شرح الموطأ -189- كتاب الحج: باب ما يجوز للمحرم أكله مِن الصيد

شرح الموطأ -189- كتاب الحج، باب ما يجوز للمحرم أكله مِن الصيد
للاستماع إلى الدرس

شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الحج، باب ما يجوز للمحرم أكله مِن الصيد.

فجر الإثنين 19 شوال 1442هـ.

باب مَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَكْلُهُ مِنَ الصَّيْدِ

1008- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ التَّيْمِيِّ، عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى أبِي قَتَادَةَ الأَنْصَاري، عَنْ أبِي قَتَادَةَ أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ طَرِيقِ مَكَّةَ، تَخَلَّفَ مَعَ أَصْحَابٍ لَهُ مُحْرِمِينَ، وَهُوَ غَيْرُ مُحْرِمٍ، فَرَأَى حِمَاراً وَحْشِيًّا، فَاسْتَوَى عَلَى فَرَسِهِ، فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُنَاوِلُوهُ سَوْطَهُ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ، فَسَأَلَهُمْ رُمْحَهُ، فَأَبَوْا فَأَخَذَهُ، ثُمَّ شَدَّ عَلَى الْحِمَارِ فَقَتَلَهُ، فَأَكَلَ مِنْهُ بَعْضُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَأَبَى بَعْضُهُمْ، فَلَمَّا أَدْرَكُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: "إِنَّمَا هِيَ طُعْمَةٌ أَطْعَمَكُمُوهَا اللَّهُ".

1009- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ كَانَ يَتَزَوَّدُ صَفِيفَ الظِّبَاءِ وَهُوَ مُحْرِمٌ.

قَالَ مَالِكٌ: وَالصَّفِيفُ الْقَدِيدُ.

1010- وَحَدَّثَنِي، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ أَخْبَرَهُ، عَنْ أبِي قَتَادَةَ فِي الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ مِثْلَ حَدِيثِ أبِي النَّضْرِ، إِلاَّ أَنَّ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "هَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ".

1011- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَاري، أَنَّهُ قَالَ: أَخْبَرَنِى مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيُّ، عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ عُمَيْرِ بْنِ سَلَمَةَ الضَّمْرِيِّ، عَنِ الْبَهْزِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ خَرَجَ يُرِيدُ مَكَّةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِالرَّوْحَاءِ، إِذَا حِمَارٌ وَحْشِيٌّ عَقِيرٌ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: "دَعُوهُ، فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ صَاحِبُهُ". فَجَاءَ الْبَهْزِيُّ وَهُوَ صَاحِبُهُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ شَأْنَكُمْ بِهَذَا الْحِمَارِ. فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَبَا بَكْرٍ فَقَسَمَهُ بَيْنَ الرِّفَاقِ، ثُمَّ مَضَى حَتَّى إِذَا كَانَ بِالأَثَايَةِ -بَيْنَ الرُّوَيْثَةِ وَالْعَرْجِ- إِذَا ظَبْيٌ حَاقِفٌ فِي ظِلٍّ فِيهِ سَهْمٌ، فَزَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَمَرَ رَجُلاً أَنْ يَقِفَ عِنْدَهُ، لاَ يَرِيبُهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ حَتَّى يُجَاوِزَهُ.

1012- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يُحَدِّثُ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُ أَقْبَلَ مِنَ الْبَحْرَيْنِ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِالرَّبَذَةِ وَجَدَ رَكْباً مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ مُحْرِمِينَ، فَسَأَلُوهُ عَنْ لَحْمِ صَيْدٍ وَجَدُوهُ عِنْدَ أَهْلِ الرَّبَذَةِ، فَأَمَرَهُمْ بِأَكْلِهِ قَالَ: ثُمَّ إنِّي شَكَكْتُ فِيمَا أَمَرْتُهُمْ بِهِ، فَلَمَّا قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ عُمَرُ: مَاذَا أَمَرْتَهُمْ بِهِ؟ فَقَالَ: أَمَرْتُهُمْ بِأَكْلِهِ. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لَوْ أَمَرْتَهُمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ لَفَعَلْتُ بِكَ. يَتَوَاعَدُهُ.

1013- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ: أَنَّهُ مَرَّ بِهِ قَوْمٌ مُحْرِمُونَ بِالرَّبَذَةِ، فَاسْتَفْتَوْهُ فِي لَحْمِ صَيْدٍ، وَجَدُوا نَاساً أَحِلَّةً يَأْكُلُونَهُ، فَأَفْتَاهُمْ بِأَكْلِهِ، قَالَ: ثُمَّ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: بِمَ أَفْتَيْتَهُمْ؟ قَالَ: فَقُلْتُ أَفْتَيْتُهُمْ بِأَكْلِهِ. قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ أَفْتَيْتَهُمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ لأَوْجَعْتُكَ.

1014- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ: أَنَّ كَعْبَ الأَحْبَارِ أَقْبَلَ مِنَ الشَّامِ فِي رَكْبٍ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ وَجَدُوا لَحْمَ صَيْدٍ، فَأَفْتَاهُمْ كَعْبٌ بِأَكْلِهِ، قَالَ: فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِالْمَدِينَةِ ذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: مَنْ أَفْتَاكُمْ بِهَذَا؟ قَالُوا: كَعْبٌ. قَالَ : فَإِنِّي قَدْ أَمَّرْتُهُ عَلَيْكُمْ حَتَّى تَرْجِعُوا، ثُمَّ لَمَّا كَانُوا بِبَعْضِ طَرِيقِ مَكَّةَ، مَرَّتْ بِهِمْ رِجْلٌ مِنْ جَرَادٍ، فَأَفْتَاهُمْ كَعْبٌ أَنْ يَأْخُذُوهُ فَيَأْكُلُوهُ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ذَكَرُوا لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ تُفْتِيَهُمْ بِهَذَا؟ قَالَ: هُوَ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ. قَالَ: وَمَا يُدْرِيكَ؟ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنْ هِيَ إِلاَّ نَثْرَةُ حُوتٍ، يَنْثُرُهُ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّتَيْنِ.

1015- قَالَ يَحْيَى: وَسُئِلَ مَالِكٌ عَمَّا يُوجَدُ مِنْ لُحُومِ الصَّيْدِ عَلَى الطَّرِيقِ، هَلْ يَبْتَاعُهُ الْمُحْرِمُ؟ فَقَالَ: أَمَّا مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ يُعْتَرَضُ بِهِ الْحَاجُّ، وَمِنْ أَجْلِهِمْ صِيدَ، فَإِنِّي أَكْرَهُهُ وَأَنْهَى عَنْهُ، فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ عِنْدَ رَجُلٍ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْمُحْرِمِينَ، فَوَجَدَهُ مُحْرِمٌ فَابْتَاعَهُ، فَلاَ بَأْسَ بِهِ.

1016- قَالَ مَالِكٌ فِيمَنْ أَحْرَمَ وَعِنْدَهُ صَيْدٌ قَدْ صَادَهُ أَوِ ابْتَاعَه: فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُرْسِلَهُ، وَلاَ بَأْسَ أَنْ يَجْعَلَهُ عِنْدَ أَهْلِهِ.

1017- قَالَ مَالِكٌ فِي صَيْدِ الْحِيتَانِ فِي الْبَحْرِ وَالأَنْهَارِ وَالْبِرَكِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ: إِنَّهُ حَلاَلٌ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَصْطَادَهُ.

 

نص الدرس مكتوب: 

 

الحمد لله مُكرمنا بشريعته، وبيانها على لسان خير بريته سيِّدنا مُحمَّد، عبد الله وصفوته، صلى الله وسلم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وصحابته، وعلى أهل ولائه ومحبته ومُتابعته، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين وعلى آلهم وصحبهم والتَّابعين، وعلى الملائكة المُقربين وعلى جميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين.

وبعدُ،

 فيذكر لنا الإمام مالك -عليه رحمة الله- في الموطأ بعض ما يتعلق بالصيد للمُحرِم، ومن المعلوم أن صيد الحيوان الوحشي البري ممنوع في الحرم للمُحرِم وللحلال، ومُحرَّم على المُحرِم في خارج الحرم حيث ما كان ما دام مُحرمًا بحج أو عُمرة، قال سبحانه وتعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ ۖ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا ۗ) [المائدة:96]، وقال جلَّ جلاله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ۚ) [المائدة:95]. فيحرُم على المُحرِم إذا أهلّ بحج أو عُمرة أن يصطاد أي صيد من صيد البر من كل هذه الحيوانات الممتنعة. 

  • ويُعبّر عنها الحنفية بالممتنع بقوائمه أو جناحيه عن أخذه، المتوحش في أصله في القتل. 
  • وكذلك يقول المالكية: الحيوان البري المتوحش في أصل خلقته. 
  • كما يعبّر الشَّافعية والحنابلة يقولون: الحيوان البري المتوحش المأكول اللحم.

 فهذا الذي يحرم اصطياده على المُحرِم.

قال: "باب مَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَكْلُهُ مِنَ الصَّيْدِ"، يجوز له أكل صيد البحر كما نصّت الآية، واختُلف في الجراد كما سيأتي معنا، وحُرِّم صيد البر كما في الآية أيضًا. بل حُرِّم على المُحرِم أن يدُل عليه الذي ليس بمُحرِم أو يعينه عليه. بل ويحرم عند جماهير أهل العلم على المُحرِم أن يأكل ما اصطيد من أجله، وإن لم يُعن عليه ولم يدل عليه، إذا كان قصد الحلال من صيده أن يصطاده لهذا المُحرِم؛ فيصير حرامًا على هذا المُحرِم؛ لأنه صِيد من أجله. ما يحرم عليه تنْفيره، ويحرم عليه جراحته، ويحرم عليه أكل بيضه، فلا يأكل من بيضه شيئًا ولا أن يفقس بيضه ويفسده؛ لا يجوز له شيئًا من ذلك.

وأورد لنا هذا الحديث "عَنْ أبِي قَتَادَةَ الأَنْصَاري -رضي الله عنه-، أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ" وهذه المعيّة بالنسبة لسيِّدنا قتادة إنما كانت معية تلاقٍ معه في بعض الأماكن، لم يكن في رفقته من أين الخروج ولا متوجهًا معه إلى البيت الحرام، ولكن كان سيِّدنا قتادة قد بُعث. فجاء في بعض الرِّوايات أنه بعثه بعض أهل المدينة لما سمعوا من عزم قومٍ على الإغارة على المدينة، وأنه لحق النَّبي ﷺ بالروحاء وأخبره الخبر، ثم بعثه ﷺ إلى بعض النواحي ليستيقن الخبر، ثم لقيه ﷺ ولقي جماعة من الصَّحابة فكان ما كان منهم، ولهذا لم يكن هو مُحرِم. فلو كان معه يقصد مكة؛ لوجب عليه أن يُحرِم من الميقات كما أحرموا. ولكن يُعلَم من مجموع الرِّوايات أن معيتهما لم تكن معية ملازمة ولا خروج معه من المدينة، ولكن كان مبعوثًا لمهام ولم يكن يقصد مكَّة المُكرَّمة، وأنه رجع بعد ذلك من عُسفان عند دخول النَّبي ﷺ إلى العُمرة.

يقول: "كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ طَرِيقِ مَكَّةَ"، جاء في كلام الحافظ أن الرَّوحاء هو المكان الذي ذهب أبو قتادة وأصحابه منه إلى جهة البحر ثم التقوا بالقاحة. وذكر الرِّواية عن عبد الله بن أبي قتادة قال: انطلق أبي عام الحُديبية فأحرم أصحابه ولم يُحرِم، وحُدِّث النَّبي ﷺ أن عدوًا يغزوه بغيقة، فبعث أبا قتادة. قال: "حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ طَرِيقِ مَكَّةَ، تَخَلَّفَ مَعَ أَصْحَابٍ لَه"؛ التقى بهم في القاحة ووقع له هذا الصَّيد المُشار إليه في الحديث. "مُحْرِمِينَ" وسيِّدنا قتادة "غَيْرُ مُحْرِمٍ، فَرَأَى حِمَاراً وَحْشِيًّا"، هكذا جاء في أكثر الرِّوايات أن حمار وحش، هنا قال: "حِمَاراً وَحْشِيًّا"، وجاء في رواية إذ رأوا حُمُر وحش، فحمل عليه أبو قتادة فعقر منها أتانًا، "فَاسْتَوَى عَلَى فَرَسِهِ، فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُنَاوِلُوهُ سَوْطَهُ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ" لأنهم مُحرِمين، قالوا: لا نُعينك عليه؛ هذا من فقه الصَّحابة -رضوان الله عليهم- علينا حرام الصِّيد، قال طيب لا تصيدون ناولوني الصَّيد لا تصيدوا أنتم، ناولوني رمح. قالوا: لا، لا، ولا نُناولك شيء، اخرج له بنفسك أخذت الرمح أو تركته.. نحن لن نعينك أبدًا على الصَّيد لأننا مُحرِمين -عليهم الرِّضوان-. فكنت نسيت سوطي، فسقط مني سوطي في الرِّواية الأُخرى، فسأل أصحابه السَّوط "فَأَبَوْا عَلَيْهِ، فَسَأَلَهُمْ رُمْحَهُ، فَأَبَوْا"، نزل وأخذ رمحه، "ثُمَّ شَدَّ عَلَى الْحِمَارِ فَقَتَلَهُ"؛ صاده. فحملت عليه وفي رواية فطعنته، فأتيت إليهم به. قلت لهم: قوموا فاحتملوا، قالوا: لا نمسّه،  فحملته حتى جئتهم به "فَأَكَلَ مِنْهُ بَعْضُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَأَبَى بَعْضُهُمْ" من الأكل، وفي هذا اجتهاد الصَّحابة في الفروع وهم ليسوا بحضرة النَّبي لكن قريب منه قدامهم.. ولكن اجتهدوا. ومنهم من قال: أننا لم نُعِنه ولم يصطاده من أجلنا؛ فنَأكل معه. قال آخرون: نحن حُرم ولا نأكل حتى لحقوا النَّبي فسألوه، "فَلَمَّا أَدْرَكُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ" قد تقدَّمهم إلى السُّقيا "سَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ".  

○ يقول في رواية صالح بن كيسان: فأتيت النَّبي ﷺ وهو أمامنا فسألته، قال: كلوه حلال.

○ جاء في رواية عند الإمام البُخاري، قال: أمنكم أحد أمره أن يحمل عليها؟ قالوا: لا، قال: أو أشار إليها؟ قالوا: لا، قال: فكلوا. 

○ وجاء أيضًا في رواية مُسلم، يقول: هل منكم أحد أمره أو أشار إليه بشيء؟

○ في رواية، هل أشرتم أو أعنتم أو اصطدتم؟ قالوا: لا. 

"فَقَال : إِنَّمَا هِيَ طُعْمَةٌ أَطْعَمَكُمُوهَا اللَّهُ". فصرَّح بجواز أكل المُحرِم لحم الصَّيد إذا لم يكن قتله، ولا أعان عليه، ولا أشار إليه، ولم يُصَد من أجله عند الأئمة الثلاثة. فقال أبو حنيفة: الشَّرط أن لا يعينه، ولا يشير إليه، ولا يساعده فقط، وإن صِيد لأجله ما يضر.

ويقول: "وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ كَانَ يَتَزَوَّدُ صَفِيفَ الظِّبَاءِ وَهُوَ مُحْرِمٌ"، صفيف ما هو الصَّفيف؟ الصَّفِيفُ يعني الْقَدِيدُ الذي صُف في الشَّمس لييبس. ويطلق على الصَّفيف الذي يصُف على النَّار لينشوي، فكان يتزود؛ أي: يأخذ معه زادًا للطريق من صفيف الظباء وهو مُحرِم ولكنه لم يصطده وقت الإحرام، ولم يعن عليه وكان من قبل فيأكل منه. "قَالَ: وَالصَّفِيفُ الْقَدِيدُ"؛ اللحم يُملِّحونه ويجففونه في الشَّمس، فيُصفّ عليه الملح ويُصفّ في الشَّمس من أجل أن ييبس فلا يتعفن بعد ذلك. 

وفي الحديث الآخر: "أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ أَخْبَرَهُ، عَنْ أبِي قَتَادَةَ فِي الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ مِثْلَ حَدِيثِ أبِي النَّضْرِ، إِلاَّ أَنَّ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: هَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ". يطمئن قلوبهم أنه حلال ﷺ. حتى جاء في رواية عند البُخاري: فناولته العضُد فأكلها ﷺ. وجاء في رواية: وقد رفعنا له الذِّراع فأكل منه. وجاء في رواية: كلوه وأطعموني؛ ليُبين لهم حِل ذلك صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم.

وذكر أيضًا حديث "الْبَهْزِيِّ -زيد بن كعب-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ خَرَجَ يُرِيدُ مَكَّةَ"؛ يقصد مكة "وَهُوَ مُحْرِمٌ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِالرَّوْحَاءِ، إِذَا حِمَارٌ وَحْشِيٌّ عَقِيرٌ"؛ عقره إنسان "فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: دَعُوهُ"؛ اتركوه "فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ صَاحِبُهُ". فَجَاءَ الْبَهْزِيُّ وَهُوَ صَاحِبُهُ" الذي صاده وعقره. قال: "فَجَاءَ الْبَهْزِيُّ وَهُوَ صَاحِبُهُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ شَأْنَكُمْ بِهَذَا الْحِمَارِ"، قال: هدية لكم اقبلوه مني، وقال: يا رسول الله هذه رُميتي أنا الذي رميته، أنا الذي عقرته، كلوه لكم. "فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَبَا بَكْرٍ فَقَسَمَهُ بَيْنَ الرِّفَاقِ، ثُمَّ مَضَى حَتَّى إِذَا كَانَ بِالأَثَايَةِ -بَيْنَ الرُّوَيْثَةِ وَالْعَرْجِ- إِذَا ظَبْيٌ حَاقِفٌ فِي ظِلٍّ فِيهِ سَهْمٌ، فَزَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَمَرَ رَجُلاً أَنْ يَقِفَ عِنْدَهُ، لاَ يَرِيبُهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ حَتَّى يُجَاوِزَهُ. أَمَرَ رَجُلاً أَنْ يَقِفَ عِنْدَهُ، لاَ يَرِيبُهُ"؛ ما يُريبه أحد، ولا يزعجه "حَتَّى يُجَاوِزَهُ" لأنهم حُرم، ولا يجوز لهم، فلماذا؟ الأول كان ميت قد عُقر، وهذا حي ما يمكن لأحد منهم يأخذه. قال ﷺ: قف هنا واترك؛ دع النَّاس يمرون بعيد لا أحد يزعج هذا الحمار. 

فلا يجوز للمُحرِم أن يُذكّي صيدًا ونحوه. قال: "عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُ أَقْبَلَ مِنَ الْبَحْرَيْنِ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِالرَّبَذَةِ" قريب المدينة المُنوَّرة "وَجَدَ رَكْباً مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ مُحْرِمِينَ، فَسَأَلُوهُ عَنْ لَحْمِ صَيْدٍ وَجَدُوهُ عِنْدَ أَهْلِ الرَّبَذَةِ، فَأَمَرَهُمْ بِأَكْلِهِ قَالَ: ثُمَّ إنِّي شَكَكْتُ فِيمَا أَمَرْتُهُمْ بِهِ"، كونهم مُحرِمين ويأكلون لحم صيد بر، "فَلَمَّا قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ عُمَرُ: مَاذَا أَمَرْتَهُمْ بِهِ؟ فَقَالَ له أبو هريرة: أَمَرْتُهُمْ بِأَكْلِهِ. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لَوْ أَمَرْتَهُمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ لَفَعَلْتُ بِكَ"؛ يعني: لو رأيت أنك تفتي على غير بيِّنة وعلى غير علم من رأسك، وتُحرِّم شيء أحلَّه الله؛ سأضربك وأوجعك لكن أفتيتهم بالحق. 

وهكذا: "عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ: أَنَّهُ مَرَّ بِهِ قَوْمٌ مُحْرِمُونَ بِالرَّبَذَةِ، فَاسْتَفْتَوْهُ فِي لَحْمِ صَيْدٍ، وَجَدُوا نَاساً أَحِلَّةً"؛ يعني جمع حلال غير مُحرِمين "يَأْكُلُونَهُ"؛ يعني: هل يجوز يأكلونه أو لا؟ "فَأَفْتَاهُمْ بِأَكْلِهِ، قَالَ: ثُمَّ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: بِمَ أَفْتَيْتَهُمْ؟ قَالَ: فَقُلْتُ أَفْتَيْتُهُمْ بِأَكْلِهِ. قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ أَفْتَيْتَهُمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ لأَوْجَعْتُكَ". مر معنا أن النَّبي وكّل أبا بكر بقسمة لحم الصَّيد في حجَّة الوداع.

"عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ: أَنَّ كَعْبَ الأَحْبَارِ أَقْبَلَ مِنَ الشَّامِ فِي رَكْبٍ" مُحرِمين، "حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ وَجَدُوا لَحْمَ صَيْدٍ، فَأَفْتَاهُمْ كَعْبٌ بِأَكْلِهِ، قَالَ: فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِالْمَدِينَةِ ذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: مَنْ أَفْتَاكُمْ بِهَذَا؟ قَالُوا: كَعْبٌ. قَالَ: فَإِنِّي قَدْ أَمَّرْتُهُ عَلَيْكُمْ"؛ يعني: جعلته أميرًا عليكم "حَتَّى تَرْجِعُوا"؛ يعني: من نسككم إلى بلدكم، لمَّا أخبروه أن بعضهم أفتوه بهذا فسألهم مَن الذي أفتاكم من أجل يُظهر علمه وفضله؛ فأمّره عليهم. "ثُمَّ لَمَّا كَانُوا بِبَعْضِ طَرِيقِ مَكَّةَ، مَرَّتْ بِهِمْ رِجْلٌ"؛ يعني: قطيع "مِنْ جَرَادٍ، فَأَفْتَاهُمْ كَعْبٌ أَنْ يَأْخُذُوهُ فَيَأْكُلُوهُ"، وبعضهم فصَّلوا بين جراد الحجاز وغيره، يقول: ابن العربي أن جراد الأندلس لا يُؤكل لأنه ضرر محض. 

فجاء فيها عند ابن أبي أوفى في رواية أبي داود والبُخاري، يقول: غزونا مع رسول الله ﷺ سبع غزوات نأكل الجراد. وفي رواية أبي نعيم: ويأكله معنا. وهكذا أصل حِل الجراد مجمع عليه بين الأئمة، لكن المشهور عند الإمام مالك وهي أيضًا رواية عن أحمد أنه، إذا مات بسبب بأن يُقطع بعضه أو يُلقى في النار حين فإن مات حتف أنفه هذا الجراد لا يحِل، ولكن عامة أهل العلم، أنه داخل تحت عموم قوله: "أحلت لنا ميتتان". 

"فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ" بعد ما رجعوا من مكَّة "ذَكَرُوا لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ تُفْتِيَهُمْ بِهَذَا؟" أكل الجراد، قَالَ: هُوَ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ؛ حِل. قَالَ: وَمَا يُدْرِيكَ؟ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنْ هِيَ إِلاَّ نَثْرَةُ حُوتٍ"، جاء في هذا حديث ضعيف: أن أصله من البحر ولهذا كان حكمه حكم صيد البحر أنه لا يلزم فيه ذكاة، وأنه حِل ميتته كالبحر، ولكن لم يصح هذا الحديث. ومنهم من قال: إنه نثرة بحر، ولكن الصَّحيح: أنه برّي والمُحرِم ما يجوز له أن يأكل منه، وهكذا عند أكثر أهل العلم.

"وَسُئِلَ مَالِكٌ عَمَّا يُوجَدُ مِنْ لُحُومِ الصَّيْدِ عَلَى الطَّرِيقِ، هَلْ يَبْتَاعُهُ الْمُحْرِمُ؟" هل يجوز أن يشتريه؟ "فَقَالَ: أَمَّا مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ يُعْتَرَضُ بِهِ الْحَاجُّ، وَمِنْ أَجْلِهِمْ صِيدَ، فَإِنِّي أَكْرَهُهُ"، يقول: إذا كان يُعترض به؛ يعني يُقصد به الحاج، اعترض فلان الشيء يعني تكلّفه وقصده، من أجلهم صِيد "فَإِنِّي أَكْرَهُهُ وَأَنْهَى عَنْهُ، فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ عِنْدَ رَجُلٍ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْمُحْرِمِينَ"؛ يعني: بل صاده للمُحلّين أو لنفسه "فَوَجَدَهُ مُحْرِمٌ فَابْتَاعَهُ، فَلاَ بَأْسَ بِهِ"؛ يعني: يجوز له شراؤه؛ لأنه لم يُصَد لأجله. وهذا مذهب الأئمة الثلاثة، وقد تقدَّم معنا أن الإمام أبي حنيفة قال: وإن صِيد من أجله؛ إذا لم يُعن عليه يجوز له.

"قَالَ مَالِكٌ فِيمَنْ أَحْرَمَ وَعِنْدَهُ صَيْدٌ قَدْ صَادَهُ أَوِ ابْتَاعَهُ: فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُرْسِلَهُ" ولا يجب عليه، بل يجوز له أن يبقيه في بيته، "وَلاَ بَأْسَ أَنْ يَجْعَلَهُ عِنْدَ أَهْلِهِ" وهذا فيه خلاف. 

  • أما مَن أحرم وبيده صيد، يجب عليه إرساله، واختلفوا هل يخرج عن ملكه أو لا بإحرامه؟ 
    • ورجَّح الشَّافعية أنه يخرج عن ملكه إذا كان في ملكه أي صيد من صيد البرّ فدخل في الإحرام؛ خرج ذلك عن ملكه. 
    • وقال الإمام مالك كما سمعت: لا، لا يخرج عن ملكه، يُبْقيه عند أهله ولكن لا ينتفع بشيء منه حتى يُحل.

"قَالَ مَالِكٌ فِي صَيْدِ الْحِيتَانِ فِي الْبَحْرِ وَالأَنْهَارِ وَالْبِرَكِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ: إِنَّهُ حَلاَلٌ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَصْطَادَهُ"، كما قال: (أُحِلَّ لَكُمۡ صَیۡدُ ٱلۡبَحۡرِ وَطَعَامُهُۥ مَتَـٰعࣰا لَّكُمۡ وَلِلسَّیَّارَةِۖ) [المائدة:96]؛ أي السَّائرين على أرجُلهم، والله أعلم.

رزقنا الله الإيمان واليقين والإخلاص والصِّدق والإقبال الصادق والقبول التَّام، وثبتنا على الاقتداء بخير الأنام، ودفع عنا به الآفات والعاهات، وأصلح لنا الظواهر والخفيات، وبلّغنا فوق الأمنيات في عافية مع صلاح الشؤون الظاهرة والخافية بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

19 شوّال 1442

تاريخ النشر الميلادي

31 مايو 2021

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام