شرح الموطأ -128- كتاب الجنائز: باب الوقوف للجنائز والجلوس على المقابر، وباب النهي عن البكاء على الميت

شرح الموطأ -128- باب الوقوفُ للجنائز والجُلوسُ على المَقابِر، من حديث: (أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم كان يقومُ في الجنائزِ..)
للاستماع إلى الدرس

شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الجنائز، باب الوقوف للجنائز والجُلوسُ على المَقابِر، وباب النهى عن البكاء على الميت.

 فجر الأربعاء 29 جمادى الأولى 1442هـ.

باب الْوُقُوفِ لِلْجَنَائِزِ وَالْجُلُوسِ عَلَى الْمَقَابِرِ

629 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ وَاقِدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ مَسْعُودِ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طَالِبٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَقُومُ فِي الْجَنَائِزِ، ثُمَّ جَلَسَ بَعْدُ.

630 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أبِي طَالِبٍ كَانَ يَتَوَسَّدُ الْقُبُورَ وَيَضْطَجِعُ عَلَيْهَا.

قَالَ مَالِكٌ: وَإِنَّمَا نُهِيَ عَنِ الْقُعُودِ عَلَى الْقُبُورِ فِيمَا نرَى لِلْمَذَاهِبِ.

631 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي بَكْرِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا أُمَامَةَ بْنَ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ يَقُول: كُنَّا نَشْهَدُ الْجَنَائِزَ، فَمَا يَجْلِسُ آخِرُ النَّاسِ حَتَّى يُؤْذَنُوا.

باب النَّهْىِ عَنِ الْبُكَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ

632- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ، عَنْ عَتِيكِ بْنِ الْحَارِثِ -وَهُوَ جَدُّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَابِرٍ أَبُو أُمِّهِ- أَنَّهُ أَخْبَرَهُ، أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَتِيكٍ أَخْبَرَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ جَاءَ يَعُودُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ ثَابِتٍ، فَوَجَدَهُ قَدْ غُلِبَ عَلَيْهِ، فَصَاحَ بِهِ فَلَمْ يُجِبْهُ، فَاسْتَرْجَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَقَالَ: "غُلِبْنَا عَلَيْكَ يَا أَبَا الرَّبِيعِ". فَصَاحَ النِّسْوَةُ وَبَكَيْنَ، فَجَعَلَ جَابِرٌ يُسَكِّتُهُنَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "دَعْهُنَّ، فَإِذَا وَجَبَ فَلاَ تَبْكِيَنَّ بَاكِيَةٌ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوُجُوبُ؟ قَالَ: "إِذَا مَاتَ". فَقَالَتِ ابْنَتُهُ: وَاللَّهِ إِنْ كُنْتُ لأَرْجُو أَنْ تَكُونَ شَهِيداً، فَإِنَّكَ كُنْتَ قَدْ قَضَيْتَ جِهَازَكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْقَعَ أَجْرَهُ عَلَى قَدْرِ نِيَّتِهِ، وَمَا تَعُدُّونَ الشَّهَادَةَ؟" قَالُوا: الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "الشُّهَدَاءُ سَبْعَةٌ سِوَى الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ: الْمَطْعُونُ شَهِيدٌ، وَالْغَرِقُ شَهِيدٌ، وَصَاحِبُ ذَاتِ الْجَنْبِ شَهِيدٌ، وَالْمَبْطُونُ شَهِيدٌ، وَالْحَرِقُ شَهِيدٌ، وَالَّذِي يَمُوتُ تَحْتَ الْهَدْمِ شَهِيدٌ، وَالْمَرْأَةُ تَمُوتُ بِجُمْعٍ شَهِيدٌ".

 

نص الدرس مكتوب: 

 

الحمد لله مبيّن الأحكام، وصلى الله وسلم على عبده خير الأنام، سيدنا محمد مصباح الظلام، وعلى آله وصحبه الكرام، وعلى من تبعهم بإحسانٍ ووالاهم في الله إلى يوم القيام، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين سادات الحنفاء العظام، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المقرّبين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين. 

يواصل سيدنا الإمام مالك -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- ذكر الأحاديث المتعلقة بالجنائز، ويتحدث في هذا الباب عن "الْوُقُوفِ -أو القيام- لِلْجَنَائِزِ" إذا مرّت بالإنسان، "وَالْجُلُوسِ عَلَى الْمَقَابِرِ"، وذكر -عليه رحمة الله تبارك وتعالى-: "عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طَالِبٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَقُومُ فِي الْجَنَائِزِ، ثُمَّ جَلَسَ بَعْدُ" أي: ويأمر بذلك، كما جاء في روايات صحيحة:

  • عند ابن أبي شيبة عن يزيد بن ثابت قال: كنا معه ﷺ فطلعت جنازة، فلما رآها قام وقام أصحابه حتى بعُدت، والله ما أدري من شأنها أو من تضايق المكان، وما سألناه عن قيامه.
  • وجاء في صحيح البخاري ومسلم  جابر -رضي الله عنه- قال: مر بنا جنازة فقام لها النبي ﷺ وقمنا فقلنا إنها جنازة يهودي، فقال: إذا رأيتم الجنازة فقوموا.
  •  جاء في رواية مسلم إن الموت فَزَع.
  •  وجاء في الصحيحين أيضًا عن سيدنا سهل بن حنيف وقيس بن سعد قال ﷺ: أليست نفسًا.
  •  وجاء في رواية الإمام أحمد عن أبي موسى ورواية الحاكم عن أنس: إنما قمنا للملائكة.
  •  وجاء في رواية الإمام أحمد بن حبان والحاكم أيضًا أنه ﷺ قال: إنما قمنا إعظامًا للذي يقبض النفوس.
  •  وجاء في رواية ابن حبان: الله الذي يقبض الأرواح.

 فجاءت هذه التعاليل للقيام مرفوعةً عنه ﷺ، فهي مُقدّمة على ما فهم بعض الرواة، فيما جاء عنهم أنه إنما قام تاذيًا بريح اليهودي، أو أنه آذاه ريح بخورها، أو كراهية أن تعلو رأسه، فهذه الأقوال في التعليل فهمًا من بعض الرواة، ولكن الأحاديث المرفوعة وأسانيدها أصح، ففيها التعليل ﷺ فذلك هو المقدم.

 فيكون القيام عند مرور جنازة:

  •  تعظيمًا لله الذي يحيي ويميت.
  •  تعظيمًا للملائكة الذين يأمرون بقبض الأرواح، تتوفاهم الملائكة (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) [السجدة:11].
  • وتعظيمًا للمصير إلى الله -تبارك وتعالى- أن لا يبقى على غفلته عند رؤية الجنازة، فيفيد معنى التساهل وعدم الاكتراث بالأمر، ولكن يظهر عليه التأثّر والأثر والتذكّر لهذا المصير.

 فيهتز قائمًا إن كان قاعدًا حتى تمرّ عليه الجنازة وتبعُد عنه. ومسألة أخرى متصلة في هذه المسألة: لمن كان يمشي مع الجنازة، ووصلوا إلى محل الصلاة عليها.. فلا ينبغي أن يقعد حتى توضع الجنازة على الأرض، وما دامت على الأعناق فلا ينبغي أن يقعد بل يبقى قائمًا حتى توضع الجنازة على الأرض. وفي قول سيدنا علي:"ثُمَّ جَلَسَ بَعْدُ" ما قام به اختلاف الأئمة في فهم الأحاديث؛ أحاديث قيامه ﷺ عند مرور الجنازة وأحاديث جلوسه.

  • فمن أهل العلم من رأى النسخ ورأى أن الندب إلى القيام نُسِخَ بالجلوس بعد ذلك.
  •  ومن أهل العلم من رأى أن ذلك لبيان الجواز.
  •  وقال الإمام النووي: المختار الندب للقيام للجنازة، والمقرر في المذهب عدم ندب ذلك، وعليه أكثر الأئمة.

 وفي الأمر سعة فقد بين ﷺ جواز القعود، كما بيّن ندب و سنيّة القيام عند مرور الجنازة.

  •  وكذلك استمرار الحاضر مع الجنازة قائمًا إلى أن توضع: آكُد عند أهل العلم من قيام القاعد لها، لما صحّ في الأحاديث: "فلا تقعدوا حتى توضع".

 حتى قال بعضهم بوجوب الاستمرار في القيام إلى وضعها، واستدل برواية: "ما رأيت رسول الله ﷺ شهد جنازة فجلس حتى توضع"، فإذًا، اختلف بعد ذلك اجتهاد الأئمة في:

  • سنيّة القيام إذا مرّت الجنازة.
  • وكذلك بسنيّة الاستمرار في الوقوف لمن مشى مع الجنازة حتى توضع.
  • ومن قائلٍ بالنسخ.
  • ومن جامعٍ بين الأحاديث أن القيام لتشريع السُّنة وأن الجلوس لبيان الجواز.
  • وفي فروع بعض المذاهب: كراهة القيام للجنازة. 

وعلمت السعة في الأمر وعدم التشديد في شأنٍ من الشؤون. إلا أن الذي يليق بالمؤمن عند حضور الجنازة أن ينتهض تذكّرًا وإعظامًا لأمر الموت والحياة، بتعظيم المحيي المميت، لأن الموت فزع، يعني: أمرٌ يُفزع منه، فيه الصيرورة إلى تلقّي الجزاء، والى لقاء ملك الملوك -جلّ وعلا- وانكشاف الستار عن كثير مما خُبئ عن الناس في هذه الحياة، من شؤون الملائكة والبرازخ والآخرة؛ فالأمر عظيمٌ بحد ذاته، يقتضي حركة قلب وجسد عند التذكّر، تبصّرًا وتنوّرًا وإجلالًا واستعدادًا لهذا اللقاء، كما جاء عن رعيلنا الأول من هذه الأمة أنهم كانوا لا يمشون في الجنازة إلا وهم باكون أجمعون، ظاهر عليهم الأثر في تعظيم الأمر والرجوع إلى العلي الأكبر، كل منهم يتذكر حاله مع ربه ويبكي، حتى لا يعرف من أقارب الميت ممن سواهم لأن الجميع يبكي.

 ثم خفّ البكاء عند أكثر الناس وبقي عند أصحاب الموتى ومن قارَبهم، ثم نقص على الجميع فصارت كثير من جنائز المسلمين لا يُعرف أقارب الميت من غيرهم؛ لأن الكل يلهو ويسهو ويغفل ويتكلم ويتلفّت ولا يتأثر بشيء، ولا حول ولا قوة الا بالله! فيا محوّل الأحوال حوّل حالنا والمسلمين إلى أحسن حال.

وهكذا كان من أثر تعظيم الشعائر وإكبار الرجوع إلى الله تعالى، نعهد الأطفال ومن سواهم يهابون رؤية الجنازة فضلًا عن أن يقربوا منها، ثم شاهدنا الأطفال يزاحمون الرجال عند دفن الميت في قبره! ولا هيبة ولا حياء ولا تعظيم ولا وقار؛ من إضاعة التربية، وفقدان الشعور والإحساس بعظمة الأمر، وهيبة عالم السِرّ والجهر، وشؤون البرزخ والقبر، وهيبة الرجعة والحشر، كل ذلك ضَعُف إحساسًا وشعورًا عند المسلمين، لكثافة غفلتهم، وقِلّة تبصّرهم وتفكّرهم وفقههم في الدين، فالله يحوّل أحوالهم إلى أحسن حال.

  وجاء في رواية الإمام أحمد والنسائي: مر بجنازة على الحسن بن علي وابن عباس فقام الحسن، ولم يقم ابن عباس، كما ذكرنا في الأمر سعة لكن الجميع همّهم التأثر والتذكر وآثار التبصّر، فقال الحسن لابن عباس: أما قام لها رسول الله ﷺ؟ قال: قام لها ثم قعد. وجاء عن عبادة بن الصامت عن أبي داود والترمذي وابن ماجه والبزار: أن يهوديًا لما كان رسول الله ﷺ يقوم للجنازة قال: هكذا نفعل، فأشارﷺ إلى مخالفتهم، لكن لم يصح هذا فيكون صريحًا في النسخ، فكان يمكن أن يحمل قعوده على بيان الجواز.

وفي الحديث أيضًا: ".. فمن اتّبعها فلا يجلس حتى تُوضَع"؛ 

  • ففيه النّهي عن جلوس الماشي مع الجنازة قبل أن توضع على الأرض. 
  • حتى من قال من القائلين في النسخ بالنسخ: أن النسخ فيمن مرت عليه الجنازة لا فيمن يمشي مع الجنازة، ولذلك قلنا أنه آكد.
  •  حتى قال من قال بوجوبه كما سمعت، لما جاء عن أبي سعيد وأبي هريرة -رضي الله عنهما- أنهما قالا: "ما رأينا رسول ﷺ شهد جنازة قط فجلس قبل أن توضع"، ما رأوه في جنازة مشى الا وبقي قائمًا حتى توضع الجنازة على الأرض.

  وحدثنا بعد ذلك: "أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أبِي طَالِبٍ كَانَ يَتَوَسَّدُ الْقُبُورَ وَيَضْطَجِعُ عَلَيْهَا" فجاء اختلاف الروايات والآثار في الجلوس على القبور، وهذا أثر سيدنا علي الذي ذكره الإمام مالك وذكرهُ الإمام البخاري تعليقًا في صحيحه، فيه التصريح بالجواز. وجاء في تعليق الإمام البخاري يقول عثمان بن حكيم: أخذ بيدي خارجًا فأجلسني على قبر وأخبرني عن عمه زيد بن ثابت: إنّما كُرِه ذلك لمن أحدث عليه؛ فحملوا النهي عن الجلوس على المقابر أي: الجلوس لقضاء الحاجة، حملوه على ذلك.

  • وفيه حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: "لأن أجلس على جمرة فتحرق ما دون لحمي حتى تفضي إلى أحب إلي من أن أجلس على قبر".
  • وجاء أيضًا عند الإمام البخاري: كان ابن عمر يجلس على القبور.
  • وجاء في رواية الإمام أحمد: عن عمرو بن حزم الأنصاري عن النبي ﷺ قال: "لا تَقعُدوا على القُبورِ"
  • بل جاء في رواية: "رآني رسول الله ﷺ متكئًا على قبر قال لا تؤذِ صاحب هذا القبر". 
  • وجاء عند الإمام مسلم -رضي الله عنه- في صحيحه قال: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها".
  • وجاء عند مسلم وأصحاب السنن عنه ﷺ: "لأن يجلس أحدكم على جمرةٍ فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خيرٌ له من أن يجلس على قبر".  
  • وكذلك جاء في رواية الإمام مسلم في صحيحه ورواية الإمام أحمد في مسنده والنسائي والترمذي وعن جابر -رضي الله عنه- قال: "نهى النبي ﷺ أن تُجصّص القبور وأن يُقعد عليها"؛ على القبور.

فعُلم بعد ذلك تنوّع الوارد فيما يتعلق بالجلوس على القبور، وفيه:

  • ماكان من غير حاجة، فينبغي أن يُجتنب احترامًا للميت الذي يُحترم ميتًا كما يُحترم حيًّا.
  •  وما يُحتاج ويضطر إليه كما يفعل الذين يحملون الجنائز وغيرهم بين القبور، فقد يضطرون إلى المرور على قبر، أو إلى وطئ قبر او جلوسٍ عليه، فذلك بقدر الضرورة يدخل في دوائر الإباحة والجواز.

 ولا يمكن الاستهانة بقبور المسلمين ولا أذيّتهم، كما أشار في الحديث: "لا تؤذِ صاحب قبر"؛ باتكائه على القبر، وذلك هو المعلوم من دأبه وفعله وهديه ﷺ، فكان يزور القبور في الصحيح؛ أنه كان يطيل القيام بينها والوقوف عليها، ولم يكن يطأ قبرًا ولم يجلس على قبر ولم يُنقل عنه استنادٌ إلى قبر ﷺ؛ فكان هذا هديه ودأبه المعلوم. فوجب أن يعظم شأن الهدي الشريف، وأن تحمل النصوص على اختلاف الأحوال؛ من حاجةٍ ونحوها، مع عدمِ تصرّفٍ بأي نوعٍ من الاستهانة أو الأذى لأصحاب القبور.

وإلا فقد يحتاجون حتى في مثل الدفن في مثل الأرض الرخوة عندنا، والأماكن التي تكون الأرض فيها رخوة غير صلبة، لأن يطأ الدَافنُ وسط القبر ليرصّ التراب وليؤمَن أن ينهار أو أن يتشقّق أو أن تدخل الحيوانات، وأن لا يستمسك حق الاستمساك؛ فيحتاج أن يسوي التراب وسط القبر برجليه ويديه حتى يرسخ فيه التراب ويؤمن فيه من وجود الثقوب، ووجود الاهتزاز الذي به ينهار القبر بعد ذلك، فيحتاجون إليه، فما دخل تحت الحاجة بلا إهانة ولا احتقار فلا شيء في ذلك، وما عدا ذلك فينبغي أن يُجتنب.

"قَالَ مَالِكٌ: وَإِنَّمَا نُهِيَ عَنِ الْقُعُودِ عَلَى الْقُبُورِ فِيمَا نرَى لِلْمَذَاهِبِ."؛ يعني: المواضع التي يُذهب إليها من أجل قضاء الحاجة، فكانت تسمى المذاهب؛ أي الجلوس عليها لأجل قضاء الحاجة. 

  • وذكر الإمام النووي قال المراد بالجلوس القعود عند الجمهور.
  •  وقال مالك المراد بالقعود على القبور للمذاهب؛ يعني لأجل قضاء الحاجة عليها.

 وقيل هذا تأويل ضعّفه بعضهم وأنكره بعضهم، وقال: بثبوتهِ بعضهم.

ثم ذكر لنا: "عَنْ أبِي بَكْرِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا أُمَامَةَ بْنَ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ يَقُول: كُنَّا نَشْهَدُ الْجَنَائِزَ، فَمَا يَجْلِسُ آخِرُ النَّاسِ حَتَّى يُؤْذَنُوا."؛ يعني: يؤذنوا بالصلاة عليها وينادى بالصلاة عليها، أي: لا يجدون فرصة بين أن توضع إلى أن يجلس آخرهم حتى ينادي المنادي لهم بالإذنِ، وحمله بعضهم على الاستئذان عند الانصراف، ولا يتعيّن ذلك، ولكن يُحمل على ما كان من مبادرتهم في الصلاة على الميت ومن مراعاتهم للوقوف على الجنائز وعدم الجلوس حتى توضع، فكانت إذا وُضعت جلس من جانبها فلا يجلس آخرهم حتى يؤذَنوا، أي: يؤذنوا بالنداء بالصلاة على الميت؛ فيستمرون في قيامهم ويصلون على الجنازة.

وصرّح بعض أهل العلم بكراهة الجلوس قبل وضع الجنازة، "من تبع جنازة فلا يقعدنّ حتى توضع"،

  • ولهذا يقول الطحاوي: في الجلوس قبل وضعها ازدراءٌ بها.
  •  وإلى ذلك مال كثير من أهل العلم كأبي هريرة وابن عمر وابن الزبير والحسن والأوزاعي والإمام أحمد بن حنبل وإسحاق وغيرهم: يكرهون أن يجلسوا حتى توضع عن مناكب الرجال إلى الأرض وهكذا يقول محمد بن حسن.
  • وقال الآخرون: الاستحباب من دون كراهة الجلوس ولكن يستحب أن يستمر قائمًا ولا يجلس حتى توضع عن الأعناق، وهكذا هو المستحب عند الشافعية وغيرهم من الأئمة من دون أن يقولوا بكراهة الجلوس قالوا: يستحب أن لا يجلس حتى توضع الجنازة على الأرض.
  • يقول الإمام النووي: اختار المتولي من أصحابنا أن القيام مستحب، يعني: للجنازة إذا مرت؛ قال وهذا هو المختار 
    • فيكون الأمر به للندب 
    • والقعود لبيان الجواز

 قالوا وإنما النسخ يكون عند تعذر الجمع وهنا لايتعذر الجمع.

  • ويرى جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة: كراهة الجلوس على القبر.

 للأحاديث منها ما سمعنا: "لا تُصَلُّوا إلى القبورِ، ولا تَجْلِسوا عليها"، "لَأَنْ يَجْلِسَ أحدُكم على جَمْرَةٍ فتَحْرِقَ ثيابَه، فتَخْلُصَ إلى جِلْدِه؛ خيرٌ له من أن يَجْلِسَ على قَبرٍ". 

  • وقال المالكية: لابأس بالجلوس بلا استهانة ولا احتقار للميت.

 كما أشرنا أنه قد يكون لحاجة. 

  • وكذلك جاء عند بعض الشافعية والحنابلة النص على كراهة الاتكاء؛ كراهة أن يتكئ على القبر.

 للحديث الذي تقدم معنا عن عمرو بن حزم يقول: رآني رسولُ اللهِ ﷺ، جالسًا على قَبرٍ، فيقول: يا صاحب القبر انزل من على القبر، لا تُؤذِ صاحِبَ القبرِ ولا يؤذيك.

  •  أما قضاء الحاجة على القبور في بالاتفاق والإجماع محرمة؛ حرام بالإجماع والاتفاق لا يجوز قضاء حاجة الإنسان على القبور.

 

باب النَّهْىِ عَنِ الْبُكَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ

 

وجاءنا بعد ذلك النهي عن البكاء على الميت، ومن المعلوم أن ما يحرم منه ما كان بصياحٍ او تعديد شمائل، وأن مجرّد البكاء جائز، وواردٌ كذلك من فعله ﷺ. 

وذكر لنا أحاديث منها حديث جابر بن عتيك: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ جَاءَ يَعُودُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ ثَابِتٍ" بن قيس الأنصاري وهو أوسي، وتوفي في عهد النبي ﷺ لكن قال بعضهم: أنه عاش بعد ذلك إلى خلافة سيدنا عمر،" فَوَجَدَهُ قَدْ غُلِبَ عَلَيْهِ"؛ غلبه الألم، حتى لم يستطع إجابة النبي ﷺ كما قال: "فَصَاحَ بِهِ" أي: ناداه "فَلَمْ يُجِبْهُ، فَاسْتَرْجَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ" قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، "وَقَالَ: غُلِبْنَا عَلَيْكَ يَا أَبَا الرَّبِيعِ"؛ أي: نالك من قضاء الله وقدره ما منعك عن الإجابة من شدة ما ينازلك، "غُلِبْنَا عَلَيْكَ يَا أَبَا الرَّبِيعِ، فَصَاحَ النِّسْوَةُ وَبَكَيْنَ" لما رأين من حاله، وكأنهن شعُرن بموته، "فَجَعَلَ جَابِرٌ يُسَكِّتُهُنَّ" لما عرف من نهي النبي عن النياحة وما إلى ذلك، "فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: دَعْهُنَّ" يعني: يبكين من دون كلام قبيح ولا نياحة، "فَإِذَا وَجَبَ" يعني: مات "فَلاَ تَبْكِيَنَّ بَاكِيَةٌ"، بُعدًا عن التشبه بالنياحة المعروفة.

 ومن المعلوم أنه ليس النهي عن مجرد البكاء، وقد جاء أن النبي ﷺ بكى على ابنه إبراهيم وعلى زينب ابنته، وقال هي رحمة جعلها الله في قلوب عباده. وكذلك مرّ بجنازة يُبكى عليها فانتهرهنّ عمر، فقال ﷺ: دعهن فإن النفس مصابة، والعين دامعة، والعهد قريب. فقالوا: إن كراهة البكاء بعد الموت أشد منه عند اشتداد المرض ونحوه.

"قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوُجُوبُ؟ قَالَ: إِذَا مَاتَ" وأصل الوجوب: السقوط، (..فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا..) [الحج:36] سقطت؛ أي: بالموت، "فَقَالَتِ ابْنَتُهُ: وَاللَّهِ إِنْ كُنْتُ لأَرْجُو أَنْ تَكُونَ شَهِيدًا" لماذا؟ "فَإِنَّكَ كُنْتَ قَدْ قَضَيْتَ"؛ يعني: أتممت "جِهَازَكَ" مستعدًا للخروج للجهاد في سبيل الله، فجاءك الموت فارجُ أن تكون شهيدًا، (وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ..) [يوسف:59]، "فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْقَعَ أَجْرَهُ عَلَى قَدْرِ نِيَّتِهِ"، يعني: قد جرى له بمقدار ما نواه؛ بحسب ما كان له من نية يطّلع الله تعالى عليها، ما يريد أن يفعل وما يريد أن يعمل، وأوقع له من الأجر بقدر ما يجد في نيته، فالمتجهّز للغزو إذا حيل بينه وبينه يُكتب له أجر الغزو، على قدر نيته، قال ﷺ وهو في غزوة تبوك: "إن بالمدينة أقوامًا ما سرتم مسيرًا ولا قطعتم واديًا، إلا كانوا معكم"، وجاء: "وما أنفقتم من نفقةٍ إلا وهم معكم، حبسهم العذر".

  • وجاء في صحيح الإمام مسلم: "من طلب الشهادة صادقًا أُعطيها ولو لم تصبه".
  • وفي رواية جاءت عند الحاكم: "من سأل القتل في سبيل الله صادقًا ثم مات أعطاه الله أجر شهيد".
  • وجاء أيضًا عند الإمام الحاكم: أن رسول الله ﷺ قال: من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه.

 فللنيّة تأثير وأي تاثير، "وَمَا تَعُدُّونَ الشَّهَادَةَ؟ قَالُوا: الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "الشُّهَدَاءُ سَبْعَةٌ" من جملة الشهداء الذين يعدّون عند الله تعالى شهداء فالسبعة الذين ذكرهم في ذلك الحال وفي ذلك الحديث، ثم ذكر غيرهم في أحاديث كثيرة؛ فالشهداء كثير حتى قال الإمام السيوطي: جمعتهم فناهزوا الثلاثين ممن شهد لهم بالشهادة ﷺ من غير المقتولين في سبيل الله ،  قال ﷺ:

  •  "الْمَطْعُونُ شَهِيدٌ"؛ يعني: الميت بالطاعون، من مات بالطاعون فهو شهيد.
  •  "وَالْغَرِقُ شَهِيدٌ" بمعنى: الغريق.
  •  "وَصَاحِبُ ذَاتِ الْجَنْبِ شَهِيدٌ"، هذا معروف يصيب جنب الإنسان فيموت به، وهكذا أصحاب ذات الجنب والمرض كان معروف بينهم شهيد.
  •  "وَالْمَبْطُونُ شَهِيدٌ" وهو الذي مات بسبب البطن.
  •  "وَالَّذِي يَمُوتُ تَحْتَ الْهَدْمِ شَهِيدٌ"
  •  "وَالْمَرْأَةُ تَمُوتُ بِجُمْعٍ شَهِيدٌ" يعني:
    •  بسبب الولادة
    • وقيل إن ذات الجمع هي التي يموت ولدها في بطنها ثم تموت بسبب ذلك. 
    • والأظهر في معنى بجمع هي النفساء التي تموت بسبب الولادة تكون من الشهداء عند الله تبارك وتعالى.

وجاء غيرهم في عدد من الأحاديث أنهم يعتبرون شهداء، ويُروى: "أكثر شهداء أمتي أصحاب الفرش". بل جاء في عددٍ من الأذكار أن المواظب عليها يُعدّ شهيدًا. وجاء في سنن الترمذي: "من قال حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر.."، التي في الوِرْد (لَوْ أَنـزلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ…) إلى آخر سورة الحشر قال: فإن مات من يومه مات شهيدًا"، فاذا قرأها في المساء فمات فهو شهيد، فينال ثواب الشهادة بمجرّد قراءة هذه الآيات سبحان الله! حسّنه الإمام الترمذي .

  • وجاء عند غير الترمذي: "من قرأ آخر سورة الحشر فمات من ليلته مات شهيدًا"
  •  وجاء في حديث عند الآجري يقول: يا أنس، إن استطعت أن تكون أبدًا على وضوء فافعل، فإن ملك الموت إذا قبض روح العبد وهو على وضوء كُتب له شهادة"، كذا جاء في رواية الآجري "فإن ملك الموت إذا قبض روح العبد وهو على وضوء كتب له شهادة". 
  • جاء في رواية عن ابن عمر -رضي الله عنه- قال: "من صلى الضحى، وصام ثلاثة أيام، من كل شهر، ولم يترك الوتر في سفرٍ ولا حضر، كُتِبَ له أجر شهيد".
  • جاء أيضًا عنه ﷺ: "من مات يوم الجمعة أو ليلة الجمعة أجير من عذاب القبر وجاء يوم القيامة وعليه طابع الشهداء" وهذا لا دخل للإنسان في كسبه، لا يختار موته في ليلة ولا في يوم، ولكن إذا قبض الله روحه ليلة الجمعة أو يوم الجمعة. 
  • وهكذا جاء في حديث سيدنا جابر عنه ﷺ: "من خرج به خُراجٌ في سبيل الله كان عليه طابع الشهداء"؛ يعني: أصابته جروح وخرجت له بثور.
  •  ويقول أبو عبيدة بن الجراح: قلت: يا رسول الله، أي الشهداء أكرم على الله؟ قال: "رجل قام إلى إمام جائر فأمره بمعروف، ونهاه عن منكر؛ فقتله"، هذا من أعظم الشهادة؛ كلمة حق عند سلطان جائر.
  • وفي حديث ابن مسعود عن النبيﷺ  يقول: إن الله كتب الغيرة على النساء والجهاد على الرجال فمن صبر منهنّ كان لها أجر شهيد".
  • وهكذا جاء: "من قال في كل يوم خمسًا وعشرين مرة اللهم بارك لي في الموت، وفيما بعد الموت، ثم مات على فراشه أعطاه الله أجر شهيد".
  • "ومن تمسّك بسنّتي عند فساد أمتي.." وفي رواية: "من أحيا سنّتي له أجر شهيد"، وفي رواية: "سبعين شهيد"، ورواية: "مِئة شهيد"، "من أحيا سنّتي عند فساد أمتي له أجر مِئة شهيد"؛ فهكذا أبواب الشهادة.
  • وجاء أيضًا فيما أُثر وذكره بعض اهل العلم من أئمة المذاهب وغيرهم: من قال في مرضه أربعين مرة: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فمات..  
  • وورد من يقرأ كل ليلة سورة يس
  •  ومن بات على طهارة فمات..
  •  بل ورد من صلى على النبي ﷺ مِئة مرة
  •  وسئل الحسن عن رجل اغتسل بالثلج فأصابه البرد فمات، قال: يالها من شهادة!

 إذا فأنواع الشهداء كثير بحمد الله تبارك وتعالى. وجاء عن الشافعي: من مات موتة، لكن في قتال الحرب، هو في أثناء القتال لكنه ما قُتل وإنما مات؛ من مات في ذلك فهو شهيد، سواءً كان بأثر أو لا، وفيه الآية الكريمة: (..ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ..) [الحج:58-59].

رزقنا الله كمال الإيمان واليقين والتقوى والاستقامة، وأتحفَنا بأنواع الكرامة، ودفع عنّا الأسواء، وأصلح لنا السِرّ والنجوى، وأحيانا ما كانت الحياة خيرًا لنا، وتوفّانا إذا كانت الوفاة خيرًا لنا، وجعل هوانا تبع لما جاء به حبيبه، واجعل قبورنا رياضًا من رياض الجنة بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي ﷺ.

تاريخ النشر الهجري

01 جمادى الآخر 1442

تاريخ النشر الميلادي

14 يناير 2021

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام