(364)
(535)
(604)
شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الحج، باب العملُ في الإهلال.
فجر السبت 28 شعبان 1442هـ.
باب الْعَمَلِ فِي الإِهْلاَلِ
935 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: "لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لاَ شَرِيكَ لَكَ". قَالَ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَزِيدُ فِيهَا: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ بِيَدَيْكَ لَبَّيْكَ، وَالرَّغْبَاءُ إِلَيْكَ وَالْعَمَلُ.
936 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يُصَلِّي فِي مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، فَإِذَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ أَهَلَّ.
937 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ يَقُولُ: بَيْدَاؤُكُمْ هَذِهِ الَّتِي تَكْذِبُونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِيهَا، مَا أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ الْمَسْجِدِ. يَعْنِي مَسْجِدَ ذِي الْحُلَيْفَةِ.
938 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ جُرَيْجٍ، أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، رَأَيْتُكَ تَصْنَعُ أَرْبَعاً، لَمْ أَرَ أَحَداً مِنْ أَصْحَابِكَ يَصْنَعُهَا. قَالَ: وَمَا هُنَّ يَا ابْنَ جُرَيْجٍ؟ قَالَ: رَأَيْتُكَ لاَ تَمَسُّ مِنَ الأَرْكَانِ إِلاَّ الْيَمَانِيَّيْنِ، وَرَأَيْتُكَ تَلْبَسُ النِّعَالَ السِّبْتِيَّةَ، وَرَأَيْتُكَ تَصْبُغُ بِالصُّفْرَةِ، وَرَأَيْتُكَ إِذَا كُنْتَ بِمَكَّةَ، أَهَلَّ النَّاسُ إِذَا رَأَوُا الْهِلاَلَ، وَلَمْ تُهْلِلْ أَنْتَ حَتَّى يَكُونَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: أَمَّا الأَرْكَانُ فَإِنِّي لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَمَسُّ إِلاَّ الْيَمَانِيَّيْنِ، وَأَمَّا النِّعَالُ السِّبْتِيَّةُ فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَلْبَسُ النِّعَالَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَعَرٌ وَيَتَوَضَّأُ فِيهَا، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَلْبَسَهَا، وَأَمَّا الصُّفْرَةُ فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَصْبُغُ بِهَا، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَصْبُغَ بِهَا، وَأَمَّا الإِهْلاَلُ فَإِنِّي لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يُهِلُّ حَتَّى تَنْبَعِثَ بِهِ رَاحِلَتُهُ.
939 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يُصَلِّي فِي مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ، ثُمَّ يَخْرُجُ فَيَرْكَبُ، فَإِذَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ أَحْرَمَ.
940 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ أَهَلَّ مِنْ عِنْدِ مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ، حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ، وَأَنَّ أَبَانَ بْنَ عُثْمَانَ أَشَارَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ.
الحَمْدُ للهِ مُكرمنا بِبيانِ الشريعة، وأحكامِها، ومُبيِّنها على لسانِ عبدهِ المُصطفى مُحمد صَلَّى اللهُ وسَلّم، وبارَك وكرّم عليهِ، وعلى آلهِ، وأصحابهِ، ومن ساروا على منهاجِهِ، واقتَدَوا به، في شُؤونِهم، وأحوالِهم، وأقوالِهم، وأفعالهم، وعلى آبائه، وإخوانه من الأنبياءِ والمُرسلين، مَحطِ جودِ اللهِ الأعلى، وعلى آلِهم وصَحبهم وتابعيهم، ومَن لهُم والى، وعلى جميعِ الملائكة المُقربين، وجميعِ عبادِ الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنّهُ أكرم الأكرمين وأرحم الرّاحمين.
ويُواصل سيدنا الإمام مالك -عليهِ رحمة اللهِ تباركَ وتعالى- ذِكر الأحاديث المتعلقة بالحجِ، ويَذكر باب التلبية والعمل في الإهلال، وفي كثيرِ من النّسخ: "باب الْعَمَلِ فِي الإِهْلاَلِ".
وهذهِ التلبية، وقد ذكرَ لنا في الحديثِ الألفاظ الّتي كانَ ﷺ يُلبّي بِها، هذهِ التلبية سُنَّة مستحبة متأكدة للمُحرمِ بالحَج والعمرة، في مُختلفِ أحوالهِ، إلا عند الطواف بالبيتِ العتيق، فيقطع التلبية ويشتغل بالدّعاء والأذكار.
وهكذا بالنسبةِ للحاجِّ إلى أن يَبدأ بِرمي جمرةَ العقبة، فينتقل من التلبية إلى التّكبير، وهذهِ التلبية المسنونة المُستحبة عندَ أكثر العلماء.
وقالَ أبو حنيفة: التلبية بالحجِّ كالتكبيرة في الإحرامِ بالصَّلاة، وإلا أنه في رواية عندهم يكفي أيّ ذكر يقوم مقام التلبية، فينعقد الإحرام بالحجِّ والعمرة، بنية الدخول بالحجِّ أو نية الدخول بالعمرةِ، فإذا نوى ذلك صارَ مُحرِمًا بما نواهُ.
إذًا:
وعلمتَ ماقالَ الحنفية مِن وُجوبها، أوفرضها عند بداية الإحرام؛ فإذا أحرَمَ بحجِ وعمرة ابتدأ بالتلبية، وهذهِ فرض عندهم، ثُمَّ صارت مُستحبة بعد ذلك.
إذًا، فمذهب الأئِمة الثَّلاثة: أنه إذا نوى انعقد إحرامهُ بحجٍ أو بعمرة بمجرد النِّية، وإن لم يُلبّي، يقول هكذا مالك والشَّافعي وأحمد عليهم رحمةُ اللهِ تعالى. وجاءَ عن بعض الشافعية كأبي علي بن خيران، وابن أبي هريرة، وأبي عبد الله الزبيري: أن التلبية شرط لانعقاد الإحرام؛ لأنه المعمول بهِ المشهور بين الناس على مدى القرون، وهكذا مذهب الحنفية -كما سمعت-، وكذلك إذا ارتبط عندهم بالنية سَوْق الهدي وتقليده والتوجيه؛ أن ذلك مما يقوم مقام التلبية في صحةِ انعقاد النية بالحجِّ أو العمرة.
إذًا، فالتلبية من أفضل أذكار الحاج، ويُسنّ رفع الصوت بها للرجل، وتتأكد عند اختلاف المنازل والأحوال، وينبغي كُلما كرّر التلبية ثلاث مرات أو أكثر؛ أن يُصلي على النبي ﷺ، ويسأل الله الجنة، ويستعيذ بهِ من النار.
يقول -عليه رحمة الله تبارك وتعالى-: "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ" من حينِ أحرم بالحج في حجة الوداع، : "لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ"؛ أنا مقيمٌ على إجابتك؛ فالتلبية الإجابة، وفيه إشارة إلى تلبية النداء؛ حين أمرَ الله نبيِّه وخليله إبراهيم أن يُنادي: أيُّها الناس إن الله بَنى بيتًا فحجّوا؛ فلبَّى ما لبَّى من الأرواح. ويُذكر أنَّ سيدنا إبراهيم قالَ: يا رب من يسمعني؟ قال: عليك النداء، وعلينا البلاغ، فأَوصل الله ندائهِ إلى من في الأصلاب ممن يأتي من المُكلفين إلى يومِ القيامة، فمنهم من لبَّى فحج، ومنهم من لم يُلبي؛ ففي التلبية إشارة إلى الجواب على ذلك النداء.
(إِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّن فِي النَّاسِ) نادي.. (بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا) [الحج:26-27] فمن أحرم، قال: لبيك ناديتني على لسانِ الخليل إبراهيم، ها أنا ملبٍّ، جئت امتثالًا لأمرك، مؤديًا لِما شرّعت لي، وفرضت لي، لبّيك اللهم لبّيك، وأنا مقيم على هذه الإجابة لكل ما دعوتني، ولكل ما ناديتني في أحوالي كلها.
"لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ"، فأنت المنفرد بالأُلوهية، والربوبية، والملك على الحقيقة، "لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ" أنك تستحق الثناء، والحمد والشكر، "إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لاَ شَرِيكَ لَكَ"؛ أي: وإن الملك لك وحدك، (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الملك:1]؛ فإن كل ما يكون من صور الملك لغير الله تعالى، إنّما هي مجازيات، وصور، وظواهر محدودات معَينات منتهيات؛ لكن الملك بحقيقته وحقه لله الواحد جَلَّ جلاله وتعالى في علاه، (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ) [آل عمران:26] رزقنا الاعتماد عليه، والاستناد إليه، والثقة به، إنّه أكرم الأكرمين.
"إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لاَ شَرِيكَ لَكَ" يشركك في حقيقة الملك، ولا في ألوهية، ولا في ربوبية، فلا إله إلا أنت. وهذا شعار عظيم يجمع الحجاج، ويشير إلى قويم المنهاج والسلامة من كل اعوجاج، وصحة التوحيد إلى الرب جلَّ جلاله وتعالى في علاه، والتذلل بين يديه، وتذكير النفس بوجوب طاعتها للإله في كل ظاهر وباطن.
"قَالَ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَزِيدُ فِيهَا"؛ أي: في التلبية رضي الله تعالى عنه، فيما اختاره، فيما يذكره عن رسول الله ﷺ، والأصح أنّه إنما يزيد ذلك من عنده لما عرف من أن السُّنة لم تحجّر على الناس التقيّد بألفاظ في مثل التلبية وأنواع الأدعية، وأتى بما يناسبها من عنده فيزيد. وقد نصّ في رواية أنّه لمّا ذكر تلبية رسول الله ﷺ قال: لا يزيد على ذلك؛ ثم ذكر الزيادة من عنده. بل وعدد من الصحابة كان يلبون بتلبيات بألفاظ متعددة، وفي كثير من مواطن الحج فيهم المُلبّي وفيهم المُكبر، لاينكر أحد على الآخر.
وفي زيادة بعض الصحابة لبعض ألفاظ التلبية؛ كذلك تحقيق لما أشرنا إليه من أنّ الأصل فيما شرع ﷺ من أنواع الذكر والدعاء:
بمعنى أن ما جاء من العمومات في أنواع الأذكار، والأدعية، والعبادات، والعادات فهي على عمومه، وما جاء فيه تخصيص فهو على تخصيصه. وهكذا حتى وسط الصلاة سمع ﷺ أنواعًا من الأدعية والأذكار من عدد من الصحابة لم يعلّمهم إياها ولم يذكرها لهم، فلم يُنكر رسول الله على أحد منهم؛ بل شجّعهم وذكر ثوابهم، فهذا أصل في صحة مفهوم البدعة والسُّنّة؛ وأنه لا بدعة إلا ماناقض النصوص، وخالف المسلك والبلاغ، ومالم يخرج عن ذلك.. كما قالَ الإمام الشافعي البدعة بدعتان محمودة ومذمومة :
كما جاءَ في صحيح البخاري أنه ﷺ سمع من يقول: ربنا لك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه ملء السموات والأرض…، عندما رفع رأسه من الركوع، ولم يكن قد علمهم ذلك ﷺ، وسألهم بعد الصلاة من القائل؟ قال: أنا يا رسول الله، قال: قد رأيت بضعة وثلاثين ملكًا يبتدِرونها أيّهم يكتبها أول؛ تبادرها الملائكة لكتابتها لعرضها على الله تبارك وتعالى. ولم يقل له تأتي بذكر من عندك.. أنت مبتدع… بل قال له: الملائكة تبادروا إلى ما قلت ليكتبوه؛ فتبيّن أصل التشريع.
وكذلك كما جاءَ في صحيح مسلم وغيره، سماعه للأعرابي لمّا كبَّر خلف النبي ﷺ، قالَ "الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا.." لم يكن قد علّمهم ذلك ﷺ، وبعد الصلاة قال ﷺ من المتكلم بهذه الكلمات؟ قال: أنا يارسول الله، وما أردت إلا خير، قالَ: لقد عجبت لها، لقد فتحت لها أبواب السماء. قال ابن عمر: فما تركتهن منذ سمعتُ رسول الله ﷺ يقول ذلك .
كما صحَّ في الحديث أنه مرَّ ﷺ وإذا برجلٍ ساجد في المسجد يدعو الله تعالى، ويثني عليه بثناء حسن، يقول: اللهم يا من لا تخالطه الظنون، ولا يصفه الواصفون… وذكر علم الله وإحاطته، وتسبيح السموات والأرض والجبال، سَمعه النبي يدعو بهذهِ الدعوات فأعجبه ما دعا به، قال لبعض أصحابه إذا انتهى هذا من صلاته فأدخله عليّ، فلمّا انتهى الرجل من صلاتهِ، قالَ له الصحابي هذا رسول الله يدعوك، فذهب إلى عند رسول الله ﷺ ودخل عليه وكان عنده شيئًا من ماوصل إليهِ من الصدقة، من ذهب ونحوه، فدفعه إليه وقال: أتدري لِمَ أعطيتك هذا؟ قال: لعله لرحم بين أهلنا، قالَ: إن للرحم حقًا، ولكن أعطيتك هذا لحسن ثنائك على الله! سَمعتك في الصلاة تدعو بهذا الدعاء فأعطيتك هذا لحسن ثنائك على الله
وهنا جاء أن ابن عمر -وهو شديد المتابعة لرسول الله ﷺ والاقتداء به حتى في العادات- يزيد فيها التلبية، " لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ" وسعديك:
يعني: أمدّني بسعدٍ بعد سعدٍ، وإسعادٍ بعد إسعادٍ، ومساعدة بعد مساعدة. " وَالْخَيْرُ بِيَدَيْكَ " لا يهبه غيرك، ولا يمنعه غيرك، "لَبَّيْكَ، وَالرَّغْبَاءُ إِلَيْكَ"؛ أي: رغبُنا، وتضرُعنا، وابتِهالنا، وطلبنا منك، مسألتنا كلها منك، نسألك إياها، "وَالرَّغْبَاءُ إِلَيْكَ وَالْعَمَلُ"؛ أي: العمل الذي نعمله من أنواع العبادات، والطاعات، إنّما نقصدُك بها وهي لك وحدك. "وَالرَّغْبَاءُ إِلَيْكَ وَالْعَمَلُ " وكان هذا من دعاء وتلبية عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما.
وذكر في الحديث الثاني: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يُصَلِّي فِي مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، فَإِذَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ أَهَلَّ"، أي: من أين يبدأ النية في الحج؟
وجُمِعَ بين ذلك أن الذين كانوا حواليه وقت ما صَلَّى سمعوه أنّه قد أحرم، وأنّه لم يسمعه الآخرون، سمعوه عندما بعثت بهِ راحلتَهُ؛ فظنوا أنّها أول إهلالة له، ثم لم يسمعه بعضهم، ولمّا تقدم ومشى في الصحراء كان حواليِهِ من لم يسمعه من قبل، سمعه يُلبّي فظنَّ أنه إبتدأ تلبِيتهِ الآن.
ومن المعلوم أن حِجّته بعد الهجرة، إنّما هي الحجة الواحدة هذه حِجّة الوداع، صَلّى الله عليهِ وعلى آلهِ وصحبه وسلم. وقد كان أيام كان بمكة يَحج من قبل البعثة وبعدها، فلمّا هاجر لم يَحج إلا حجة الوداع ﷺ. وكان من أيامهم في الجاهلية وقبل الوحي، يخرج مع الناس إلى عرفة، وكان من اختيار قريش لأنفسها بأهوائِها أن يقولوا نحن الحُمسُ سكان الحرم لا نخرج عن حدود الحرم؛ إنّما هذا لغيرنا من الناس الذين يأتون من الآفاق يخرجون إلى عرفة وهم ينتظرون أمامهم في مزدلفة ولا يُجاوزونها، وإنّها من حدود الحرم، وتنقطع حدود الحرم ما بين مزدلفة وعرفة، فكانوا لا يخرجون. وكان ﷺ من قبل البعثة والنبوة، إذا ذهب إلى الحج خرج إلى عرفة، حتى تعجب بعضهم كان ضلّت له ناقة، وظلّ يتبعها ودخل إلى عرفة فوجد النبي ﷺ قبل الوحي، يقول: عجيب هذا من الحُمسِ إيش يجيء به إلى هنا ويخرجه إلى هنا! وهو على قدم الخليل إبراهيم والأنبياء من قبله ﷺ، من قبل نزول الوحي عليه صَلَّى الله عليهِ وسلم وبارك وعلى آله، فقد أواه الله وربّاه وعلّمه من ولادته، (أَلَمۡ یَجِدۡكَ یَتِیمࣰا فَـَٔاوَىٰ * وَوَجَدَكَ ضَاۤلࣰّا فَهَدَىٰ * وَوَجَدَكَ عَاۤىِٕلࣰا فَأَغۡنَىٰ) [الضحى:6-8] ﷺ.
وإذا كان عيسى ابن مريم عليه السلام يذكر النبوة والصلاة وهو في المهد قبل أن يكبر ويوحى إليه، فكيف بحال من ينطوي عيسى تحت رايته، ويدخل تحت لوائه، وينصر شريعته في الدنيا؟ وهو محمد ﷺ، فهو الأولَى بمعرفة الحق والهدى والكتاب في مهده، من جميع الأنبياء والمرسلين، صَلوات الله وسلامه عليهم.
سيدنا عيسى وهو في المهد هذا أيام ولادته قال: (قَالَ إِنِّی عَبۡدُ ٱللَّهِ ءَاتَىٰنِیَ ٱلۡكِتَـٰبَ وَجَعَلَنِی نَبِیࣰّا *وَجَعَلَنِی مُبَارَكًا أَیۡنَ مَا كُنتُ وَأَوۡصَـٰنِی بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱلزَّكَوٰةِ) وهو طفل صغير ماهو وقت صلاته (وَأَوۡصَـٰنِی بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱلزَّكَوٰةِ مَا دُمۡتُ حَیࣰّا * وَبَرَّۢا بِوَ ٰلِدَتِی وَلَمۡ یَجۡعَلۡنِی جَبَّارࣰا شَقِیࣰّا * وَٱلسَّلَـٰمُ عَلَیَّ یَوۡمَ وُلِدتُّ وَیَوۡمَ أَمُوتُ وَیَوۡمَ أُبۡعَثُ حَیࣰّا) [مريم:30-33]، صلوات الله على نبينا وعلى نبيّ الله عيسى، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وآلِهم وصحبهم وتابعيهم، وعلينا معهم وفيهم.
ويقول: "عنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ"؛ يعني: عبد الله بن عمر "يَقُولُ: بَيْدَاؤُكُمْ"؛ أي: الصحراء، هذه أنه وراء ذي الحليفة "الَّتِي تَكْذِبُونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِيهَا"؛ يعني: بسببها؛ تقولون أنّه أحرم هنا، وهو أحرم من قبل "مَا أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ الْمَسْجِدِ. يَعْنِي مَسْجِدَ ذِي الْحُلَيْفَةِ"، وهذا الذي سمعه هناك أثبت ذلك؛ والمثبت مُقدّم على النافي، فأفضل المواضع أن يحرم من الميقات، يحرم من المكان الذي يصلي فيه للإحرام.
وذكر: "عَنْ عُبَيْدِ بْنِ جُرَيْجٍ، أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، رَأَيْتُكَ تَصْنَعُ أَرْبَعاً، لَمْ أَرَ أَحَداً مِنْ أَصْحَابِكَ يَصْنَعُهَا" من الخصال ما رأيتها من أقرانك، "قَالَ: وَمَا هُنَّ يَا ابْنَ جُرَيْجٍ ؟ قَالَ: رَأَيْتُكَ لاَ تَمَسُّ مِنَ الأَرْكَانِ " الأربعة من البيت "إِلاَّ الْيَمَانِيَّيْنِ" البيت له أربع أركان، وأنت تقتصر على الاثنين الذي عنده الحجر الأسود، والذي بجانبه الآخر. والرُكنان اللذان يليان الحجر ما تلمسهما؟ "وَرَأَيْتُكَ تَلْبَسُ النِّعَالَ السِّبْتِيَّةَ"؛ مأخوذ من السبت بمعنى الحلق؛ المحلوقة التي سُبِتت بالدباغ لانت ما بقي فيها أثر الشعر، وهي من جلود البقر وغيرها، تُدبغ يقلع الشعر عنها، والسبت يقال للجلد المدبوغ. "وَرَأَيْتُكَ تَصْبُغُ بِالصُّفْرَةِ"؛ أي: تصبغ شعرك الذي ابيَضَّ، الشعر الذي شاب منك، تصبغه بالصفرة؛ اللون الأصفر، من مثل زعفران، أو نَبت معين يقال له: صفرة، تُصبغ به الشعر والثياب، يقال له اصفرة "تَصْبُغُ بِالصُّفْرَةِ". "وَرَأَيْتُكَ إِذَا كُنْتَ بِمَكَّةَ، أَهَلَّ النَّاسُ إِذَا رَأَوُا الْهِلاَلَ"؛ يعني: من أول شهر ذي الحجة "وَلَمْ تُهْلِلْ أَنْتَ حَتَّى يَكُونَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ." وهو اليوم الثامن من شهر ذي الحجة. يوم التروية الناس يروون فيه الماء من زمزم؛ لأنه لم يكن بعرفة ماء، وكانوا يحملونه من مكة.
وسُمي يوم التروية لذلك يَتروون فيه الماء. ويقال أنه اليوم الذي رأى فيه آدم حواء بعد خروجهما من الجنة إلى الأرض، ويقال أن جبريل عليه السلام أرى فيه سيدنا إبراهيم أول المناسك، فسمي تروية لذلك، والمشهور أنه يوم ترويّهم الماء فَتهل أنت يعني يوم التروية.
فهكذا يقول الإمام الشافعي: من كان موجود بمكة وهو حلال وأراد أن يحج؛ المستحب من كان بمكة حلال، أو مقيم بمكة فأراد أن يُحرم بالحج، أن يُحرم يوم التروية اليوم الثامن؛ لأنه اليوم الذي مشى فيه ﷺ من مكة إلى مِنى، وصلَّى بها الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والفجر؛ ثم مضى من مِنى إلى عرفة ﷺ .
يقول: "فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: أَمَّا الأَرْكَانُ" للبيت العتيق، "فَإِنِّي لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَمَسُّ إِلاَّ الْيَمَانِيَّيْنِ" وذلك لأنهما على قواعد إبراهيم، فإن قريشًا قَصَّرت في الجانب الشامي من الكعبة ستة أذرع، كانت في الكعبة فَقصروها لما قصرت بهم النفقة، فتركوها فما بقي على قاعدة سيدنا إبراهيم؛ فيمر عليه ولا يمسه، وبقي الركنان المقابلان على نفس القواعد على عهد الخليل إبراهيم، فكان يَمسُّ الركن اليماني ويُقبل الحجر الأسود صلَّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله. حتى جاء عن بعض أهل العلم القابسي يقول: لو أدخل الحجر في البيت حتى عاد الشاميان على قواعد إبراهيم استُلما. وسيدنا عمر بن الزبير بناها على هذه القواعد ثم هدُّوا الكعبة بعد ذلك وردّوها إلى ما بنتها قريش.
"وَأَمَّا النِّعَالُ السِّبْتِيَّةُ فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَلْبَسُ النِّعَالَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَعَرٌ"؛ يعني: هذه المدبوغة "وَيَتَوَضَّأُ فِيهَا"؛ يعني: يغسل الأرجل حال كونها فيها، "فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَلْبَسَهَا" أي: مشابهة له ﷺ.
"وَأَمَّا الصُّفْرَةُ فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَصْبُغُ بِهَا ،فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَصْبُغَ بِهَا،" واختلفوا في الصبغة هل صبغ بها ﷺ الشعر ولم يكن بدا عليه من الشيب في رأسه، وفي عارضيه، وفي عنفقته، وفي لحيته، إلا مجموع نحو سبعة عشرة شعرة في الكل؟ التي بدت منها عند عُذاريه مقابل الأذن، منها شعرات في لحيته، ومنها شعرات في رأسه، ومنها في عنفقته، بدت عليها البياض نحو سبعة عشرة شعرة، لم يزد على ذلك.
إنما كان من كثرة ما يستعمل الطيب وغيره تشريعًا لأمته، تحمرّ وتصفرّ هذه الشعرات البيض؛ فالناظر إليها يرى أنه صبغ؛ وهو لم يصبغ؛ لأنه ما كان هناك كثير من الشعر يحتاج إلى صباغة منه ﷺ، فرَجَّح المحققون: أنه إنما كان ذلك لكثرة استعماله ﷺ أنواعًا من الطيب وقد يكون فيه بعض الروَس والزعفران فتظهر الصفرة على الشعر الشريف فيُظن أنه صبغ ﷺ. وإنما الأمر ورد في الحديث في السنة بأن من شاب يُسنّ له أن يصبغ شيبه.
وقال ﷺ: "غيروا هذا بصفرة أو حمرة، واجتنبوا السواد"، قاله في عام فتح مكة لمّا أقبل عليه أبو سيدنا أبو بكر الصديق، عثمان أبو قحافة وشعره شديد البياض، قال: غيروا لون هذا بالصفرة أو الحُمرة، واجتنبوا السواد؛ فصار صبغ الشيب بالأصفر أو الأحمر من المسنون المندوب.
وجاء عن أبي رِمثة في سنن أبي داود يقول: انطلقت مع أبي نحو النبي ﷺ فإذا هو في وفرة، وفيها ردغٌ من حناء. وجاء أيضًا عن أبي داود عن أبي رمثة: كان قد لطخ لحيته بالحَنّاء؛ فإما أن يكون فعلًا استعمل الحِنّاء؛ أو أنه لمّا رأى أثر الصفرة من الطيب عليه ظنَّ أنه من الحناء، فهو مارأى حناء لكن رأى اللون، فقال إنه كان عليه أثر الحناء.
"وَأَمَّا الإِهْلاَلُ" يعني: الإحرام بالحج، "فَإِنِّي لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يُهِلُّ حَتَّى تَنْبَعِثَ بِهِ رَاحِلَتُهُ" ﷺ، وأمّا كونه بمكة فإذا كان بمكة مقيمًا أو كان حلالًا ثم أراد أن يحج، فالأفضل أن يحرم يوم الثامن؛ لأنه اليوم الذي انطلق فيه ﷺ، واليوم الذي قال للذين لم يسوقوا الهدي، أن يعتمروا ويُحلّوا، أمرهم أن يحرموا في اليوم الثامن من ذي الحجة فهو الأفضل إذًا.
وذكر: "أنّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يُصَلِّي فِي مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ، ثُمَّ يَخْرُجُ فَيَرْكَبُ، فَإِذَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ أَحْرَمَ." وهو قول عند الشافعية: أنه يحرم عندما تنبعث به الراحلة.
و "عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ أَهَلَّ مِنْ عِنْدِ مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ، حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ، وَأَنَّ أَبَانَ بْنَ عُثْمَانَ أَشَارَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ." أبان ولد سيدنا عثمان بن عفان، أشار إليه أن السُنّة أن تُحرم من حيث صلَّيت في الميقات تُحرم بذلك، والله أعلم.
وأفرد بابًا لرفع الصوت بالتلبية، وهو سُنّةٌ للرجال حتى جاء وصحَّ في الحديث أن جبريل قال له: مُر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية، فلبّوا معه في حجة الوداع، فكانوا يرفعون أصواتهم، قال: حتى بَحَّت حلوقنا من كثرة ما يرفعون أصواتهم بالتلبية، رضي الله تبارك وتعالى عنهم.
رزقنا الله الاستقامة، وأتحفنا بالكرامة، ودفع الآفات عنّا، ورَعانا بعين عنايته حيث ما كنّا، وأين ما كنّا، وأصلح شؤوننا بما أصلح به شؤون الصالحين بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي ﷺ.
01 رَمضان 1442