شرح الموطأ - 174 - كتاب الحج: باب الغُسْل للإهلال

شرح الموطأ - 174 - كتاب الحج، باب الغُسْل للإهلال، من حديث أسماء بنت عُمَيْس رضي الله عنها
للاستماع إلى الدرس

شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الحج، باب الغُسْل للإهلال.

فجر الأربعاء 18 شعبان 1442هـ.

باب الْغُسْلِ لِلإِهْلاَلِ

901 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ، أَنَّهَا وَلَدَتْ مُحَمَّدَ بْنَ أبِي بَكْرٍ بِالْبَيْدَاءِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ: "مُرْهَا فَلْتَغْتَسِلْ، ثُمَّ لِتُهِلَّ".

902 - وَحَدَّثَنِي، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ، وَلَدَتْ مُحَمَّدَ بْنَ أبِي بَكْرٍ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، فَأَمَرَهَا أَبُو بَكْرٍ أَنْ تَغْتَسِلَ، ثُمَّ تُهِلَّ.

903 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَغْتَسِلُ لإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَلِدُخُولِهِ مَكَّةَ، وَلِوُقُوفِهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مكرمنا بالشريعة الغراء المباركة، وبيانها على لسان عبده المصطفى محمد، صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وأصحابه، ومن سار في دربه وسبيله، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، صفوة الله من بريّته، وآلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين. 

ابتدأ الإمام مالك -عليه رضوان الله- يذكر الأحاديث المتعلقة بالحج، والحج ركنٌ من أركان الإسلام، وشعيرة من شعائره، أوجبه الله على المستطيع في قوله: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ)، وفي قراءة: (حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)[آل عمران:97]. وقد ذكره ﷺ فيما بني عليه الإسلام: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان. 

وكان فرض الحج في السنة السادسة من الهجرة على الأصح والأرجح، والذي عليه الجمهور؛ أن فريضة الحج وكذلك العمرة عند من أوجبها كالشافعية، ومن قال بوجوب العمرة، وأنها تجب مرة في العمر كالحج، أي بأصل الإسلام. ويأتي بعد ذلك النذر والقضاء، ويأتي قول من قال: أنه لا يدخل إلى مكة إلا محرمًا بحجٍّ أو عمرة، فيصير بذلك من الواجبات -على هذا القول- بغير الحجة الواحدة والعمرة الواحدة. 

و بأصل الإسلام لا يلزم المؤمن أن يحج إلا مرة في عمره، وأن يعتمر كذلك، فإذا أداها وهو على الإسلام، بالغ، عاقل، فقد وقعت عن حجة الإسلام إذا كان مسلمًا بالغًا عاقلًا حرًا. 

ومن هنا قالوا في ترتيب مراتب الحج: 

  • وأن المرتبة الأولى: صحة الحج مطلقًا، ولها شرط واحد: وهو الإسلام، فيصح الحج والعمرة من كل مسلم. 
  • ثم يأتي بعد ذلك صحة مباشَرة؛ أن يباشر بنفسه أفعال الحج، وهذا له شرطان: 
    • الإسلام 
    • والعقل

 فلا يتأتى ممن لا يعقل أن يباشر بنفسه، فشرطه الإسلام، والعقل؛ التمييز. 

  • ثم وقوع الحج عن نذرٍ، وشرطه: الإسلام، والعقل، والبلوغ، فلا يصح النذر من الصبي.
  • ثم وقوع صحة الحج عن حجة الإسلام، وله شرائط أربعة: 
  1. الإسلام
  2. البلوغ
  3. العقل
  4. الحرية 

فإذا حجّ مملوك ثم أعتق، وجب عليه حجة الإسلام بعد العتق. 

  • والمرتبة الخامسة: الوجوب، أن يكون واجبًا، ولها خمس شروط: الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحرية، والاستطاعة، قال تعالى: (مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَیۡهِ سَبِیلࣰاۚ).

كان فرض الحج في السنة السادسة، ومن شاذِّ الأقوال ما قيل: أنه فُرِض قبل الهجرة، وأشذّ منه ما قيل: أنه في السنة العاشرة، وهناك أقوال غير ذلك في السنة الخامسة، أو السنة السابعة، أو الثامنة، أو التاسعة. 

وسمعت أن الأرجح والأصح والذي عليه الجمهور: أنه كان في السنة السادسة، وهي التي فيها نزل قوله تعالى:  (وَأَتِمُّوا۟ ٱلۡحَجَّ وَٱلۡعُمۡرَةَ لِلَّهِۚ) [البقرة:196]. وهي السنة التي صالح ﷺ قريشًا على وضع الحرب، ثم إنه جاء لعمرة القضاء في السنة السابعة، ثم إنه جاء لفتح مكة في السنة الثامنة، ثم إنه أرسل أبا بكر الصديق ليحج بالناس في السنة التاسعة، ثم إنه ذهب بنفسه إلى الحج في السنة العاشرة ﷺ. 

وبعد حجّه، بعد يوم عرفة بثمانين يومًا، انتقل إلى الرفيق الأعلى ﷺ، وقد سماها حجة الوداع، وقال بعض الصحابة: كنا نتحدث حجة الوداع، وما درينا ما الوداع، حتى توفي ﷺ علمنا أنها وداعه لأمته ﷺ.

يقول: "كتاب الحج"، الذي هو لغةً : القصد، وقد يُعبر به عن كثرة القصد إلى ما يعظم، الحَجُّ والحِجُّ قرئ بالكسر (وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَیۡتِ) وكان لغة الكسر لأهل نجد، والفتح لغيرهم، فالأكثر على الفتح في الحج؛ الحَج، فالأصل فيه الفتح، ومن العرب من يقول حِج بالكسر، وهو:

  •  في اللغة: القصد.
  •  وفي الشرع: قصد البيت الحرام من أجل النسك. 

بلَّغَنا الله حج بيته الحرام، والاعتمار به، وزيارة نبيه المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. 

  • قال الشافعية وكذلك عند مالك وأحمد: أن وجوب الحج على التراخي لمن توقع بقاء الاستطاعة، فمهما استطاع سُنَّ له أن يبادر بالحج. 
  • وجاء في رواية عند أبي حنيفة: أنه يجب عليه أن يبادر إلى الحج، فإن أخّره بعد الاستطاعة أثِم.

واشترط كلهم الاستطاعة كما هي بالآية والحديث الشريف: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ)[آل عمران:97]. ولكن من توقع عدم التمكن بعد سنته، صار الحج واجبًا عليه على الفور، نعم.

 وقد كان الحج واجبًا على الأمم السابقة أيضًا قبلنا، قال تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ)[آل عمران:96] أولهم آدم، وضع للناس كلهم، وقد جاء في الحديث: إن الله أمر آدم بالحج فحج، فقابلته الملائكة وقالت: بَرَّ حجك يا آدم، لقد حججنا هذا البيت قبلك بألف عام. ففيه أن الأول من بنى البيت العتيق الحرام الكعبة المشرفة: الملائكة، قبل خلق آدم -عليه السلام- وكانوا يحجون ويطوفون بالبيت العتيق، ثم أمر الله آدم بالحج، ثم من بعده من الأنبياء، إلى نبينا صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. وفي رواية: أن جبريل قال لسيدنا آدم لما حج: إن الملائكة كانوا يطوفون قبلك في هذا البيت بسبعة آلاف سنة. 

ويروى: أن آدم حج من الهند ماشيًا، وأنه حج أربعين حجة، حتى قيل: ما من نبي إلا وقد حج هذا البيت (مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ۖ)[آل عمران:96-97] الحَجَرة التي كان يقوم عليها فغاصت قدماه فيها. 

إذًا، فهو شعار الأنبياء، وقد تذكرهم ﷺ في حجة وداعه، وإذا مَرَّ بالوادي، يقول: مَرَّ به فلان من الأنبياء، مَرَّ به فلان، وكأني بفلان من الأنبياء يجأر لله بالتلبية، وكأني بفلان من الأنبياء عليه من اللباس كذا وكذا، يقصدون هذا البيت؛ فكان كثير الذكر للأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- وذلك من خلال نصوص القرآن، نعلم به أن ذكر الأنبياء والأصفياء عند الله قربة وعبادة أمر بها سيد العابدين ﷺ. 

  • (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ )[ص:17]
  • (وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ ۖ وَكُلٌّ مِّنَ الْأَخْيَارِ) [ص:48]
  • (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ)[ص:45] 
  • (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ )[ص:41] 
  • (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ)[مريم:16] 
  • (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ ۚ)[مريم:41] 

إلى غير ذلك ممّن أمر الله بالذكر لهم، فذكرهم عبادة. 

ثم كان في هديه -عليه الصلاة و السلام- كثير الذكر للأنبياء وللأصفياء من بعض أولياء الأمم السابقة، فكان يذكرهم ويذكر لنا أخبارهم ﷺ، ويحدثنا عنهم، فكان هذا الأمر مرتبطًا بالدين. 

  • كما أنه يرتبط بالكفر والفسق كثرة تذكر القلب لفسّاق وكفّار وفجّار؛ على سبيل التعظيم لهم والولاء أو المحبة، هذا منوط بالكفر. 
  • وهذا منوط بالإسلام والإيمان: ذكر الأنبياء، وذكر الأصفياء؛ و الصالحين الأتقياء.

 وبذلك قال خيار الأمة: عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة. وقال الجنيد بن محمد في بغداد: إن حكايات الصالحين جند الله، يرسلها إلى القلوب. فينبغي للمؤمن أن يعمر باله وذهنه بذكر الحق، وذكر رسوله، وذكر الأنبياء والملائكة والأولياء، وليكن ذلك مسرح تفكيره ونظره وتذكره، فبذلك يزداد إيمانه، ويقوى يقينه، ويطهر باطنه، ويتضاعف نوره، ويتحقق حبوره وسروره، وتقوى رابطته لأهل الله، ويتهيأ للحشر معهم يوم لقاه -جل جلاله- .

ولقد قال الإمام الحداد:

 إذا فاتني قرب الأحبة واللقاء *** ففي ذكرهم أنسٌ لوحشة خاطري 

وقال:

فتذكارهم رَاحي ورَوْحي وراحتي *** يطيبُ به قلبي وتصفو ضمائري

وذكرهم عبادة تحصل به الزيادة، وقد جعل -تعالى- في فريضة الحج ذكريات؛

  • فالذكرى لحبيبه محمد ﷺ بقوله: "خذوا عني مناسككم" فنتذكره في كل منسك. 
  •  والذكرى لخليله إبراهيم؛ (مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ۖ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ۗ)[آل عمران:97]
  • والذكرى لإسماعيل وهاجر، برمي الجمار، وذبح النحر، نحر الهدي والأضاحي، والمشي بين الصفا والمروة، وتذكر هاجر وإسماعيل، وهي تمشي بين الصفا والمروة من أجل أن تطلب الماء لولدها العاطش -عليهم صلوات الله تبارك وتعالى-. 

وهذا حجه ﷺ يذكر فيه: مرّ هنا هود، وصالح، مرّ هنا موسى بن عمران، له جئار إلى الله بالتلبية، مرّ هنا فلان، مر هنا فلان، يقول ﷺ وهو يتذكر الأنبياء في حجّه ﷺ، ففي الحج ذكرياتٌ.

طوى الله فيه من الحِكم اجتماع جماعة عظيمة من الصالحين في زمانٍ يذكرون في حال المنعَم عليهم، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وفي مكان (فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ)[آل عمران:97] متضرّعين، راغبين، راجين، ينوبون عن بقية الأمة، فيتجلّى الله بمغفراتٍ يتصاغر لها عدوّه إبليس، "ما رؤي الشيطان يومًا هو فيه أصغر، ولا أدحر، ولا أحقر، ولا أغيظ منه في يوم عرفة"، لما يرى من تنزل الرحمة، وتجاوز الله عن الذنوب العظام، حيثما تجتمع الملائكة الأكرمون والصالحون من العباد الكرام، لا إله إلا الله..

وفي عرفات كل ذنبٍ مكفَّرٌ *** ومغتفرٌ منّا برحمة غافر

وقفنا بها والحمد للَه والثنا *** وشكرًا له إن المزيد لشاكر

عشية وافى الوفد من كل وجهةٍ *** وفجٍّ وهم ما بين داعٍ وذاكر

وراجٍ وباكٍ من مخافة ربّه *** بفائض دمعٍ كالسّحاب المواطر

وفي الوفد كم عبدٍ منيبٍ لربّه *** وكم مخبتٍ كم خاشعٍ متصاغر

وذي دعوةٍ مسموعةٍ مستجابةٍ *** من الأوليا أهل الصفا والبصائر

ولله كم من نظرةٍ كم عواطفٍ *** وكم نفحاتٍ للإله غوامر

وإنّا لنرجو عفوه أن يعمّنا *** ويشمل منّا كل بَرٍّ وفاجر

أفضنا على الزلفى بمزدلِفاتها *** ومشعرها أكرم بها من مشاعر

وجئنا منى في خير كل صبيحةٍ *** لرميٍ إلى وجه العدو المجاهر

وحلقٍ وإهداء الذبائح قربةً *** إلى اللَه والمرفوع تقوى الضمائر

وبتنا بها تلك الليالي ويا لها *** ليالٍ لقد طابت بطِيبِ التزاور

لا إله إلا الله، عَمَرَ الله الحج والعمرة، والحرمين الشريفين، وآثار الإسلام في جميع الأماكن، بخير عمارة. 

وهكذا، جاءت الحكم العظيمة في هذه الشعائر الكريمة الفخيمة، من إظهار العبودية لله -تبارك وتعالى- وإظهار المحبة والعشق إلى حضرته، والتنبّه إلى الرحيل من دار الفناء إلى دار البقاء، والاجتماع على حالة واحدة، يستوي فيها الصغير والكبير، والغني والفقير، والمأمور والأمير، وكل هذا وغيرها من الحكم، تجتمع في مثل الحج. 

وهو أول بيت وضع للناس، أول بيت ظهر على وجه الماء عند خلق السماء والأرض، وكان محل هذا البيت زَبدة بيضاء على الماء، دُحِيَت الأرض من تحتها، فهي سُرَّة الأرض. وجعل الله تعالى مقابلة بينه وبين البيت المعمور في السماء السابعة، يحجه الملائكة، ويطوفون به، ويدخل كل يوم سبعون ألف ملك، ثم لايعودون إليه، ففي كل يوم يتجدد سبعون ألف ملك.  (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ۖ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ۗ)[آل عمران:96-97].

قال الله لسيدنا الخليل: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) [الحج:27]، وكان قد خرب البيت من السيول التي أصابته، وبقي محله، فجدّده الله على يد الخليل إبراهيم، فكان بينه وبين من قبله من الأنبياء، تعرض البيت للهدم، وهو موجود البيت، ومحله معلوم، وقد قال قبل أن يبني الكعبة المشرفة في موضع سيدنا الخليل إبراهيم، وهو يدعو ربه: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ)، قبل أن يبني هو البيت، كان هذا محل البيت معلومًا (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ)؛ ففيه: طلب حسن الجوار، وحسن الاستيطان (عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) هذا حيثية أو شرف المجيء عند هذه البقعة، كونه عند بيتك المحرم، أما من جهة الظاهر، ما فيه زرع وهم يحتاجون، ولكن من أين يجلبونه وأنت رازقهم؟ ولكن ميزة وضعي لهم في هذا المحل بأمرك، أن المحل عند بيتك المحرم، فالإقامة عند الأماكن الفاضلة، ومحلات العبادة، أكمل، وأجمل، وأفضل، وأوسع في تحصيل الخيرات، وإدرار البركات، (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)، وأرسل الله -تبارك وتعالى- لهم من مالَ إليهم وإلى ما عندهم، وهويتهم تلك الأفئدة قال: (أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ) بعض الناس (تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)[إبراهيم:37].

وذكر لنا -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- في هذا الكتاب، الغسل لأجل الإحرام، "باب الْغُسْلِ لِلإِهْلاَلِ"

  • وهو سُنَّة باتفاق الأئمة الأربعة. 
  • ويذكر وجوبه عن الحسن البصري، ويقول به الظاهرية؛ أنه يجب الغسل من أجل الإحرام بالحج والعمرة. 
  • قال جماهير أهل العلم: إنه سنة. 
  • ويعتني به المالكية وأنه سنة مؤكدة، لا تُترك إلا لعذر قوي، وإلا تُقدّم ويعظم شأنها. 

فالغسل للإهلال، أي: للإحرام، فكثيرًا ما يستعمل الإهلال للإحرام للحج والعمرة.

 وأصل الإهلال: رفع الصوت عند رؤية الهلال، قال: إهلال. واستعمل بعد ذلك لكل صوت، حتى قالوا: إهلال الصبي، إذا خرج من بطن أمه، وهكذا، يقولون: أَهَلَّ؛ يعني: تكلم به، واستهللنا، واستهلَّ المطرُ، خرج من السحاب (وَمَاۤ أُهِلَّ لِغَیۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦ)[المائدة:3]. ولكن غلب استعماله عندنا بالإحرام بالحج أو العمرة، قال ﷺ لسيدنا علي: "بمَ أهللت؟" قال: "قلت لبيك إهلالاً كإهلال النبيّ" لأنه جاء من اليمن في عام حجة الوداع، ولم يدرِ أحرَمَ ﷺ بعمرةٍ، أو بحجٍّ، أو بحجٍّ وعمرةٍ معًا، فربط نيته في الإحرام بنية رسول الله ﷺ، فقال: "لبيك إهلالاً كإهلال النبيّ" الذي أهلّ به النبي محمد، أنا معه ﷺ.

 فإذًا، يستحب أن يغتسل قبل الإحرام، كما هو مذهب الإمام مالك والإمام الشافعي والإمام أبي حنيفة وغيرهم. وجاء أن أسماء بنت عميس أمرها ﷺ أن تغتسل عند الإحرام، وأمر عائشة أن تغتسل عند الإهلال بالحج وهي حائض، وفيه أيضًا ما أورده عن أسماء بنت عميس في هذه الرواية.

 فهذا حكم الاغتسال لأجل أن يحرم بالحج أو العمرة، وهنا مواطن للغسل في الحج، فالغسل من أجل الاجتماع تعظيمًا، وإكرامًا، وتنظفًا، وسُنِّيَّته تأتي حتى للحائض والنفساء، فاتباعاً له ﷺ، ولأمره فإنه أمر من كان معه أن يأتي يغتسلوا حتى الحُيَّض منهم. فإذا لم يجد الماء تيمم؛ لأنه ينوب التيمم عن الغسل الواجب؛ فلأن ينوب عن المسنون من باب أولى، ويسن حتى للحائض والنفساء. ولكن في وجه: أنه لا يسن لهما، وفي عدد من المواطن استُحِبَّ الغسل، وهي المواطن التي يجتمع لها الناس، فاستُحِبَّ فيها الغسل تنظفًا، فمنها للإحرام، ثم لدخول مكة. 

وقد جاء من فعله ﷺ: إذا دخل أدنى الحرم، أمسك عن التلبية، ثم يبيت بذي طوى، ثم يصلي فيه الصبح ويغتسل. كان ابن عمر يفعل ذلك ويقول: النبي ﷺ كان يفعل ذلك.

  • الغسل عند دخول مكة.
  • والغسل للوقوف بعرفة عشية عرفة، فعله ﷺ.
  •  والغسل للمبيت بمزدلفة غداة يومَ النحر.
  •  وثلاث أغسال لأجل رمي الجمرات الثلاث.

 ولا غسل لأجل رمي جمرة العقبة في اليوم الأول، فإن وقتها متسع، وكل من جاء رمى، ولا يجتمعون مثل أيام التشريق، إنما يغتسل لرمي الجمار أيام التشريق، فهذه الأغسال مسنونةٌ ومستحبةٌ للرجل وللمرأة، وللصغير وللكبير، ممن يحجون بيت الله الحرام. 

ونقلوا عن المذهب القديم للإمام الشافعي: 

  • الغسل لطواف الإفاضة.
  •  والغسل لطواف الوداع

 وذلك في المذهب القديم، لم يعتمد هذا في المذهب الجديد. 

يقول:"عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ، أَنَّهَا وَلَدَتْ مُحَمَّدَ بْنَ أبِي بَكْرٍ-الصديق- بِالْبَيْدَاءِ" يعني: الصحراء عند خروج النبي ﷺ إلى الحج في ذي الحليفة، وقيل: أن أسماء بنت عميس نفست بالشجرة، يقول: "فَذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ"، وهي زوجة أبوبكر حينئذٍ، ولدت ولده محمد بن أبي بكر، هذه التي هاجرت إلى الحبشة مع سيدنا جعفر، وهي مجاهدة صابرة، راحت إلى الحج في أيام وضع حملها، في أول يوم خرجوا من المدينة وضعَتْ، ولمَّا وضعَتْ -ولدت- ما طلبَتْ فرش تجلس عليها، ولا أحد يجيء يخدمها، تغتسل وتمشي معهم، تغتسل وتمشي تواصل تؤدي فريضة الحج مع رسول الله ﷺ، فما أعجب رجالهم، وما أعجب نسائهم! في جدهم واجتهادهم، وصدقهم وتضحيتهم وبذلهم -رضي الله عنهم-. فَقَالَ: "مُرْهَا فَلْتَغْتَسِلْ"؛ أي: من أجل الإحرام "ثُمَّ لِتُهِلَّ" بالحج مع النبي ﷺ.

أسماء بنت عميس ولدت محمد بن أبي بكر في ذي الحليفة، محل الميقات الذي يحرمون منه، فأمرها أبو بكر بأمر النبي ﷺ أن تغتسل، ثم تُهِلَّ أي: تُحْرِم.

قال مالك: "عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَغْتَسِلُ لإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَلِدُخُولِهِ مَكَّةَ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَغْتَسِلُ لإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَلِدُخُولِهِ مَكَّةَ، وَلِوُقُوفِهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ". وهذه -التي ذكرنا- من المواضع والمواطن التي يستحب فيها الاغتسال للمحرم. 

ثم أنه جاء أمور توجب الغسل، وأمور يستحب فيها الغسل، وذلك لكل مؤمن:

  • في كل أسبوع، ينبغي أن لا يؤخر الغسل عن أسبوع.
  •  وإن كان من أهل الجمعة، فللجمعة، فهو أفضل أن يغتسل في كل جمعة في يوم الجمعة، وهو المعتمد عند الشافعية، وقيل لأجل صلاة الجمعة.
  •  كما أن غسل العيد أيضًا يعمّ الحائض والنفساء -عيد الفطر وعيد الأضحى- يسن الغسل فيه لكل المسلمين، حتى أنهم عند تغسيل أطفالهم ينوون غسل العيد، في يوم عيد الفطر ينوون لهم غسل يوم العيد، ولو كانوا غير مميزين، والمميزون ينوون لأنفسهم. 

فهكذا جاءت الشريعة بالآداب والأخلاق والنظافة الظاهرة والباطنة، فالحمد لله على نعمة الشريعة والإسلام، ومحمدٍ خير الأنام ﷺ.

رزقنا الله متابعته، والاقتداء به، والاهتداء بهديه، والعمل بسنّته، ونشرها في الآفاق على خير الوجوه وأكملها وأحبها إليه وإلى رسوله، وأرضاها له ولرسوله، وأنفعها لعباده في لطفٍ وعافية، بسرِّ الفاتحة إلى حضرة النبي ﷺ.

تاريخ النشر الهجري

23 شَعبان 1442

تاريخ النشر الميلادي

05 أبريل 2021

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام