(364)
(535)
(604)
شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الحج، باب غُسْل المُحْرِم.
فجر السبت 21 شعبان 1442هـ.
باب غُسْلِ الْمُحْرِمِ.
904- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ، وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ اخْتَلَفَا بِالأَبْوَاءِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ. وَقَالَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ: لاَ يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ. قَالَ: فَأَرْسَلَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ إِلَى أبِي أَيُّوبَ الأَنْصَاري، فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ بَيْنَ الْقَرْنَيْنِ، وَهُوَ يُسْتَرُ بِثَوْبٍ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقُلْتُ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُنَيْنٍ، أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ أَسْأَلُكَ، كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ؟ قَالَ: فَوَضَعَ أَبُو أَيُّوبَ يَدَهُ عَلَى الثَّوْبِ، فَطَأْطَأَهُ حَتَّى بَدَا لِي رَأْسُهُ، ثُمَّ قَالَ لإِنْسَانٍ يَصُبُّ عَلَيْهِ: اصْبُبْ. فَصَبَّ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ حَرَّكَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ، فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَفْعَلُ.
905- وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أبِي رَبَاحٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لِيَعْلَى ابْنِ مُنْيَةَ، وَهُوَ يَصُبُّ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مَاءً، وَهُوَ يَغْتَسِلُ: اصْبُبْ عَلَى رَأْسِي. فَقَالَ يَعْلَى: أَتُرِيدُ أَنْ تَجْعَلَهَا بِي إِنْ أَمَرْتَنِي صَبَبْتُ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: اصْبُبْ، فَلَنْ يَزِيدَهُ الْمَاءُ إِلاَّ شَعَثاً.
906- وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا دَنَا مِنْ مَكَّةَ بَاتَ بِذِي طُوًى بَيْنَ الثَّنِيَّتَيْنِ، حَتَّى يُصْبِحَ، ثُمَّ يُصَلِّي الصُّبْحَ، ثُمَّ يَدْخُلُ مِنَ الثَّنِيَّةِ الَّتِي بِأَعْلَى مَكَّةَ، وَلاَ يَدْخُلُ إِذَا خَرَجَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِراً، حَتَّى يَغْتَسِلَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ، إِذَا دَنَا مِنْ مَكَّةَ بِذِي طُوًى، وَيَأْمُرُ مَنْ مَعَهُ فَيَغْتَسِلُونَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلُوا.
907- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ لاَ يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ، إِلاَّ مِنَ الاِحْتِلاَمِ.
908- قَالَ مَالِكٌ: سَمِعْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ يَقُولُونَ: لاَ بَأْسَ أَنْ يَغْسِلَ الرَّجُلُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ بِالْغَسُولِ، بَعْدَ أَنْ يَرْمِيَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، وَقَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ رَأْسَهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ فَقَدْ حَلَّ لَهُ قَتْلُ الْقَمْلِ، وَحَلْقُ الشَّعْرِ، وَإِلْقَاءُ التَّفَثِ، وَلُبْسُ الثِّيَابِ.
الحمد لله مُكرِمنا بحُسْن البيان على لسان عبده المُنْزل عليه القُرآن، سيِّدنا مُحمِّد مَن عظَّم الله له القدر والشأن، صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم عليه في كل حينٍ وآن وعلى آله المُطهّرين وأصحابه الأعيان، وعلى مَن والاهم في الله واتبعهم بإحسان، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين سادات أهل العرفان، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المُقربين، وجميع عباد الله الصَّالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين.
ويواصل سيِّدنا الإمام مالك -عليه رحمه الله تبارك وتعالى- ذِكْر الأحاديث المُتعلِّقة بالإحرام والحج والعُمرة، ويذكر لنا -عليه رضوان الله تبارك وتعالى- في هذا حديث: "غُسْلِ الْمُحْرِمِ" لرأسه، وقد تقدَّم معنا سُنية الغُسل للإحرام بالحج أو العُمرة. يُسَّن أن يغتسل قبل أن يُحرم للحج والعُمرة كما هو عند الأئمة الأربعة -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى-.
وذكر في هذا الحديث الغُسل للرأس في أثناء الإحرام، فيقول: "غُسْلِ الْمُحْرِمِ" رأسه؛ أي: إذا كان في أثناء الإحرام هل يتعرَّض للاغتسال؟ أم لا؟ خشية أن يسقط شعر رأسه، أو يبعُد عن الشَّعث الذي نُدِبَ إليه المُحرم، "الحاج أشعث أغبر" وما إلى ذلك.
فأما من وجب عليه الغسل باحتلامٍ ونحوه؛ فأجمعوا أنه يجب عليه أن يغتسل وإن كان مُحرمًا، الاغتسال من الجنابة؛ واجب عليه. ولكن فيما عدا ذلك من الأغسال وفي البُخاري بوَّب: الاغتسال للمُحرم.
○ وإن خرج بسبب دلْك رأسه شيء من الشّعر؛ وجبت عليه الفِدية.
○ فإن لم يكن ذلك بمدِّه أو بحكِّه لشعره وإنما تساقط من نفسه؛ فلا شيء عليه.
إذًا، فعند المالكية ما ينبغي للمُحرم أن يغمس رأسه في الماء فيقتل بعض الدَّواب. قال الإمام مالك: فإذا أصابته جنابة؛ صبَّ على رأسه الماء وحرَّكه بيده، ولا أُحب أن يغمس رأسه.
أورد لنا حديث: "ابْنَ عَبَّاسٍ، وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ، فقال: "أن عَبْدُ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ- حبر الأمة- والْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ" كلاهما من الصَّحابة. وفي رواية: "كنت مع ابن عبَّاس ومِسْور"، "اخْتَلَفَا" وهما نازلان "بِالأَبْوَاءِ"، في ذهابهم للحج. والأبواء؛ جبل قريب من مكة وعنده بلدة تُسمّى باسم الجبل يُقال لها: قرية الأبواء، وهي التي على الأصح توفيت فيها آمنة بنت وهب -أُمّ النَّبي ﷺ- عند رجعتها به من المدينة المُنوّرة وهو ابن ست سنين، وكانت هناك ومرضت. وكان معه أُم أيمن بركة الحبشية التي خلّفها عبد الله بن عبد المُطّلب، وكانت تركة ابنه لم يخلّف غيرها، وهناك ودّعت ابنها المصون، ووقف على رأسها وهي تجود بنفسها، وقالت له في أبيات:
الله أنهاك عن الأصنام *** ألَّا تواليها مع الأقوام
إنْ صح ما رأيت في منامي*** فأنت مبعوثٌ إلى الأنام
وقد رأت أنه يُنعِش ملة جده إبراهيم، وقالت: أنَّها ميتة، وذِكرُها باقٍ بولدها ﷺ، وكان ذلك. هذا الأَبْوَاءِ، وفي تلك القرية توفيت وأرجعت أُمّ أيمن رسول الله ﷺ إلى مكة المُكرّمة، واستلمه جدُّه عبد المُطَّلب، وقد أخبرته بوفاة أُمه بعد أن توفيّ أبوه وهو حمل، وكفله عبد المُطَّلب سنتين فتوفي، فكفله أبو طالب عمه ابن عبد المُطَّلب إلى أن كَبُر صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم.
قال: "اخْتَلَفَا بِالأَبْوَاءِ"؛ يعني تذاكرا وتناقشا في مسائل الشَّرع ثم ذكرا غُسْلِ الْمُحْرِمِ."فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ"؛ لا شيء عليه متى ما أراد أن يغسل رأسه لأجل تنظيف، لأجل تبرُّد، لأجل غسل؛ لا شيء عليه. "وَقَالَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ: لاَ يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ"، فلمَّا تذاكروا في العلم وذكروا هذه المسألة:
○ فسيِّدنا ابْنَ عَبَّاسٍ: لا يرى بأسًا بأن يغسل المُحرم رأسه.
○ والْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ يقول: لا، إذا لم يُجنِب، فلا داعي أن يغسل رأسه لأن المُحرم ينبغي أن يكون أشعث وحتى لا يخاف سقوط شعر الرأس.
قال "عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُنَيْنٍ: فَأَرْسَلَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ إِلَى أبِي أَيُّوبَ الأَنْصَاري"، قال له اذهب إلى عند أبِي أَيُّوبَ، وفيه:
وكأن ابن عباس كان يعلم أن أبا أيوب -رضي الله عنه-، خالد بن زيد الأنصاري الذي نزل رسول الله ﷺ في بيته، يعلم أنه قد عَلِم علمًا في المسألة عن رسول الله ﷺ، فأرسله إليه ليكون ذلك فاصلًا في حُكم المسألة، فهكذا مرجعهم إلى الأصل -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى-. قال لعبدالله بن حُنين: اذهب إلى عند أبي أيوب، صادفه يغتسل بنفسه وهو مُحرم، "فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ بَيْنَ الْقَرْنَيْنِ"؛ خشبتان توضعان على رأس البئر يُقال لها: قرنين، ويُمَد بينهما خشبة ويُجعل الحبل عليها يجرّه المُستقى هذا القرنين. وكما يُبنَى هُنا جدار وهُنا جدار، وتُجعل الخشبة بينهما. فإما بناء وإمَّا خشبتان توضع ثم بينهما خشبة، يكون حبل المُستقي عليها يجرّه، "وَهُوَ يُسْتَرُ بِثَوْبٍ" أو مستتر، وهذا مما ورثوه من الحياء والأدب عنه ﷺ، وقد كان أبو أيوب في إزاره ولكن مع كونه في الإزار يستر بقية جسده وقت الاغتسال؛ حياءً.
قال: "وَهُوَ يُسْتَرُ بِثَوْبٍ"، وهو يغتسل، "فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ"؛ يعني: يحتاج إلى مخاطبته فاستفتح كلامه بالسلام عليه، ففيه أنه يمكن ذلك كما حصل لأُم هانئ وقد دخلت يوم الفتح ورسول الله ﷺ يغتسل، وفاطمة ابنته تستره بثوب، وكان ﷺ لا يغتسل إلا بإزاره ولكن لحيائه أيضًا يستُر بقية جسده، فحملت السِّيدة فاطمة الثَّوب وسترت أباها وهو يغتسل، فدخلت أُم هانيء ولما كان هذا السّتر يعمّ البدن كله، لم يرها ﷺ من وراء السِّتارة، فسلَّمت، فقال: مَن؟ قالت: أُم هانىء. قال: مرحبا بأُم هانئ. فكلَّمته وقالت له: إني أجرت فلانًا فزعم عليّ أنه قاتله. قال: "قد أجرنا من أجرتِ يا أُم هانئ"، ثم أكمل غسله وصلَّى الضُّحى في وقت الضُّحى، صلَّى ثمان ركعات كما حفظتها عنه أُم هانئ بنت أبي طالب.
"فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟" لمَّا سلَّم عَبْد اللَّه بْن حُنَيْن على أبي أيوب ففيه أنه كان مُستترًا كاملًا لا يرى منه شيء، ولا يرى من وراء السِّتار. قال: "مَنْ هَذَا؟ فَقُلْتُ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُنَيْنٍ، أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ أَسْأَلُكَ، كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ؟" فكان النِّقاش بين ابن عباس والْمِسْوَر بْن مَخْرَمَة، هل يغسل المُحرم رأسه أم لا؟ ولكن ابن عباس علم أن أبا أيوب كان يعلم من رسول الله ﷺ غُسلَه وكيفيته، فسأله عن الكيفية وأراد أن يوصل العلم إلى الْمِسْوَر بْن مَخْرَمَة أن ذلك من فعل صاحب الرِّسالة ﷺ.
وقد يكون التَّصرف في السؤال من عَبْد اللَّه بْن حُنَيْن لما أرسله، فما سأله هل كان رسول الله يغتسل وهو مُحرم أم لا؟ فإنه وجد أبا أيوب بنفسه يغتسل فما يحتاج أن يسأله هل رسول الله كان يغتسل أولا يغتسل وهو مُحرم؟ فسأله عن الكيفية: "كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ؟" لأن فعله دليل على أنه عَلِم أن النَّبي ﷺ كان يغتسل وهو مُحرم. فلمَّا سأله عن كيفية غسله، "فَوَضَعَ أَبُو أَيُّوبَ يَدَهُ عَلَى الثَّوْبِ" الذي يسترونه به، "فَطَأْطَأَهُ حَتَّى بَدَا لِي رَأْسُهُ" ظهر رأسه من فوق الثَّوب، فَطَأْطَأَهُ؛ يعني خفض الثَّوب وأزاله عن رأسه، فظهر رأسه. ولمَّا بدا رأسه وظهر "قَالَ لإِنْسَان" كان عنده يقف عليه ويصب الماء عليه، قال له: صُب "اصْبُبْ. فَصَبَّ عَلَى رَأْسِهِ"، فلمَّا صَبَّ عَلَى رَأْسِهِ، "حَرَّكَ" سيِّدنا أبو أيوب "رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ"؛ أي: دلَك شعره بيديه والماء يُصب عليه. قال: "فَأَقْبَلَ بِهِمَا" إلى الأمام "وَأَدْبَرَ" إلى الوراء؛ فدَّل على جواز ذلك، ويكون برفق فلا يتهاون بنتف الشَّعر؛ بإزالة الشَّعر لأن المُحرم لا يجوز أن يُتلف شيء من شعر رأسه ولا لحيته.
"ثُمَّ قَالَ" سيِّدنا أبو أيوب: "هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَفْعَلُ". ولو لم يقل ذلك لكان فعله ذلك كافٍ لأنه سأله كيف كان يغسل رأسه رسول الله؟ فقال له: "هَكَذَا. ثُمَّ قَال: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَفْعَلُ". فكان تأكيدًا أن ذلك من واقعة حال من خاتم الإنباء والإرسال ﷺ.
ثم أورد حديث "عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لِيَعْلَى ابْنِ مُنْيَةَ، وَهُوَ يَصُبُّ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مَاءً"، يعني: وهو مُحرم، "وَهُوَ يَغْتَسِلُ"؛ يعني: في أثناء إحرامه. "اصْبُبْ عَلَى رَأْسِي. فَقَالَ يَعْلَى: أَتُرِيدُ أَنْ تَجْعَلَهَا" هذه الخصلة "بِي"؛ يعني: لازمة بي "إِنْ أَمَرْتَنِي صَبَبْتُ"؛ يعني: أتحمّل إن كان شيء خرج من شعر رأسك أو خرجت عن الشَّعث إلى التَّزيُّن في الحج. "فَقَالَ لَهُ سيِّدنا عُمَرُ: اصْبُبْ"؛ أفرغ الماء "فَلَنْ يَزِيدَهُ"؛ يعني: الشَّعر "المَاءُ إِلاَّ شَعَثاً"؛ هذا ليس دهن ولا طيب هذا ماء نغسل به الشعر، ما يبعد شعث الشَّعر الماء لأنه ليس بدهن، "فَلَنْ يَزِيدَهُ الْمَاءُ إِلاَّ شَعَثاً"؛ ففيه أن سيِّدنا عُمَر بن الخطاب كما عليه الجُمهور يرى أنه لا بأس للمُحرم أن يغسل رأسه.
وذكر لنا حديث ابن عُمَر: "كَانَ إِذَا دَنَا مِنْ مَكَّةَ بَاتَ بِذِي طُوًى"، يُقال لها: طُوى وطِوى وطَوى. "بَاتَ بِذِي طُوًى، بَيْنَ الثَّنِيَّتَيْنِ"؛ يعني: الطُريق الضّيق بين الجبلين يقال له الثَّنية، أو الطريق العالية فى الجبل "حَتَّى يُصْبِحَ، ثُمَّ يُصَلِّي الصُّبْحَ"، وفي رواية الصَّحيحين: "فإذا صلَّى الغداة" يعني: الصُّبح "اغتسل". ويُحدِّث أن رسول الله ﷺ فعل ذلك. "ثُمَّ يَدْخُلُ" نهارًا اقتداء بفعل النَّبي، وكان ابن عُمَر مشهور عنه قوة اتباعه لسُنَّة النَّبي ﷺ. قال: "مِنَ الثَّنِيَّةِ الَّتِي بِأَعْلَى مَكَّةَ"، التي ينزل منها إلى المعلاة، هذه هي الثَّنية التي كان يدخل منها ﷺ إلى مكة المُكرَّمة، بجانب المُحصَّب، ينزل قرب المُحصَّب، والمُحصَّب يُشرِف على الحُجُون، وهناك أيضًا المحل المُسمَّى: زرود، يخيّم فيه ﷺ، يُشرِف على الحُجُون.
……………. *** مَن سكن طيبة وخيَّم في زرود
صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله. فكان إذا دخل مكة دخل من كداء، من هذه الثَّنية العُليا، وإذا خرج خرج من كديّ من الثَّنية السُّفلى. "وَلاَ يَدْخُلُ إِذَا خَرَجَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِراً، حَتَّى يَغْتَسِلَ"؛ ففيه: اغتساله وهو مُحرِم لأجل دخول مكة، "قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ، إِذَا دَنَا مِنْ مَكَّةَ بِذِي طُوًى، وَيَأْمُرُ مَنْ مَعَهُ فَيَغْتَسِلُونَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلُوا"؛ أي: وهم مُحرمون. والحديث جاء أيضًا في صحيح البُخاري كما جاء عند الإمام مالك -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى-.
واستدل مالك بهذا الحديث الأخير: "عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ لاَ يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ، إِلاَّ مِنَ الاِحْتِلاَمِ".
"قَالَ مَالِكٌ: سَمِعْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ يَقُولُونَ: لاَ بَأْسَ أَنْ يَغْسِلَ الرَّجُلُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ بِالْغَسُولِ، بَعْدَ أَنْ يَرْمِيَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ"، غُسله وقت التَّحلل، "وَقَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ رَأْسَهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ فَقَدْ حَلَّ لَهُ قَتْلُ الْقَمْلِ، وَحَلْقُ الشَّعْرِ، وَإِلْقَاءُ التَّفَثِ، وَلُبْسُ الثِّيَابِ". فعنده بعد الرَّمي في يوم العيد يمكن أن يغسل رأسه؛ يعني: انتهت الكراهة عند الإمام مالك في غسل الرأس، والله أعلم.
جعلنا الله من أهل الإنابة والاستقامة، وحُسن الاستجابة وأتحفنا بالكرامة، وأدخلنا في دائرة حبيبه المُظلل بالغمامة، ورزقنا مرافقته يوم القيامة وفي دار الكرامة، وأصلح لنا ولأُمته جميع الشُّؤون في الظُّهور والبُطون، وفرَّج عنا جميع الكُروب والأمراض والهُموم والغُموم والحُزون، وأصلح شؤوننا بما أصلح به شؤون الصَّالحين في عافية بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
23 شَعبان 1442