(228)
(536)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الطهارة، متابعة باب جامع الوضوء.
فجر السبت 20 ذي القعدة 1441هـ.
باب جَامِعِ الْوُضُوءِ
67- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ: أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ جَلَسَ عَلَى الْمَقَاعِدِ، فَجَاءَ الْمُؤَذِّنُ فَآذَنَهُ بِصَلاَةِ الْعَصْرِ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لأُحَدِّثَنَّكُمْ حَدِيثاً، لَوْلاَ أَنَّهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُكُمُوهُ، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "مَا مِنِ امْرِئٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ، ثُمَّ يُصَلِّي الصَّلاَةَ، إِلاَّ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلاَةِ الأُخْرَى، حَتَّى يُصَلِّيَهَا".
قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ: أُرَاهُ يُرِيدُ هَذِهِ الآيَةَ (وأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) [هود:114].
68- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الصُّنَابِحِيِّ، أَنَّ رَسُول اللَّهِ ﷺ قَالَ: "إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ، فَتَمَضْمَضَ خَرَجَتِ الْخَطَايَا مِنْ فِيهِ، وَإِذَا اسْتَنْثَرَ خَرَجَتِ الْخَطَايَا مِنْ أَنْفِهِ، فَإِذَا غَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَتِ الْخَطَايَا مِنْ وَجْهِهِ، حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَشْفَارِ عَيْنَيْهِ، فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَتِ الْخَطَايَا مِنْ يَدَيْهِ، حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِ يَدَيْهِ، فَإِذَا مَسَحَ بِرَأْسِهِ خَرَجَتِ الْخَطَايَا مِنْ رَأْسِهِ، حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ أُذُنَيْهِ، فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتِ الْخَطَايَا مِنْ رِجْلَيْهِ، حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِ رِجْلَيْهِ " قَالَ: " ثُمَّ كَانَ مَشْيُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَصَلاَتُهُ نَافِلَةً لَهُ".
69- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُول اللَّهِ ﷺ قَالَ: "إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ، أَوِ الْمُؤْمِنُ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ، خَرَجَتْ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنَيْهِ مَعَ الْمَاءِ، أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ، فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ، خَرَجَتْ مِنْ يَدَيْهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ بَطَشَتْهَا يَدَاهُ مَعَ الْمَاءِ، أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ، فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ، خَرَجَتْ كُلُّ خَطِيئَةٍ مَشَتْهَا رِجْلاَهُ مَعَ الْمَاءِ، أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ، حَتَّى يَخْرُجَ نَقِيًّا مِنَ الذُّنُوبِ".
70- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ ﷺ وَحَانَتْ صَلاَةُ الْعَصْرِ، فَالْتَمَسَ النَّاسُ وَضُوءاً فَلَمْ يَجِدُوهُ، فَأُتِي رَسُول اللَّهِ ﷺ بِوَضُوءٍ فِي إِنَاءٍ، فَوَضَعَ رَسُول اللَّهِ ﷺ فِي ذَلِكَ الإِنَاءِ يَدَهُ، ثُمَّ أَمَرَ النَّاسَ يَتَوَضَّؤُونَ مِنْهُ، قَالَ أَنَسٌ: فَرَأَيْتُ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ تَحْتِ أَصَابِعِهِ، فَتَوَضَّأَ النَّاسُ، حَتَّى تَوَضَّؤُوا مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ.
71- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَدَنيِّ الْمُجْمِرِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ خَرَجَ عَامِداً إِلَى الصَّلاَةِ، فَإِنَّهُ فِي صَلاَةٍ مَادَامَ يَعْمِدُ إِلَى الصَّلاَةِ، وَإِنَّهُ يُكْتَبُ لَهُ بِإِحْدَى خُطْوَتَيْهِ حَسَنَةٌ، وَيُمْحَى عَنْهُ بِالأُخْرَى سَيِّئَةٌ، فَإِذَا سَمِعَ أَحَدُكُمُ الإِقَامَةَ فَلاَ يَسْعَ، فَإِنَّ أَعْظَمَكُمْ أَجْراً أَبْعَدُكُمْ دَاراً. قَالُوا: لِمَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ مِنْ أَجْلِ كَثْرَةِ الْخُطَا.
72- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يُسْأَلُ عَنِ الْوُضُوءِ مِنَ الْغَائِطِ بِالْمَاءِ، فَقَالَ سَعِيدٌ: إِنَّمَا ذَلِكَ وُضُوءُ النِّسَاءِ.
الحَمدُ للهِ مُكْرِمِنا بالشريعة الغرّاء، وبَلاغِها على لِسانِ خيرِ الورى، سَيْدِنا مُحمَّدٍ وعلى آلهِ الذينَ نالوا بِه طُهرًا، وعلى صَحَابَتِهِ الذينَ أعلى الله لهُم بِه قَدْرًا، وعلى مَنْ تَبِعَهُم بإحسانٍ مُخْلِصًا للحقِّ سِرًا وجَهرًا، وعلى آبائِهِ وإخوانِهِ مِن الأنبياءِ والمُرسَلين المُرتَقين في الفَضْلِ أعلى الذُرى، وعلى آلِهم وصَحبِهم وتابِعيهم والملائِكة المُقرَبين، وجَميع عِبَادِ الله الصَّالحين، وعَلينا مَعَهُم وفيهم إنَّهُ أكْرَمُ الأكْرمين وأرْحَمُ الراحِمين.
وبَعدُ،
فيُواصِل سيدُنا الإمام مالك -عليه رِضوانُ الله تبارك وتعالى- في الموطأ ذِكْر أحاديث مُتَعلِّقة بالوضُوء، وأورَدَ لَنا حديثَ سيّدِنا عُثمان بن عَفان -رضي الله تبارك وتعالى عنه- أنَّهُ "جَلس على المَقاعِدِ"، وهو مَكانٌ يَقْعُدُ فِيه النَّاسُ مُهيأٌ لِلقعود ولِلجلوس، "جَلس على المَقاعِدِ" فكانوا يَجلِسون فيه ويَتحدَثون بِحَدِيث الخير ويَتذاكَرون أمْرَ الشَّريعةِ والدِّين، فقالَ: "فجاءَ المُؤذِنُ فَآذَنَهُ بِصَلاةِ العَصْرِ"؛ أي أنَّهُ حان وَقْتُ إقامَتِها، "آذَنَهُ"؛ أعلَمَه.
وذلك أنَّ المُؤذِنينَ كانوا يأتُون إلى أُمَراءَ المُؤمِنين فيُشْعِرونَهُم بِدخول وقت الصَّلاة لِمَا يَطرأُ عَليهم مِنْ انشِغالاتٍ مُتَعلقةٍ بمُهماتِهم وواجِبَاتهم -عليهم رِضوانُ الله تبارك وتعالى- بينَهُم وبين ربِّهم وشؤون الرعية، والفكر والعمل في مصالح المسلمين. فإذا حضَرَ وقت الصَّلاة نبههُ المؤذَّن أنَّ وقت الصَّلاة قدْ حضَرَ ليَخرُج إلى النَّاس فيؤمّهم. قالَ: "فجاءَ المؤذِّنُ فآذَنَه بِصَّلاة العَصرِ، فدعى بمَاءٍ، فتوضأ" -عليهِ رِضوانُ اللهِ تعالى- ثُمَّ حدّثَهم بِهذا الحديث لمَّا توضَأ.
وكانَ جاءَ عَنْ سَيدِنا عُثمان اعتِناؤه بالوضوء، واعتِناؤهُ أنْ يُري التابِعين كيفَ كانَ يتوضأ رَسُول الله ﷺ. قال لمَّا توضأ حدثهم: "وَاللَّهِ لأُحَدِّثَنَّكُمْ حَدِيثاً، لَوْلاَ أَنَّهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ -تعالى- مَا حَدَّثْتُكُمُوهُ". فكيف لولا أنَّهُ في كتابِ الله ما حدثتُكُموه؟ يعني: لو كانَ هذا الحديث غيرُ مذكورٍ في كتابِ الله، فأين ذِكرُهُ في كتابِ الله؟ ففيهِ تعظيمُ القُرآن الكريم؛ وأنَّهُ الأصل في الاستدلال والأصلُ في الاحتِجاج. وكتاب الله -جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه- يتعلقُ فيه بِما في هذا الحديثِ آيتان:
فهاتان الآيتان المُتَعلقتان بذكر الحديث الَّذي ذَكَرَهُ سَيدُنا عُثمان وهو الَّذى قال: و"لَوْلاَ أَنَّهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُكُمُوهُ".
ثُمَّ قالَ سَمِعْتُ ﷺ يقول: "مَا مِنِ امْرِئٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ وُضُوُءَهُ". الوُضُوُءُ كما علِمْنا -بِضَم الواو- فِعلُ الوُضُوء، أفعالُ الطهارة. وأمَّا الوَضُوء فهو الماء الَّذى يتَوضأُ بِهِ الوَضُوء. يقولُ: "مَا مِنِ امْرِئٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ، ثُمَّ يُصَلِّي الصَّلاَةَ، إِلاَّ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلاَةِ الأُخْرَى، حَتَّى يُصَلِّيَهَا".وهذا ما جاءَ أيضًا في الروايات الأُخرى في الحديث: الصَّلاةُ إلى الصَّلاة، "..وَالْجُمْعَةُ إلى الجُمْعَةِ، وَرَمَضَانُ إلى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ ما بيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الكَبَائِرَ".
قالَ أهلُ العِلمِ، مَا وَرَدَ عَنْ نبيِّنا ﷺ من تَكْفيرِ الذُنوب والسَّيِّئَاتِ بِشئٍ مِنَ الأعمالِ الصَّالحة. فَيَكونُ المُرُادُ بِهِ صَغائرُ الذُنوبُ الَّتي بينَ العَبدِ وبينَ رَبِه. ويبْقى نوعانِ مِنَ الذُنوب لا يَدْخل تحت هذِهِ الكفَّارات، وإنَّما كفَّارَتُه غيرَ مُجرَّد العَمل الصَّالح:
إذًا فالكفَّارات بأنواع الصَّالحاتِ تَشمُلُ الذُنُوب الصَّغائر التي بَينَ العَبدِ وبَينَ رَبِّه، عند التَّأمُل في النُّصوص الواردة يُرجَعُ إلى هذا. وأنَّهُ تبقى الكَبَائِر لا بُدَّ لها مِنْ توبةٍ صادقة، وتَبْقى حقوق الخَلْق فلا طريق لِلتَخلُصِ مِنْها إلَّا بِمُسامَحتِهم. هكذا رتبَ الحقُّ -جلَّ جلالُه وتعالى في عُلاه- ومِن هنا حَذِرَ كلُّ مَنْ يعزّ عليه دينُه وكلُّ مَنْ يَخاف حِساب القيامة؛ حذِروا مِنْ حُقُوق الخَلق ولو بِخواطِرهم، فَضلًا عَنْ نواظِرِهم، فَضلًا عَنْ ألسِنَتِهم، فَضلًا عَنْ أيدِيهم أو ظُلمِهم بِشئٍ أو الاعتِداء عليهم بأيِّ نَوعٍ مِنَ الاعتِداء. وأيقَنوا أنَّ الله لا يَترُكُ ذلك حتَّى يُعطي كلَّ ذِي حقٍّ حقَّه. وأنَّهُ لو امْتَدتْ يَدُ إنَّسان على حيوانٍ لمْ يَترُك الله تِلك المَدَّة حتى يَقتَص للحيوانِ مِن هذا الإنَّسان. فَحَذِروا مِنْ حُقُوق الخَلق لمَّا عظَّمها الحَقُّ -جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه- أيَّمَا حَذَر.
وهكذا يُحدِثُنا ﷺ عَنْ كفَّارةِ الوُضُوء والصَّلوات لِلخطايا وَهذه الذُنوب كَمَا يأتي في الحَديث بَعدَ ذلك خُروج خطايا ابن آدَمَ بِسبب الوُضُوء؛ فهو طُهرٌ. قالَ بعضُ أهلِ العِلم: فإنْ صادفَ أنَّ الذي عَمِلَ كفَّارةً مِنَ الصَّالِحاتِ ليسَتْ لَهُ صَغائر فَيُوشك أنْ يُكَفِّرَ اللهُ بها شيئًا مِنْ كَبَائره. فإنْ صادفَ أنْ لا كبيرةَ عليه ولا صغيرة؛ إلَّا قَدْ كُفَّرَتْ فيما مَضى أو كَمَا هو حالُ النَبِّيينَ، فإنَّ ذَلكَ بينَ أمْرينِ:
يقولُ بعدَ ذلكَ في الحديث: "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الصُّنَابِحِيِّ.."، وهذا مِمَّا لاحَظَ عليه الإمامُ البخاري أنَّ الَّذين رَووه عَنْ مَالكٍ وَقعَ فيهِ وَهْمٌ، "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الصُّنَابِحِيِّ.." وإنَّما هوَ أبو عبْدِ الله. "فَعَنْ أبي عبْدِ الله الصُنابِحي.." -وليسَ بعبْدِ الله الصُنابِحي-، "أنَّ رَسُولَ الله ﷺ قال: "إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ فَتمَضْمَضَ خَرَجَتِ الْخَطَايَا مِنْ فِيهِ"؛ بِبَركةِ المَضْمَضة. فتخرُجُ ذُنوبُه الَّتي تعلَّقَت بفَمِهِ وهي مُتَعلَّقة بِما يَتَناولُه الفَم أو بِما يَتَكلم بِهِ، بما يَمضَغُهُ أو يَتَكلم بِهِ. فَفِيه اللِّسانُ معدَن الخير ومعدَن الشَّرَّ، وفِيه الأسنان الَّتي يَمْضَغُ بِهِ الطَّعام، وهو مَمَرُ الطَّعام إلى مَعِدَةِ الإنسان.
فَعِنْدَ المَضْمَضة تخرُجُ الخطايا مِنْ فِيه، أي: مِنْ فَمِه. قالﷺ: "..وإِذَا اسْتَنْثَرَ خَرَجَتِ الْخَطَايَا مِنْ أَنْفِهِ"، ففيه أنَّ للأنفِ خطايا مُتَعلَّقةً بالشَّم وما إليه، فتُكَفَّرُ عِندَ الاسْتِنشاقُ الَّذي أُمِرنا بالمُبالغةِ فيهِ. فعندَ الاسْتِنثارِ وهو خروجُ الماءِ مِنَ الأنفِ، تُكَفَّرُ الذُنوب؛ خطايا مِنْ أنْفه. "..فَإِذَا غَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَتِ الْخَطَايَا مِنْ وَجْهِهِ، حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَشْفَارِ عَيْنَيْهِ". ومِنَ المَعلومِ أنَّ الفَمَ وكذلكَ الأنفَ مِنَ الوجه، ولكنْ سُنَّ لهُما مَضْمَضة واسْتِنشاق مُسْتَقلانِ عنْ غسلِ الوجه، لا دخلَ لهما في غسلِ الوجهِ كَما سَيأتي معَنا في مَسح الأُذُنينِ. فمِنَ القائلينَ أنَّهُما مِنَ الرأس؛ ولَكنْ لهُما مَسحٌ غيرُ مسحِ الرَّأسِ كالمَضْمَضة والاسْتِنشاق بالنِسبَةِ للفَمِ والأنفِ وهُما مِنَ الوجه؛ ولكنْ يُسنَّ لهُما مَضْمَضة واسْتِنشاق غير غسل الوجه مُسْتَقلة عَنْ ذلك.
ثُمَّ ذَكرَغَسْلَ اليدين، فقالَ: "فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَتِ الْخَطَايَا مِنْ يَدَيْهِ، حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِ يَدَيْهِ، فَإِذَا مَسَحَ بِرَأْسِهِ خَرَجَتِ الْخَطَايَا مِنْ رَأْسِهِ، حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ أُذُنَيْهِ"، وما تَقدَّم حتى تخرُج من محل كذا وهي جزء مِنَ العُضو؛ ولكن ذكر هُنا الأُذُنين مِنَ الرأس، فهل هُما مِنَ الرأس؟ بهذه الرواية استدل مَنْ يستدل على أنَّ الأُذُنين مِنَ الرأس، وفيها أربعة أقوالٍ:
قال: "مَسَحَ بِرَأْسِهِ خَرَجَتِ الْخَطَايَا مِنْ رَأْسِهِ، حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ أُذُنَيْهِ". فَتَبيَّن بِذلكَ أنَّ:
وتسمع ما جاءَ عَنْ الحسَن والشَعبي: أنَّ باطنَ الأُذُنين تقع به المُواجهة فهو مِنَ الوجه، وأنَّ ظاهِرُهُما الَّذي يلي الرَّقبة والرَّأس مِنَ الرَّأس، وهذا الَّذي يلي الوجه يُغسَل، وأنَّ الَّذي يلي الرَّأس يُمسَح.
قال: "خَرَجَتِ الْخَطَايَا مِنْ رَأْسِهِ، حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ أُذُنَيْهِ، ، فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتِ الْخَطَايَا مِنْ رِجْلَيْهِ، حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِ رِجْلَيْهِ". "ثُمَّ كَانَ مَشْيُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَصَلاَتُهُ نَافِلَةً لَهُ"، أي: زيادة لهُ، إمَّا زيادة في الكَفَّارة فيما لَمْ يُكَفر بالوُضُوء أو زيادة في الدَرجات والثَّواب، كانت نافلةً له. فإذا كانت تَخرُج هذه الخطايا مع الماء، فالماءُ المُستَعمل هذا، هلْ يجوز الطَّهارة به والتَوضؤ أيضًا وقدْ خرجتْ فيه الذُنُوب والمعاصي؟
قال: وعن أبو هريرة رضي الله عنه، أنَّ رسولَ الله ﷺ قال: "إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ -أَوِ قال الْمُؤْمِنُ- فَغَسَلَ وَجْهَهُ، خَرَجَتْ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنَيْهِ مَعَ الْمَاءِ، أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ، فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ، خَرَجَتْ مِنْ يَدَيْهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ بَطَشَتْهَا يَدَاهُ مَعَ الْمَاءِ، أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ، فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ، خَرَجَتْ كُلُّ خَطِيئَةٍ مَشَتْهَا رِجْلاَهُ مَعَ الْمَاءِ، أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ، حَتَّى يَخْرُجَ نَقِيًّا مِنَ الذُّنُوب". وهكذا جاءَ في رواية الإمام مُسلِم عليه رِضوان الله تبارك وتعالى.
فَتَعدَدت عِنْدنا الرِّوايات في الكفَّارة بالوضُوء وبالصَّلاة؛ "مَا مِنِ امْرِئٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ"، يعني يأتي بِهِ على أكملِ الهيئات والفَضائل، "يُحْسِنُ وُضُوءَهُ، إِلاَّ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلاَةِ الأُخْرَى، حَتَّى يُصَلِّيَهَا" يُحسن الوضُوء ثُمَّ يشهد الصَّلاة. وقدْ جاءَ في الحديثِ: أنَّ رَجُلًا أنابَ وتابَ بعدَ أنْ نظر امرأةً أجنبيةً وقبَّلها فجاء الرَّسول ﷺ مُهتمًا بشأنه خائفًا مِنْ ربِّه ومُعظمًا شأنَ لقائه وهو فعلَ هذه المَعصية، وسألَ النبي ﷺ أنْ يَستغفِر لَهُ وأنْ يُرشِدهُ إلى كفَّارةِ ذَنبه، فشَهِد الصَّلاة مع النبي ﷺ قال: "أشهدت هذه الصَّلاة معنا؟" قال: نعم ، قال: "إنَّ الله قد كفَّر عنك وغَفَر لك"، قال: ألي خاصة؟ قال: "بلْ لأُمَتي عامة" وأنزل الله: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّاكِرِينَ) [هود:114]. فالحمدُ لله الَّذي فَتح باب التَّوبة، وكَثَّر أسباب المَغفِرة لأُمة نبيِّه مُحمَّد ﷺ وقدْ جَعلَ أسباب المَغفِرة لجميع الأُمم؛ ولكنْ خصَّ هذه الأُمة بوفرة وكثرة وسهولة ويسر في الأسباب المُحصِّلة للمَغفِرة. فللَّهِ الحمدُ أنْ جعلنا مِنْ أُمَّة عبده المُصطفى سيِّدِنا مُحمَّد ﷺ.
وجاء في رواية: "غُفر له ما تقدم من ذنبه"، و"غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلاَةِ الأُخْرَى، حَتَّى يُصَلِّيَهَا". وممَّا جاءَ في ذِكرِ فائدةَ الحَسنة وثَواب الحَسنة وهي: كلُّ ما شرع اللهُ لنا مِنَ الواجبات والمَندوبات الَّتي استَحبها على لسان رسوله ﷺ. وتُفيد المؤمن هذه الأعمال الصَّالحة والحسنة أشياء مَذكورة في القُرآن منها:
وذكرَ لنا حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنه قال: "رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ ﷺ وَحَانَتْ صَلاَةُ الْعَصْرِ، فَالْتَمَسَ النَّاسُ وَضُوءاً" يعني: ماءً يتوضؤون به "فَلَمْ يَجِدُوهُ، فَأُتِي رَسُول اللَّهِ ﷺ بِوَضُوءٍ فِي إِنَاءٍ، فَوَضَعَ رَسُول اللَّهِ ﷺ فِي ذَلِكَ الإِنَاءِ يَدَهُ، ثُمَّ أَمَرَ النَّاسَ يَتَوَضَّؤُونَ مِنْهُ، قَالَ أَنَسٌ: فَرَأَيْتُ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ تَحْتِ أَصَابِعِهِ، فَتَوَضَّأَ النَّاسُ، حَتَّى تَوَضَّؤُوا مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ". الجيش كلُه وكانوا ألف وخمسمئة. وفي رواية أنَّ الإناء الَّذي أتَوا به إليه كان صغيرًا، حتَّى لمْ يَتسِع لمَد أصابعه فيه، ففاضَ الماءُ مِنْ بين أصابعه، حتَّى أخذَ الجيش يَشربون ويَتوضؤون، وتوضأ ألف وخمسمئة، كمْ كمية مِنَ الماء من بين أصابعه ينبع! وهذا تكرر مِنه ﷺ في عددٍ مِنَ الوقائع.
كان هذا الألف والخمسمئة الَّذين كانوا مَعه في غزوة الحُديبية أيام صُلح الحُديبية لمَّا رَجعوا، وكانَ هُناك بئر واحدة نزلوا فيها لمَّا رَجعوا مِنْ صُلح الحُديبية وفيها ماءٌ قليل. ثُمَّ أُخبر ﷺ فأرسل سهم مِنْ سهامه، قال: اغرزوه في البئر، فوضعوه، ففاضت لهم. فلم يزالوا، أي: تلك الأيام حتَّى انتهى الصُلح مع المُشركين، وهم يَسْتقون ويَشْربون ويَتَوضَؤون مِنْ تلك البئر. ثُمَّ لمَّا أرادَ الانصراف، أمَر فنزعَ السَّهمُ، فغار الماءُ مِنْ تلك البئر وعادَ قليلًا كما كان، ثُمَّ مَشوا فأدركتهم صَلاة العَصر، وما حصَّلوا ماء إلَّا قليل، فجاؤا بماء إلى عنده فوضع يدهُ الشَّريفة وقال: توضأوا ففارَ الماءُ مِنْ بين أصابعه ونبع، فتوضأَ الجيشُ كُلُه، حتَّى قالَ بَعضُهم لسيَّدنا أنس: كمْ كُنتمْ؟ قالَ: كمْ كُنتمْ؟! كمْ كُنتمْ؟! لو كُنَّا مئة ألفٍ لكفانا كُنَّا ألفًا وخمسمئة ﷺ. ثُمَّ كان في غزوة تبوك وكان في غيرها مِنَ الغزوات، نبعَ الماءُ مِنْ بين أصابعه.
وقالوا: هو أكبر وأعظم في المُعجِزة مِنْ مُعجِزة سيِّدنا مُوسى عليه السَّلام في ضربه الحجر بالعصا، فينبع الماء. فإنَّ الماء قد ينبع مِنَ الحجر ولكنْ مِنْ بين لَحمٍ ودَمٍ ما قد خرج الماء، لكن لرسول الله ﷺ خرج هذا الماء، وقالَ أهلُ العلم: هو أفضل المياه الَّتي خَلَقها اللهُ على الإطلاق. أفضلُ المياه الماءُ الَّذي نبعَ من بين أصابع رسولِ الله ﷺ.
فأفضل المياه ماءٌ قد نُبعْ *** من بين أصابع النبي المتّبعْ
حتَّى قالَ بعضُ الصَّحابة: فجعلت لا آلو ما أجعل في بطني؛ يعني يشربْ مِنهُ كثير لأنهُ مُبارك عظيم مِنْ أين جاء؟
يليه ماء زمزمٍ، فالكوثرِ *** فنيلِ مصر، ثُمَّ باقي الأنهرِ
هذه أفاضلُ المياه:
يقولُ: "فَتَوَضَّأَ النَّاسُ، حَتَّى تَوَضَّؤُوا مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ"، وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ يقول: "مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ خَرَجَ عَامِداً إِلَى الصَّلاَةِ، فَإِنَّهُ فِي صَلاَةٍ مَادَامَ يَعْمِدُ إِلَى الصَّلاَةِ، وَإِنَّهُ يُكْتَبُ لَهُ بِإِحْدَى خُطْوَتَيْهِ حَسَنَةٌ، وَيُمْحَى عَنْهُ بِالأُخْرَى سَيِّئَةٌ، فَإِذَا سَمِعَ أَحَدُكُمُ الإِقَامَةَ فَلاَ يَسْعَ" -أي: لا يجري- "فَإِنَّ أَعْظَمَكُمْ أَجْراً أَبْعَدُكُمْ دَاراً. قَالُوا: لِمَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ؟ قَالَ" مِنْ أَجْلِ كَثْرَةِ الْخُطَا".
ثُمَّ ذكر ما سُئل عنه سيِّدنا سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ أنَّ الاستنجاء بالماءِ كان ذلك للنساء، "إِنَّمَا ذَلِكَ وُضُوءُ النِّسَاءِ"، يتحدثُ عن الواقع الَّذي كانَ عليه النَّاس. ثُمَّ إنَّهُ ﷺ أرشدَ النَّاسَ إلى استعمال الماء -رجالًا و نساءً- في الاستنجاء وأنَّ ذلكَ أفضل. حتَّى قالتْ السيِّدة عائشة لبعض النِّساء كُنَّ عندها: مُرْنَ أزواجكُن ليغسِلوا أنفُسهم مِنَ الغائط، "فإني استحييهم" قالت الرِّجال إذا كلموني مِنْ وراء الحجاب ما أذكُر لهم هذا الأشياء وأستحي، أنتن كلمنّ رجالكن وقلن أنَّ السُنَّة والأفضل ألا تكتَفوا بالحجر؛ ولكنْ استعملوا الماءَ في الاستنجاء ليكونَ ذلك أنظف، فإنها سُنةُ رسول الله ﷺ. وهكذا بُنيَ الدِّينُ على النَّظافة.
ثُمَّ ذَكرَ مسألة إذا شَرب الكلب وبقي هذين الحديثين تأتي معنا إن شاء الله.
اللهم أكْرمْنا بالنقاء والطَّهارة، وسِرْ بنا مسَارَ أهلِ الصِّدق معكَ فيمَنْ أقبلَ بالكُليَّةِ عليك، وأعِذنا مِنْ شرورِ أنْفُسنا وسيئاتِ أعمالنا، وأصْلح شؤوننا بما أصلحتَ به شؤونَ الصَّالحين، بِسرٍّ الفاتحة إِلى حَضرَة اَلنبِي ﷺ.
21 ذو القِعدة 1441