيد عن الخمس؟ والذي عليه جماهير أهل الأصول والعلم يقولون: العدد لا مفهوم له، فقد يُذكر عدد في رواية أو واقعة ولا يُراد تحديد العدد ويكون العدد بعد ذلك أكثر من ذلك أو أقل، لكن هذه الأنواع الخمسة هذا حكمها لكن لا ينحصر الحكم فيها. هذا معنى قولهم إن العدد لا مفهوم له. 

يقول "خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ" التي تدبّ على ظهر الأرض من الحيوانات، "لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ" بحجٍّ أو عمرة "فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ"، يعني: إثم، الجُناح الإثم. لا جناح عليكم: لا إثم عليكم.

 إذاً، فذكر العدد لا يفيد اختصاص المذكورات بذلك.

  •  ولذا جاء في رواية غيرُ هؤلاء المذكورات.
  •  وجاء في رواية بلفظ أربع. 
  • ورواية بلفظ ست.
  •  وجاء في بعض الروايات ذكرُ الحيّة.

 وجاءت الرواية عند الإمام مسلم أيضًا ذكر الحية، لكن رواية الإمام مسلم ما ذُكر فيها عدد، ذكر حيوانات تُقتل وذكر الحية منها، وهذه الرواية عندنا ليس فيها ذكر الحية، وبالإجماع أنّ الحية تُقتل ولو في الحَرم للمُحرم ولغيره. إذاً، فالعدد لا مفهوم له.

 فذكر "الْغُرَابُ"، أحد الخمسة، وله أصناف: يقول بعض غُداف، وبعضه الزاغ، وبعضه أكحل، وغراب الزريح، والأورق، والأعصم، والعقعق، وغراب الليل، كلها تدخل في دائرة الغراب، لا إله إلا الله! ومنه الذي يسمونه: غراب البين يقول: لأنه بان عن نوح -عليه الصلاة والسلام- واشتغل في حين أرسله ليأتي بخبر الأرض، راح اشتغل بجيفة.. غراب البين. وهكذا أنواع الغراب، فدخلت في عموم قوله: "الْغُرَابُ".وهناك تفصيل أيضًا عند المالكية بين صغيرها وكبيرها، وما يؤذي وما لا يؤذي.

"والحِدْأة" جمع حِدَاء، والحِدَأْة مثلُ عِنَبة وعِنَب، وحِدَاء وحِدَأة، هذه الحِدَأة تنطق بها كعِنَبة والحِداء كعِنَب جمع، والحِدأْة يقال فيها في الأصل، ويقال فيها الحدية. فالحدأْة سواءً للمُحرِم أو الحلال يجوز قتلها؛ لأنها من أنواع الطير التي تبتدئ بالأذى وتختطف اللحم من أيدي الناس، تترقب من يحمل اللحم وتجده في أي مكان وتخِرُّ عليه خرةً تخطفه من بين الأيدي، هذه الحدأة.

 وبها وقعت المشكلة للمرأة التي كان معها بعض متاع من الحليّ أحمر، أمسكته لبنت أسيادها، ورأته الحدأة فظنّته لحمًا فأخذته وخطفته منها، فاتهموها به قالوا: أنت سرقتِه وأنت خبأتِه، فتَّشوها في جسدها كلها وأخرجوا ثيابها … إلى أن رجعت الحدأة وألقته، فثبتت براءتها، وعرفوا أنهم ظلموا المسكينة، وأنها ما خبأت شيء وما سرقت شيء، ولكن كانوا ما صدقوها.. وهكذا تفعل الحدأة.

 "وَالْعَقْرَبُ" الذي يُجمع عقارب، ويقال لأنثاه: عَقْربة وعقرباء بالمد. وهناك نوع آخر دابَّة طويلة القوائم يُقال لها عقربان، ليست داخلة في هذا، ولكن يجمع هذه أنّها مؤذيات.

"وَالْفَأْرَةُ"، أيضًا باتفاق أهل العلم أنّ الفأرة التي سمّاها النبيّ بالفُوَيسِقَة، تُقتل للمُحرِم وغيره، في الحرم وغيره، وليس في قتلها جزاء، وإن كان أنواع منها ما يقال له الجُرَذ، ومنها ما يقال له الخُلد، ومنها يقال له فأرة الإبل، ومنها فأرة المسك، وفأرة الغيط، وكلُّها في تحريم أكلها وفي جواز قتلها سواء، جميع أنواع هذه الفأرات.

 "وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ"؛ يعني: الذي يعدو على الناس، ويؤذيهم ويعقرهم، بخلاف غير العَقُور، وقد يمتد بالكلب المعروف إلى أنواع السباع الضارية فيقال لها كلب، كما قال تعالى: (مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ) [المائدة:4]، وقال ﷺ: "اللهم سلِّطْ عليه كلبًا من كلابك" وجاء أسد وأكله -ابن أبو لهب-، لما دعا عليه النبي ﷺ: "اللهم سلِّط عليه كلبًا من كلابك"، وخرجوا يسافرون ويضعون هذا بينهم لمَّا سمعوا دعوة النبي وهم مشركين وكفار، لكن يعلمون قدر محمد في بواطنهم، يدرون أنّه صادق وإن غالبوا وإن جحدوا وكذَّبوا. لمّا قال: "اللهم سلط عليه كلباً من كلابك"، وهو سافر معهم فكانوا يضعونه في الوسط بينهم إذا ناموا وهم في السفر، وفي إحدى الليالي وهم في الطريق مسافرون أقبل الأسد، تركهم كلهم ودخل وسطهم وأخذه من بينهم، ولم يقدر أحد يعمل له شيء، وأخذه وأكله وافترسه، لا إله إلا الله! سماه كلبًا، "سلط عليه كلبًا من كلابك"، فجاء الأسد وأكله.

 إذاً، غير العَقور لا يُقتل كما يقول القاضي حسين والماوردي وغيرهم، فلا يجوز قتل الكلب غير العقور، كانوا يسمونه: كلب السوق، ما يؤذي أحد ولا يضر أحد، ولا يأكل دجاج أحد، يمشي والذي يجده يأكله، وإن أحد أعطاه شيء يأكله، هذا غير عقور.

 وذكر لنا الحديث بعده: "خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ مَنْ قَتَلَهُنَّ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ"؛ أي: فلا إثم عليه، "الْعَقْرَبُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُور". والذين قالوا بإقامة الحدود والقصاص وسط الحرم استدلّوا بهذا، أن هذه تُقتل حتى في وسط الحرم، فكذلك من استحقّ القتل بقِصاص أو حِرابة أو غير ذلك فيجوز أن يُقتل.

"خَمْسٌ فَوَاسِقُ"، لا إله إلا الله.. ونصَّ في بعض الأحاديث بتسمية الفأرة فُوَيسِقة لأن شرِّها، لا من أجل قوَّتها ولكن من أجل حيلتها ومكرها، واختلائها للطعام وتحيّلاتها، ويصل بها حدُّ الأذى إلى أن تفكر في حرق أهل الدار إذا تركوا السراج مضاء، ترمي بشمعتهم حتى تلتهب النار بالفراش وتحرقهم، إلى غير ذلك من حِيَلها الغريبة، فبذلك أُمر بقتلها في الحل والحرم، قال: "يُقْتَلْنَ فِي" الحِلّ  و"الْحَرَمِ: الْفَأْرَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ".

 وجاء في رواية بعدها: "أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَمَرَ بِقَتْلِ الْحَيَّاتِ فِي الْحَرَمِ"، وقد سمعنا أنها جاءت أيضًا في رواية عند الإمام مسلم في ذكر ما يُقتل في الحرم ولم يذكر العدد، وقد "أَمَرَ بِقَتْلِ الْحَيَّاتِ" جمع حيّة "فِي الْحَرَمِ".

"قَالَ مَالِكٌ: فِي الْكَلْبِ الْعَقُورِ الَّذِي أُمِرَ بِقَتْلِهِ فِي الْحَرَمِ: إِنَّ كُلَّ مَا عَقَرَ النَّاسَ" يعني: جرحهم "وَعَدَا عَلَيْهِمْ وَأَخَافَهُمْ، مِثْلُ الأَسَدِ، وَالنَّمِرِ، وَالْفَهْدِ، وَالذِّئْبِ، فَهُوَ الْكَلْبُ الْعَقُور"؛ أي: داخلة في الكلب العقور. هكذا قال الإمام مالك، وكذلك قال الإمام الشافعي، وكذلك قال الإمام أحمد بن حنبل؛ أنّ هذا كلَّه داخلٌ في الكلب العقور: الذئب والفهد والنمر والأسد وأمثال ذلك، بجامع أنها مؤذية مفترسة معتدية. 

  • ويقول أبو حنيفة: الكلب المراد بهذا الكلب المعروف خاصة فقط. 

"وَأَمَّا مَا كَانَ مِنَ السِّبَاعِ لاَ يَعْدُو مثلُ الضَّبُعِ"، ويقال: ضَبعٌ وضُبعْ "وَالثَّعْلَبِ، وَالْهِرِّ، وَمَا أَشْبَهَهُنَّ مِنَ السِّبَاعِ، َلاَ يَقْتُلُهُنَّ الْمُحْرِمُ" يقول الإمام مالك: "فَإِنْ قَتَلَهُ فَدَاهُ"،  أخرج الفدية على ذلك.

 ولم يختلف قول الإمام مالك في الأسد والنمر والفهد أنه يجوز للمحرم قتلها، واختلف في الذئب، وجاءت برواية عنه إباحة ذلك، ورواية بمنع ذلك.

  • إباحة قتله لِما فيه من الاختلاس وتكرر الضرر والأذى داخل في الكلب العقور.
  •  والمنع عنه لأنه لا يبتدئ غالباً بالعقر والإفتراس، فيفعل ذلك في النادر أو عند انفراده بصغار المواشي، فأشبهَ الضبع.

 وأمّا "مِثْلُ الضَّبُعِ، وَالثَّعْلَبِ، وَالْهِرِّ، وَمَا أَشْبَهَهُنَّ مِنَ السِّبَاعِ، َلاَ يَقْتُلُهُنَّ الْمُحْرِمُ"؛ لأنّه من جنس الحيوان.

 يقول صاحب روضة المحتاجين: أمّا غير المأكول وإن كان بريًّا وحشيًا فلا يحرم التعرّض له، بل منه ما هو مؤذٍ طبعًا يُندب قتله كالفواسق الخمس، وألحق بها: الأسد والنمر والذئب والزنبور. ومنها لا يظهر فيه نفع ولا ضرر كالسرطان فيُكره قتله، هكذا يقول الشافعي.

 وجاء أيضًا في قول الموفق أنّ الرواية اختلفت في الثعلب. 

  • ففي رواية فيه الجزاء، وهو كذلك عند مالك والشافعي، وقال: هو صيد يُؤكل وفيه الجزاء.
  •  وجاء في رواية عن أحمد: لا شيء فيه.

وهكذا يقول الحنابلة كما يقول الشافعية: لايحرمُ بحَرمٍ ولا إحرامٍ قتل مُحرَّمِ الأكل؛ كالأسد والنمر والكلب العقور، داخلة في الكلب العقور.

 ثمَّ ذكرَ لنا، قال: "وأمَّا ما ضَرَّ مِنَ الطَّيْرِ"، فرَّق الإمام مالك بين الطير وغيره، "وَأَمَّا مَا ضَرَّ مِنَ الطَّيْرِ، فَإِنَّ الْمُحْرِمَ لاَ يَقْتُلُهُ، إِلاَّ مَا سَمَّى النَّبِيُّ ﷺ: الْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وإِنْ قَتَلَ الْمُحْرِمُ شَيْئاً مِنَ الطَّيْرِ سِوَاهُمَا فَدَاهُ"؛ لأنّه لا يُقتل ابتداءً من الطير إلا الغراب والحِدأة.

 وعلِمتَ أيضاً ما يقول الحنفية: أنه سواءً يُؤكل أو لا يُؤكل؛ كلُّه يدخل في اسم الصيد ما دام مُمتنعًا، إلا أنّه إذا عدا عليه شيءٌ فقتله فلا جزاءَ عليه، وإن كان من غير عدوانٍ عليه، فهذا مذهب الحنفية عليهم الرضوان.

وهكذا جاء كلام الإمام مالك -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- فيما يتعلق بالحيوانات، للمُحرم وغيرِ المُحرِم، وفي الحرم وخارج الحرم، فالحمد لله على شريعته العظيمة، قال تعالى: (لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ) [المائدة:95].

  • فيقول الجمهور: إذا كان مأكول اللحم 
  • وقال المالكية لا يجوز شيء من صيد البرّ سواء ما أُكِل لحمُه أو لم يؤكل، إلا الحيوانات المضرّة كالأسد ونحوه كما تقدم معنا.
  • بل يقول بعض أهل الفقه من الحنابلة والشافعية: يُستحب قتلها لأنّها تضر.

 وذكرت لنا الآية جزاء الصيد فيمن صاد وهو مُحرِم، والله أعلم.

جعلنا الله من أهل الاستقامة، وأتحفَنا بأنواع الكرامة، وفرّج كروبنا والمسلمين، ورقّانا أعلى مراتب علم اليقين، وعين اليقين، وحقّ اليقين، ووقَانا الأسواء، ورزقنا الاقتداء بالنبي، وأن يجعل الله تَبعًا لما جاء به هوانا، وأن يتولانا به في ظواهرِنا وخفايانا، ويختم لنا بالحسنى وهو راضٍ عنا في لطفٍ وعافية بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

24 شوّال 1442

تاريخ النشر الميلادي

05 يونيو 2021

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام