(229)
(536)
(574)
(311)
شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الزكاة، باب زكاة ما يُخْرَصُ من ثمارِ النَّخيلِ والأعناب.
فجر الإثنين 26 جمادى الآخرة 1442هـ.
باب زَكَاةِ مَا يُخْرَصُ مِنْ ثِمَارِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ
727 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الثِّقَةِ عِنْدَهُ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَعَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ، وَالْعُيُونُ، وَالْبَعْلِ: الْعُشْرُ ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ: نِصْفُ الْعُشْرِ".
728 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زِيَادِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ قَالَ: لاَ يُؤْخَذُ فِي صَدَقَةِ النَّخْلِ الْجُعْرُورُ، وَلاَ مُصْرَانُ الْفَارَةِ، وَلاَ عَذْقُ ابْنِ حُبَيْقٍ. قَالَ وَهُوَ يُعَدُّ عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ، وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهُ فِي الصَّدَقَةِ.
قَالَ مَالِكٌ: وَإِنَّمَا مِثْلُ ذَلِكَ، الْغَنَمُ تُعَدُّ عَلَى صَاحِبِهَا بِسِخَالِهَا، وَالسَّخْلُ لاَ يُؤْخَذُ مِنْهُ فِي الصَّدَقَةِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الأَمْوَالِ ثِمَارٌ لاَ تُؤْخَذُ الصَّدَقَةُ مِنْهَا، مِنْ ذَلِكَ الْبُرْدِيُّ وَمَا أَشْبَهَهُ، لاَ يُؤْخَذُ مِنْ أَدْنَاهُ كَمَا لاَ يُؤْخَذُ مِنْ خِيَارِهِ.
قَالَ: وَإِنَّمَا تُؤْخَذُ الصَّدَقَةُ مِنْ أَوْسَاطِ الْمَالِ.
729 - قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا: أَنَّهُ لاَ يُخْرَصُ مِنَ الثِّمَارِ إِلاَّ النَّخِيلُ وَالأَعْنَابُ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُخْرَصُ حِينَ يَبْدُو صَلاَحُهُ، وَيَحِلُّ بَيْعُهُ، وَذَلِكَ أَنَّ ثَمَرَ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ يُؤْكَلُ رُطَباً وَعِنَباً، فَيُخْرَصُ عَلَى أَهْلِهِ لِلتَّوْسِعَةِ عَلَى النَّاسِ، وَلِئَلاَّ يَكُونَ عَلَى أَحَدٍ فِي ذَلِكَ ضِيقٌ، فَيُخْرَصُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ يُخَلَّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ يَأْكُلُونَهُ كَيْفَ شَاوُوا، ثُمَّ يُؤَدُّونَ مِنْهُ الزكاة عَلَى مَا خُرِصَ عَلَيْهِمْ.
730 - قَالَ مَالِكٌ: فَأَمَّا مَا لاَ يُؤْكَلُ رَطْباً، وَإِنَّمَا يُؤْكَلُ بَعْدَ حَصَادِهِ مِنَ الْحُبُوبِ كُلِّهَا، فَإِنَّهُ لاَ يُخْرَصُ، وَإِنَّمَا عَلَى أَهْلِهَا فِيهَا إِذَا حَصَدُوهَا وَدَقُّوهَا وَطَيَّبُوهَا وَخَلُصَتْ حَبًّا، فَإِنَّمَا عَلَى أَهْلِهَا فِيهَا الأَمَانَةُ، يُؤَدُّونَ زَكَاتَهَا إِذَا بَلَغَ ذَلِكَ مَا تَجِبُ فِيهِ الزكاة
قالَ ماَلِكٌ: وَهَذَا الأَمْرُ الَّذِي لاَ اخْتِلاَفَ فِيهِ عِنْدَنَا.
731 - قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا أَنَّ النَّخْلَ يُخْرَصُ عَلَى أَهْلِهَا وَثَمَرُهَا فِي رُؤُوسِهَا إِذَا طَابَ وَحَلَّ بَيْعُهُ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ صَدَقَتُهُ تَمْراً عِنْدَ الْجِدَادِ، فَإِنْ أَصَابَتِ الثَّمَرَةَ جَائِحَةٌ بَعْدَ أَنْ تُخْرَصَ عَلَى أَهْلِهَا، وَقَبْلَ أَنْ تُجَذَّ، فَأَحَاطَتِ الْجَائِحَةُ بِالثَّمَرِ كُلِّهِ، فَلَيْسَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةٌ، فَإِنْ بَقِيَ مِنَ الثَّمَرِ شَيْءٌ يَبْلُغُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ، فَصَاعِداً بِصَاعِ النَّبِيِّ ﷺ، أُخِذَ مِنْهُمْ زَكَاتُهُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ فِيمَا أَصَابَتِ الْجَائِحَةُ زَكَاةٌ، وَكَذَلِكَ الْعَمَلُ فِي الْكَرْمِ أَيْضاً.
732 - قَالَ مَالِكٌ: وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ قِطَعُ أَمْوَالٍ مُتَفَرِّقَةٌ، أَوِ اشْتِرَاكٌ فِي أَمْوَالٍ مُتَفَرِّقَةٍ، لاَ يَبْلُغُ مَالُ كُلِّ شَرِيكٍ أَوْ قِطَعُهُ مَا تَجِبُ فِيهِ الزكاة، وَكَانَتْ إِذَا جُمِعَ بَعْضُ ذَلِكَ إِلَى بَعْضٍ يَبْلُغَ مَا تَجِبُ فِيهِ الزكاة، فَإِنَّهُ يَجْمَعُهَا وَيُؤَدِّي زَكَاتَهَا.
الحمد لله مُكرِمنا بشريعته، وحُسنَ بيانها على لسانِ خير بريته، عبده المُجْتبى المُختار مُحمّدٍ صفوته، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك وكرِّم عليهِ وعلى آله وصحبهِ وآل بيتهِ وعِترته، وعلى من والاهُ فيكَ وأتَّبعهُ مِنْ أُمته، وعلى آبائهِ وإخوانهِ مِن أنبيائكَ والمرسلين، وعلى آلهم وصحبهم والتَّابعين، وعلى ملائكتكَ المُقربين، وجميعِ عبادكَ الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الرَّاحمين.
وبعدُ،
يواصلُ الإمام مَالِك عليه رحمة الله تعالى، ذكر الأحاديثِ المُتعلقة بالزكاة وقال: "باب زَكَاةِ مَا يُخْرَصُ مِنْ ثِمَارِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ"
والمُرادُ هنا بالخْرَصِ: تقديرُ وحَزِرْ الثمر، مِنَ النخيل والعنب، ليُعلمَ بعدَ بدوِّ صلاحهِ، بعدَ تلونهِ مِنْ حُمرةٍ وصُفرةٍ إلى غير ذلك في التمر، وفي النخل، وفي العنبِ كذلك. فإذا بدأ يتلون يمكن للخَارِصِ أن يُقدِّر أنَّ هذا سيخرجُ مقدارَ كذا تمرًا، أنَّ هذا سيخرجُ مقدارَ كذا زبيبًا.
ومِنْ أجلِ ضبطِ الزكاة، قال: "باب زَكَاةِ مَا يُخْرَصُ مِنْ ثِمَارِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ"، والذي يُقال لها الْكَرْم، قال تعالى: (..وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ ..) [النحل:67]
فعلِمنا ما هو الخْرَصُ وذلك أنه يُحتاجُ في خصوص التمرِ إلى استعمال الرُّطَب منه، والعِنب كذلك فيؤكل عِنبًا قبل أن يَجِفْ ويتَزببْ، فكيف يكون مقدار الزكاة فيه؟ وإنما العبرة بكيلهِ إذا جفَّ، وإذا صار تمرًا.
بذلك قال الجمهور أنهُ يجوز الخْرَص وتقدير الزكاة وتضمينُها ذِمة المَالِك، ثُمَّ يتصرف المَالِك في ذلك التمرِ وذلك العِنب فيأكل منه رُطَبًا، ويُخرجْ مقدارَ ما أُوجبَ، ما كُلِّفَ ورُبطَ بِذمته من الزكاة.
فهوَ حَزْرُ ما على النَّخلة مِنْ الرُطَبْ تمرًا، ليُعرف مقدار عُشره، فيُثبت على مالكهِ ويُخلّى بينه ويُؤخذ ذلك المقدار وقت الجَذاذ. ولم يقل بذلك الحَنَفِية وجعلوا العبرة بما يكون بعد ذلك مِنْ كيله تمرًا، وقالوا إنما الحَزَرُ تقديرٌ بِظنّ.
فجمهور العُلماء على إجازةُ الخرَصِ في النَّخيل والأعناب، وأختلفوا في الزَّيتون هل يَصِحُ فيه الخرَص، وهل تجبْ فيه الزكاة أم لا؟
وهكذا علِمنا أنَّ تقديرَ النِّصاب بالخْرَصِ والاعتبار به عليهِ جمهور العُلماء في النَّخيل والأعناب، بخلاف الحبوب والثِّمار، بخلاف الحبوبِ الأُخرى بأنواعها من بْرٍ وذُرةٍ وأرزٍ إلى غير ذلك، لا يأتي فيها هذا الخْرَص، لأنَّما يكون ذلك مِنْ أجلِ أكل الرُطَبْ، وأكل العِنبْ.
وجاء أن النبي ﷺ كان يُرسلً عبدُ الله بْنِ رواحة رضي الله عنه إلى خيَّبر فيخْرص عليهم النخل.
وقال الحنفية: أن الخْرَص الخْرَص لأهلِ خَيَّبر هم ليسوا من أهل الزكاة، لا تلزمهم الزكاة؛ لكنَّ الزكاة على المالِك لأنَّ لهم نِصفُ الثمر ، والنِصف الثاني للمالك وعليهِ أن يُخرج زكاته.
وبعدَ ذلكَ، هل يمضي قول الخَارِص أو يرجِع ما آل إليه الحال بعدَ الجفاف؟
قال الإمام مَالِك: يمضي قول الخَارِص
وهل يكفي خَارِص واحد؟ أو لا بد من اثنين؟ وهل هذا شاذَ أو حُكم؟ وهل يؤاخذ أصحابُ الزََرع بما أكلوا قبل الجَذاذِ أم لا؟ فهذهِ تفريعات المسائل لِمنَ قال بجوازِ الخَرصِ ولهم فيها نَظر، وبينهم فيها اختلاف. واستدلوا بجوازِ الخْرَص، للخَارِص الواحد أنه ﷺ كان يبعث ابن رواحة وحدهُ ولم يُذكر معه غيره، وَكان يخرص على أهل خيبر. وجاء عنه: أنَّ اليهودَ حاولوا أستدراجهُ بأن يُنَّقص مِنَ المقدارِ عليهم، كما هي عادتهم في محبةِ المالِ وحِرصهم عليه، وحاولوا ذلك بالإغراء بالمَال وبالتَّرهيب بأن بعثوا للَّنبيَّ ﷺ إن صاحبك يُجحِف علينا! وعرضوا عليهِ بعض المال ليُخَفِض الواصي فقال: أترشونني في أمرِ الله تعالى؟ قد جئتكم مِنْ عند أحبِ النَّاس إليّ، وأنتم أبغض إليَّ منْ عِدتكم مِنَ القردة، وواللهِ ما يَحمِلني حبيّ إياه وبغضي إيَّاكم على أن أزيد في التَّقدير حَبة ولا أنقُص حَبة، كانَ يسمعُهم وهم يحاورونه بعض علمائهم من اليهود، ولمَّا سمعوهُ يقول هذهِ الكلمة قالوا: بهذا العدْل قامتِ السَّماوات والأرض. هذا كلام أهل الحق، وأهل العدل، وكلام الصَّادقين! قال لهم عبدُ الله بِنْ رواحة: أنا أبغضَكم في الله تبارك وتعالى، لا أحبكم، القِردة أحبُّ إليَّ منكم ولكن؛ وأحبُّ الخلقِ إليَّ رسول الله، جِئتُكم مِنْ عندِ أحبِّ الخلقِ إليَّ، وأنتم أبغَضُ إليَّ من عِدتكم مِنَ القِردة، وواللهِ ما يَحمِلني حبيّ إياه وبغضي إيَّاكم على أن أزيدَ في التَّقدير حَبة ولا أنقُص حَبة، إلا الحقُ بِحسبِ ما علمني الله، قالوا: بهذا العدْل قامتِ السَّماوات والأرض، فصلَّى الله على مُحمّدْ وأهلِ تربيتهِ، صلوات الله وسلامهُ عليهِ وعلى آله وصحبه.
وجاءَ في (شرحِ الإقناع) يقول: سُنّة خَرص كلِ ثمرٍ فيه زَكاة إذا بدا صَلاحه على مالِكهِ للاتِّباع، لنقلِ الحقِ -حقِ الزكاة- مِن العين إلى الذِّمة.
وهكذا يقول الإمام النَّووي: سنة خَرْصٌ بأن يطوفَ الخَارِص بِكل شجرة، ويُقدَّر ثمرَتها أو ثمرة كلِ نوعٍ رَطْبًا ثم يابسًا، كأن يقول هذه شجرة أنبتت خمسون وَسقْ عِنَب أو رُطَب، يحصل منها بعدَ الجفاف عشرون وَسق زَبيب أو تمر، يكون فيهِ المستحقينَ كذا، ثم يُضمِّن المالك حقَ المُستحقين، يقول: ضَمَّنتك حقَ المُستحقين مِنَ الرُّطْب مثلًا بكذا تمر، فيقول المالِك: قبِلتُ، فيقبل المالِكُ فورًا، رفقًا بالمالِكِ والمُستحقين.
ولكن أيضًا هنا قولٌ كان مالَ إليهِ الإمامُ العارِف عُمر بِن عبد الرَّحمن العطاس أنَّه: يُخرجُ زكاةُ الرُّطْب رُطَبًا، إذا أخذ من الرُّطْب كميةً وهو من جُملةِ نخلٍ يلزم فيه الزكاة، فعليه أن يخرجَ العُشر أو نِصف العُشر مِنَ الرُّطْبِ ويعطي الفُقراء رُطَبًا، وقالَ هذا أصلح للفقراء؛ فإنما شُرِّعت الزكاة لمصلحة الفقراء، وهل تستأثرونَ أنتم بأكل الرُّطْب والفقراء ينتظرونَ التَّمر حتى يتمِّر لا يطعمون الرُّطْب؟ فأَعطوهم مِنْ زكاة الرُّطْبِ ثُمَّ إذا تَمَّر فأعطوهم زكاة التَّمرِ.
وهذا فيهِ تسهيلٌ ويسرٌ، فينبغي العمل به لمن أخذ شيئًا من الرُّطَبِ حتى لا يقعَ في حرج الأكل مِن دون الزكاة، لأنَّ الزكاة تتعلقُ بعينِ هذا الرُّطب إلى أن يصير تمرًا؛ في كل تمرةٍ نصف عُشُرها أو عُشُرها الزكاة، كُلّ تمرة، والنَّاسُ يأكلونَ الزكاة وبعد ذلكَ يأثمون، فإمَّا بالخَرصِ وإمَّا بالقولِ بإخراجِ الزكاة رُطَبًا، يأكلونَ الرُّطَب. ومن المعلوم أنَّهُ ﷺ كان يأكلُ الرُّطَب وكان يأكلُ العِنَبْ، فلا بُدَّ فيهِ بِمن وجبتْ عليهِ الزكاة مِنْ خَرصٍ.
وأيضًا جاءَ عندَ بعضِ الأئمة يقول في (نيل المآرب): سُنة للإمام بعثَ خارصٍ لثمرةِ النَّخلِ والكَرمِ، إذا بدا صلاحُها ويكفي واحد، لأنَّه مثلُ الحاكم. وجاءَ عندَ المَالِكية: إنَّما يُخْرصُ مِنَ التَّمرِ والعِنبِ على رؤوسِ الأشجارِ إذا حلَّ بيعهُما بِبدوّ صلاحِهما، واحتاجَ أهلهُ للتصرّف فيهِ، ولا يُخرصُ بعدَ صيرورتهُ تمرًا، لأنَّهُ يُقطعُ ويُنتفع به، فلا ننتقل منْ معلومٍ إلى مجهولٍ، خلاص أصبح تَّمر.. خرّجه وكُله، وأخرجْ العشر أو نِصف العشر وإنتهينا.
وهكذا جاءَ إذًا عندَ المَالِكية قولهم: ويجوزُ خرصُ العنبِ والرُّطبِ ويكفي خارصٌ واحدٌ. واختلفَ في سببِ مشروعيةِ التَّخريصِ، إلى حاجة أهلهما إليهما، وظهرَ قول مَالِكْ: لا يُخرصُ إلاَّ التَّمرُ والعِنبْ للحاجةِ إلى أكلِّهما رطبينِ، وإنَّما خصَّ الشَّارعَ هذين لأنَّ شأنهما اختلافُ الحاجةِ إليهما دونَ غيرهما من زيتونٍ، وفولٍ، وحمصٍ، وشعيرٍ. ولم يقلْ بالخرصِ الحَنَفِية كما سمعتَ.
يقول: "حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الثِّقَةِ عِنْدَهُ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَعَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ، وَالْعُيُونُ، وَالْبَعْلِ.." أي: وفي البعلِ؛ وهو الشَّجرُ الذّي يستقي بنفسهِ، تبلغُ عروقهُ إلى الماِء ويستقي مِنْ نفسهِ، "وَالْبَعْلِ: الْعُشْرُ" فيجبُ إخراجُ عُشرهُ زكاةً، "وَفِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ" وهو الرَّشُ والصَّبُ أي ما سُقيَّ بِما يُستخرجُ من الآبارِ بسانية أو مكينة أو غيرَ ذلكَ، "نِصْفُ الْعُشْرِ".
إذًا:
"فيما سقتِ السَّماءُ العُشر".
فاتفقوا على مقدارِ الزكاة ما بينَ العُشر ونِصفُ العُشر.
يقول: "مَالِكٍ، عَنْ زِيَادِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ قَالَ: لاَ يُؤْخَذُ فِي صَدَقَةِ النَّخْلِ الْجُعْرُورُ" نوعٌ رديءٌ من التَّمرِ إذا جفَّ يصيرُ حشف، ويُؤكلُ رُطبًا، "وَلاَ مُصْرَانُ الْفَارَةِ" مُصْرَان الْفَارَةِ أيضًا نوعٌ آخر رديٌء من التَّمر، نواتُهُ يجئ عليها قشرةٌ رفيعة، فهو مِنْ رديء التَّمرِ ولا يُؤخذُ الرَّديء لا في التَّمرِ، ولا في المواشي، ما يُؤخذ الرّدئ. قالَ: "وَلاَ عَذْقُ" هذا نوع من النَّخل، أمَّا العذُّق القِنوة حقه هذا بالكَسر، أمّا بفتحِ العينِ نَخلة، يقالُ لها العَذقْ، وأمَّا بالكسرِ فهو القُنو منها الذي يخرج مثمر، "وَلاَ عَذْقُ ابْنِ حُبَيْقٍ" كُلُّ هذا من الأنواعِ الرَّديئة من التَّمرِ، ولا يصحُ أن تُخرجَ زَكاة، وهي تُحسب كما قُلنا في الماشيةِ أنَّها تُحسب صُغارَها، وتُحسبُ المريضة فيها؛ ولكن ما نُخرج مريضة، ولا نُخرجُ مكسورة،… ولكن تُحسب في العددِ، فكذلكَ في الحُبوبِ، يُحسب الرّديء ولا تُخرجُ الزكاة إلاَّ من الوسط كما فهمت وأشارَ إليهِ الإمام مَالِكْ عليهِ رحمةُ الله تبارك وتعالى.
وهكذا الحُبوبُ ثِمارُ زكاتُها يومَ حصادِها، قالَ: (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) [الأنعام:141] فلا تتعلقُ بحولٍ، ثُمَّ إنَّ النِّصاب خمسَ أوسقَ عندَ الجُمهور، وقالَ أبو حَنيفة: لا نِصابَ ما قلَ أو كثُر يُخرَج زكاته، يجب إخراج الزكاة من الزَّرعِ ما قلَ منه وما كثُر.
يقول: "وَإِنَّمَا مِثْلُ ذَلِكَ، الْغَنَمُ تُعَدُّ عَلَى صَاحِبِهَا بِسِخَالِهَا، وَالسَّخْلُ لاَ يُؤْخَذُ مِنْهُ فِي الصَّدَقَةِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الأَمْوَالِ ثِمَارٌ لاَ تُؤْخَذُ الصَّدَقَةُ مِنْهَا، مِنْ ذَلِكَ الْبُرْدِيُّ.." نوع من التَّمرِ الجيد من أجودِ التّمر، "وَمَا أَشْبَهَهُ، لاَ يُؤْخَذُ مِنْ أَدْنَاهُ كَمَا لاَ يُؤْخَذُ مِنْ خِيَارِهِ وَإِنَّمَا تُؤْخَذُ الصَّدَقَةُ مِنْ أَوْسَاطِ الْمَالِ" رفقًا بالمُّلاكِ والفُقراءِ؛
فإذا سُقيت الأرضُ بعضَ الوقت بالمطرِ، وبعض الوقت بالسَّواني عليها، فالعبرةُ بالأكثرِ والأغلب، فما كانَ ممّا لا يُؤثرُ لو امتنع عن الزَّرعِ لزرعَ؛ لا يضرُ، إن كان الأكثرُ السَّقي بالمؤونةِ ففيهِ نصفُ العُشر، وإن كانَ الأكثرُ بمطرٍ وقليل السَّقي بالمؤونةِ فيجبْ العُشر، هكذا ثُم نأخذُ الوسطَ كما سمعتَ.
وسمعتَ أيضًا إذا كان كلَّهُ نوعٌ واحدٌ، وتقدمَ معنا في الماشية وقالَ: يُؤخذُ منها، وقالَ بعضهم: بل يلزمُ في ذمتهِ يأخذُ من غيرها صالحةً، وكذلكَ القولُ في الثِّمارِ. قالَ سيدنا الإمام مَالِكْ: "لاَ يُؤْخَذُ مِنْ أَدْنَاهُ كَمَا لاَ يُؤْخَذُ مِنْ خِيَارِهِ. قَالَ: وَإِنَّمَا تُؤْخَذُ الصَّدَقَةُ مِنْ أَوْسَاطِ الْمَالِ."؛ لا من أجودهِ، ولا من رديئهِ. قاسوا على الغنمِ.
"قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا : أَنَّهُ لاَ يُخْرَصُ مِنَ الثِّمَارِ إِلاَّ النَّخِيلُ وَالأَعْنَابُ" فلا تَخريصَ في غيرهما، وفي روايةِ عنده: الزَّيتون كذلكَ، وهو المذهبُ القديم للإمامِ الشَّافعي، والمذهبُ الجديد لا يستلزمُ في الزيتون الزكاة أصلًا؛ لأنَّهُ إِدام وليس بِغذاء ما هو بغذاء. "فَإِنَّ ذَلِكَ يُخْرَصُ حِينَ يَبْدُو صَلاَحُهُ، وَيَحِلُّ بَيْعُهُ، وَذَلِكَ أَنَّ ثَمَرَ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ يُؤْكَلُ رُطَباً وَعِنَباً، فَيُخْرَصُ عَلَى أَهْلِهِ لِلتَّوْسِعَةِ عَلَى النَّاسِ، وَلِئَلا يَكُونَ عَلَى أَحَدٍ فِي ذَلِكَ ضِيقٌ، فَيُخْرَصُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ يُخَلَّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ يَأْكُلُونَهُ كَيْفَ شَاؤوا، ثُمَّ يُؤَدُّونَ مِنْهُ الزكاة عَلَى مَا خُرِصَ عَلَيْهِمْ".
"قَالَ مَالِكٌ: فَأَمَّا مَا لاَ يُؤْكَلُ رَطْباً، وَإِنَّمَا يُؤْكَلُ بَعْدَ حَصَادِهِ مِنَ الْحُبُوبِ كُلِّهَا، فَإِنَّهُ لاَ يُخْرَصُ"؛ لأنَّ الخَرصَ لانتفاعِ أهلها بها رُطبًا، وهذهِ لا تُؤكلُ رطِبة فلا تحتاجُ إلى الخَرصِ، لكن يحتاجُ أحيانًا للأكلِ في الحُمص الأخضرِ هذا وغيرهُ، "وَإِنَّمَا عَلَى أَهْلِهَا فِيهَا إِذَا حَصَدُوهَا وَدَقُّوهَا وَطَيَّبُوهَا وَخَلُصَتْ حَبًّا" يعني: عليهم الزكاة، تجبُ فيها عند ذلكَ، "فَإِنَّمَا عَلَى أَهْلِهَا فِيهَا الأَمَانَةُ، يُؤَدُّونَ زَكَاتَهَا" يعني: الحبوب "إِذَا بَلَغَ ذَلِكَ مَا تَجِبُ فِيهِ الزكاة" عندَ الجمهور وليسَ هناكَ من نصابٍ عندَ الحَنَفِية.
"قالَ ماَلِكٌ: وَهَذَا الأَمْرُ الَّذِي لاَ اخْتِلاَفَ فِيهِ عِنْدَنَا" يعني: بالمدينةِ المُنَّورة "قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا أَنَّ النَّخْلَ يُخْرَصُ عَلَى أَهْلِهَا وَثَمَرُهَا فِي رُؤُوسِهَا إِذَا طَابَ" يعني: إذا ما دامَ ثمرها رؤوسها، أمَّا إذا جُذّتِ الأثمار لمْ يَعُدْ خرص، "وإِذَا طَابَ وَحَلَّ بَيْعُه" إنَّما يحلُّ بيعه بعدَ بدو الصَّلاحِ بتلوّنهِ في التَّمرِ والعِنَب "وَيُؤْخَذُ مِنْهُ صَدَقَتُهُ تَمْراً عِنْدَ الْجِدَادِ"
يقول: "فَإِنْ أَصَابَتِ الثَّمَرَةَ جَائِحَةٌ بَعْدَ أَنْ تُخْرَصَ عَلَى أَهْلِهَا، وَقَبْلَ أَنْ تُجَذَّ، فَأَحَاطَتِ الْجَائِحَةُ بِالثَّمَرِ كُلِّهِ، فَلَيْسَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةٌ"؛ يعني: يبطلُ حكمُ الخَرصِ الذّي تقدّم، "فَإِنْ بَقِيَ مِنَ الثَّمَرِ شَيْءٌ يَبْلُغُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ، فَصَاعِداً بِصَاعِ النَّبِيِّ ﷺ، أُخِذَ مِنْهُمْ"؛ أي: ممّا بقي أو من أهلِ النّخيلِ منهم في نُسخة: "منه"، "زَكَاتُهُ"؛ أي: زكاةَ ما بقي "وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ فِيمَا أَصَابَتِ الْجَائِحَةُ زَكَاةٌ" قالَ مَالِكْ: "وَكَذَلِكَ" مِثلُ ما تقدم "الْعَمَلُ فِي الْكَرْمِ أَيْضاً" أي: العِنَبْ.
يقول الإمام أحمد: إذا خُرِصَ وتركَ في رؤوسِ النّخلِ فعليهم حفظهُ، فإن أصابتهُ جائحة فذهبت الثّمرة سقطَ عنهم الخَرصُ، ولم يُؤخذوا بهِ، ولا نعلمَ فيهِ خلافًا، نعم اتفقوا على هذه المسألة. قالَ مَالِكْ: "وَكَذَلِكَ الْعَمَلُ فِي الْكَرْمِ أَيْضاً"
فإذا كان الباقي أقلُ من خمسَ أوسق؟
وهذا مبني على خلافِ تعلقُ الزكاة ببدوِ الصّلاح وإلا بيومِ الحصاد، قال: (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ)
"قَالَ مَالِكٌ: وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ قِطَعُ أَمْوَالٍ مُتَفَرِّقَةٌ، أَوِ اشْتِرَاكٌ فِي أَمْوَالٍ مُتَفَرِّقَةٍ، لاَ يَبْلُغُ مَالُ كُلِّ شَرِيكٍ أَوْ قِطَعُهُ مَا تَجِبُ فِيهِ الزكاة، وَكَانَتْ إِذَا جُمِعَ بَعْضُ ذَلِكَ إِلَى بَعْضٍ يَبْلُغَ مَا تَجِبُ فِيهِ الزكاة، فَإِنَّهُ يَجْمَعُهَا"؛ أي: يقطع بالحصصِ "وَيُؤَدِّي زَكَاتَهَا" كلها. فهذا ما ذكرَ الإمام مَالِكْ عليهِ رحمةُ الله تعالى، في هذا الباب، فيما يتعلق بالخَرصِ وزكاة النّخيلِ والعنبِ، وسيتكلم على الحبوبِ والزَّيتونِ في الباب الآتي إن شاء الله.
رزقنا الله وإياكم صدقَ الإقبالِ، وحُسنَ الاستقبال، وأفاضَ علينا فائضاتِ النّوالِ، وألحقنا بخاصّةِ الصَّالحين أربابَ التَّمكين في كل شأن وحالَ وحين، بسِرّ الفاتحة إلى حضرةِ النّبي الأمين ﷺ.
27 جمادى الآخر 1442