شرح الموطأ - 181 - كتاب الحج: باب رفع الصوت بالإهلال

شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الحج، باب رفع الصوت بالإهلال.
فجر الأحد 29 شعبان 1442هـ.
باب رَفْعِ الصَّوْتِ بِالإِهْلاَلِ
941 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أبِي بَكْرِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ خَلاَّدِ بْنِ السَّائِبِ الأَنْصَاري، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَمَرَنِي أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي، أَوْ مَنْ مَعِي، أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ، أَو بِالإِهْلاَلِ". يُرِيدُ أَحَدَهُمَا.
942 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَهْلَ الْعِلْمِ يَقُولُونَ: لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ، لِتُسْمِعِ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا.
943 - قَالَ مَالِكٌ: لاَ يَرْفَعُ الْمُحْرِمُ صَوْتَهُ بِالإِهْلاَلِ فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ، لِيُسْمِعْ نَفْسَهُ وَمَنْ يَلِيهِ، إِلاَّ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ مِنًى، فَإِنَّهُ يَرْفَعُ صَوْتَهُ فِيهِمَا.
944 - قَالَ مَالِكٌ: سَمِعْتُ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَسْتَحِبُّ التَّلْبِيَةَ دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ، وَعَلَى كُلِّ شَرَفٍ مِنَ الأَرْضِ.
باب إِفْرَادِ الْحَجِّ
945 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي الأَسْوَدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ، أَنَّهَا قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ، وَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالْحَجِّ، فَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فَحَلَّ، وَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ، أَوْ جَمَعَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَلَمْ يُحِلُّوا، حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ.
946 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَفْرَدَ الْحَجَّ.
947 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي الأَسْوَدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: وَكَانَ يَتَيمًا فِي حَجْرِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَفْرَدَ الْحَجَّ.
948 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَهْلَ الْعِلْمِ يَقُولُونَ: مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ مُفْرَدٍ، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يُهِلَّ بَعْدَهُ بِعُمْرَةٍ، فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ.
قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ الَّذِي أَدْرَكْتُ عَلَيْهِ أَهْلَ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا.
نص الدرس مكتوب:
الحمد لله مُكرِمنا بالشَّريعة الغراء المُطهّرة، وبيان أحكامها على لسان المجتبى المصطفى، سيدنا مُحمَّدٍ صلى الله وسلم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وأصحابه ومن والاه واقتفى أثره، وعلى آبائه وإخوانه مِن الأنبياء والمرسلين، أهل المراتب العليّة الفاخرة، وعلى آلهم وأصحابهم، وتابعيهم، والملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين، يا رب الدنيا والآخرة.
وبعدُ،
فَيواصل الإمام مَالِكْ رضي الله تعالى عنه ذكر الأحاديث المُتعلقة بالحَج، وذكر "باب رَفْعِ الصَّوْتِ بِالإِهْلاَلِ"، والإهْلال: هو رفع الصوت بالتَّلبية، ففيه تأكيدٌ أو زيادة بيان، باب رفع الصوت بالتَّلبية أو الإهْلال؛ الإهْلال هو رفع الصوت بالتَّلبية، "باب رَفْعِ الصَّوْتِ بِالإِهْلاَلِ"، أي: عند الإحرام بالحجِّ أو بالعمرة.
وأورد لنا حديث السَّائِب -رضي الله تبارك وتعالى عنه- السَّائِب بن خَلاَّد بِنْ سويد بِنْ عَمْرو بِنْ حارثة خزرجيّ من الأنصار، وابنه خَلاَّد روى عنه كما هو في هذا الحديث، و وروى عنه صالح بِن خيران وغيرهما، وكان استعمله سيدنا عُمَر على اليمن، وهو ممن شهِد بدرًا، ووفاته سنة 71 هـ، سيدنا السَّائِب بِنْ خَلاَّد الخزرجيّ عن أبيه هذا هو السَّائِب بِنْ خَلاَّد "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: أَتَانِي جِبْرِيلُ" -عليه السلام- "أَتَانِي جِبْرِيلُ" أي: وقت الحجِّ، "فَأَمَرَنِي أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي، أَوْ" قال: "مَنْ مَعِي"؛ أي: مِنَ الحُجَّاج "أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ، أَوْ" قال: "بِالإِهْلاَلِ"، يُرِيدُ أَحَدَهُمَا"، يعني: النَّبي ذكر أحدهما، والراوي شكَّ هل قال بالإهلال أو قال بالتَّلبية، أن يرفعوا أصواتهم بالتَّلبية، ورفع الصوت بالتَّلبية هو المُسمى بالإهْلاَل.
وفي هذا استحباب رفع الصَّوتِ بالتَّلبية للحاجِّ والمُعتمِر، وذلك خاصٌ بالذكور كما ذكر الإمام مَالِك عليه رضوان الله تعالى،
- وهو سُنّة عند جماهير العلماء.
- وقال الظَّاهرية بوجوب ذلك.
وقال جماهير العلماء بسُنية ذلك، وقوله: "أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي" أي: أمر ندبٍ كما هو عند الجمهور وأخذه الظَّاهرية على ظاهره، وقالوا يجب رفع الصوت بالتَّلبية على الرجل، "أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي، أَوْ" قال "مَنْ مَعِي أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ".
وقال الحَنَفِية: أنه يرفع صوته بعد الإحرام، يعني: التَّلبية الأولى التي تكون عند الإحرام لا يرفع صوته، ثم يرفع صوته فيه إظهار الشِّعار، شِعار الحج لبَيَّك اللهم لبَيَّك، وقد كان يَحجُّ النَّاس جماعات جماعات وأفراد، فكانوا إذا أحرموا لبّوا فيظهر لَجيج أصواتهم في ما بين الجبال وهم يمشون، وفي الصَّحاري يُلبّون، وفي الحديث: إذا لبَّى المُحرِم لبَّى ما أمامه، وما بينَ يديه، وما بين يمينه ويساره، من حجر، وشجر، وجبال، تُلبِّي مع هذا الحاج تعظيمًا لشعائر الله، وإكبارًا لتلبية نداء الله، ومشاركةً لأهل تلقّي رحمات الله جلَّ جلاله، فتتفاعل معهم وما بينهم الشجر، والنباتات، والجمادات، والجبال، فتُلبِّي بتلبيتهم لا اله إلا الله، لبيّك اللهم لبيّك، فما يسمعونه ولو سمعها بعض أهل المفاهيم الغريبة في الدين سيقول لها اخفضي صوتكِ، ولا ترفعي صوتكِ، لا تتكلمين ربما أنه بدعة، ولكنهم لا يسمعون أصواتها ولو سمعوه لضجّوا!
"قَالَ مَالِكٌ: لاَ يَرْفَعُ الْمُحْرِمُ صَوْتَهُ بِالإِهْلاَلِ فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ" وعلى هذا كان المذهب القديم للشَّافعي:
- أنه في المساجد التي تقام فيه الجماعات لا يرفع صوته خشية أن يُشوِش على المُصلِّين
- إنما يرفع صوته في المَسْجد الحَرام، وفي مَسجد مِنى، أي مسجد الخيف، لأنَّ المَسْجد الحَرام (سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ۚ) [الحج:25] ليس لخصوص الصَّلاة بُنِي، ولأنه يقصده المُلبون مِنَ الحُجَّاج والعُمّار، فيُمكن رفع الصوت بالتَّلبِية فيه، وأما مَسْجد مِنى فإنما بُنِيَ لذلك، بُنِيَ للحُجاج بغير بقية المَساجِد وهذا مذهب الإمام مَالِكْ، وكان المذهب القديم للشَّافعي والمذهب الجديد للفتوى: أنه يُلبي ويرفع صوته في كل المساجد،
- ويتأكد عند بعض الصَّلوات.
- وعند الانتقال مِن حال الى حال.
- وعند الرحيل.
- وعند الحطِّ.
فيتأكد للرجال رفع الصوت بالتَّلبية.
وقد مرّت معنا الإشارة مِن أنهم لمَّا أمرهم ﷺ بذلك رفعوا أصواتهم حتى بَحَّت أصواتهم، وكان ابن عُمَر يرفع صوته بالتَّلبية إذا أحرم فلا يصل إلى الروحاء إلا وقد بحّ صوته؛ أي: صارت فيه بَحَّة؛ صحلة، مِن كثرة ما يُبالغ في رفع صوته. ويشهد له ما سَمعَه كما يشهد للمؤذن بهذه التَّلبية، وهي: الإقامة على الطاعة وإجابة النداء، إذًا فهذا المشهور عن مَالِكْ فيما روى عنه أبو القاسم: أنه لا يرفع صوته في المَساجد؛ لأنها بُنيت للصَّلاة فلا يرفع الصَّوت فيها، أما المَسْجد الحَرام فإنه (سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ۚ) [الحج:25] ويقصده الحُجَّاج، والعُمّار، والمُلبّون، ومسْجد الخَيَف فللحجّ اختصاص به.
وكان سيدنا عُمَر بِنْ الخطَّاب في أيام العيد لمَّا حجَّ إذا أراد الخروج للرَّمي بعد الزوال، رَمي الجِمار الثلاث، يُكَبِّر وهو في مَسجد الخَيَف، في مَسجد مِنى، فيُكَبِّر بتَكبيره مَن في المَسْجد فيَسمعهم أهل السوق فيكبّرون بتكبيرهم، فترتَجَّ مِنى تكبيرًا، حتى أنه لَيُسمَع لجيج الصوت مِنْ أطراف مكة، فيقولون السَّاعة خرج أمير المؤمنين، يقولون الآن خرج أمير المؤمنين ليرمي، يعرفون مِن لَجيج أصواتهم؛ ففيه مُبالغة الصَّحابة في رَفع الصوت بالتَّكبير كما هو في التَّلبية قبل ذلك، وهذه أيام العيد في التَّكبير، وهو شعارٌ مِنْ شعارات المسلمين.
وهكذا يقول الحَنَابِلة بالنِّسبة لرفع الصوت بالتَّلبِية يقول: لا يُستحب رفع الصوت بالتَّلبِية في الأمصار ولا في مساجدها؛ إلا مكة والمَسْجد الحَرام، كقول مَالِكْ بالنسبة للمساجد، وأنه لا يرفع صوته في بقية المساجد وإنما في المَسْجد الحرام، ومسجد مِنى، وهكذا وعلمت المذهب الجديد للشَّافعي كما هو عند الحَنَفِي: أن الرجل يرفع صوته بالتَّلبِية حيثما كان، وفي أي مَسجد من المساجد إلا أن يُلاحظ أنه إذا كان بجانبه مُصلي ونحوه فلا ينبغي أن يكون بحيث يشوش عليه، وما عدا ذلك فالسُّنة رفع الصوت للرجل.
"قَالَ مَالِكٌ: سَمِعْتُ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَسْتَحِبُّ التَّلْبِيَةَ دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ" وهو كذلك عند الشَّافعية، مفروضة كانت أو نافلة، "وَعَلَى كُلِّ شَرَفٍ" كالتَّكبير أيام العيد المُقيّد بالصلوات بعد كل فرض، وبعد كل نَفل يُسن أن يُكبِّر، وكذلك الحاج يَُلبي بعد كل فرض، "وَعَلَى كُلِّ شَرَفٍ"
- الشَرف: المكان المُرتفع.
وفي وصف الأُمة في التوراة: يُكبِّرون الله تعالى على كل شَرَف.
- ويُسن لكل مَنْ صعد عقبةً، أو دَرجًا أو جبل ونحوه أن يُكبِّر.
- وإذا هبط مِنْ عقبةً، أو مِنْ دَرج، أو مِنْ جبل فيُسن له أن يُسبِّح.
فالتَّسبيح عند الهبوط، والتَّكبير عند الاعتلاء، فينبغي ذلك وعليه الذين يكون عندهم في بيوتهم المصاعد؛ ينبغي أن يَشغَلوا صعودهم بالتَّكبير، ونزولهم بالتَّسبيح. ومِن وصف هذه الأُمة في التوراة: يُكبِّرون الله تعالى على كل شَرف؛ أي: كل ما علوا مكان كبَّروا.. الله أكبر، أي: مُرتبطين بذكر الله، ومُمتلئِة قلوبهم بتعظيم خلَّاقهم -جلَّ جلاله- ويذكرونه في مختلف أحوالهم، وإذا علوا أيَّ مُرتَقىً حسيِّ تذكروا صاحب العلو المُطلق المعنوي ربهم سبحانه وتعالى، فكبَّروا الله -جلَّ جلاله وتعالى في علاه- (سَبِّحِ ٱسۡمَ رَبِّكَ ٱلۡأَعۡلَى) [الأعلى:1] جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه.
"وَعَلَى كُلِّ شَرَفٍ"
- أي مكان مرتفع من الأرض.
- وفي بطن كل وادٍ كذلك.
- وعند لُقيّ النَّاس وتلاقيهم.
- وعند انضمام الرِّفاق للرِّفاق.
- وعند الانتباه من النوم.
كل هذه الأحوال المُختلفة يُسنّ للحاجِّ أن يُلبّي، وللرجل أن يرفع صوته بالتَّلبِية، شعار الحجّ. وهكذا جاء في رواية ابِن أبي شَيَبة عن خيثمة: "كانوا يستحبون التلبية عند ست: دبر الصلاة، وإذا استقلت بالرجل راحلته، وإذا صعد شرفًا، وإذا هبط واديًا، وإذا لقي بعضهم بعضًا، وبالأسحار". يقول ابِن أبي شَيَبة عن خيثمة : كانوا يستحبون التَّلبِية عند ستٍ: دُبُرَ الصَّلاة"، بعد الصلوات الفرض والنَفل، "وإذا أستقلَّت بالرَّجُل راحلته، وإذا صعد شَرَفًا"، مكانًا مرتفعًا أو "إذا هبط واديًا، وإذا لقيَّ بعضهم بعضًا، وبالأسحار"؛ يُلَبّون الواحد القهار جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه.
وهكذا، أيضًا يقول المَالِكْية في التَّلبِية تتجدّد ندبًا لتغيير حال؛ كقيام، قعود، صعود، هبوط، ركوب، مُلاقاة، خلف صلاة ولو نافلة، فيتجدّد استحباب التَّلبِية. وهكذا يُستحب إكثار التَّلبِية ورفع صوته بها في دوام إحرامه خاصةً عندَ تغاير الأحوال كركوبٍ ونزولٍ، وصعودٍ وهبوطٍ، واختلاط رفقة.
وهكذا يقول الحَنابِلَة كذلكَ يُستحب استدامةَ التَّلبية والإكثار منها على كل حال، وهي أشد استحبابًا:
- إذا علا نشزًا، أو هبطَ واديًا.
- وإذا التقت الرِّفاق.
- وإذا غطى رأسه ناسيًا.
- وفي دُبر الصَّلاةِ المَكتوبة.
وهكذا يقول الحَنَفِية: يُستحب إكثارها عندَ تغيير الأحوال والأزمان، وكُلَّما علا شرفًا، أو هبط واديًا، وبعدَ الصَّلوات فرضًا، أداءً، أو قضاءً وكذا الوتر، ونفلاً ما ليس بفرضٍ، من أنواعِ التَّطوع، وهكذا عرفنا اجتماع الأئمة الأربعة؛ لأنَّه يتأكد التَّلبِية عند تغاير الأحوال في هذهِ الأوقات.
باب إِفْرَادِ الْحَجِ
ثُمَّ ذكرَ الإفراد بالحجِ وذلكَ أنَّ الحجَ والعُمرة يُؤديانِ
- إمَّا إفرادًا.
- وإمَّا تمتُعًا.
- وإمَّا قِرانًا: أن يقرِنّ بين الحجِ وبين العمرة.
واختلفوا في الأفضل منها. فقالَ الإمام الشَّافعي: أنَّ الإفراد هو الأفضل، وأنَّ التَّمتع أفضل من القِران، لأنَّ أفعال النُّسكَين في الإفراد والتَّمتع أكمل منها في القِران.
قالَ الإمام أبو حَنِيفَة عليه رضوان الله: القِرآن أفضلُ من التَّمتع، وأفضل من الإفراد، فيُحرم بالحج والعُمرة معًا، و هذا أيضًا عندَ الشَّافعية في اختيار المُزَّني وابن المُنذر لِما جاء عن عائشة رضي الله عنها في روايتها قالت: سمعت النَّبي ﷺ يصرِخ بهما صُراخا، لبيك بحَجةٍ وعُمرة. فأخذوا بهذه الرِّواية، رواية القِران، وجعلوا ذلك أفضل. وفي تعبير السَّيدة عائشة عنه بقوله يصرخ إشارةً إلى رفعِ صوته ﷺ يصرخ بهما جميعًا لبيك بحَجةٍ وعُمرة.
فهكذا المُقرر عند الشَّافعية: أنَّ الإفراد أفضل من التَّمتع، وقيلَ التَّمتع أفضل، والمُعتمد أنَّ الإفراد عندهم أفضل مِنَ التَّمتع، وأنَّ كُلاً مِنَ التَّمتع والإفراد أفضل من القِران. وقالَ الإمام أبو حَنِيفَة: القِران أفضل من التَّمتع ومن الإفراد.
- وهكذا قالَ الإمام أحمد: أنَّ التَّمتع أفضل من الإفراد. وكذلكَ هو عند أبي حَنِيفَة بعد القِران التَّمتع ثم الإفراد، في ترتيبِ الأفضلية.
- بعكس المُعتمد عند الشَّافعية: الإفراد ثم التَّمتع ثم القِران.
- وقال الحَنَفِية: القِران ثم التَّمتع ثم الإفراد.
و رووا في ذلك عنه ﷺ فيما جاء من كلام السيدة عائشة في الصَّحيح أنَّه قالَ: "لو استقبَلتُ مِن أَمْري ما استَدبَرتُ؛ ما سُقتُ الهَديَ"، وجعَلتُها عُمرةً فأخذوا أنَّه التَّمتع أفضل، وهذا قول أحمد، وقول عندَ الشَّافعية مرجُوح؛ أنَّ التَّمتع أفضل من الإفراد، وهو قول الإمام أحمدْ بِنْ حنبل عليهِ الرِّضوان أخذًا بقول: إنِّي لو استقبَلتُ مِن أَمْري ما استَدبَرتُ؛ ما سُقتُ الهَديَ، ولا جعَلتُها عُمرةً.
و قال أيضًا الإمام مَالِكْ مثل الشّافعية: إنَّ الإفراد هو الأفضل، إذاً فكلٌ من الإفراد، والتَّمتع، والقِران قالَ بأفضليته بعض المذاهب الأربعة:
- فالقِران قال بأفضليته الإمام أبو حنيفة.
- والتَّمتع قال بأفضليته الإمام أحمدْ بِنْ حَنبَل.
- والإفراد قال بأفضليته الإمام مَالِكْ والإمام الشّافعي على أنَّهُ أفضل مِن غيرهِ.
ورجَّح الشَّافعي رواية سيدنا جابر على رواية القِران والتَّمتع؛ بأنَّ جابرًا كان أقدم صُحبةً وأشد عنايةً بضبط المناسك، وحديثه في مناسك النَّبي ﷺ أوسع الأحاديث في ضبطِ مناسكه ﷺ، و أنَّه ضبط أفعال النَّبي من لدُن خروجه من المدينة إلى أن تحلل، فهو أوعى ما يُروى عن الصَّحابة من الأحاديث في الكتب السَّتة حديث جابر رضي الله تعالى عنهُ، فأخذ به الإمام الشّافعي، ورجَّحَ أنَّ الإفراد أفضل كما قال مَالِكْ رضي الله عنه. وتأوّلوا قوله: "لو استقبَلتُ مِن أَمْري ما استَدبَرتُ" أنَّ ذلكَ تطييبًا لقلوب أصحابه واعتذارًا إليهم.
وجاء عن جابر أن النَّبي ﷺ أحرم إحرامًا مُبهمًا وكان ينتظر الوحي في اختيار أحد الوجوه الثَّلاثة، فنزل الوحي بأنَّ من ساق الهَديَ فليجعله حَجة، ومن لم يَسُق فليجعله عمرة. وكان رسول الله ﷺ وطلحة قد ساقا الهَدي من المدينة المنورة دون غيرهما، فأمرهم بأن يجعلوا إحرامهم عُمرة، فتمتّع عامة الصَّحابة وأكملوا العُمرة، وانتظروا حتى كان في يوم مِنى فأمرهم أن يُحرِموا بالحج ويطلِعوا إلى مِنى، فأحرموا بالحج وطلعوا مِنى فكانوا مُتمتعين، إلا أبو طلحة لمَّا سَاق الهَديَ معه بقيَ على الحَج فقط، مُحرمًا بالحِج، ولم يُحلَّ إلا بعدَ الرجوع مِن عرفة ومِن مُزدلِفة الى مِنى.
وهكذا يقولُ الشّافعية:
- أنَّ الإفراد أفضل لمن يعتمر في تلك السّنة
- وأمَّا من لا يعتمر في تلك السّنة فالتَّمتع أفضل لهُ لِيجمع بين الحج والعُمرة.
وجعلوا من المكروه تأخير العُمرة عن سُنة الحج.
فالإفراد أن يأتيَ بالحج مُفردًا من ميقاته، ثُم بالعُمرة مفردة، فيُحرم بالحج فإذا أكمل الحجَ خرج من حدود الحِّل فأحرم بعُمرة، فهذا هو الإفراد؛ يجمعُ بينهُ وبينَ العُمرة فيُقدّم الحج ويؤخّر العُمرة.
وأمَّا القِران أن يُحرم بالحج والعُمرة معًا، فإذًا ميقات واحد. وكذلك الفعل عند المَالِكْية والحنابلة والشَّافعية واحد؛ يعني: طواف واحد، وسعي واحد، وإذا سعى بعد الوقوف؛ أمَّا إذا ما سعى بعد الوقوف ما يكون إلا عن العُمرة فقط، وهذا مِنَ الأوجه التي فضّلوا بها الإفراد. ولكنَّ الحَنَفِية الذين فضلوا القِران قالوا: يطوف طوافين ولو أخّر السَّعي بعد الوقوف، فيسعى سَعيين: سعي الحج وسعي العُمرة، فلم يكن للإفراد عندهم أفضلية من هذه الحيثية، كله سعين وكله طوافين، سواءً أفرد أو قَرَن، فلهذا عندهم القِران أفضل.
وتندرج العُمرة في الحج عند غيرهم.
- وإذا أحرم بالعُمرة جاز أن يدخل عليها الحَج إذا كان قبل الطَّوف فصار قارنًا
- أمَّا بعد أن يطوف فلا يدخل.
إذًا، فالأصل في القِران أن يَحرمَ بالحج والعُمرة معًا، فتندرج العُمرة تحت الحج، يتحِّد الميقات والفعل عند المَالِكْية والشَّافعية والحَنابِلة. وقالَ الحَنَفِية: لا، بل يطوف طوافًا للحج وطوافًا للعُمرة، ويسعى سعيًا للحجِ وسعيًا للعُمرة وهكذا.. وهكذا يقول الحَنَفِية: إذا دخل الحَاج مكة بدأ بأفعال العُمرة، وإذا انتهى من أفعالِ عُمرته يتوقف تحلّله على فراغه مِن أفعال الحج، يتنظر حتى يجيء الحج؛ يطوف للقدوم ويُقيم مُحرمًا، فإذا جاء وقت الحج يحجُّ كحجِّ الإفراد، قال: ما يُكمل أعمال عُمرته مِن طوافٍ ومِنْ سعيٍ، ويبقى مُنتظرًا إلى أن يأتي وقت الحج.
وجاءَ في الحديثِ الذي استدلَّ بهِ الأئمة الثَّلاثة على أنَّ الفِعل يتّحِد، طواف واحد، وسعي واحد، ما قالت عائشة رضي الله عنها عنه ﷺ: "طوافُكَ بالبيْتِ وسعْيُكَ بينَ الصفا والمروَةِ يكفيكَ لحجِّكَ وعمرَتِكَ"، وهكذا جاء في صحيح مُسلم بلفظٍ "يُجْزِئُ عَنْكِ طَوافُكِ بالصَّفا والْمَرْوَةِ، عن حَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ" يقول للسيدة عائشة لأنَّها كانت قارِنة. ثُم إنَّها رغِبت أن يكونَ لها عمرة مُستقلة غير هذه التي قرنها بالحج، وقالَ لها: "يُجْزِئُ عَنْكِ"، كما في صحيح مسلم يقول للسيدة عائشة: "يُجْزِئُ عَنْكِ طَوافُكِ بالصَّفا والْمَرْوَةِ، عن حَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ"؛ فكأنَّها لمَّا رأت الذين طافوا طواف مُستقل وبعد ذلك طواف واحد، بقي في نَفسِها شيء فأحبت أن يكون لها عُمرة ثانية، فلمَّا رجعوا من مِنى مُتهيئين للسفر قالت: يا رسول الله يرجع النَّاس بحجة وعُمرة وأنا أرجع بحجة؟ أمر أخاها عبد الرَّحمن بن أبي بكر أن يأخذها الى التَّنعيم تعتمر بعُمرة جديدة بعد الحج، وأمر أن تلحقه الى موطن الذي خَيَّم فيه عند خُروجهم مِنْ مِنى، وادي المُحسّر وبالمُحصَّب، فبقي هناك حتى جاءت بعد ان أكملت عُمرتها، أمر أن يأخذها الى التَّنعيم أقرب مناطق الحِل مِنَ الحرم، فأحرمت واعتمرت بعد أن طافت وسعت، فلحقت بالنَّبي ﷺ إلى المُحصَّب، فنادى بالرَّحيل ﷺ، وكان قد دخل وطاف طواف الوداع، صلوات ربي وسلامه عليهِ.
والعجيب الوارد في حجته هي حجة واحدة باتفاق، فيها القول بأنَّه مُفرد، وفيها القول أنَّهُ مُتمتع، وقول بأنَّه قارِن، وهي حجة واحدة وكلٍ أخذ منها استدلال.
قال: "عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ، أَنَّهَا قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ، وَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالْحَجِّ، فَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فَحَلَّ، وَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ، أَوْ جَمَعَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَلَمْ يُحِلُّوا، حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ".
"وعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَفْرَدَ الْحَجَّ" رواهُ مُسلم أيضّا والإمام مَالِكْ، وهو دليل القائلين بأفضليةِ الإفراد المَالِكْية والشَّافعية.
"وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي الأَسْوَدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ..عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَفْرَدَ الْحَجَّ". صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبهِ وسلَّم
"عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَهْلَ الْعِلْمِ يَقُولُونَ: مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ مُفْرَدٍ, ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يُهِلَّ بَعْدَهُ بِعُمْرَةٍ، فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ"؛ أي: لا يُمكنهُ أن يُدخل الحج على العُمرة، وهذا باتفاق جمهور العلماء على جواز إدخال الحج على العُمرة وشدَّ بعضُهم فمنع ذلك فقال: لا يُدخلُ إحرام على إحرام، كما لا تدخل صلاة على صلاة، واختلفوا في إدخال العُمرة على الحج، جوَّزهُ الحَنَفِية وغيرهم ومنعه آخرون.
"مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ مُفْرَدٍ، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يُهِلَّ بَعْدَهُ بِعُمْرَةٍ، فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ"؛ لأنَّ أعمال العُمرة داخلة في الحج، فلا فائدة في إردافها عليهِ، بخلاف عكس أعمال الحج على العُمرة، "قَالَ: وَذَلِكَ الَّذِي أَدْرَكْتُ عَلَيْهِ أَهْلَ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا"؛ وهذا حُجة عند المَالِكْية أطلق أهل العلم أراد بهِ الفُقهاء السَّبعة من أهلِ المدينة، بأنَّه ما يدخل الحج على العُمرة، وجوَّز ذلكَ الإمام أبو حنيفة.
قبِل الله أهل الوفادة على بيته الحرام، وزيارة حبيبه المصطفى خير الأنام، وضاعف البركة لهم وللأمة أجمعين في استقبال رمضان، وفي ليلة النَّظرة فيه، وفي ليلة القدر فيه، وفي جميع أيامه ولياليه، وجعلنا وإياكم وأحبابنا من خواصِّ أهليه المُتلقين لعطائه وجوده، وإحسانه، وكرمه، وواسع أياديه، إنَّه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النَّبي محمد ﷺ.
02 رَمضان 1442