(229)
(536)
(574)
(311)
شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الزكاة، باب مَكِيلة زكاة الفِطر.
فجر السبت 8 رجب 1442هـ.
باب مَكِيلَةِ زَكَاةِ الْفِطْرِ
776 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى النَّاسِ، صَاعاً مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعاً مِنْ شَعِيرٍ، عَلَى كُلِّ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ، ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
777 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أبِي سَرْحٍ الْعَامِرِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ: كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعاً مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعاً مِنْ شَعِير، أَوْ صَاعاً مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعاً مِنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعاً مِنْ زَبِيبٍ، وَذَلِكَ بِصَاعِ النَّبِيِّ ﷺ.
778 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ لاَ يُخْرِجُ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ إِلاَّ التَّمْرَ، إِلاَّ مَرَّةً وَاحِدَةً فَإِنَّهُ أَخْرَجَ شَعِيراً.
779 - قَالَ مَالِكٌ: وَالْكَفَّارَاتُ كُلُّهَا، وَزَكَاةُ الْفِطْرِ، وَزَكَاةُ الْعُشُورِ، كُلُّ ذَلِكَ بِالْمُدِّ الأَصْغَرِ، مُدِّ النَّبِيِّ ﷺ إِلاَّ الظِّهَارَ، فَإِنَّ الْكَفَّارَةَ فِيهِ بِمُدِّ هِشَامٍ، وَهُوَ الْمُدُّ الأَعْظَمُ.
الحَمدُ للهِ مُكرمنا بالشريعة المُباركة العظيمة، وبيانها على لسان عبدهِ المصطفى مُحمد صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آلهِ وأصحابهِ ومن والاهم واتبع طريقتهم القويمة، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين المخصوصين بأسنى مِنن الله الفخيمة، وعلى آلهم وصحَبِهم وتابعِيهم والملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصالحين وعلينا معهُم وفيهم برحمتهِ إنه أرحم الراحمين.
ويواصل سيدنا الإمام مالك -رضي الله تعالى عنه- ذكر الأحاديث المتعلقة بزكاة الفطر، وقال: "باب مَكِيلَةِ زَكَاةِ الْفِطْرِ"؛ أي: ما تُكال به زكاة الفطر، ومقدار الكيل الذي يُخرج الزكاة، مقدار صدقة الفطر على كل من تجب عليه كم يجب أن يخرج. فأورد لنا حديث "عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَرَضَ" ألزم وأوجب " زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى النَّاسِ" وزكاة الفِطرِ من رمضان، والفطر يكون بغروب شمس ليلة العيد، وبذلك تقدّم الكلام معنا في وقت وجوب الزكاة للفطر، وذكرنا:
والمعتمد عند الشافعية أن العبرة في الوجوب بإدراك جزء من رمضان وجزء من شوال.
"زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى النَّاسِ، صَاعاً مِنْ تَمْرٍ"، كما تقدم معنا أنه تجب تلك الزكاة:
"زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى النَّاسِ، صَاعاً مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعاً مِنْ شَعِيرٍ" وذلك أنه كان قوتهم في ذلك الوقت، وأكثر ما يقتاتون التمر والشعير، ويقتاتون البر كذلك، قال: "صَاعاً مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعاً مِنْ شَعِيرٍ". وجاء في رواية عند البخاري وعند مسلم كذلك: "صَاعًا من طعامٍ"، أو "صَاعًا من تمر، أو صَاعًا من شعير"؛ فأراد بالطعام البر. وبذلك قال الأئمة الثلاثة: أنه لا فرق بين البُرّ وغيره، في وجوب إخراج صَاعٍ كامل على كل من وجَبت عليه الزكاة.
فلم يفرق الأئمة الثلاثة في أنه يجب أربعة أمداد صاع سواء كان بر أو غيره. وجاء عن أبي حنيفة أنه يلزم الصاع من مثل الشعير و التمر، وأنه يكفي في البر نصف الصاع، ويروى ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وكذلك جاءت روايتان عن أبي حنيفة في الزبيب، أيجزئ نصف الصاع في الزبيب أو لابد من صاع؟ وقال غيره من الأئمة لا فرق بين البر ولا الزبيب ولا غيره من الأطعمة؛ يجب فيه زكاة الفطر إخراج صاع كامل على كل من وجبت عليه الزكاة.
ويدل عليه الحديث: "صَاعاً مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعاً مِنْ شَعِيرٍ، عَلَى كُلِّ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ، ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ"، كما تقدّم الكلام معنا على:
وهذا الحديث الذي أورده الإمام مالك وهو وارد أيضًا في الصحيحين بألفاظٍ متقاربة، في فرض رسول ﷺ صدقة الفطر، ثم أن إخراجه من القوت؛ قوت أهل البلد؛ من الأقوات التي يلزم فيها زكاتها عند الجمهور عند الحصاد إذا زرعت وكانت نصابًا تلزم فيها الزكاة، فهذه المعشرات ممّا المقتات، فكل قوت لأهل البلد يجوز إخراج من الطعام صَاعًا منه، والأصل فيها المكيال وإنما اعتبروا الوزن تعديلًا للمكيال، والأصل في كلها الاعتبار بالكيل؛ الأربع أمداد بمد النبي ﷺ.
وأجمعوا على ذلك في صدقة الفطر، وكذلك في الكفّارات؛ إلا ما جاء عن مالك أنه يُخرج بمدٍّ مشهورٍ عندهم -غير زكاة الفطر- فَتُخرج في زكاة الكفارة مُد أكبر من هذا المُد، وهو أشبه بالمد الذي كان يُكوّم عندنا، والأصل في الكيل أنه يُمسح؛ ولا يُكوم فوقه هذا هو أصل الكيل، وبهذه الأمداد التي كانت تستعمل في هذه البلدة، وبمسحها تأتي أربعة أمداد بمد النبي ﷺ، أما بتَكويمها فتزيد على ذلك. وكانت الإمداد تستعمل في سَيئون تَحتاج إلى التكويم، فبكَومها تصل إلى المُدّ النبوي، ولم يزل ذلك أيضا مضبوطٌ إلى وقتنا المُد النبوي، واعتنى من اعتنى بتقديره، ولم يزل أيضًا في المدينة المنورة معروفٌ ومعمولٌ به ومُصنّع على قدر المكيال الذي تورّث في ذلك.
ثم قال الشافعية والمالكية: أنه من غالب قوت البلد يجب ان يُخرج، وليس من أي نوع من أنواع هذه الأطعمة، بل يُخرج من غالب قوت البلد.
قال الشافعية: أو من أعلى منه، ولا يجوز من أدنى منه، ورتبوا الأقوات ترتيبًا، وقالوا:
وهكذا إذا اقتات اهل بلدة اللبن والجبن صار من الأقوات التي يجوز أن تُخرج في زكاة الفطر.
فلو كان قوتهم الجبن جاز في مذهب الشافعية يخرج أي نوع من هذه الأنواع لأن الجبن آخر واحد في التقدير، وإن كان قوتهم اللبن فيجوز أن يخرج أي نوع غير الجبن مع اللبن، وإن كان قوتهم الزبيب لم يَجُز أن يخرج اللبن ولا الجبن، ويخرج الزبيب فما فوقه، وكذلك إذا كان قوتهم التمر، فلا يخرج الزبيب ولا اللبن ولا الجبن، وهكذا بالترتيب. فإذا كان قوت البلد البُر وغالب قوت أهل البلد البر فحينئذٍ لا يجزئ عند الشافعية إلا البر لأنه أعلى الأقوات، فلا يُخرج غيره وحَمَلوا قوله: "صَاعاً مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعاً مِنْ شَعِيرٍ"، أن ذلك هو القوت الغالب في ذلك الزمان؛ أي: كان قوتهم الشعير والتمر، وأمّا إذا صار قوتهم أعلى من ذلك فلا يُخرج منها.
قال: "مِنَ الْمُسْلِمِينَ"؛ يعني: أنها واجبة على من كان مسلمًا، فلا فطرة على كافر عن نفسه، ولا عن غيره.
وأورد لنا حديث أبي سعيد الخدري: "كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعاً مِنْ طَعَامٍ"، وفسّره الشافعية أن المراد به البُر "صَاعاً مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعاً مِنْ شَعِير" والشعير أليس طعام؟ " أَوْ صَاعاً مِنْ تَمْرٍ" والتمر أليس طعام؟ إذًا أراد بالطعام البُر، " صَاعاً مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعاً مِنْ شَعِير، أَوْ صَاعاً مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعاً مِنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعاً مِنْ زَبِيبٍ، وَذَلِكَ بِصَاعِ النَّبِيِّ ﷺ" وهذا الحديث أيضًا في الصحيحين وغيرهما. ويقول القفّال الشاشي: إن الناس يمتنعون غالبًا من الكدّ في العيد وكذلك ثلاثة أيام بعده، ولا يجد الفقير من يستعمله فيها؛ ما يحصل أحد يستأجره في هذا الوقت ليكسب قوته؛ لأنها أيام سرور وراحة عقب الصوم، والذي يتحصّل من الصَاع يجعله خبزًا فالصَاع خمس أرطال وثلث، فيأتي منه كفاية النفقة ليوم العيد وثلاثة أيام من هذا الصَاع، فيحصّل له ما يكفيه في هذا اليوم وقال: "اغنوهم عن السؤال" في هذا اليوم.
وجاء الصَاع بتحديد الشارع، وينبغي الالتزام به. والطعام إذا أُطلق أريد به الحنطة التي هي البُر، هذا البر، وهكذا يطلقون العرب إذا أطلقوا الطعام أرادوا به البُر، يقول: "صَاعاً مِنْ طَعَامٍ"، وان كان معروفًا عند أهل الحجاز الذرة كثيرًا، وهو من جملة الأقوال التي تغلب. وجاء في رواية عن أبي سعيد: "صَاعًا من تمر، أو صاعًا من سُلتٍ أو ذرة، صاعًا من شعير أو صاعًا من طعام".
وكان أيضًا في زمنه ﷺ يُعدّ البُر من أجود الأطعمة أو يقل استعماله عند البعض، وهو من أجود الطعام عندهم. وقد بيّنا أن الواجب من أي جنس من أجناس الطعام عند الأئمة الثلاثة: صاعٌ كامل، وأنه يُجزئ نصف الصاع عند أبي حنيفة كما يُروى عند بعض الصحابة -رضي الله تبارك وتعالى عنهم-.
"أَوْ صَاعاً مِنْ شَعِير، أَوْ صَاعاً مِنْ تَمْرٍ"، وأشرنا إلى:
إذا يقتاتون بين أهل البلد بالسوية ليس هناك غالب، فإذا غلب نوع من أنواع الأطعمة تعيّن إخراجه لزكاة الفطر، لأنه يرتاح إليه أهل تلك البلدة، فيُخرج من أغلب ما يقتاتون، والمعتبر فيه غالب قوت السَّنة.
وهكذا كما سمعت يقول الشافعية: يمكن الأعلى يجزي عن الأدنى ولا يجزئ الأدنى عن الأعلى.
"أَوْ صَاعاً مِنْ أَقِطٍ"؛ يُقال في الأقِط: لبن يابس منزوع الزبد، أشبه ما يسمونه عندنا بالقثي، كانوا يبيعونه في شعب هود قديم، ما يستعملونه الآن كثير، كنا نعرفه من اللبن، أصله كان البادية يستعملونه وكانوا يمخضون ويجفّفون اللبن ويستخرجون منه هذا الأقط، يقولون له: قثي عندنا، كانوا يأتون في أيام زيارة النبي هود، البدو يبيعونه والناس يجيبونه من جملة الهدية، أشبه بهذا الموجود عندهم في الشام، يخلطون به الأرز في طبخة معينة عندهم يسمّونها: منسَف، لكنه سائل، إذا جُفِّف هذا هو الأقِط، يجيء فيه بعض الحموضة، ويضعونه فوق الرز في المنسف، يقولون له: كشك، في الهندية، لكنه الأصل هو لبن مجفف، حتى نفس ذوقه نفس ذوق هذا القثي عندنا نفسه، يحطونه فوق الأرز.
"أَوْ صَاعاً مِنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعاً مِنْ زَبِيبٍ"؛ وهو الجاف من العنب "وَذَلِكَ بِصَاعِ النَّبِيِّ ﷺ"؛ أربع أمداد بمُدّه صلوات ربي وسلامه عليه.
وعلمنا أن المُدّ عند الوزن؛
وقد ذكر لنا حديث: "أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ لاَ يُخْرِجُ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ إِلاَّ التَّمْرَ"؛ لأنه كان قوته وقوت أهل بلده في المدينة المنورة، أكثر قوتهم التمر، "إِلاَّ مَرَّةً وَاحِدَةً فَإِنَّهُ أَخْرَجَ شَعِيراً" يقول سيدنا نافع: فكان ابن عمر يعطي من التمر، فأعوز أهل المدينة من التمر فأعطى شعيرًا، وهكذا قال: كان ابن عمر إذا أعطى يعني زكاة الفطر أعطى من التمر إلا عامًا واحدًا.
قال:"وَالْكَفَّارَاتُ كُلُّهَا، وَزَكَاةُ الْفِطْرِ، وَزَكَاةُ الْعُشُورِ" زكاة الحبوب والمعشّرات، كل ذلك بالمُدّ الأصغر، "مُدِّ النَّبِيِّ ﷺ إِلاَّ الظِّهَارَ" هذا قول مالك في الظهار، " إِلاَّ الظِّهَارَ، فَإِنَّ الْكَفَّارَةَ فِيهِ" بالمُد الأعظم "بِمُدِّ هِشَامٍ" كان مشهور عندهم، وهو عامل لعبد الملك بن مروان في المدينة، عنده مدُ أكبر من هذا المد، فجعل الإمام مالك مُد هشام في الكفّارات، لكن قال: غيره من الأئمة: نفس المُد في في الكفارة كالمُد في زكاة الفطر واحدٌ، والله أعلم.
بلّغنا الله رمضان، وجعلنا من أهل المقبولين فيه، والمنظور إليهم من أول ليلة من ليالي رمضان نظرة الرحمة، وتولّانا بما تولّى به المحبوبين من عباده المقرّبين أهل التمكين، ورقّانا أعلى مراتب علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين، و أصلح شؤوننا بما أصلح به شؤون الصالحين بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي ﷺ.
09 رَجب 1442