شرح الموطأ - 14 - كتاب الطهارة: باب ما لا يَجب منه الوُضُوء

شرح الموطأ - 14 - كتاب الطهارة، باب ما لا يَجب منه الوُضُوء، من حديث: (يُطَهِّرُهُ ما بعْدَهُ)
للاستماع إلى الدرس

شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الطهارة، باب ما لا يَجب منه الوُضُوء.

فجر الإثنين 15 ذي القعدة 1441هـ.

باب مَا لاَ يَجِبُ مِنْهُ الْوُضُوءُ

51 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أُمِّ وَلَدٍ لإِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّهَا سَأَلَتْ أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَتْ: إِنِّي امْرَأَةٌ أُطِيلُ ذَيْلِي وَأَمْشِي في الْمَكَانِ الْقَذِرِ؟ قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "يُطَهِّرُهُ مَا بَعْدَهُ".

52 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِك: أَنَّهُ رَأَى رَبِيعَةَ بْنَ أبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَقْلِسُ مِرَاراً وَهُوَ في الْمَسْجِدِ، فَلاَ يَنْصَرِفُ وَلاَ يَتَوَضَّأُ حَتَّى يُصَلِّيَ.

53 - قَالَ يَحْيَى : وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَجُلٍ قَلَسَ طَعَاماً، هَلْ عَلَيْهِ وُضُوءٌ؟ فَقَال: لَيْسَ عَلَيْهِ وُضُوءٌ، وَلْيَتَمَضْمَضْ مِنْ ذَلِكَ وَلْيَغْسِلْ فَاهُ.

54 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ حَنَّطَ ابْناً لِسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ وَحَمَلَهُ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحَمْدُ لِلَّه مُكرمنَا بِأحْكَامِ شريعَته، ومبيِّنهَا على لِسَانِ خَيْر بَريَّتِهِ، سيِّدنَا مُحمَّدٍ مُختارِه وصفْوَتِه، اللَّهمَّ أَدِمْ مِنْك أَزكَى الصَّلواتِ، وأزكى التَّسْليماتِ عَنَّا على حَبيبِكَ المُجْتبى المُختار، سيِّدنَا مُحمَّدٍ وَعلَى آلهِ وَصحبِه الشَّارِبينَ بِالْكَأسِ الأهْنى، وَعلَى من تَبِعهُم بِصدْقٍ وإخْلَاصٍ فِي الحِسِّ والْمَعنى، وَعلَى آبائِهِ وإخْوانِهِ مِنَ الأنْبياءِ والْمُرسلينَ أَهْلِ المقَام الأسْنى، وَعلَى اَلهِم وَصحبِهم وتابِعيهم، وملائكتك المُقرَّبين، وعبادك الصَّالحينَ مِنْ كُلِّ مَنْ إِلَيكَ دَنَا، وَعَلينَا مَعهُم وَفيهِم برحمَتكَ يَا أَرحَم الرَّاحمينَ يَا رَبَّنَا.

أَمَّا بَعْدُ،

فيذْكرُ الإمَام مَالِك -عليه رَحمَة اَللَّه تَبارَك وَتَعالَى- فِي هَذِه الأحاديث بَعْضَ ما لا يَلْزَم بِسبَبِهِ اَلوُضوء، وَقَال: "باب ما لا يَجِبُ مِنْهُ اَلوُضوء"، والْوُضوءُ غالبًا إِذَا أُطلِقَ بِكُتبِ عِلم الشَّريعةِ أُريدَ بِهِ اَلوُضوء اَلشَّرْعِي، وَلمَّا أَورَد اَلحدِيث الأوَّل عن مَسْأَلة اَلقَذَرِ في ذَيْلِ المَرْأة، حَمَلَهُ بَعضَهم على أنَّ اَلمُراد بِالْوُضوء، اَلوُضوء اللُّغَويّ، وَلكِنْ بَقِيَ وَجْهٌ أَنَّهُ أَرَادَ اَلوُضوء اَلشَّرْعِي، أَنَّه لَا يُتَوَضَّأُ مِنْ مِثْلِ إصابةِ الثَّوْبِ بِالنَّجاسة و ما إلى ذَلِك، مِنْ جُملَة ما لا يُتَوضَّأُ مِنْهُ، كمَا أَنَّه حَمَلَ ضِمنًا حُكْم الطَّهارةِ أو الْعَفْوِ عن طِينِ الشَّارع، ومَا إِلى ذَلِك مِمَّا يُسْتفَاد مِن اَلحدِيث.

 يَقُولُ: "عَنْ أُمِّ وَلَدٍ لإِبْرَاهِيمَ -تُسمَّى حُمَيدَة- بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّهَا سَأَلَتْ أُمَّ سَلَمَةَ -أُمَّ المؤْمنين- زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ"، وقد مات عنها زوجها أبو سلمة في غزوة أحد، وترك لها أولادًا تربيهم، فكفلها ﷺ و كفل أولادها وتزوجها ﷺ. قالت لأم سلمة: "إِنِّي امْرَأَةٌ أُطِيلُ ذَيْلِي"؛ وفيه ما جاء من التشريع للنساء بإطالة الذيل، مع تحريم ذلك على الرجال، ما أسفل من الكعبين فهو في النار، فلا يجوز للرجل أن يسبل إزاره ولا قميصه ولا سراويله تحت الكعبين، ولكن للمرأة الذيل إلى الشبر، ثم قال: "لا يزدن على ذراع"، حرصًا على ستر القدمين، فلم يكنّ يلبسن شيء من الأكياس الخاصة بالأرجل و غيرها، ولكن يطلن الذيل، يسترن أقدامهن، طلبا لستر القدمين عند المرور في الطريق والشارع. 

فَكُنَّ حريصات على ذَلِك، و لهذا قالتْ: "إِنِّي امْرَأَةٌ أُطِيلُ ذَيْلِي وَأَمْشِي في الْمَكَانِ الْقَذِرِ"؛ ما فيه نجاسة يابسة، أو عموم ما كان ممّا يُستقذر، مما لا يلصق ولا يكون مبللًا، ولكن إذا كان وقت المطر، فالبلل ضروري، فما لم تصب نجاسة بعينها -معينة- دخل ذلك في طين الشارع، وطين الشارع يُعفى عنه، لأنه لا يمكن للإنسان أن يمشي في المطر من دون أن يتبلل قدمه ولا طرف ثوبه، إذا كان ثوبه يسحب على الأرض، كمثل المرأة.

 فهكذا مظهر من مظاهر الحرص على الستر، وما خصّص الله به النساء في اللباس، وحرّمه على الرجال. وانظر إلى أعداد كثيرة يصلون إلى الألوف من رجال المسلمين ونساء المسلمين اتباع هذا النبي، زيّن لهم بعض الكفار أن يسبل الرجال وأن يرفع النساء فاتبعوهم، والمرأة ترفع ثوبها وتكشف قدمها، والرجال يسبل ثوبه وينزل على الكعب، فما تدري أتباع من هم! اتبعوا في هذا من؟ واقتدوا بمن؟ وإن لم يشعروا فما أغربها من غفلة! ما يدري بنفسه يتبع من! يمشي مثل الببغاء، ما يدري ما يقول، وهذا ما يدري ما يفعل! هذا الببغاء، تدري ما تفعل و إلا ما تقول ما داري ما معنى القول الذي تقوله! لكن هذا لا يدري ما يفعل، لا يدري يتبع من هو!.

مخالفة صريحة لسنة صاحب الشريعة، والمؤتمن على البلاغ لعباد الله -جل جلاله- كيف يترك تنبيهه وتوجيهه وتعليمه ويؤخذ بشيء من الموضات واتباع أهل الغفلات -والعياذ بالله تبارك وتعالى- وما ذلك إلا من شدة الغفلة وقبح الإعراض عن أمر الله وأمر رسوله ﷺ. فهكذا بيّنت ذلك في مسألة طول الثوب؛ فللمرأة أن تطيل ثوبها ولو كان الذي تجلس فيه في البيت، ولو كان، حتى و إن كانت لن تخرج في هذا الثوب يجوز لها أن تطيل ثوبها وتغطي.. بخلاف الرجل.

وَبعدَ ذَلِكَ القوْلُ بِالطّهارة؛ أمّا طينُ الشّارِع فيُعفى عنهُ لِلضّرورة في القدميْن وَما يَشُقُّ الحذرُ مِنْهُ وَيَصلُ غالِبًا إلى أطرافِ الثّيابِ إذا كان الشّارِعُ الّذي يَمشي فيهِ لهُ طينٌ أوْ غُبارٌ يَعلوهُ وَيُؤثِّر على الثّوْب، أوْ كانت امرأة كما هوَ في الحديثِ عِندنا، وَأفتتها أُمُّ سلمة بِما سَمِعتْ مِن رسولِ اللّه.

 أما أنّهُ قد سُئِل عن نفسِ المسألةِ ﷺ فأجاب وَقالَ: "يُطَهِّرُهُ مَا بَعْدَهُ"، فرَجَّحَ السَّتْرَ على تَوَقّي النَّجاسةِ وَقَذَرِ الطّريقْ، وَما قالَ لِلمرأةِ الّتي سألتهُ اِرفعي ثَوْبَكِ وَلكِنْ قال: "يُطَهِّرُهُ مَا بَعْدَهُ"، والمعنى إن عَلِقَ بِهِ شيْءٌ مِن النّجاساتِ اليابِسةِ فإنَّ مَا بعدَ ذلِك مِنَ التُّرابِ سيُخرِجُ تِلك النّجاسة، وَلا يَبقى لها عيْنٌ وَلا أثرٌ في الثّوْبِ، فيَصيرُ الثّوْبُ طاهِرًا لِأنَّ النّجاسةَ الّتي عَلِقَتْ بِهِ قد أزالها ما بَعدَها، هكذا ما دامتْ جافّةْ، وَأمّا إذا كانت رَطْبَة: 

  • فجُمهورُ أهلِ العِلمِ: لا تَطهُرْ إلّا بِالغُسْلْ، فلا بُدَّ لها مِنْ غَسلِها.
  • وَجاءَ عِند الحنفيّةِ: التّطهيرُ بِما يُزيلُ أثرَ النّجاسةِ مِن نحوِ شمسٍ أوْ نارٍ أوْ أيِّ مُزيلٍ يُزيلُ الأثرَ -أثرَ النّجاسةِ-، 
  • أمّا رفْعُ الحدثِ فبِالِاتِّفاقِ لا يَكونُ إلّا بِالماءِ، كذلِك عِند الأئِمّةِ الثّلاثةِ: لا يَكونُ غَسلُ النّجاسةِ إلّا بِالماءِ.

فالماشي في الطّريقِ لا بُدْ يَقَعْ على مَوْضِعٍ قَذِر وَغيْرِ قَذِر لِأنَّ الطّريق لا يَخلو في الأغلبِ مِنْ هذا، وَتحتاجُ المرأةُ مِن إرخاءِ ذيْلَها وَسَتْرِ قَدَميْها. "يُطَهِّرُهُ مَا بَعْدَهُ"، أفتَتْها بِنفسِ فتوَى رسولِ اللّهِ ﷺ عِندما سُئِلَ عن ذلِك، ضَبَطتْهُ مِن كلامِ رسولِ اللّهِ ﷺ.

والأمرُ على ما ذكرنا مِن جوازِ جَرِّ ذيْلِها وَأنّهُ يُطهِّرُهُ ما بعده، أيْ: تسحبُ ذيْلها على الأرضِ، وَرُخِّصَ لها أن تُرخيه وَتَجُرُّه على الأرضِ فتمُرُّ على نجاسةٍ فيُخرِجُها ما بعدها مِنَ الأرضِ. وَحَمَلَهُ بعضُهُم على المشيِ على القَشَبْ اليابِسِ، لأن القَشَبْ اليابِسِ لا يُنجِّسُ الثّوْب مُجاوَرتهُ، وَلا يَحتاجُ إلى تطهير، وكذلكَ إذا مَرَّ على أرضٍ يابِسةٍ و عَلِقَ بهِ شيء مِن النّجاساتِ فإنَّهُ يُخرِجُهُ كما ذَكرنا.

 والخُلاصةُ، أنَّ في الحديثِ تيْسيرًا وَتسهيلًا وَمُسامحةً فيِما يَتعلَّقُ بِاللِّباسِ لِلمرأةِ وَفي طهارَتُه كَذلِك. وَلكِنْ كما أشرْنَا: 

  • يَقولُ الشّافِعيّةُ والحنابِلةُ: اذًّا تنجَّس ذَيْلُ المرأةِ بِنجاسةٍ عَلِقت بِهِ 
    • فإنْ كانت جافّة فالأمرُ كما أشار بِالحديثْ، مهما خرجتْ وَهيَ جافّةٌ فلا يَضُرُّ ذلِك.
    •  وإنْ كانت رطبةً يَجِبُ غَسلُهُ، كبَقيّةِ البدنِ، الثَّوْب والبَدن، وَلا يُطهِّرُهُ ما بعده مِن الأرض.
  • والإمامُ مالِكْ لِأجْلِ الحديثِ حَمَلَ ذلِك على العفوِ مُطلقًا وإنْ كان رَطْبًا، أنَّهُ بِالنِّسبةِ لِلمرأةِ يُغْتَفَرُ لها وَلوْ مرَّت بِنجاسةٍ رطبةٍ فليس عَليْها أنْ تَغْسِلَ ثَوْبَها، فَإنَّ فيما تمشِي فيما بَعْدُ يُزيلُ عَيْنَ النّجاسةِ أوْ يَستُرْها فَلا يَبقى لَها أَثر ظاهِرٌ، فيَكفي ذَلِكَ في صِحّةِ صَلاتِها في ذلِك الثّوْبِ، فَحَمَلَهُ على المُسامحةِ مُطلقًا.

بشَرْطِ أنْ يَكونَ الثّوْبُ في حَدْ ذاتُهْ أوْ الذّيْل يابِس، وأطالتُهُ لِأجِلِ السَّتْرِ لا لِأجلِ الزّيْنَةِ والخُيَلاءِ، هكذا اشتَرَطوا لِلعَفوِ، قالوا: يُعفى عنهُ وَلوْ مرّت بِنجاسةٍ رطبةٍ إذا كان هوْ في أصلُه ليْس بِمُبلّل وَكانَ قَصدُها مِنْ إسبالِهِ السَّتْر لا الزّينة وَلا الخُيَلاء، فَقيَّدوا هذا العَفْوَ، وأنْ لا تكونَ النّجاسة الّتي تمُرُّ بِها مُغلَّظة كذلك، وَقِيْلَ أنَّ مَلْحَظَ العَفوِ عنْ ذلِك أنَّهُ مِمّا تَعُمُّ بِهِ البَلوَى وَيَعْسرُ الِاحتِرازُ عَنْهُ.

 ثُمَّ يَذْكُر "عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ رَأَى رَبِيعَةَ بْنَ أبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَقْلِسُ مِرَاراً وَهُوَ في الْمَسْجِدِ، فَلاَ يَنْصَرِفُ وَلاَ يَتَوَضَّأُ حَتَّى يُصَلِّيَ." والقَلَسُ: خُروجُ شَيءٍ مِنَ المَعِدةِ إلى الفَمِ، دونَ القيْءِ -غَيْرَ القَيْءِ- فيُقالُ لَه: القَلَسْ، وَ هذا يقول بعضُهُم بغرة، فهذا قدْ يَكونُ مِلءَ الفَمِ أوْ دونَ ذلِك، وَهوَ نَجِسٌ وَيَجِبُ تغسيلُ ظاهِرِ الفَمِ مِنهُ.

  •  وَعِندَ الحنفيّة إذا كانَ القَلَسْ مِلْءَ الفَمِ أيْضًا بَطَلَ وضوئه، 
  • وَلا يَنقُضْ الوُضوء أصلًا عِند الشّافِعيّةِ والحنابِلةِ والمالِكيّةِ؛ لا يَنقُضُ الوُضوء أصلًا وَلوْ كانَ مِلْءَ الفَمِ كالقيْءِ بِكُلِّهِ، وَلكِنّهُ القيْءُ كما تقدَّمْ مَعَنا وَكُلُّهُ نَجِسْ، سائِلْ خَرَجْ مِنَ بَدَنِ الإنسان يُبطِلُ الوُضوء عِند الحنفيّةِ.

 يَقولُ: "فَلاَ يَنْصَرِفُ وَلاَ يَتَوَضَّأُ حَتَّى يُصَلِّيَ."، بَقِيَ فقط غَسْلُ ظاهر الفم الّذي أصابَه ذلك القَلَسْ، هذا الّذي يَقول بِوُجوبِهِ الشّافِعيّةُ وَغيْرُهُم. 

"يَقْلِسْ": يَخرُجُ مِنْ جوْفِهِ شَيء مِلْءَ الفم أو دونَ القيْءِ، فما خَرَجَ مِن غيْرِ السّبيليْنِ لا يَنقُضُ الوُضوء، وَعُرِفَ أنَّ القَلَسَ أوّل القيْءِ فإذا كانَ مِلءَ الفَمِ أنْقَضَ الوُضوء. فقال: عِندنا "فلا يَنْصرِف وَلا يَتوَضّأ"، يريد به وضوء الحَدَثْ، وأمَّا إذا أرادَ بِهِ أنَّهُ لا يَتَمضْمضْ فهذا فيهِ إشكالٌ عِند أكثرِ الأئِمّةِ، وَسيِّدُنا مالِك يَحكي يقول: كُنتُ أرى ربيعة كثيرًا ما يَقْلِسُ في صلاتِهِ فيَمضي وَلا يَنصرِفُ.

  • إذًا فعِند الإمامِ مالِكٍ والشّافعيّ: لا وُضوء في قيْءٍ وَلا في قَلَسْ. 
  • وَفيهِ الوُضوءُ عِند أبي حنيفة، إلّا البَلغَمْ ومَعَ ذلِك فقد قال أبو يوسُف: البلغَمُ أيضًا إذا مَلَأَ الفَمْ نَقَضَ الوُضوء. 
  • وَهكذا جاءَ عنِ الثّوْري والحسن: أنَّ القَلَسَ قَلَّ أوْ كَثُرْ يوجِبُ الوُضوء، 

وَلَكِنَّهُ ما دَامَ خَرَجَ مِنَ الجَوْف فهوَ نَجِسٌ يَحتاجُ إلى أنْ يَتمَضْمَضْ، كما في الحديثِ الّذي بَعْدَه أوْ في الأثرِ الّذي بعدهُ: "وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَجُلٍ قَلَسَ طَعَاماً، هَلْ عَلَيْهِ وُضُوءٌ؟ فَقَال: لَيْسَ عَلَيْهِ وُضُوءٌ، وَلْيَتَمَضْمَضْ مِنْ ذَلِكَ وَلْيَغْسِلْ فَاهُ". فَفيهِ غَسْلُ الفَم.

وَكذَلِك يَتَحدَّث: "أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ حَنَّطَ ابْناً لِسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ وَحَمَلَهُ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ." وَكذَلِك الكلَامُ عن القيْء وقد تَقدَّمْ. فَبَقِيَ اَلوُضوء مِن مَسِّ الميِّتِ أو مِنْ حَمْلِ المَيِّتِ، وَهُو سُنَّةٌ عِنْد الشَّافعيَّة، إِذَا مَسَّ المَيِّت أو حَمَلَهُ سُنَّ لَهُ أنْ يَتَوضَّأ، ولذا كَانُوا يَتَجنَّبون حَمْلَ الجنازة إِلَّا بعد الصَّلَاة عليْهَا لِلْخروجِ مِنْ خِلَافِ اِسْتِحْباب أو إِيجَاب اَلوُضوء مِنْ حَمْل الميِّتِ، فيحْمِلون الجنازة مخْصوصون إِلى أنْ يَصِلُوا إِلى مَحَلِّ الصَّلَاة عليْه، وهُناك ينْتظرونهم لِيتوضؤوا؛ هذَا سبب الانتظار فِي الجنائز عِنْدنَا، ثُمَّ إِذَا أكْمَلوا وضوئهم صَلَّوْا على الجنازة ثُمَّ كُلٌّ يَحمِل الجنازة، وَيحرِص كُلّهُم على أنْ يَنَالَ نَصيبٌ مِنْ ثَوَاب حَمْلِ الجنازة، فيصْطفُّونَ لَهَا ثُمَّ ينْصَرِفون إِذَا أَرَادَ أَحدُهم أن يُصلِّي ونحْوه أَعَادَ اَلوُضوء لِأَجلِ اَلسُّنة، وقيل بِوجوبِ ذَلِك وَاَللَّه أَعْلَم.

نَظَرَ اَللَّهُ إِليْنَا وَقرَّبَنا إِلَيه زُلفَى، وَجَعلنَا فِي أَهْل اَلوَفَاء والصِّدْق والْإخْلاص والتَّوْفيق، ورَحِمَ مَوْتَانا وأحْيانا بِرحْمَتِهِ الواسعة، وأَلْحَقَنَا بِخَيرِ فريق، وَثبَّتَنا على أَقْومِ طريق، وَدفَعَ عنَّا كلَّ سُوءٍ أَحَاطَ به عِلمه في الدَّارين، بِسرٍّ الفاتحة إِلى حَضرَة النبِي ﷺ. 

تاريخ النشر الهجري

16 ذو القِعدة 1441

تاريخ النشر الميلادي

06 يوليو 2020

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام