(229)
(536)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الجنائز، باب جامِع الجنائز.
فجر الثلاثاء 6 جمادى الآخرة 1442هـ.
باب جَامِعِ الْجَنَائِزِ
642 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ أَخْبَرَتْهُ، أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ، وَهُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَى صَدْرِهَا، وَأَصْغَتْ إِلَيْهِ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي، وَأَلْحِقْنِي بِالرَّفِيقِ الأَعْلَى".
643 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مَا مِنْ نَبِىٍّ يَمُوتُ حَتَّى يُخَيَّرَ". قَالَتْ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى". فَعَرَفْتُ أَنَّهُ ذَاهِبٌ.
644 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ، عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، يُقَالُ لَهُ: هَذَا مَقْعَدُكَ، حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ".
645 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "كُلُّ ابْنِ آدَمَ تَأْكُلُهُ الأَرْضُ، إِلاَّ عَجْبَ الذَّنَبِ، مِنْهُ خُلِقَ، وَفِيهِ يُرَكَّبُ".
646 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الأَنْصَاري، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ، أَنَّ أَبَاهُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ كَانَ يُحَدِّثُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَال: "إِنَّمَا نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَيْرٌ يَعْلُقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ، حَتَّى يَرْجِعَهُ اللَّهُ إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ".
647 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَال: "قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: إِذَا أَحَبَّ عَبْدِي لِقَائِي، أَحْبَبْتُ لِقَاءَه، وَإِذَا كَرِهَ لِقَائِي، كَرِهْتُ لِقَاءَهُ".
648 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "قَالَ رَجُلٌ لَمْ يَعْمَلْ حَسَنَةً قَطُّ لأَهْلِهِ: إِذَا مَاتَ فَحَرِّقُوهُ، ثُمَّ اذْرُوا نِصْفَهُ فِي الْبَرِّ، وَنِصْفَهُ فِي الْبَحْرِ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ لَيُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً لاَ يُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ، فَلَمَّا مَاتَ الرَّجُلُ فَعَلُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ، فَأَمَرَ اللَّهُ الْبَرَّ فَجَمَعَ مَا فِيهِ، وَأَمَرَ الْبَحْرَ فَجَمَعَ مَا فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: لِمَ فَعَلْتَ هَذَا؟ قَالَ: مِنْ خَشْيَتِكَ يَا رَبِّ، وَأَنْتَ أَعْلَمُ "قَالَ: "فَغَفَرَ لَهُ".
649 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ ،عَنِ أبِي هُرَيْرَةَ, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، كَمَا تُنَاتَجُ الإِبِلُ مِنْ بَهِيمَةٍ جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ الَّذِي يَمُوتُ وَهُوَ صَغِيرٌ؟ قَالَ: "اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ".
650 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ، حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ، فَيَقُولُ: يَا لَيْتَنِي مَكَانَهُ".
651 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَلْحَلَةَ الدِّيلِيِّ، عَنْ مَعْبَدِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ، أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مُرَّ عَلَيْهِ بِجَنَازَةٍ فَقَالَ: "مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْه؟ قَالَ: "الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ، وَالْبِلاَدُ، وَالشَّجَرُ، وَالدَّوَابُّ".
652 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَمَّا مَاتَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ وَمُرَّ بِجَنَازَتِهِ: "ذَهَبْتَ وَلَمْ تَلَبَّسْ مِنْهَا بِشَيْءٍ".
653 - وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ أبِي عَلْقَمَةَ، عَنْ أُمِّهِ أَنَّهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ تَقُولُ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَلَبِسَ ثِيَابَهُ، ثُمَّ خَرَجَ، قَالَتْ: فَأَمَرْتُ جَارِيَتِى بَرِيرَةَ تَتْبَعُهُ، فَتَبِعَتْهُ حَتَّى جَاءَ الْبَقِيعَ، فَوَقَفَ فِي أَدْنَاهُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقِفَ، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَسَبَقَتْهُ بَرِيرَةُ فَأَخْبَرَتْنِي ، فَلَمْ أَذْكُرْ لَهُ شَيْئاً حَتَّى أَصْبَحَ، ثُمَّ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: "إنِّي بُعِثْتُ إِلَى أَهْلِ الْبَقِيعِ لأُصَلِّيَ عَلَيْهِمْ".
654 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: أَسْرِعُوا بِجَنَائِزِكُمْ، فَإِنَّمَا هُوَ خَيْرٌ تُقَدِّمُونَهُ إِلَيْهِ، أَوْ شَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ.
الحمد للهِ مكرِمنا بإشراق أنوار طلعة حبيبهِ المصطفى، وحسن بيانهِ لما يوجبُ الرّفعة عند الحق تباركَ وتعالى، ويلحق أصحابه بأهل الوفا، وما يوجبُ الخزي والسّقوط من عينِ الله، ويلحق أصحابه بأهل الجفا. صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم على خيرِ عبد برأهُ الله وخلقه، ورفعَ قدره ورفعَ به قدر من صدَّقه. الّلهم أدم عليهِ صلواتك، وعلى آلهِ وأصحابهِ خيار أُمتهِ، وعلى من سارَ في سبيلهم، واقتدى بهُداهم من كل قاصدٍ لوجهك الكريم، بسريرتهِ، وعلانيتهِ وعلى آبائهِ، و إخوانهِِ من الأنبياءِ والمرسلين، سادات أهل القرب من الله تبارك وتعالى، وخيار أهل حضرتهِ، وعلى آلِهم وصحبهم وتابعيهم في خشيه الله تبارك وتعالى ورجائهِ وطاعتهِ، والتولّع بهِ، ومحبتهِ وعلى جميع ملائكتك المقربين، وعبادك الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الرَّاحمين.
وبعدُ،
فَيسرد سيدنا الإمام مالك عليهِ رضوان الله في هذا الباب:
وهو (ٱلنَّبَإِ ٱلۡعَظِيمِ * ٱلَّذِي هُمۡ فِيهِ مُخۡتَلِفُونَ * كَلَّا سَيَعۡلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعۡلَمُونَ) [النبأ:2-5]، جعلنا الله من أهل حسن المآب، وأهل مرافقة الأحباب، و سيد الأحباب في مراتب الاقتراب، استجب يا رب الأرباب.
وذكر لنا حديث السّيدة عائشة أُم المؤمنين رضي الله تعالى عنها:" أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ، وَهُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَى صَدْرِهَا، وَأَصْغَتْ إِلَيْهِ"، وكانت تستشعر مِنَّة الله عليها بهذا القُرب من رسوله وختمِ حياتهِ الدنيا وهو على رجلِها مسند رأسه الشَّريف الى صدرِها ﷺ ورفع يده الكريمة "وَأَصْغَتْ إِلَيْهِ" استَمعت وأنصَتت "وهو يَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي، وَأَلْحِقْنِي بِالرَّفِيقِ الأَعْلَى". وهكذا جاءَ في الصّحيحين وغيرهما، وفيه استقراره وثباته على سؤال المغفرة والرَّحمة، في جميع أوقات حياته الى ساعة وفاته، وهو الأطهر، الأنقى، المعصوم ﷺ. وفيه تعليم المؤمنين أن يلحّوا على اللهِ -تبارك وتعالى- في طلب المغفرة والرحمة في شؤونهم وأحوالهم، فماذا يكونون عنده وأين هم منه، وهو الّذي دأب على ذلك طلبًا للمغفرةِ، وطلبًا للرحمةِ في لياليه وفي أيامه، وفي مختلف شؤونه وأحواله إلى ساعة وفاته صلى الله وسلم وبارك عليهِ وعلى آله. اللهم أعِد علينا عوائد استغفاره، واسترحامه، واغفر لنا به وارحمنا به يا خير الغافرين، ويا أرحم الرَّاحمين.
وقالَ له الحق في آخر عمرهِ الكريم بعد أن فتح عليه مكة: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ ۚ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) [النصر:1-3]، فكان يكثر أن يقول في ركوعهِ وسجودهِ: سبحانك الّلهم ربّنا وبحمدك، اللّهم اغفر لي، يتأول القرآن؛ أي: يعمل بهذه الآية من القرآن صلّوات اللهُ عليهِ وعلى آله وصحبهِ.
"وَأَلْحِقْنِي بِالرَّفِيقِ الأَعْلَى" وهم الذين أشار إليهم الحق جَلَّ وعلا بقولهِ: (..وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) [النّساء:69] فَفيهم الملائكة المقرّبون مع النَّبيين، والصّديقين، والشّهداء، والصّالحين. ولما يجعل الله تعالى قلوبهم كقلب رجل واحد سَمّوا بالرّفيق؛ وو المكان الّذي يَترافقون فيهِ سُمّي بالرّفيق الأعلى، الأرفع والأشرف؛ وهي الدّرجات العُلا من الجنة. كما كان يكرر في سؤالهِ: "وأسألك الدّرجات العُلا من الجنة ﷺ"، وألحقني بالرّفيق الأعلى الّذين قال عنهم ربّنا: (..وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) فنعم الرّفيق النّبيون، والصّديقون، والشّهداء، والصّالحون، الّلهم رافقنا بهم، برحمتك يا أرحم الرّاحمين.
وجاءَ فى ذكر رؤساء ذلك الرّفيق الأعلى ما جاءَ عند النّسائي وعند ابن حبان وصحّحهُ أنّه قال: " أسألُ اللهَ الرفيقَ الأعلَى مع جبريلَ وميكائيلَ وإسرافيل"، هؤلاء رؤساء الملائكة، ويرافقون أهل الرّفيق الأعلى في جنات الله تبارك وتعالى، وفي مرافق القيامة. الّلهم الحقنا بهم برحمتك، واجعلنا معهم، وأكرمنا بمعيتهم فضلاً ومِنّا، وجودًا وكرمًا، يا ارحم الرّاحمين.
وفي هذا أيضًا كمال عبوديتهِ عليه الصّلاة والسّلام مع أن جميع أهل الرّفيق الأعلى دونه، وهو فوقهم، وهو إمامهم، وهو مقدمهم، وهو الأكبر منهم، بل وأعظم من ذلك؛ أن الله رتَّب تأهله للرفيق الأعلى، واستعدادهم له بنورهِ، وبركتهِ ﷺ، ومع ذلك فهو يسأل اللحوق بهم، ويسأل المعيةَ لهم، وهم جميعًا من نورهِ خلقوا، وبسر محبة الله لهُ أحبهم جَلَّ جلاله، وهكذا كان شأنه فما أعبَده من عبد متحقق بالعبودية، والعبدية والعبودة لله فهو خير عبد على الإطلاق ﷺ، (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِه)[الإسراء:1]، (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ) [الفرقان:1]، (فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى) [النجم:10-11] فهو خير العبيد صَلوات ربي وسلامه عليهِ، وأشرفهم منزِلةً لَدى المولى، وأعظمهم رتبة لديه.
وهكذا جاءنا الحديث الشّريف عنه عليه الصّلاة والسلام، في أنَّ الله رفيقٌ يحب الرِفقَ، فكان من أسمائهِ جَلَّ جلاله، "إنَّ الله رفيق يحب الرفق"، هو الّذي رفق بعبادهِ، وهو الّذي خصَّ الرّفيق الأعلى بعجائب جودهِ وكرمهِ سبحانه وتعالى.
قَالَت أيضا في الحديث الآخر عنها أنه "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَا مِنْ نَبِىٍّ يَمُوتُ حَتَّى يُخَيَّرَ"؛ معنى أنَّ الله تبارك وتعالى لمكانة الأنبياء عنده-، يعرض عليهم عند الموتِ أن يبقوا مدةً على ظهر الأرض، مضافًا الى هذه المدة، أو أن يموتوا ويَلقوه؛ فَيُخيَّرَ الأنبياء عِند موتهم ويختارون لقاءَ ربهم، فَهم أعظم الخلق محبةً للحق ولقائه، صَلوات اللهِ وسلامهُ عليهم.
وفي الحديث أيضًا أنَّ سَيدنا عزرائيل -عليهِ السّلام- لمّا فاجأ موسى وجاءه في صورةِ من ظنَّ أنّهُ من البشر المكلّفين، دخل البيت بغير إذن فلطمه، فعادَ إلى الرَّب يقول: بعثتني إلى عبد لعلهُ يكره الموت! قال: ارجع إلى عبدي موسى، وقل لهُ يضع يده على متن جلد ثور، وله بكل شعرة مسّتها يدهُ سنة، فجاءَ واستأذن ودخلَ عند النّبي موسى قال: أنا عزرائيل ملك الموت، وإنك لطمتني لمّا جئتُ في المرة الأولى، وإنَّ الله أرسلني اليك، يقول ضع يَدك على متن ثور ولكَ بكل شعرة تصيبها يدك سنة تعيشها، قال وبعد ماذا! قالَ: موت، قالَ الآن احسن، ما لهُ غرض بأن يبقى في الدّنيا عليهِ صَلوات الله، ولكن قالَ ربّي أدنِني من الأرض المقدسة، لأنّهم كانوا في أيام التيه، فأدناهُ الله من الأرض المقدسة وقبضَ روحَهُ هناك، فدفن عليهِ الصَّلاة والسَّلام.
قالَ نبيّنا ﷺ: "مرَرتُ بموسى ليلةَ أُسرىَ بي، وهو قائم يُصلّي في قبرهِ" بل صحَّ فى الرِّواية: "عند الكثيب الأحمر، لو كنتُ هناك لأريتكم قبره" صَلوات ربّي وسلامهُ عليه. وجاءَ في رواية الصَّحيحين أيضًا عن عائشة أنَّها سمعت رسول الله ﷺ يقول أنَّه لم يُقبض نبيٌ حتى يرى مقعدهُ ثمَّ يَحيا أو يُخيَّر، قالت فلمَّا حضرهُ القبُض أغشيَ عليهِ فلمَّا أفاق شخص بصرهُ نحو سقف البيتِ، فقال: الّلهم فالرفيقِ الأعلى، فقلتُ: إذًا لا يختارنا، وعرفتُ أنّهُ حديثهُ الّذي كانَ يُحدّثنا وهو صحيح؛ أي: في أيام صحته ﷺ، وإنّهُ الآن خُيّر، فاختار الرفيق الأعلى، صلوات ربي وسلامه عليه.
جاء فى روايةِ الإمام أحمد قال ﷺ: إني أوتيتُ مفاتيح خزائن الأرض، والخلد، والجنة، فَخُيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة، فاخترتُ لقاءَ ربي والجنة. وجاءَ في روايةِ عبد الرّزاق: خُيّرتُ بين أن أبقى حتى أرى ما يفتح على أُمّتي وبينَ التعجيل، فاخترتُ التعجيل، صَلَّى الله وسلم عليهِ وعلى آلهِ.
وجاءَ في روايةِ: "وقد بلَّغتُ رسالةَ ربي"، أدى ما عليهِ فتركنا على المحجة البيضاء فما يصنع بالدنيا والبقاء فيها! صَلوات الله وسلامهُ عليه وعلى آله وأصحابهِ، ووفّر حظنا من حنان روحه، وعطفهِ في برزخه علينا في شؤوننا وأحوالنا، وعرض عليهِ من أعمالنا ما يسرّ قلبه، ويَقر عينه، صَلوات ربي وسلامه عليهِ. يا أكرم الأكرمين استرنا بسترك الجميل، وبلّغ نبيك عنّا ما يسُره ظاهرًا وباطنًا، برحمتك يا أرحم الرّاحمين، بجاههِ عليك جنّبنا عرض القبائح عليهِ، وسَيئاتنا، ومساوِئنا، واجْعلنا لهُ قرة عَين في كل شأن، يا حي يا قيوم يا أرحم الرّاحمين.
ولمكانتهِ عند الرّب تُكرر له هذا التّخيير، وخُيِّر في ساعةِ الموت، و قبلَ الموت، وفي أيام من قبل الموت، ونادى في منبرهِ الكريم: "إنَّ عبدًا خَيَّرهُ الله بينَ الدّنيا، وبين ما عندهُ فاختار ما عندَ الله"، فضجَّ أبو بكر بالبكاء فصاحَ فَتعجّب بعضُ الأعراب: مال هذا الشّيخ يبكي ورسول الله ذكر أنَّ رجلًا خَيَّرهُ الله! وكان يعلم أنّه يعني نفسه ﷺ، وأنّه الّذى خُيِر وإنّهُ سَيُفارقهم، فلذلك صاحَ بالبكاء سيدنا أبو بكر عليه رضوان الله تبارك وتعالى، وكان من أوعى أمّته لقولهِ ﷺ، ولرمزهِ في خطابهِ وكلامهِ، وما يُشير بهِ، فقد أعتجنَ بمحبتهِ، ومودتهِ، ومخالطتهِ، ومجالستهِ، حتى فَقِه من سرّ إشارته ورموز خطابهِ، ما لم يفقه غيره عليه رضوان الله تبارك وتعالى.
فهذا مقامه عند الحق وتَخَييرهُ له من قبل الوفاة بأيام وفي لحظة الوفاة، ولا يزال يُخَيّر. وجاءَ في بعض الأثار أن الملك أمره الله تعالى أن يخاطبهُ؛ بل أن لا يدخل بيتهُ حتى يستأذنه، فاستأذن قبلهُ جبريل ودخل، ولمّا دخلَ قالَ إنَّ هذا عزرائيل وراء البيت، يستأذنك أن يدخل عليك، أرسله ربك إليك برسالة، قال: فأذن له، فدخلَ فخاطبهُ، بقولهِ إنَّ الله أرسلني اليك، ويقول إنَّه مشتاق اليك، وأمرني أن أكون طَوع أمرك، فإن أذنت لي قبضتُ روحك، وأنا بكَ رفيق شفيق؛ وإلا رجعتُ من حيث أتيت، فَرفعَ يدهُ الكريمة فقال: بل الرّفيق الأعلى، بل الرّفيق الأعلى، صَلوات ربي وسلامهُ عليهِ. فَما يذكر عن محبة الله له، وعن محبتهِ لله، ومن يعرف ذلك؟ ومن يعي ذلك؟ ومن يُدرك شأن ذلك؟ إنّما أدرك الملأ الأعلى من محبة الله لهم، ومن محبتهم لله، ما أوصلهم إليهِ من رُتب، وفي حقائق محبة الله ما لم يعلموا، وفي حقائق ما أحبَّ بهِ عبده ما لم يَصِلوا إليهِ برتبهم، لا في محبة الله له، ولا في محبتهِ لله ﷺ. فمنها ما لم يعلمهُ من الخلق غيره ﷺ، ومن محبة الله لهُ، ومن أسرار محبة الله ما لم يعلمه هو ولا سواه من البرية، صَلوات ربي وسلامهُ عليهِ، ولا يحيط بهِ علمًا إلا الّذي اختاره، واجتباه، واصطفاه، وأدناه، وأعطاه من الوُدِ مالمْ يُعط سواه، ومن الحب ما لم يعطِ سواه، ومن القرب ما لم يعطِ سواه، ومن التّعرف مالم يعطِ سواه، ومن الدّنو من حضرتهِ مالمْ يعط سواه، صَلوات ربي وسلامهُ عليهِ وعلى آلهِ وصحبهِ ومن اهتدى بهداه، وقَرَّبنا اللهُ بقربهِ، وأدخلنا الله في دائرة حبهِ، إنَّهُ أكرم الأكرمين، وأرحم الرّاحمين.
قَالَت فَسَمِعْته يَقُول: "اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى". فَعَرَفْتُ أَنَّهُ ذَاهِبٌ" ومنتقل من مرضهِ ذلك الى الرَّبِ جَلَّ جلالهُ، وذلك أنَّ الله جعلَ فيهِ موت الانسان كشفًا لحجبٍ، لا تُكشف بغيرِ الموت، ومعان من الدُّنو والقرب، وظهور الجلال والجمال الرباني، لا ينكشف لروحٍ إلا بعد مُفارَقتها الجسد، فسُميَ ذلك باللقاءِ، والنّاس فيهِ على مراتب، وعلى درجات،
فسُميَ بذلك الموت لقاءً للربِ، لأنَّه خروجٌ من كثير من أقفاص الحُجب المُسدلة على النّاس في عالمِ الدنيا، ما دامت أرواحهم محبوسة في أجسادهم، ولكلِ روحٍ مهما بلغت من السُموّ والرَّفعة عند الله تبارك وتعالى، وهو يُحبّها من انكشاف حُجبٍ بعدَ الموتِ ما لمْ يُكشف له، وإن انكشف له كثير، وكل مُرتقٍ في مراتب القرب من الله والمعرفة به، على مقدار ما انكشف له وهو في الدُّنيا فبعد الموت مُنكشفٌ له ما ليس على باله قبل الدنيا، وما لم يصل اليه قبل خروجه من الدنيا، كل في مرتبته كذلك.
فسبحان الله، حال هذه الوفاة شأنٌ عظيمٌ في انكشافِ حُجبْ، فيتقربُ بها أهل الرُتب، ويزدادُ بها أهل المُقت -والعياذ بالله تبارك وتعالى- سُوءًا وشرًا، ويُحِسون بألمِ الُبعد (وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ) [السجدة:12] أما كونه عِندَ رَبِّهِم؛ لأنه لا مرجِع إلى سواه، ولا مآل إلى غيره، ولكنهم ناكسوا رؤوسهم لِسطوتهِ، ونقمتهِ، وإعراضهِ عنهم، و بُغضِه لهم -والعياذ بالله تبارك وتعالى- بما اكتسبوه مِن سوء إعراضهم عنه في الحياة الدُّنيا، وارتكابهم لِما نهاهم عنه، وتركهم لِما أمرهم به، فبِئسَ العباد هم، وبِئسَ الخَلق هم، وبِئسَ ما تعاملوا به مع رحمة الرَّب، من إصرارٍ وعنادٍ على الكُفر، والفسوق، والعصيان، ونعوذ باللهِ مِنْ غضبِ الله، ونسألهُ التوفيقَ لِمَا يرضى تعالي في علاه.
يقول عن: "عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ، عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، يُقَالُ لَهُ: هَذَا مَقْعَدُكَ، حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" فتدخل فيه، الحديث في الصَّحيحين أيضًا وغيرهما، وهذا العرضُ بعدَ الموت.
وجاءَ في الأحاديث الأخرى: العَرضُ عندَ خروج الرّوح؛ مِن بشارةٍ بالجِنان ورضوان الرَّحمن، أو بِشارة بالنِّيران وغضب الدَّيان، جلَّ جلاله، وبذلك يتم معنى أو يكمل معنى محبتهم لِلقاءِ الله عند بِشارتهم بما أعدَّ لهم، وكذلك يتغلّظ الأمر مِن كراهة المُبعدين لِلقاءِ اللهِ عندما يُبَشّرون بالغضبِ والنِّيران والعذابِ الشديد -والعياذ بالله تعالى- عندَ خروج أرواحهم من أجسادهم.
فهناك:
وهذا كثيرٌ مِنْ عامة المؤمنين والصَّالحين، وفيهم أهل مراتب؛ منهم الشُّهداء، ومنهم غيرُ الشُّهداء مِنْ أهل المراتب العُلا، لأرواحهم دخولٌ إلى الجنات، وسروحٌ فيها ومُضيٌّ في نواحيها، ومرافقةٌ كذلك لأهل العالمِ الأعلى، ولأهل عالم الدُّنيا في شيءٍ مِنَ الحضراتِ أو المجامعِ، كما دلت عليه الأحاديث الشريفة.
وقدْ ردَّ السَّلام ﷺ على سيدنا جعفر بِنْ أبي طالب بعدَ وفاته، وقال أنه وقفَ عليه في نفرٍ مِنَ الملائكة، فها هوَ يحضر إلى المدينةِ المُنَّورة ويسيرُ في عالم الدُّنيا، جعفر بِنْ أبي طالب بعد موته.
فَشؤون الأرواحِ بعدَ الموت على مراتب ودرجات:
و (هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) [آل عمران: 163].
قال: يُعرض على النَّاسِ في قبورهم، "إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ، عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ" فيُعرض عليه المقعد مِنَ الجنة، "وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ"، يُعرضُ عليه مقعدهُ مِنَ النَّار، فلذا أهلُ الشقاء في البرازخ يَوَدّون أنَّ يطول الوقت ولا تقوم السَّاعة، والمؤمنين يحبون قُرب السَّاعة، وكانَ رسول الله ﷺ إذا زار قبور المؤمنين قال: "أبشروا فإنَّ السَّاعة قريب"، فإنهم يستبشرون بقُرب السَّاعة لما أعدَّ الله لهم. جعل الله مآلنا إلى جناتهِ وَأعاليها وفِردوسها الأعلى.
"عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "كُلُّ ابْنِ آدَمَ تَأْكُلُهُ الأَرْضُ، إِلاَّ عَجْبَ الذَّنَبِ"؛ تأكلُ الجسم؛ أي من الأجسام الّتي يأذن اللهُ للأرض أن تأكُلها؛ ولكنَّ هُناك أجسام لا عَجب الذّنب، ولا العمود الفقري، ولا الظّهر، ولا الصّدر، ولا اليد، ولا الرّجل، يُؤذن للأرض أن تأكل شيئًا منهُ قط. فيبقى بكُلِهِ وأمّا عموم النّاس وعامتهم. بِما فيهم من صُلحاء وسواهم تأكلُ الأرض أجسادهم حتى لا يبقى. "إِلاَّ عَجْبُ الذَّنَبِِ"، وعجب الذّنب ممنوع على الأرض أن تأكلهُ فى تركيب الله تعالى و تكوينه للخلق، لا تستطيع الأرض أن تأكل هذا مثل حبة الذّرة.
عجب الذّنبِ هذا العصعص من الإنسان، آخر العمود الفقري، منه يتركب العمود الفقري مثل حبة الذّرة، ولا تتمكن معدة من هضمهِ، ولا أرض من أكلهِ، ولا حجر من دقّهِ، ولا حديد من سحقهِ… ما يمكن أبدًا! آيةً من آيات الله تعالى، فيبقى ثُمَّ منهُ يركب الخلق يومَ القيامة عندما يُنفخ النفخةَ الأولى في الصّورِ، ويصعقُ من في السَّماواتِ والارضِ، يُنزلُ الله ماءً يغوصُ في الأرض، فلا يُصادفُ عَجبَ ذنبٍ إلا تَركَّبَ منهُ الجسد الّذي كانَ عليهِ في عالمِ الدُّنيا، كما يَنشأُ مِن الحبِ الشَّجر.
لِذا كثيرًا ما مَثّلَ اللهُ رجوعُ الخلق في حياةِ القيامة بالشَّجرِ، والأرضِ الّتي تَحيا بعدَ موتها وكذلك تُخرَجون. فَتنبت أجسامهم مِن عجبِ الذَّنب، فيعود كما هَيئَتِهِ الّتي ماتَ عليها، الى أن يَبعثَ الله إسرافيل فيأمرهُ بالنفخةِ الثَّانية فى الرّوح، فَتَطير الأرواح، كلُ واحد يطلبُ جسده لا يغلط فيه، فيدخل في جسدهِ الّذي كانَ فيهِ في الدُّنيا فَيقومون، (..ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ * وَأَشۡرَقَتِ ٱلۡأَرۡضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ ٱلۡكِتَـٰبُ وَجِا۟یۤءَ بِٱلنَّبِیِّـۧنَ وَٱلشُّهَدَاۤءِ وَقُضِیَ بَیۡنَهُم بِٱلۡحَقِّ وَهُمۡ لَا یُظۡلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَرًا..)[الزمر:68-71]، (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا)[الزمر:73].
هذا المُستقبلُ الأعظم الّذي لا مفرَّ منه، ولا بُدَ مِن الرّجوع إليهِ لِمن آمنَ، ومَن كَفر، ومَن صَدَّق ومَن كَذَّب، ما لَهم مرجع إلا هذا، كَما لم يَكن لهم مَبدأ إلا هذا، مَن الذّي حَكم بِمبدأهم؟ مَبدأ الخلق وتكوينه، مَن قَرَّره؟ مَن رَتَّبه مَن الهَيئات حَقَّهم؟ أو شيء مِن العقول حَقَّهم؟! فَكما أنَ ما لَهم اختيار في المبدأ ولا في المُنتهى كذلك، وما مَعهم إلا الغرور مابينَ البدايةِ والنّهايةِ غرور يغترّون به فقط، ما لَهم شيء، ما لَهم مِن الأمر شيء! فالأمر أمرُه، وقَد أخبرنا برحمتهِ ورأفتهِ، وأمرنا أن نَستعد، ونَتزود، ونتهيأ لِيُحسن لَنا لقاءُه، ويَنبسِطَ لنا عَطاؤُه.
قال مِنهُ خُلِقَ أي عِند التَّكوينِ، لمّا تتحول المُضغةَ إلى عظام، يبدأ مِنَ المضغة عِجبَ الذَّنب، يُكَوِّن اللهُ عِجبَ الذَّنب مِن هذهِ المُضغة، فَيُنشئ مِنها العمود الفقري، والهيكل العظمي، ويتحول إلى عظام، ثُمَّ يُنبت اللحمَ عليهِ -جَلَّ جَلالُه- كما دَلَّت الآيات عليهِ قولِه سبحانهُ وتعالى (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا)، بِدايةً من عَجبِ الذَّنب يُحَول هذهِ المُضغةَ إلى عَجبِ الذنب، يُكَوِّن مِنه ويُنبت مِنه بقية العمود الفقري، والهيكل العظمي للجسد كله (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) [المؤمنون:12-14].
وهكذا حَدَّثهم ﷺ بخبرِالله عن هذهِ الأمور قبلَ أن تكون وسائل الإطلاع على كيفية تَكوين الجنين، ولا هناك أجهزة تَكشف ذلك، وقُل لَهم يطَوَّروا ما شاءوا، فلا يَجدوا غيرَ ما قالَ حبيبُ الرَّحمن، فَمن الّذي أخبره! فَما لَهم لا يَتبعونَه؟ وما لَهم لا يُصَدِّقونَه؟ ما أسْفَهَهم، وما أسْخَفهم، وما أقلَّ حَيائَهم مِن ربِّهم ورسولِه! وهُم يَرون الآيات واضحة بَينة، ويُكَذِّبون بعدَ ذلك، ولا يَنقادونَ، ولا يَتبعونَ فإلى أينَ يَذهبون؟ وإلى مَن يَرجعون؟ فالحمدُ للهِ على الإيمانِ ثَبَّتنا الله عليهِ وزادَنا إيمانًا في كلِ نفس.
قال: "مِنْهُ خُلِقَ" ابن آدم "وَفِيهِ يُرَكَّبُ"، في اللَفظة الأخرى: "ومنهُ يُرَكَّب" عِند قيامِ السَّاعة فَيرجع مِن عَجبِ الذَّنب الهيكل العظمي، ثُمَّ يُكسى اللَحم، كما عَمِلَ -سبحانه وتعالى- في بطنِ أُمهِ كذلك يَعمل بهِ في قبرهِ جَلَّ جَلالهُ وتَعالى في عُلاه. (قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ..) [ يس:78-79]، أنت من أين جئت أصلًا؟! وهل أحد أخذ شيء مِن يَدك أو مِن يَد أُمك كوّن عظامك؟ مِن أينَ جاءَت العظام أول مرة؟ أليست من عِنده؟! وإيش الّذي يَمنعهُ يَرُدَّها ثاني مرة؟ (قل يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ..)، (وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا * أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا * فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا * ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا) أهل العُتو هؤلاء ويل لهم! (ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَىٰ بِهَا صِلِيًّا * وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا ۚ كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) [مريم:66-72] صَدقَ الله.
إذًا، هُناك أجساد لا يَمسُّها، لا عَجبِ الذَّنب، ولا بقية الهيكل العظمي، ولا اللحم، بَل أكبر مِن ذلك! أهل هذهِ الأجساد تُحفظ أكفانَهم، وثيابهم، الّتي اتصلت بِهم، ما تقدر الأرض تأكل الثِّياب حقهم، ولا شَعرهم، ولا عَظمهم، ولا لَحمَهم، تَمسّه ولا الثَّوب الّذي عليهِ! تقف قدامه ما تحرك شيء، فَلهم مئات من حين قَُبروا، والآن هُم و أكفانهم موجودين في بطنِ الأرض، لا شيء مِنها تَغيّر، مِئات ألوف من الأنبياء السَّابقين لا أجسادهم، ولا أكفانُهم مَسَّها التُّراب، ولا البِلى، ولا الذَّهاب، لا إله إلا الله سبحان القوي .
ويذكر عن "كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ كَانَ يُحَدِّثُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَال: إِنَّمَا نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ" أي روحهِ "إِنَّمَا نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ" يعني روحُ المُؤمن وأولاده، جماعة مِن المُؤمنين "طَيْرٌ يَعْلُقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ" يعني تطير بأمر الله تعالى.
وأرواح تطير إلى عُلاها *** بأجنحة الغرام المقعدية
"يَعْلُقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ"، بمعنى: تَضُم وترعى، "حَتَّى يَرْجِعَهُ اللَّهُ إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ" سواءً كانَ قد تآكلَ جسدهِ وأعادهُ في القيامةِ أو ما زالَ جسده موجودًا في مكان قُبِر في محلُه الّذي هو فيهِ.
ونادرٌ من الأجساد المُكرَّمة عِندَ الله مَن يَرفعها؛ يَرفع الجسد بنفسهِ، ويجعل مُكثهُ بدل حفرة القبر في الأرضِ يجعلهُ في السَّماء، نفس الجسد يَرفعه وهذا في نوادرِ، عامة النَّاس يَبقوا كما هم. ومِنها جَسد سَيدنا إدريس لم يُقبر في الأرضِ أصلًا ورَفعهُ الله بجسدهِ، فلمَّا كانَ في السَّماء الرَّابعة جاءَ وقت قبض روحهِ، وانتهى أجله فجاءَ سَيدنا عزرائيل وهو مَحله في السَّماءِ فَقبضَ روحهِ هُناك وجسده في السَّماء قال تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيياً * وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِياًّ) [مريم:56-57]؛
فالحسِّي رفعَ جَسده إلى السَّماءِ الرَّابعة، صَلواتُ اللهِ وسلامهُ عليهِ وعلى جميعِ الأنبياء والمُرسلين.
وفي إشارة أنَّ ذلك يكون للشهداءِ، ويكون لغيرِهم مِن بعض المُؤمنين، وهُم درجات عِند الله تباركَ وتعالى. فإما تكون نَفسها على صورةِ طيرٍ لا أنَّها تكون في طيرِ ويكون الطَّير ظرفًا لها. "أرواحُ الشُّهداء عند الله.."
فَرجَّح القُرطبي هذهِ الرِّوايات أنَّها نَفسها هي الّتي َتَتحول إلى طير، ولا تكون الطُّيور ظروفًا لها. وفي هذا تَشكل الأرواح بالتّشكيلِ، وإلا فَشأنُها فسيحٌ عظيم، و لابُدَّ أن تتشكل بصورة وبشكل فَتكون في صورةِ طيور، ويكون هذا مُدة البرزخ إلى وَقت البعث. فَيرجع الرّوح إلى أصل الجسد. يقول هذا في حقِّ الشُّهداء، ومن أُكرموا بهذهِ المَنزلة إذا لم يَحبسهم عن هذهِ الجنة كبيرة ولا دَين، فأرواحُ السُعداء مُنَعّمة إلى يومِ الدِّين، وأرواحُ أهل الشَّقاوة معذبة إلى يومِ يُبعثون.
وجاءَ: "عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَال: "قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: إِذَا أَحَبَّ عَبْدِي لِقَائِي، أَحْبَبْتُ لِقَاءَه، وَإِذَا كَرِهَ لِقَائِي، كَرِهْتُ لِقَاءَهُ"، وهكذا جاءَ في صحيحِ الإمام البخاري وفيهِ عموم ما يكون في عالمِ الدُّنيا من محبةِ المُؤمن للقاءِ رَبّهِ رَجاءَ قُربهِ، ورضوانهِ، ومغفرتهِ، ومرافقة أصفيائهِ؛ ثُمَّ يتأكد ذلك عِند الموت، عِندما يُبشَّر بِما أعدَّ الله لهُ فينتهضُ فرحًا بلقاءِ الحق، ويُحب الله لقاءَه. ولا يَتعارض ذلك معَ مايصيبُ عامةَ النُّفوس من كراهةَ الموت لا لِكونهِ فيه لقاءِ الله سُبحانهُ وتعالى، ولا يَكون عِند المُؤمن كراهةَ المَوت لِمُفارقة متاع الدُّنيا ونَعيمها؛ ولكن:
ولكن أهلَ الفِسق والنِّفاق يُحبون البقاء في الدُّنيا لشهواتها ومتعها، ولأن قلوبهم مُعلقة فيها يكرهون المَوت ويكرهون لقاءَ الله، ولا يَرجون لقاء الله جَلَّ جلالهُ، ولا يُؤمنون بهِ؛ فهم الّذين يَكرهون لقاءَ الله، فيكره الله لقاءَهُم عِند الموت يتأكد ذلك بأن يُبشِّروا بالعذابِ والنّكال فوق ما كانوا مُكَذبين، وما كانوا مائلين إلى الدُّنيا فيزدادون كرهًا للقاء الله، فيكرهُ اللهُ لقاءهم -والعياذُ باللهِ تعالى- فيلقونه على شرِّ حال. و يُقال لأهلِ المراتب الطَّيبة: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي) [الفجر:27-30].
وكذلك ما جاءَ عن النبي ﷺ قَالَ: "قَالَ رَجُلٌ لَمْ يَعْمَلْ حَسَنَةً قَطُّ لأَهْلِهِ"، في روايةِ البخاري: "كانَ رجل يُسرف على نَفسهِ"، مِمن كان قَبلكُم يسئُ الظَّن بعملهِ، فإنه لم يَتبوأ عِند الله خيرًا، لم يَستعد، ولَم يَدخر في روايةِ، ولا يضعُ عصاهُ عن عاتقهِ إشارة إلى الإكثار من ذلك، ومعنى قولهِ لم يعمل خيرًا قط، لم يَكثر مِن الخير؛ ولكنَّهُ يؤمن باللهِ، ويَخافُ مِن عذاب الله، عندهُ إيمان هذا خير عنده، وإن لم ينطلق في عملِ الصَّالحات وأكثر أعمالهِ سَيئات.
جاء في رواية: وكان نَبَّاشًا يقولُ لأهلهِ، في رواية عِند البخاري. فلمَّا حَضر أي: أدركهُ الموت، قالَ لِبنيهِ أي أب كنتُ لكم؟ قالوا خَيرَ أب، تحسن إلينا.. قال: بحقي عليكم حَرِّقوني، وأنا صاحب مَعاصي وذُنوب، إذا قَدرَ الله عليّ؛ إمَّا بمعنى ضَيَّق؛ وإمّا أنَّ إعتقاده كانَ على خللِ؛ يَظنُ أن ما انحرق ما يرجع؛ عقيدة باطلة؛ ولكنَّ الله سامَحه فيها، قَبِل مِنهُ أصل الإيمان بهِ -جَلَّ جَلالهُ- وما دَلَّ عليهِ الحديث قال " إِذَا مَاتَ فَحَرِّقُوهُ، ثُمَّ اذْرُوا نِصْفَهُ فِي الْبَرِّ، وَنِصْفَهُ فِي الْبَحْرِ" رَّماده قسِّموهُ نصفين؛ نصف في البرِ ونصف في البحرِ " فَوَاللَّهِ" يحلفُ "لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ لَيُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً لاَ يُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ".
ويقول مَن قالَ أنَّه قال ذلك في حالِ دَهشَتهُ وغلبة الخوف عليهِ حتى ذهبَ عقلهُ مايدري إيش يقول، وإلا مَن يَشُك أن الله على كلِ شيءٍ قدير يُحيي متى شاء، قالَ" فَلَمَّا مَاتَ الرَّجُلُ فَعَلُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ " أبوهم هذا، وحَرَّقوا ذلك حتى صارَ رَّماد أخذوا نصفهُ في يومِ ريح شديد، نصفهُ في البرِ ونصفهُ في البحرِ." فَأَمَرَ اللَّهُ الْبَرَّ فَجَمَعَ مَا فِيهِ، وَأَمَرَ الْبَحْرَ فَجَمَعَ مَا فِيهِ " ثُمَّ ردّه وكوّنه، "قَالَ: لِمَ فَعَلْتَ هَذَا؟ قَالَ: مِنْ خَشْيَتِكَ يَا رَبِّ، وَأَنْتَ أَعْلَمُ قَالَ: فَغَفَرَ لَهُ"، فالحديث الصَّحيح سُبحان الله! لمَّا غلبه الخوف، والخشية… خلاص.. فأنت مُسامح فيما كان منكَ، وأنت من أهلِ اليمين، ومِن أهل الجنة، وامكث مُنعَّم في قبرك إلى يومِ القيامه، لا إله إلا الله! ما أكرمه وما أرحمه بعبادهِ وما أحسن تعاملهِ معهم.
"قَالَ ﷺ: كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ" جميع المُولودين فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) [الروم:30] الإسلام والإيمان؛ ولكن ما يَطرأُ لهم بعد ذلك في هذهِ الحياة. "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، كَمَا تُنَاتَجُ الإِبِلُ مِنْ بَهِيمَةٍ جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ"، كله على وتيرة واحدة، فكذلك النَّاس على الإيمانِ يُفطرون؛ ولكن يَعرض عليهم بعد ذلك الإغراء، والإغواء، والتَّضليل، والخِداع، والتَّلبيس، والتَّدليس ويذهبون، هذا يَمنى وهذا يَسرة، "أَرَأَيْتَ الَّذِي يَمُوتُ وَهُوَ صَغِيرٌ؟ قَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ"؛ يعني: لو أحياهُم جَلَّ جَلاله وتعالى في عُلاه .
وجاءت أقوالُ العلماء إلى عشرةِ أقوال في ذراري المُشركين الّذين يموتون صغار مِن قول:
وأستدل الإمام النَّووي وغيره بحديثِ سمرة عند البخاري في روايةِ عنه ﷺ: أن إبراهيم والصّبيان حوله ُأولاد النَّاس، يشمل المُسلمين والصّبيان يُعلمَهُم سَيدنا إبراهيم وسيدتنا سارة، يُعلِمونَهم القُرآن سواء كانوا مُسلمين كُلَّهم اولاد النّاس، يشمل المُؤمن والكافر.
وعلى كلِ الاحوال رَجَّحَ الإمام النَّووي بأنَّ جميع أطفال المُسلمين والكُفّار إلى الجنة، بل وَردت أحاديث صحيحه في أطفال المُسلمين أنَّهم يشفعون وأنَّهم يَسقون آبائهم، وأنَّهم ينفعون لآبائِهم وأمهاتهم في القيامةِ.
"لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ، حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ، فَيَقُولُ: يَا لَيْتَنِي مَكَانَهُ". وقد جاءَ في الصَّحيحين، وقد وقعَ في حياةِ الأُمة في أحوالِ مُتعددة، وقد مَرَّ مَن مرَّ على المقابرِ وقالَ ياليتَني قَد مُتُّ فيها مِما ينازل النَّاس؛ إما مِن الفتن في الدَّين، أو مِن شدائد، أو مِن أهوال يَجزعون لَها، ويَقلُ صَبرهم عندها، وكُلّه قَد حصل! وربَّما يَحصل منهُ ما يَحصل في المُستقبل، واللهُ يلطفُ بِنا، وبالأُمة فيما تَجري بهِ المقادير، ويُحيينا ما دامتْ الحياة خيرًا لَنا، ويَتوفانا إذا كانت الوفاة خيرًا لَنا، إنَّه أكرم الأكرمين.
وكانَ يُشير الحبيب علوي بن شهاب إلى ما يحدث بعده في أيامِ الشُّيوعية في البلدِ ويقول: يَمر المار مِنكم على المقبرةِ، يقول يا ليتَني كنتُ فيها، وحصلَ لبعض النَّاس إن قالوا ذلك و لا إله إلا الله الحي القيوم.
وجاءَ في صحيحِ مسلم: "لا تَذْهبُ الدنيا حتى يَمُرَّ الرَّجُلُ على القَبْرِ ، فيَتمَرَّغُ عليه، و يَقولُ: يا ليْتَنِي كُنتُ مكانَ صاحِبَ هذا القبْرِ ، و ليس بهِ الدينُ، إلَّا البلاءُ". لا إله إلا الله! يقول ابن مسعود: "سيأتي عليكم زمان لو وجد فيه أحدكم الموت يباع لاشتراه"، مِن البلاء والشَّدائد، وبعض الأخيار مِن فتن الدَّين خوفًا على أنفسِهم.
ويُروى عن سَيدنا البُخاري أنَّهُ لمَّا وصلَت الفتنة عنده بالقول بخلق القرآن، قالَ: اللهم أقبضني إليكَ غيرَ مفتون، فَتوفى عليه رحمة الله تباركَ وتَعالى .
وذكر "عَنْ أبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ، أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مُرَّ عَلَيْهِ بِجَنَازَةٍ فَقَالَ: مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْه؟" يعني الجَنائز ما بينَ إثنين، مستريح أو مُستراح منهُ فسألوا النبي ﷺ عن ذلك قَالَ:
وأمَّا المُؤمنون هم الّذين يستريحون، ويُخرَجون من هذا العالم، حتى قالَ بعض مَن شُوهدوا، ما يَسَّرهم، أنّهم في الدُّنيا؟ هُم الآن فرحانين، ما يَسرهم أن يرجعون إلى الدُّنيا.
وقال: " يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ، وَالْبِلاَدُ، وَالشَّجَرُ، وَالدَّوَابُّ"؛ حتى الأرض تفرح بِموتهم، ولا تبكيهم، هُم قاعدين يَعصونَ الله فوقَ ظَهرها، ويعلنون فُسقهم، وكُفرَهم،.. يموتون أحسن، فَتستريح البلاد منهم، والعباد والشَّجر، حتى الشَّجر والدَّواب.
يُذكر في السّيرةِ حمار سماه النبي ﷺ يعفور، يُكلّم النَّبي ﷺ قال: كُنت قبلك عِند يهودي كُنتُ أتَعثّر به الطَّريق رجاء أن يسقط؛ يكرهه..، قال: إذا أقبل ﷺ قدَّم يَديهِ وخرج إليه حتى يكادُ يلصق بالأرضِ للنَبي حتى يركب عليهِ، وإذا أراد يَنزل عنهُ عَمل ذلك، فلمَّا تُوفي ﷺ امتنع هذا الحمار عن الطَّعام، والشَّراب، ثُمَّ مَشيَ وهو ضعيف إلى بئر فَردَّى نفسه.. انتحر! حتى الدَّواب تحب الأخيار.
وفي بعض الآثار أنَّه حتى الثِّياب بِيلبسها تارك الصَّلاة مِن المُسلمين، فضلاً عن الكافر، فتقول: عَدو الله، لولا سَخَّرني اللهُ لكَ لفرَرَت منك، أنتَ تلبسني وأنتَ تَترك فرائضُ الله! ويرفعُ اللقمة إلى فيه تقول: يا عَدُو الله، تأكلُ رزق الله، وتعصي الله، لولا أن سَخَّرني الله لك، لفَررتُ منك، فتحب الأخيار وتكرهُ الأشرار..
"لَمَّا مَاتَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ ” رضيَ اللهُ عنهم أخو النَّبي مِن الرِّضاعة، وهو أول مَن ماتَ مِن المُهاجرين في المدينةِ، "وَمُرَّ بِجَنَازَتِهِ " يقول "ذَهَبْتَ وَلَمْ تَلَبَّسْ مِنْهَا بِشَيْءٍ". يقولُ ﷺ: "ذَهَبْتَ"؛ أي: خَرجت من الدنيا "وَلَمْ تَلَبَّسْ مِنْهَا بِشَيْءٍ"، يعني تَتلبس مِنها بشيءٍ، يقول أنَّهُ لم يَلتفت إلى الدُّنيا ولم يَحضر وقت انفتاحها، ومُرور الأرزاق على النَّاس، ماتَ والنَّاس لا زالوا في بدايةِ الأمرِ بعد الشِّدة في مكة، و بداية الأمر في المدينة، وكان ينزلون على الأنصار ويواسونَهُم بما عِندهم. ومات َعثمان بِن مظعون في هذهِ الحالة عليهِ رضوانُ الله، ثُمَّ وضعَ حجر على قبرهِ، قالَ علامة أتعلم بِها قبرَ أخي، وأُدفن إليهِ مَن ماتَ مِن أهلي، وقُبر قريبًا منه هناك سَيدنا إبراهيم ابن النَّبي ﷺ في بقيعِ الغرقد.
تقول عائشة: "قَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَلَبِسَ ثِيَابَهُ، ثُمَّ خَرَجَ، قَالَتْ: فَأَمَرْتُ جَارِيَتِى بَرِيرَةَ" الّتي اشترَتها وأعتَقتها "فَتبِعتْهُ" تشوف النَّبي أين يَمشي في هذهِ السَّاعة في وقتِ الليل يَلبس ثِيابه وخرجَ، ذهبَتْ تمشي وراءَهُ سَيِدتنا بَرِيرَة، "فَوَقَفَ فِي أَدْنَاهُ" البقيع "مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقِفَ"، يعني أطال القِيام ، كما جاءَ في روايةِ طول قيامهِ على القُبورِ في صحيح مسلم و في غيرهِ، فأطالَ الوقوف، ولِذلك مَن يَدَّعي أنَّهُ ما يَستحب تطويل الوقوف أمام القُبور، ما لَهم أصل!
"فَوَقَفَ فِي أَدْنَاهُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقِفَ" إشارة الى طولِ وقوفهِِ، ثُمَّ حَسَّت به يرجع ينصرف " فَسبقتهُ بَريرَة " قالت لها خرجَ عندَ بقيع الغرقد، ووقفَ عِند القُبور و أطال الوقوف وهو راجع الآن، فدخل ﷺ " فَلَمْ أَذْكُرْ لَهُ شَيْئاً " في تلك الليلة "حَتَّى أَصْبَحَ " قالَتْ إن بَريرَة رأتك وقفت "فَقَالَ: "إنِّي بُعِثْتُ إِلَى أَهْلِ الْبَقِيعِ لأُصَلِّيَ عَلَيْهِمْ"، مِن رحمة الله تعالى بالأمةِ ورحمة رسولِ الله ﷺ بأُمّته، قالَ له أخرج بالليلِ عندَ المقابر ادعو لَهم، واستغفر لَهم، يُريد يرفع درجاتهم، ويُسامحهم تعالى في الذّنوب، قالَ لحبيبهِ اذهب إلى هناك، ثُمَّ ادعو لهم، فكانَ يخرج إليهم، وصَرَّحَ بذلك في حديثهِ قالَ: إنَّ بعض أهل هذهِ القبور تشتعل قُبورهم ناراً، وإنَّ في قبورهم ظلمة، وإنَّ اللهَ يملأها بصلاتي عليهم نوراً صَلَّى اللهُ وعلى الهِ وصحبهِ وسلم .
ثم ختم الباب بحديث: "أَسْرِعُوا بِجَنَائِزِكُمْ، فَإِنَّمَا هُوَ خَيْرٌ تُقَدِّمُونَهُ إِلَيْهِ" إن كانَ مِن أهل الخير والسَّعادة، "أَوْ شَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ"؛ إن كانَ مِن الأشرار، فلا تُبطؤن بالجنائزِ إلا لانتظار نَحو اجتماع المُصلين عليهِ أو نحو ذلك، ثُمَّ يُبادر بهِ إلى قبرهِ، إن كانت خير إلى خير تقدمونه إن كانت خيرًا، وإن كان شر فَشر تَضعونَه عن رِقابكم، حُطوه من رِقابكم وهو وشَرَّه وبلاه.
اللهم اجعل قُبورنا رياض من رياضِ الجنة، وقُبور جميع آباءنا، وأُمهاتنا، وإخواننا، وأصحابنا، وطلابنا، وأحبابنا، يجعل قُبورنا وقُبورهم أجمع رياض مِن رياض جَنتك، ولا تجعلها حفر مِن حفر النَّار، بمحض منّتك بِسرّ الفاتحة إلى حضرة النبي ﷺ.
06 جمادى الآخر 1442