شرح الموطأ - 136 - كتاب الزكاة: باب زكاةُ أموال اليتامى والتجارة لهم فيها، وباب زكاة الميراث

شرح الموطأ - 136 - كتاب الزكاة، باب زكاةُ أموال اليتامى والتجارة لهم فيها، من قول عمر بن الخطاب: (اتَّجِروا في أموالِ اليتامى..)
للاستماع إلى الدرس

شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الزكاة، باب زكاةُ أموال اليتامى والتجارة لهم فيها، وباب زكاة الميراث.

فجر الثلاثاء 13 جمادى الآخرة 1442هـ.

 باب زَكَاةِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَالتِّجَارَةِ لَهُمْ فِيهَا

680- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: اتَّجِرُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى لاَ تَأْكُلُهَا الزَّكَاةُ.

681- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: كَانَتْ عَائِشَةُ تَلِينِي، وَأَخاً لِي يَتِيمَيْنِ فِي حَجْرِهَا، فَكَانَتْ تُخْرِجُ مِنْ أَمْوَالِنَا الزَّكَاةَ.

682- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ، كَانَتْ تُعْطِي أَمْوَالَ الْيَتَامَى الَّذِينَ فِي حَجْرِهَا، مَنْ يَتَّجِرُ لَهُمْ فِيهَا.

683- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّهُ اشْتَرَى لِبَنِي أَخِيهِ -يَتَامَى فِي حَجْرِهِ- مَالاً، فَبِيعَ ذَلِكَ الْمَالُ بَعْدُ بِمَالٍ كَثِيرٍ.

684- قَالَ مَالِكٌ: لاَ بَأْسَ بِالتِّجَارَةِ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى لَهُمْ، إِذَا كَانَ الْوَلِيُّ مَأْذُونا، فَلاَ أَرَى عَلَيْهِ ضَمَاناً.

باب زَكَاةِ الْمِيرَاثِ

685- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا هَلَكَ وَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاةَ مَالِهِ، إنِّي أَرَى أَنْ يُؤْخَذَ ذَلِكَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، وَلاَ يُجَاوَزُ بِهَا الثُّلُث، وَتُبَدَّى عَلَى الْوَصَايَا، وَأَرَاهَا بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ، فَلِذَلِكَ رَأَيْتُ أَنْ تُبَدَّى عَلَى الْوَصَايَا.

قَالَ: وَذَلِكَ إِذَا أَوْصَى بِهَا الْمَيِّتُ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ يُوصِ بِذَلِكَ الْمَيِّتُ، فَفَعَلَ ذَلِكَ أَهْلُهُ، فَذَلِكَ حَسَنٌ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ أَهْلُهُ، لَمْ يَلْزَمْهُمْ ذَلِكَ.

686- قَالَ مَالِكٌ: وَالسُّنَّةُ عِنْدَنَا الَّتِي لاَ اخْتِلاَفَ فِيهَا، أَنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَى وَارِثٍ زَكَاةٌ، فِي مَالٍ وَرِثَهُ، فِي دَيْنٍ، وَلاَ عَرْضٍ، وَلاَ دَارٍ، وَلاَ عَبْدٍ، وَلاَ وَلِيدَةٍ، حَتَّى يَحُولَ عَلَى ثَمَنِ مَا بَاعَ مِنْ ذَلِكَ أَوِ اقْتَضَى الْحَوْلُ، مِنْ يَوْمَ بَاعَهُ وَقَبَضَهُ.

687- وَقَالَ مَالِكٌ: السُّنَّةُ عِنْدَنَا: أَنَّهُ لاَ تَجِبُ عَلَى وَارِثٍ فِي مَالٍ وَرِثَهُ الزَّكَاةُ، حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مُكْرِمنا بشريعته العظيمة وأحكام دينه القويمة، وصلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم على عبده المُصطفى المُجتبى المُختار، سيِّدنا مُحمَّد وآله الأطهار وأصحابه الأخيار ومَن مشى في منهجه الأرشد، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين صفوة الواحد الأحد، وعلى آلهم وأصحابهم وتابعيهم وعلى الملائكة المُقرّبين وجميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين. 

وبعدُ، 

فيواصل سيِّدنا الإمام مالك -عليه رضوان الله تعالى- في المُوطأ ذِكْر الأحاديث المُتعلقة بالزّكاة، وتكلم عن زكاة الرِّكاز وعن زكاة المَعدن فيما تقدّم، وكذلك ما كان من الحُليّ والتِّبْر والعَنْبر. ويتكلم الآن عن زكاة أموال اليتامى؛ زكاة أموال اليتامى وسُنِّية التِّجارة فيها لتنمو لهم، وذلك لمَا جعل الله تعالى من الأمانة على مُتولّي مال اليتيم وأن يرعى مصلحته وفائدته، ويُنمّي ماله بتجارة حتى يتضاعف له المال وينمو، ولا يبقى مطروحًا يُخرج منه الزّكاة والنّفقات فينقُص ثم يكمُل ويتلاشى. وهكذا شأن الأمانة في الشّريعة لكُل مَن وليَ أمرًا مثل ولاية اليتامى، كذلك ولاية الأوقاف وغيرها ممّا يتولى فيه الإنسان، فيجب أن تُراعى فيها الأمانة ومصلحة اليتيم ومصلَحة الموقوف عليه، ولا يجوز التَّهاون ولا الإهمال فيها ولا التَّساهل بشأنها كما يفعل كثير من النّاس. 

يقول: "باب زَكَاةِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى"، وقد قال الأئمة الثلاثة: بوجوب الزّكاة في مال اليتيم باعتبار أن الزّكاة حق للفُقراء على كُلّ غنيّ سواءً كان صغيرًا أو كبيرًا. 

  • ومَن عدَّها عِبادة محضة كالصّلاة وكالصّوم وهو الإمام أبو حنيفة؛ لم يُعلّق الزّكاة بمال اليتيم حتى يبلُغ؛ كما أنه لا يجب عليه الصّلاة ولا الصّوم حتى يبلُغ؛ فكذلك لا تلزمه الزّكاة حتى يبلُغ. 
  • فقال الجُمهور: بوجوب الزّكاة عليه لأنه حقٌّ للفُقراء، فيجب أن يُخرَج من مال أي أحد -يتيم أو غيره- إذا وجبت الزّكاة في ذلك. 

يقول "أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ:" وقد روي ذلك مرفوعًا "اتَّجِرُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى"؛ نمُّوها واستثمروها لتتضاعف وليبقى خيرُها لهم، "لاَ تَأْكُلُهَا الزَّكَاةُ"؛ حتى لا تفنى بإخراج الزّكاة والإنفاق منها من دون تنمية. 

وفي ذلك يُستأنس بقول الحقّ -تبارك وتعالى- (فيها) بدل أن يقول: منها، يقول جلّ جلالُه -في ذِكر مال اليتيم- (.. وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ ..) [النساء:5]. ما قال ارزقوهم منها؛ تأخذ منها بل قال فيها؛ نمّها واجعل رزقه فيها، وسطها في ما يحصل من تنميتها واستثمارها وربحها (.. وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ  وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا)، بدل أن يقول وارزقوهم منها، قال: (.. وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا ..)؛ فيه استئناس وإشارة إلى أنه ينبغي الاتجار في أموال اليتامى كما ذكر سيِّدنا عُمَرَ ويُروى عنه: "ابتغوا بأموال اليتامى لا تأكُلها الصَّدقة".

  وفي الحديث إرسالٌ من حيث قوله عن مالك أنه بلغه أن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه-، فإن سيِّدنا مالك لم يُدرك سيِّدنا عُمَر، ولكن جاء في رواية الدّارقُطني والبيهقي: عن ثنا حسين عن عمرو بن شعيب عن سعيد بن المُسيّب، عن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وكذلك في هذا إرسالٌ لأن سعيد بن المُسيّب لم يُدرك سيِّدنا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رضي الله تعالى عنه-. 

"اتَّجِرُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى لاَ تَأْكُلُهَا الزَّكَاةُ"؛ فراعوا فيها المصلحة وحيث يُراعى اليتيم والحقُّ لميت أو لوقف وما إلى ذلك؛ تحِلُّ رعاية الله -تبارك وتعالى-. و"إن من أحب البيوت إلى الله تعالى بيتٌ فيه يتيم يُكرَم"، وإن من أبغض البيوت إلى الله، بيتٌ فيه يتيم يُهان أو يتيم يُظلم -والعياذ بالله تبارك وتعالى-. قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ۖ وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) [النساء:10] -والعياذ بالله تعالى-، وقال: (.. وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ۖ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ۚ ..) [النساء:6]. 

وجاء أيضًا عن السيِّدة عَائِشَةُ فيما يذكُر "عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ" القاسم بن مُحمَّد بن أبي بكر الصِّديق، ابن أخي عَائِشَة، "قَالَ: كَانَتْ عَائِشَةُ -أُمّ المؤمنين- تَلِينِي"؛ من الولاية؛ أي: تتولى أمري "وَأَخاً لِي يَتِيمَيْنِ"؛ أي: في حال كوننا يتيمين -توفي أبونا مُحمَّد بن أبي بكر الصِّديق، أخوها ونحن صغار قبل البلوغ-، فتوّلت أمرنا عَائِشَة -عمّتهم- "يَتِيمَيْنِ فِي حَجْرِهَا، فكانت تُخْرِجُ مِنْ أَمْوَالِنَا الزَّكَاةَ"؛ ففيه إيجاب الزّكاة في مال اليتيم، "فكانت  تُخْرِجُ مِنْ أَمْوَالِنَا الزَّكَاةَ"، إذا وجبت فيها الزُكاة وحال عليها الحول؛ أخرجتها عنهم من حيث كونها المتولية لأمرهم. يكون بتولية:

○ إما بوصية من أبيهما.

○ أو بتولية الإمام الحاكم؛ الخليفة.

وعَلِمنا مذهب الأئمة الثلاثة من المالكية والشَّافعية والحنابلة في وجوب الزّكاة في أموال اليتامى، وبه قال جماعة من الصَّحابة والتَّابعين. كما قال بعض الصَّحابة والتَّابعين بقول سيِّدنا أبي حنيفة: من أنه لا تلزم الزكاة  في مال اليتيم. وجاء في رواية: "ألا من ولّي يتيمًا له مالٌ، فليَتّجِر فيه ولا يتركه حتى تأكله الصَّدقة". 

  • ومِن المعلوم أن المُراد بالصدقة: الزَّكاة المفروضة. 
  • وحمله بعض الحنفية على النَّفقة؛ أي: على الإنفاق عليهم من مالهم فقد يُسمى صدقة.

 ولكن ظواهر الأحاديث والذي عليه الجُمهور أن معنى لاَ تَأْكُلُهَا الصَّدقة؛ هو المعنى الذي في اللفظ الآخر: "لاَ تَأْكُلُهَا الزَّكَاةُ"؛ وأن الصَّدقة المفروضة في إخراج ما يلزم من الزّكاة من ذلك المال. 

ويُذكَر مذهب ثالث لغير الأئمة الأربعة في هذا عن بعض الصَّحابة، يذكرون عن ابن مسعود وغيره أن على مُتولي أموال اليتامى أن يُحصي السِّنين والمقادير التي وجبت عليه فيها الزكاة، فإذا بلغوا سلَّمها إليهم وأخبرهم إن شاؤوا يُزكّوا بعد؛ أي: أن له ولاية المال وأنها تجب، ولكن ما له ولاية الإخراج عنهم حتى يبلغوا ويكبروا، فيخبرهم أنه وجب عليهم في سنة كذا مقدار كذا وسنة كذا مقدار كذا، فيخرجون هُمْ عن أنفسهم الزّكاة. 

يقول:"عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّهُ اشْتَرَى لِبَنِي أَخِيهِ -يَتَامَى فِي حَجْرِهِ- مَالاً، فَبِيعَ ذَلِكَ الْمَالُ بَعْدُ بِمَالٍ كَثِيرٍ"، وهذا هو الاتجار في مال اليتيم. "قَالَ مَالِكٌ: لاَ بَأْسَ بِالتِّجَارَةِ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى لَهُمْ"؛ أي: لمنفعة اليتامى لا لنفسه، فيتّجِر في أموال اليتامى على أن ما يحصل من الرِّبح لهم، ليس له إلا أجرة عمله إن كان فقيرًا مُحتاجًا، كما قال: (.. وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ۖ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ۚ ..) [النساء:6]؛ أي يأخُذ أُجرته؛ أُجرة المثل بلا زيادة.  

"لاَ بَأْسَ بِالتِّجَارَةِ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى لَهُمْ، إِذَا كَانَ الْوَلِيُّ مَأْذُونًا"؛ مأذونًا وفي لفظ: "مأمونًا"، "فَلاَ أَرَى عَلَيْهِ ضَمَاناً"، وهكذا قال الشَّافعية وغيرهم: للولي أن يبيع مال الصّبي ولو بقرضٍ ونسيئة للمصلحة، ويُزكي ماله ويُنفقه عليه بالمعروف. 

إذًا، فيُستَحب لولي مال اليتيم أن يتّجِر في مال اليتيم، وهذا مُتفق عليه بين الأئمة -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى-. وكذلك يُذكَر قولٌ عند الشَّافعية: بعدم وجوب الزّكاة على مال اليتيم كما أشار إليه الإمام النّووي. وقال: والمذهب أنها تجب الزّكاة، كذلك في شأن الجنين الذي يبقى مُعلّق المال له حتى يُعرف بخروجه من بطن أُمه، فلا يبتدئ حوله إلا بتمام المِلْك؛ وهو انفصاله من بطن أُمه. وهكذا الوصي مُقيّد في تصرفه بالنظر والمصلحة لمن في وصايته. 

○ إذًا فاتجار الوصي لنفسه بمال اليتيم.. حرام ولا يجوز. 

○ واتجار الوصي في مال اليتيم لليتيم هو المُباح بل المَسنون والمندوب عند الأئمة كُلهم. 

وإنما يجوز أن يدفع ماله لمَن يقبل فيه المُرابحة أو المُضاربة أو الإقراض، فيُعطي من مال اليتيم لشخص يُقارضه فيه فيجوز، إذا رأى في ذلك المصلحة وأن هذا أحسن ما يجد لتنمية مال اليتيم. فإذًا، أما لنفسه فلا يجوز أن يتّجِر بمال اليتيم لنفسه ولا مال المَيْت ولا مال الحمل، فإذا اتّجر لنفسه بمال اليتيم وربح:

  • فيقول الإمام أبو حنيفة: أن عليه أن يضمن رأس المال فيرُدّه لليتيم ويتصدّق بالربح. وأن يتصدق بالربح، إذا اتّجَر في مال اليتيم لنفسه. 
  • وقال غيره أيضًا من الأئمة: أنه يرجع إلى اليتيم نفسه وليس له إلا أُجرة مثله. 

وإذا اتّجَر في مال اليتيم لليتيم، كان ذلك مُباحًا أو مندوبًا ومُستحبًا.

 

باب زَكَاةِ الْمِيرَاثِ

 

ثم ذكر لنا "زَكَاةِ الْمِيرَاثِ" وقال: "إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا هَلَكَ"؛ أي: تُوفي ومات "وَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاةَ مَالِهِ، إنِّي أَرَى أَنْ يُؤْخَذَ ذَلِكَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، وَلاَ يُجَاوَزُ بِهَا الثُّلُث، وَتُبَدَّى عَلَى الْوَصَايَا، وَأَرَاهَا بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ، فَلِذَلِكَ رَأَيْتُ أَنْ تُبَدَّى عَلَى الْوَصَايَا."، لقوله تعالى: (.. مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ ..) [النساء:12]؛ وابتدأ ﷺ بالدُين قبل الوصية. وهذا الذي أخّر الزّكاة فإنه يموت وهو مأثوم؛ بتأخيره للزكاة من غير عُذر. وقال الشَّافعية: أن هذه الزّكاة التي وجبت في المال المُعيّن دين على الذي أخّر الزّكاة ولو لسنوات عديدة، وأنها تُخرج من رأس ماله قبل الإرث وقبل الوصية لقول الله تعالى: (.. ۚ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ ..)، وقول رسول الله ﷺ: "فدَيْن الله أحق بالقضاء". فتُخرَج ولو استغرقت المال كُله؛ فيجب أن تُخرَج.

وقال الإمام مالك: أنه يتحمل الإثم على رقبته وليس على الوارث أن يُخرج عنه، ولكن إذا أوصى فإلى حدود الثُّلث يجب على الوارث أن يُخرج عنه، وما زاد على ذلك فالخيار للوارث:

○ إن أراد أن يُخرج عنه متبرعًا بذلك فله الثواب. 

○ وإن أراد أن يأخذ بقية التَّركة، فيأخذها والإثم عليه إذ لم يُزكِّ عن نفسه في حال حياته.

وهكذا استثنى بعض المالكية ما كان من زكاة الماشية، إذا مات ربّها بعد مجيء السَّاعي قبل الأداء، فيقول: يُخرج من رأس المال ولا عبرة بالثُلث عند ذلك. في مسائل مُستثناة والأصل عندهم ما ذكرناه. "وتُبَدّى"؛ أي: تُقَدَّم ويُبتدأ في أدائها على الوصايا، فإن الحقّ اعتنى بالوصايا في القُرآن بقوله: (.. ۚ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ ..)؛ قدّمها على الدَّيْن بالذِّكر لأنها تشح بها النُّفوس أكثر من الدَّيْن لأنها في غير مقابل، ولكن عند الأداء يجب أن يُقدّم الدَّيْن على الوصية فيما صحّ من السُّنّة من بيانه ﷺ لمعنى الآية فابتدأ بالدَّيْن قبل الوصية في الأداء والإخراج. 

إنما ذُكرَت أولًا للتأكيد عليها لأن النُّفوس تشح بالوصية لأنها إخراج مال من غير مُقابل، بخلاف الدَّيْن فإنه بمُقابل ما أخذ مورّثهم فيلزمُهم أداء الدَّيْن الذي عليه. بل روح المَيْت مُرتهنة بدَيْنه. مُرتهنة؛ محبوسة بدينه حتى يُقضى عنه. وأن مَن مات وعليه دين؛ يُحبس في البرزخ فلا يزور ولا يُزار، ولا يتمكّن من مُكالمة الموتى ولا من مُخاطبة الأرواح، ولا أحد منهم يُكلمه حتى يُقضى عنه الدَّيْن وذلك كان "الدَّيْن شين الدِين"، إلا مَن اقترض لضرورة أو اقترض لمصلحة عامة، فإن الله يؤدي عنه غالبًا. 

وكذلك يُعين الله مَن اقترض لحاجة وهو ينوي السَّداد والأداء والوفاء. وأمَّا من اختلط في نيته التَّحايلُ والغِشُ والخيانة والإهمال فإنه يصحبه الخُذلان؛ فلا يُوُفّق لأداء الدَّيْن كما ينبغي لسوء نيّته -والعياذ بالله تبارك وتعالى- بل إذا صمّم أنه لا يؤديه؛ كان عند أخذه للمال مأثومًا وسارقًا وناهبًا عند الله -تبارك وتعالى-؛ لأنه يعزم وينوي بقلبه أن لا يرُده، فإذا أخذ القرض بهذه النِّية فهو مأثوم بينه وبين الله من حين أخذها، ولا يُعان ولا يوّفق إلى أدائها في الغالب، ويكون مأثوم وكأنما أخذها نهبًا أو سرقة. وإن كان ينوي ويعزم على الأداء ويتحمّل بذلك، فإن الحقّ يُعينه، وما جاء في الخبر والحديث من هذا المعنى وكان ينظمه في بعض الشُّعراء للعوام بألسنهم ليفقهوا، يقول: قال الحميدي بن منصور: 

مَن همَّ دينًا قضاه … مَن همَّ دينًا قُضي له… وإن سَجَّل أهمل ما قضاه.

○ إن كان مُهتم وصادق عنده نية صالحة؛ فإن الله يوفقه ويقضي ديونه.

○ إن كان هو غير مُبالي؛ فما يحصل له المعونة ولا التَّوفيق من الله تعالى لسوء نيته -والعياذ بالله تبارك وتعالى-. 

وهكذا كانوا يخشون أن يأتيهم الموت وفي رقابهم دينٌ لأحد كائنٌ ما كان، ويُحبون أن تُقضى ديونهم وقبل أن يموتوا أو قبل أن يوضعوا في قبورهم ويُدفنوا. وأكدّ ﷺ على ذلك الأمر فكان قبل أن تأتيه الجِباية ويكثُر مال بيت المال إذا جيء بالميت، يسأله: هل عليه دين؟ فإن قالوا لا، صلَّى عليه. فإن قالوا عليه دين، يقول: صلَّوا على صاحبكم ولا يُصلي هو عليه. وكان ذلك يشقُّ على الصَّحابة، فكانوا ينتبهون إذا ميت عليه دين، يريدون رسول الله يُصلي عليه، يلتزم بعضهم الدَّين في ذمته قبل أن يُخبر النَّبي ﷺ، فإذا سأل وأُخبر أنه التزم في ذمته دين فلان؛ صلّى عليه.

وهكذا يقول سيِّدنا أبو قَتَادة: أنه حضر مَيت فطُلب من النَّبي الصَّلاة عليه، قال: "هل على ميتكم دين؟" قالوا: ديناران يا رسول الله. قال: "فصلوا على صاحبكم". قال: فقلت يا رسول الله الديناران عليّ هي في ذمتي. قال: "أنت تلتزم بها؟" قال: نعم. فصلى عليه. قال: فجعل لا يلقاني إلا قال "يا أبا قَتَادة أقضَيت الدِّينارين؟". قال: وما تيسّرت لي حتى استحيت من رسول الله وصرت أتوارى منه، أبتعد عن مُلاقاته، قال: حتى يسّرّ الله علي الدِّينارين فقضيتهما؛ فجئت إليه أتعرّض له، فقال: "أبا قتادة، أقضيت الدينارين؟" قال: الآن قضيتهما يا رسول الله، قال: "الآن برَد جلده"؛ الآن المَيْت ارتاح نفسه عندما قضيت عنه الدَّيْن. فإذا خلّف أولاد أو غيرهم من الورثة لا وفاء لهم ولا معرفة بعظمة الشَّرع وحقوق الميت وحقوق الدَّين لهفوا ماله وتركوه هو متورط في قبره؛ بما استدان على نفسه ولم ينتبه لنفسه.

ولذا لم يَقْبَل سيِّدنا سلمان الفارسي أخذ ديّن في مقدار دانق واحد أو دانقين؛ فلوس. فِلسْ ليس درهم إلا برهن، خرَّج مطهرته التي يتوضأ فيها ويريد أن يشتري من عند جار لهم يبيع الزعتر ليجعله للضيف الذي جاء عنده قدَّم له الخُبز، قال: لو كان معه زعتر؛ فحمل المَطهرة وخرج، قال: أعطنا بدانقين زعتر وهذا رهن دين عليّ، قال: صاحب رسول الله على دانقين نأخذ رهن وأنت الأمين الثقة! قال: لا، ما آخذ منك دين إلا برهن، تقبل مطهرتي رهن وإلا… أرأيت إن مِت الليلة، أموت وعلي دين تطالبنا بديّن دانقين، تحبس روحي وتأتي في القيامة تُطالبنا بها. من الآن خُذْ، فأعطاه المَطهرة قال: هاتها أخذها وأعطاه زعتر بدانقين، ثم أراد أن يُنَبِّه الضَّيف لحُسن التّيقظ والتّنبه، فقال عندما قال الضيف: الحمد لله الذي قنّعنا بما رزقنا. قال له سيِّدنا سلمان: لو قنّعك بما رزقك ما كانت مطهرتي مرهونة! لكنك قُلت لو كان معه زعتر، رحنا نُحضر لك الزعتر ورهنّا المَطهرة حقنا في ذلك.

وقد توارد في الأُمة الإضافة على الأسودين: التّمر والماء، وقد تضّيف بعضهم عند سيِّدنا المُصطفى على التّمر والماء، ثم ضّيف الصّحابة بعض التّابعين على التّمر والماء، ثم تسلسل ذلك إلى عدد من شيوخنا الذين أدركناهم أُضيفوا عند بعض شيوخهم على التّمر والماء، ودُعوا لعزومة وضيافة وقدّموا لهم تمر وماء وكانت هذه ضيافتهم. 

ولمّا تزّوج ﷺ بأُم المؤمنين صفيّة بنت حُيَي، لما كان في الطّريق وأراد عمل وليمة لم يتكلف بشيء، فرأى ماذا عنده فعلم به بعض الصّحابة فهذا جاء بسمن، وهذا جاء بدقيق، وهذا جاء بأقِطْ، حاسوا حيّسة، دعا الصّحابة وقدّم له وليمته الكريمة ﷺ، في آخر زواج تزوج به بالسيِّدة صفيّة بنت حُيي، لا فيه لحم ولا فيه غير الدقيق والسّمن والأقِط وحاسوا منه حيسة، كان فيه تمر ودقيق صنعوا حيسة منه، وقدمه ﷺ دعا الصَّحابة وهذه وليمته عليه الصَّلاة والسَّلام، وقال: أنا وصُلحاء أُمتي بُرآء من التَّكلُف. قال: لا يتكلفون ولا يتخلّفون. 

يقول الإمام مالك "وَذَلِكَ إِذَا أَوْصَى بِهَا الْمَيِّتُ."، فجعلها في الوصايا. وهكذا يذكر الحنفية يقولون: ظاهر كلامهم  أنه لو كان عليه زكاة لا تسقط عنه بدون وصية لتعليلهم لعدم وجوبها؛ لأن وصيته باشتراط النِّية فيها؛ لأنها عبادة، فلا بد فيها من الفعل حقيقة وحُكمًا، بأن يوصي بإخراجها، فلا يقوم الوارث مقامه في ذلك، ولكنهم رجّحوا جواز تبرُّع الوارث بإخراج الزّكاة عن مورّثه. 

"قَالَ: وَالسُّنَّةُ عِنْدَنَا الَّتِي لاَ اخْتِلاَفَ فِيهَا، أَنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَى وَارِثٍ زَكَاةٌ، فِي مَالٍ وَرِثَهُ، فِي دَيْنٍ، وَلاَ عَرْضٍ، وَلاَ دَارٍ، وَلاَ عَبْدٍ، وَلاَ وَلِيدَةٍ، حَتَّى يَحُولَ عَلَى ثَمَنِ مَا بَاعَ مِنْ ذَلِكَ أَوِ اقْتَضَى"؛ بمعنى: قبض "الْحَوْلُ، مِنْ يَوْمَ بَاعَهُ وَقَبَضَهُ." إنما يبتدئ حول جديد، ولا عبرة بأن المورّث كان مالكه وعاد باقي شهر من الحول، فمات فورث هذا كمل الشهر؛ ما عليه زكاة. يبدأ زكاته من حين يقبض المال الذي ورثه ويبدأ الحول من الآن. والعين الموروثة إذا استقبل بها حولًا بعد قبضها، فلا زكاة في تلك العين إلا إذا قُبِضَت. فإذا قُبِضَت، استقبل بها حولًا جديدًا.

"وَقَالَ مَالِكٌ: السُّنَّةُ عِنْدَنَا: أَنَّهُ لاَ تَجِبُ عَلَى وَارِثٍ فِي مَالٍ وَرِثَهُ الزَّكَاةُ، حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ."، ولكن يقول الحنفية: إذا كان عند الوارث نصاب قبل ذلك، فيجب عندهم ما أتاه من الإرث ضمّه إلى ما عنده من النِّصاب فيكون حوله حول ولو كان باقي يوم من أيام الحول عليه، دخل هذا فيه. هذا إذا كان عند الوارث مال لنفسه وهو بالغ نصاب، فعندهم ما ورثه كما كسبه؛ يدخل في حول الأصل ولا يحتاج إلى حول.

  • وجمهور العُلماء يقولون: يبتدئ لمَا ورثه من حول جديد من بعد قبض الإرث.
  • ويقول الحنفية: 

○ إذا كان عنده هو مال فيه نصاب فما طرأ عليه بعد ذلك ولو بإرث، فحوله حول المال الذي قد ملكه من قبل؛ ما يحتاج إلى حول جديد. فلو لم يبقَ إلا أسبوع أسبوعين من حول ماله، فجاء الإرث يحطه فوقه ويُخرّج بعد أسبوع الزّكاة عن الجميع هذا عند مذهب الحنفية. 

○ فإن لم يكن عنده مال، فيصحّ حكاية الإجماع؛ أنه يبتدئ حول جديد إذا لم يكن عند الوارث مال.

نظر الله إلينا وأصْلح شؤوننا، ووفقنا لما يُحب وجعلنا فيمَن يُحب، ووقانا الأسواء والأدواء وأصلح لنا السِّرّ والنجوى. بِسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

14 جمادى الآخر 1442

تاريخ النشر الميلادي

27 يناير 2021

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام