شرح الموطأ - 18 - كتاب الطهارة: تتمة باب جامع الوضوء

شرح الموطأ - 18 - كتاب الطهارة، باب جامع الوضوء، من حديث: (إذا شَرِبَ الكلبُ في إناءِ أحَدِكُم..)
للاستماع إلى الدرس

شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الطهارة، تتمة باب جامع الوضوء.

فجر الأحد 21 ذي القعدة 1441هـ.

تتمة باب جَامِعِ الْوُضُوءِ

73 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "إِذَا شَرِبَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ، فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ".

74 -وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا وَاعْمَلُوا، وَخَيْرُ أَعْمَالِكُمْ الصَّلاَةُ، وَلاَ يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إِلاَّ مُؤْمِنٌ".

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مكرمُنا بالدِّين القويم،  والخير العظيم،  ‎وصلَّى الله وسلَّم وبارك وكرِّم على إمامِ أهل الصِّراط المستقيم، سيِّدنا مُحمّد وعلى آله وصحبه، ومنْ سارَ في دربهِ الى يومِ الوقوفِ بين يديًّ العليِّ العظيم، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، أكرمِ الخلقِ على الله الكريم،  وعلى آلهم وأصحابهم وتابعيهم والملائكة المقربين،  وعلى جميع عبادِ الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم إنَّه أكرمُ الأكرمين وأرحمُ الراحمين. 

‎ ويذكر الإمام مالك -عليه رضوان الله ‎تبارك وتعالى- الحديثَ الَّذي فيه الأمر بالغسلِ وغسلِ الإناءِ من ولوغ الكلب فيه. وأورده برواية: "إِذَا شَرِبَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ"، وفي الرواية المشهورة: "إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ، فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ" وجاء في روايةٍ: "إحداهنّ بتراب" وجاء في روايةٍ "اُولاهنَّ بترابٍ"  وجاء في روايةٍ "اُخراهنَّ بتراب"،  فبذلك جاء نظر العلماء في النصوص إلى الحكم على الكلب،  أهو نجسٌ أم طاهرٌ؟ وهل الأمر بغسلِ الإناءِ من ولوغه سبعًا للنجاسة أو للتعبّد؟

‎ وقال الشافعية وجمهور أهلِ العلمِ: أَنَّ الكلب نجسٌ وأنه إذا أُمرَ بغسل الإناء مِنْ وُلوغه فيه، مع أنَّه من أطيب الحيوانات نكهةً بالنسبة للفم؛ لأنه دائم اللهث (إِن تَحۡمِلۡ عَلَیۡهِ یَلۡهَثۡ أَوۡ تَتۡرُكۡهُ یَلۡهَثۚ) [الأعراف:176]؛ فلا تتعفّن رائحةُ فمه، ومع ذلك أُمر بغسل الإناء سبعًا من ولوغه، فكانت بقية أجزائه من باب أولى. 

  • ‎قال جمهور أهلِ العلم: أنَّ الأمرَ بغسل الإناء من ولوغ الكلبِ لنجاسةِ الكلب، وأنَّ الإناء يتنجس ولا يطهرْ الإّ بعد غسله سبعاً، عند الشافعية والحنفية كما صحَّ في الحديث. 
  • وجعله الحنفية أنَّ العدد لا مفهوم له، وإنَّه بثلاث مراتٍ تحصل الطهارة.
  • وجاءت الروايات عن الإمام مالك عليه رضوان الله تبارك وتعالى: في أنَّه يجبُ الغسل أو يُندب؛ وجاء أنَّ الغسلَ للتعبّدِ، وجعل الكلبَ كبقية الحيوانات طاهر.

وجاء أيضاً في السِّباع الأخرى غير الكلبِ، إذا ولغت في الإناء ما الحكم فيها؟ 

فقال الشافعية: إنَّ الحكم جاء بخصوص الكلب، أمَّا بقيةُ الحيوانات فسؤرها طاهر. كما تقدم معنا في الهرَّة، وكذلك بقية السِّباع، الإَّ أن يُرى النَّجاسة على فمه فيلغْ في ماءٍ قليلٍ فينجس، وما عدا ذلك فهو كغيره مِنْ الحيوانات الطَّاهرة. ويقول الشافعية: أنَّ جميع الحيوانات في حياتها طاهرة، ما عدا الكلب والخنزير أو فرع أحدهما؛ ما تفرّع منهما. كما أنَّ جميع الحيوانات إذا ماتت صارت نجسة، إلا ما ذُكِّيَّ منها من الذي يُباح أكله، والإَّ ميتةَ السمك والجراد والادمي؛ فطاهرات. 

  • ‎ فجمهور الفقهاء كما علمنا أنَّ ولوغ‎ الكلب في الماءِ يُنَجّسه. 
  • والمالكية وبعض من الحنفية يقولون: أن َّولوغ الكلب في الإناء لا يُنجّسه، وإنَّما غسلُ الإناء من أجل التعبّد، ومن أجل التنفيرِ من اتخاذ الكلاب.

حتى جاء أيضًا عندهم هل كلُ كلبٍ يُغسَل منه الإناء سبعًا إذا ولغ فيه؟ أم الذي نُهيَ عن اتخاذه؟ فيخرج كلبُ الصيد وكلبُ الحراسة. والمعتمد أيضًا عند المالكية: أنَّه كل كلب لورود الحديث. وقيل أنَّه الكلب المنهي عن اتخاذه، فيخرج كلب الصيد والحراسة. فلا يجب غسل الإناء إذا ولغ فيه كلب الصيد أو الحراسة. إذاً، فتفرّعت أقوالهم فيما يتعلّقُ بهذا الكلب 

  • وجعلَ الحنفية وَمِثلُهم الحنابِلة أنَّ كلاً من السِّباع -والكلبُ مثال له- كلٌ من السِّباع المفترسةِ إذا ولغت في إناء وجب غسلَهُ؛ 
    • عند الحنفية ثلاثًا 
    • وعند الحنابلة سبعًا

فشارك الحنابلةُ في العدد الشَّافعية في أنه لا بُدَّ من سبع غسلات بالنسبة للكلب. أمَّا بقيةُ السِّباع فعند الحنابلة كذلك يجب أن تُغسل سبعًا من ولوغها. 

  • وأمَّا عند الشافعية: فلا يتعلق ذلك الحُكم الإ بما جاء فيه النصُ، وهو الكلب وحده. و إنَّما قِيس عليه عندهم الخنزير، للنَّص على نجاسته في ‎القرآن، (..أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ..) [الأنعام: 145] ولكونه لا خير فيه، وللأمر بقتله؛ فلذلك جعلوا حُكمَ الكلب والخنزير واحد، وأنَّهما نجسان من بقية الحيوانات ما دامت حية. فكلُّها طاهرةٌ ما دامت في حال الحياة إلا الكلب والخنزير.
  •  ولم يفرّق المالكية بين الكلب وغيره من حيث الحُكمُ في الطهارة. 

"فإذْا ولغَ الكَلبُ في إناءِ أحْدِكُم فَليَغْسِلهُ سَبْعًا". ثمَّ من المعلوم كما يأتي في باب النجاسةِ، أنَّه لا بُد من خلط واحدةٍ من الغسلات بالتراب؛ وقد جعل الله فيه خاصيةً تُذيب ما يتعلّق  بالميكروبات التي تنزل من فم الكلب، أو بقية أجزاء جسده، فيُميتُها التراب. هذا من الحِكمِ التي ظهرت في عالم الحسِّ من أمر سيِّد الأحباب والمُنزل عليه الكتاب ﷺ.

‎ فعدَّ ذلك الشَّافعية النجاسة المغلَّظة؛ نجاسة الكلب والخنزير، أو فرع أحدهما دمه أو عَرقه، أو لحمه، وكل ما كان من بللٍ فيه.  وكذلك روثَه وبوله،  يُغسل منه سبع مراتٍ إحداهنَّ بالتراب. وفي تعدّد الروايات ما بين اُولاهن واُخراهن وإحداهن؛ بيان الجواز أن يكون التراب في أي غسلة، وأنَّه يجوز ولو في الأخيرة، ولكنَّ الأفضلُ أن يُقدّمها ويَجعلها في الأولى. وخيرُ طريقةٍ للغسل بالتراب: أن يضع في الماء القليل ترابًا يخلطه بهِ ثمَّ يصبَّه على محل النجاسةِ.

 

فأمَّا إذا وضع الترابَ على محل النجاسة الكلبية هذه في الإناء وإلا أصاب إنسانًا في بدنه أو ثوبه، فإذا وضع التراب على ذلك المحل، ثمَّ صبَّ الماء عليه فإن زال التراب من دون أن يَختلط بالماء على محل النجاسةِ لم يُحسب؛ فلا بُدَّ من أن يسيل الماء مختلطاً بالتراب على محل النجاسةِ حتى يَطهُر. وإلّا يكون لم يُترِّب ولم يجعل إحداهنّ بتراب. فلذا إذًا، أصابت النجاسةُ الكلبية بدنًا أو ثوبًا أو إناءً، ينبغي أن تُزال عينها إن كان لها ‎عين، ثمَّ تُغسل سبعاً؛ يُخلطُ الغسلةُ الأولى بشيءٍ من الترابِ و لو قَلََّ.

 كما يقول الشافعية: أنَّه إذا غسَّله بماء المطر، فإنه لا يحتاجُ إلى التراب، لأنَّ في ماء المطر أجزاء من التراب يحملها، فيكفي أن يغسلها بذلك الماء. وعلى كلٍ ففي الحديث: "إحداهن بتراب" أو "اُولاهن" أو "أُخراهن بالتراب" فهكذا حتى قالوا: أنَّه إذا انتقلَ الماءُ من محل موضعِ الغسل للنجاسة الكلبية الى موضعٍ آخر في بدن الإنسان، أو في ثوبه، فإنَّه يجب أن يغسل المحل الآخر، والمحل الآخر كم يغسله؟ يغسله بعدد ما بقيَ من الغسلات وقت انتقاله.

  • فإن كان انتقل الماء من الغسلة الأولى إلى أيّ موضعٍ من المواضع الأخرى، فتغسله سبعًا، إحداهن بتراب.
  • فإن كان من الغسلة الثانية، فيجب أن يغسل المحل التي انتقل إليه الماء من مكان هذه النجاسة ستًا.
  •  وإن كان من الغسلة الثالثة، فيجب أن يغسل هذا المكان الذي أنتقل إليه الماء الثالثة خمسًا.
  • وإن كان من الغسلة الرابعة، فيجب أن يغسل المكان الذي أنتقل إليه الماء أربعًا.
  • وإن كان من الغسلة الخامسة فيغسل المكان الذي أنتقل إليه الماء ثلاثًا.
  • و إن كان من الغسلة السادسة، فيغسل المكان الذي أنتقل إليه الماء مرتين. 
  • فإن كان من السابعة فيغسله مرة واحدة.

فهل يستعمل فيه التراب أم لا؟ 

  • إن كان انتقل قبل أن يُترَّبْ موضع النجاسة، فيجب أن يستعمل التراب في ذلك الموضع. 
  • وإن كان قد تَرَّبَ موضع النجاسة، واستعمل التراب وانتقل من غسلة بعدها فلا يجب التتريبُ واستعمالُ التراب في المكان الآخر؛ لأنَّ انتقالَ الماء إليه بعد أن قد تُرِّبَ المكان الأول. 

فهكذا التطهير من نجاسة الكلب.

"إِذَا شَرِبَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ، فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ" وهكذا جاءنا في الصحيحين وغيرهما. وجاءَ تعدّد الرَّوايات. وفي قولٍ عند المالكية بالنّدبِ في غسلِ السَّبع مرات وفي القول الآخر أنه للوجوب كما سمعت أنه في كل كلبٍ. وقيلَ في الّذي نُهِيَ عن إتخاذه وهو غيرُ كلب الصَّيد والحراسة.

إذًا فيقول جمهور أهل العِلمِ أيضاً: إذا ولغ الكلب من إناءِ أول مرة.. ثاني مرة.. ثالث مرة..  كم نغسلهُ؟ إذا ولغ الكلب نغسلهُ سبعَ، ثمّ ولَغ فيه ثاني مرة.. ثالث مرة.. وما غسلناهُ لا يزال على حالهِ الأول، يقول الجمهور من أهل العلم أنه غسلةٌ واحدة، يكفي فيه غسلة واحدة، يعني: سبع مرات  إحداهنَّ بالتراب.ِ فهكذا لا يتعدَّد الغسل بسببِ تعدّد ولوغ الكلب الواحد في الإناء الواحد، أو جاء كلب ولغ، جاء ثاني كلب ولغ، جاء ثالث كلب ولغ… وكذلك تعدَّدت الكلاب ما دمنا لمْ نغسله فالحكم واحد.

  • وفي قولِ عند المالكية: يتعدَّد بتعدُّد ولوغ الكلب أو الكلاب.
  • وهكذا في قول ضعيف عند الشَّافعية: أنه يجب  لكل ولغة سبع؛ ولغ الكلب في إناء أحدكم الولغة الأولى، ثم ثانِي مرة سبع ثانية، ثالث مرة سبع ثالثة… فيجب الغسل واحد وعشرين، في كل واحدة من السَّبع تراب.
  • ولكن عرفت قول الجماهير عند الأئمة الأربعة، المعتمد عند الأئمة الأربعة كُلهم: أنه لا يتعدَّد ما دام لم يُغسل فغسلةٌ واحدة، أما إذا قد طهرناهُ ورجع ثاني مرة يجب أن يغسل ثاني مرة كذلك باتفاق. 
  • وفي قول ثالث: إن كان الولغات من كلب واحد يكفي غسلة واحدة، وإن تعدّدت الكلاب لابُدَّ من تعدّد الغسلات لكل كلبٍ؛ يجب لكل كلب سبع مرات حينئذٍ، فهذا ما يتعلق بشأن الكلب.

 وحُكم الخنزير عند الشَّافعية نفس حُكم الكلب، لأنه أسوأ حالاً من الكلب، ومنصوصٌ على رجسهِ في القرآن (أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ) [الأنعام: 145]. 

  • وأمّا من تسأل تريد تشتري كلب تجعلهُ عندها في البيت لأجل التّسلية وتربيته.

 فلا يجوز ذلك إلا أن كان كلب صيد أو حراسة، إن إحتاجتهُ للحراسة تخاف في المنطقة التّي فيها من تناول بعض الأيدي وما إلى ذلك؛ فَنعم وإلا فَلا، أو كانت تتخذه للصيد.

ثمَّ ذكر لنا حديثه ﷺ قالَ: "اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا".. "اسْتَقِيمُوا"؛ أي: قوموا على مسلك الاستقامة في الأوامر والنّواهي. والاستقامة: القيام على الأمر على وجه التّمام والكمالِ والإحسانِ كما أحبّ الحق وكما ينبغي. وهذا أمرٌ عظيم وشأنٌ كبير، فيه قالوا: إنّ الاستقامة أعظم كرامة، حتى قالوا في الكرامات التي تتعلق بخرق العادات والتي قد تشتبه بالسّحر أو بالشّعوذة أو بالاستدراج؛ ليستدرج الله به أهل الكفر والفسوق والعصيان؛ أنَّ هذه الكرامات التي تتعلق بطيران إنسان في هواء أو إطلاع على شيء مِمّا في خاطر الآخر وإما قلب الأعيان إلى شيء آخر، أو مشي على الماء، وما الى ذلك، خوارق العادات التي تشترك فيها الكرامة والشّعوذة والسّحر، والاستدراج الذي يستدرج الله به بعض الفُساق والفُجار، كما يفعل بالدّجال، فكلُ هذا لا يساوي شيء عند الاستقامة القلبية والجسدية على أمر الله كما يحب، حتى قالوا: أنَّ إستقامةً مع الله في ركعة خير من سبعين كرامة من خوارق العادات هذه!  ولهذا ولعظمة الاستقامة جاء في الحديث: "شَيّبَتْنِي هُودٌ وأَخَوَاتُهْا"، ولمّا رأى بعضُ كبار الصّالحين من الأئمة سيد الوجود ﷺ فسأله ما شَيَبكَ من سورة هود؟ أَذِكر هلاك الأمم و بُعدهم؟ قال: لا، شَيَبني منها قوله: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ..) هذا الذي شيبني..، وهذا سيد أهل الاستقامة ﷺ.

  يقول: "اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا.."، "وَلَنْ تُحْصُوا" له معانٍ:

  • المعنى الأول: لن تُحصوا كمال الاستقامة، ولن تستقيموا في كل شيء، ولكن لا يمنعكم ذلك من بذل الوسْع، وغاية المقدور والطّلب والمجاهدة، "لَنْ تُحْصُوا".
  • المعنى الثّاني: "اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا"، "لَنْ تُحْصُوا" يكون المعنى الثّاني فيه لن تحصوا ثواب الاستقامة وأجره الّذي تُعطَونه من الله تبارك وتعالى فإنه لا حدَ لهُ ولا حَصر، "اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا".
  • والمعنى الثّالث: "وَلَنْ تُحْصُوا" أنكم يا معاشر غير المعصومين لن تَسلموا من الوقوع في الخطيئة، ولكن ارجعوا وتوبوا وأنيبوا، "اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا".
  •  بل كذلك المعنى الرابع: أنكم لا تطيقوا كمال الاستقامة، فاستقامة الأنبياء لا يبلُغها أحد من الصِّدَّيقين، واستقامة الصِّدَّيقين لا يبلغها بقية الأولياء والصّالحين، وإستقامة الأولياء لا يبلغها عموم النّاس وعموم المسلمين.

لن تحصوا ولن تطيقوا مثل (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ..) أي: تُطيقوه؛ قيام الليل كله، (..فَتابَ عَلَيْكم فاقْرَءُوا ما تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ..) [المزمل:20]. له الحمد و المِنة.

ولذا قال "اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا، وَاعْمَلُوا، وَخَيْرُ أَعْمَالِكُمْ الصَّلاَةُ" كما قال في الحديث الآخر: "الصلاةَ خيرُ موضوعٍ، فمن شاء استَقَلَّ، ومن شاء استَكْثَرَ".

ولمّا سُئلت أخت (ثابت البناني).. قُبِرَ، وبعد قَبره، كان بعض الّذين شاركوا في القبر سقط عليه مالٌ نفيس، فجاء فحفر القبر، فلمّا رفع الَلبِنة وجده يصلي، وجد الرجل الميت قائم يصلي!  أشار إليه أن: خُذ مالك وانصرف، فانصرف، فلمّا انصرفَ جاء إلى عند أُخته يسألها: ما كان يفعل؟  قالت: لِمَ تسألني؟  قال: أحب أن  أسأل، قالت: لا..لماذا تسأل؟!  أخبرها أنه وجده يصلي في قبره. قالت: أمّا إن كنتَ تسأل عن هذا فإنّي أسمعه يتهجّد في هذا المكان في بيته منذ خمسين سنة، ويقول في صلاته: اللهمّ إن كنت أعطيت أحدًا الصّلاة في قبره فأعطِنيها في قبري.. فما كان الله ليردّ دعاءه، خمسين سنة وهو يقول أعطني الصلاة في قبري! رحم الله ثابت البناني وكل ثابت على المسلك النّبوي العدناني. وفي الحديث قال ﷺ: "الأنبياءَ أحياءٌ في قبورهم يُصلُّونَ"، وفي صحيح الإمام مسلم: قال ﷺ: "مَرَرْتُ علَى مُوسَى لَيْلَةَ أُسْرِيَ بي وَهو قَائِمٌ يُصَلِّي في قَبْرِهِ" صلوات الله عليه وعلى نبينا وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.

"خَيرَ أعمالِكمُ الصَّلاةُ" قال فيها سيد الوجود: "وجُعِلَت قُرَّةُ عَيني في الصَّلاةِ" وكان يقول: "أرِحْنا بها يا بلالُ".

 وكانَ إذا حضر وقت الصّلاة يقول سيدنا أبو بكر الصّديق: "قوموا إلى ناركم التّي أوقدتموها فأطفئوها!" يشير إلى أنَّ الصّلاة تُكَفر الذّنوب، وأنَّ النّار هي الذّنوب والمعاصي، و إطفاؤها بالصّلاة؛ "قوموا إلى ناركم التّي أوقدتموها فأطفئوها" أي: كفّروا ذنوبكم بالصّلاة. فالله يرزقنا لذة الصّلاة، ويجعلنا عنده من خواصّ أهل الصّلاة، ولا يحرمنا لذّة المُناجاة. 

قال: "..ولا يُحافِظُ على الوُضوءِ إلَّا مُؤمنٌ" يعني: لا يستمر على مداومة الوضوء، كُلّما أحدث توضأ، فيُلازم الوضوء، "..إلَّا مُؤمنٌ" قوي الإيمان، كامل الإيمان،  فلا يقوى على ذلك المُنافقون، "ولا يُحافِظُ على الوُضوءِ إلَّا مُؤمنٌ" ففيه الترغيب وهو من وظائف المريد؛ أن يديم الطّهارة وكُلّما أحدث توضأ، ويبادر بالطّهارة ويبقى مُتطهّر في عامّة أحواله وأوقاته، وهذه علامة الإيمان والشّهادة في الحديث لمن يواظب على ذلك. فلا يديم فعل الوضوء في المكارهِ وغيرها منافق، وما يواظب على ذلك إلا مؤمن، و الوضوء سلاح المؤمن. وجاء في الأثر: من أصابته عين أو سحر وهو على غير طّهارة -على غير وضوء- فلا يلومُنَ إلا نفسه، يُشار إلى أنَّها حصنٌ للمؤمن يحميه الله من الآفات حتى لا تضرّه العين وما الى ذلك، والله أعلم.

اللهم أنِلنا بهم غايات الأماني، وادفع عنّا جميع الشّرور والآفات وكل محذور في كل قاصٍ ودان، واسلكْ بنا مسالك من ارتضيتَ واصطفيتَ واجتبيتَ من الصّالحين المصلحين، بسِر الفاتحة وإلى حضرة النبي الأمين ﷺ.

تاريخ النشر الهجري

22 ذو القِعدة 1441

تاريخ النشر الميلادي

12 يوليو 2020

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام