(536)
(228)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الجنائز، باب غُسْلِ المَيت.
فجر الأحد 19 جمادى الأولى 1442هـ.
باب غُسْلِ الْمَيِّتِ
594 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ غُسِّلَ فِي قَمِيصٍ.
595 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ أبِي تَمِيمَةَ السَّخْتِيَانِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ الأَنْصَارِيَّةِ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حِينَ تُوفِّيتِ ابْنَتُهُ فَقَالَ: "اغْسِلْنَهَا ثَلاَثاً، أَوْ خَمْساً، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ، بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَاجْعَلْنَ فِي الآخِرَةِ كَافُوراً، أَوْ شَيْئاً مِنْ كَافُورٍ، فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِى". قَالَتْ : فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ، فَأَعْطَانَا حِقْوَهُ، فَقَالَ: "أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ". تَعْنِي بِحِقْوِهِ إِزَارَهُ.
596 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي بَكْرٍ: أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ امْرَأةَ أبِي بِكْرٍ الصِّدِّيق، غَسَّلَتْ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ حِينَ تَوَفَّى، ثُمَّ خَرَجَتْ فَسَأَلَتْ مَنْ حَضَرَهَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، فَقَالَتْ: إنِّي صَائِمَةٌ، وَإِنَّ هَذَا يَوْمٌ شَدِيدُ الْبَرْدِ، فَهَلْ عَلَيَّ مِنْ غُسْلٍ؟ فَقَالُوا: لاَ.
الحمد لله مُكرمنا بموجب السعادة في الحياة والممات، ومبين الأحكام لنا على لسان خير البريّات، سيدنا مُحمَّد صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه أفضل الصلوات والتسليمات والتبريكات، وعلى آله الأطهار وأصحابه الغرّ الثقات، وعلى من والاهم وتبعهم بإحسانٍ إلى يوم الميقات، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أعلى الخلائق في المنازل والدرجات، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المقرّبين وجميع عباد الله الصالحين والصالحات، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين ومجيب الدعوات.
وبعدُ،
يذكر الإمام مالك -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- الأحاديث المتعلّقة بتجهيز الميت، وقال: "كتاب الجَنائز"؛ وهو: بفتح الجيم: جَنائز، جمع جَنازة، وجِنازة؛ بفتح الجيم وكسرها.
وذكر بعضهم على لسان حال هذا النعش في خطابه لكل عاقل مِنّا، وقال بيتين على لسان هذا النعش الذي يُحمَل عليه موتانا، يقول:
انظر إليّ بعقلك *** أنا المُهيّأ لنقلك
أنا سرير المنايا *** كم سار مثلي بمثلك
وهكذا يقول قائلهم:
وإذا حملت إلى القبور جنازةً *** فاعلم بأنك بعدها محمول
وإذا وَلِيت لأمر قومٍ مرة *** فاعلم بأنك عنهم مسؤول
رزقنا الله الاستعداد لدار المعاد، ومن أكثر ذكرَ الموت وَجَد قبره روضة من رياض الجنة، ومن نسيَ ذكر الموت وجد قبره حفرة من حفر النار؛ "أكثِرُوا من ذكرِ هاذِمِ اللذَّاتِ"، والهاذم: القاطع. "أكثِرُوا من ذكرِ هاذِمِ اللذَّاتِ"؛ الّذي يقطعها على المغترّين بها والراكنين إليها، فتنتهي ولا يبقى معها أثرٌ: من لذّة مُلكٍ، ولا لذّة مالٍ، ولا لذّة طعامٍ، ولا لذّة شرابٍ… ولا شيء من هذه اللذائذ المؤقتة الفانية التي اختبر الله بها عباده وامتحنهم بها.
يقول في كتاب الجنائز: "باب غُسلُ الميت":
ولهذا قال الحافظ: أنّه من حكى الإجماع وَهِمَ. فإنّ الخلاف عند المالكية قائم في مذهبهم، حتى أنّ القرطبي في شرحه لمسلم رجَّح السنيّة.
والقول الثاني عند المالكية كما هو عند الجمهور: أنه يجب تغسيله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه، فهذه من حقوق الميت المسلم على المسلمين.
"باب غُسْلِ الْمَيِّتِ"؛ تعبّدًا وتهيئةً لملاقاة الرب، بما جعل الله في حسِّ الأمر من التنظيف والتزيين لمقابلة الحقّ -جل جلاله وتعالى في علاه-، كما أمرنا بأخذ زينتنا لكل مسجد، فكذلك للقائه -جلّ جلاله- نُغسّل موتانا ونكفِّنهم إعدادًا للمقابلة الخاصّة التي فيها رفع حُجب لا تُرفع ما دام الروح وسط الجسد، وتُرفع هذه الحُجب عند خروج الروح من الجسد، فيُعبَّر عنه بلقاء الله لكل ميّتٍ، مؤمنًا وكافرًا، غير أنّ أحوالهم عند ذلك اللقاء شديدة الاختلاف وعظيمة الفوارق.
فينكشف بالموت كثيرٌ من الحُجب التي جعلها الله للمكلَّفين في هذا العالم الدنيوي، فمداركهم ومعارفهم من حين تمييز أحدهم إلى حين الوفاة لا تتسع لما ينكشف لما بعد الموت، فينكشف له بعد الموت ما لم يكن مكشوفًا.
وهكذا جعل الله لنا عظيم العبرة في هذا الموت أمامنا، وهو الذي خلق الموت والحياة ليبلونا أيُّنا أحسن عملًا.
فذكر لنا سيدنا الإمام مالك فيما يرويه عن شيخه سيدنا الإمام جعفر الصادق، وذكر الإمام مالك: "عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ"؛ مُحمَّد الباقر -رضي الله تعالى عنهم- "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ"، هكذا جاء مرسلًا عند الإمام مالك، وجاء في رواية عن محمد الباقر عن عائشة فيكون متصلاً، "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ غُسِّلَ فِي قَمِيصٍ"؛ والسُنّة إذا فاضت روح الإنسان فمات أن تُنزع عنه الثياب من المخيط الذي مات فيه، بل يبادَر إلى نزعها؛ من السنة، فتنزع عنه وثمّ يُغطى بغطاء خفيف، ويجب أن يكون ساترًا للعورة.
ثمّ عند الغسل كذلك؛ إما أن يُلبَسَ قميصًا، وإما أن يُشَدَّ عليه إزارٌ؛ ليستر ما بين السرة والركبة. وذلك واجب عند الجمهور.
وجاء في سنن ابن ماجه عن سيدنا علي بن أبي طالب أن النبي ﷺ قال له: استر فَخِذَك -أو- وَارِ فَخِذَك "ولا تنظر إلى فخذ حيٍّ ولا ميت". وجاء في رواية أخرى: "غطِّ فَخِذَك فإنّ الفخذ عورة".
وما عدا ذلك، فلا يجوز أن ينظر أحدٌ إلى آخر فيما بين السرة والركبة؛ طُهرًا وعفافًا وكرامةً لكلٍ من الناس. ولذا تعرّض الذين يظهرون عوراتهم إلى اللّعنة، هم ومن يقصد النظر إليهم، لعن الله الناظر والمنظور إليه، والعياذ بالله تبارك وتعالى.
فما أكرم وأسدَّ وأشرف شريعة الله ومنهاجه، ما أكرمها للإنسان وما أشرفها للإنس والجانّ، وما أبعد الذين خرجوا عن الشريعة عن العقل والعرفان، وما أشبههم بالبهائم والأنعام والحيوان. فالحمد لله على نعمة الإسلام، اللهم شرّفنا بالتحقق بحقائق الإسلام وحقائق الإيمان، والرقي بهما إلى ذُرى الإحسان، وأن تَزُجَّ بنا في ذرى الإحسان إلى عظيم العرفان برحمتك يا كريم يا منّان.
وأما النبي ﷺ فكان ذلك من خصوصيته أنّ ثوبه -القميص الذي توفي فيه- لم يُنزع عنه وغسِّل فيه، وذلك أنّهم لمّا دخل عليه الصحابة الكرام مُسَجَّى بثوبه وعليه قميصه، وقبَّله سيدنا أبو بكر الصديق كما صحّ عنه في جبهته الشريفة وبين عينيه، وقال: "طبتَ يارسول الله حيًّا وميتًا، اذكرنا عند ربك ولنكن في بالك"، وتلى: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزمر:30]، ثم قام يخطب في المسجد يُثبّت النّاس.
وغسله من آله وقرابته: سيدنا علي وسيدنا أسامة بن زيد وسيدنا العباس، وتحيّروا أينزعون عنه القميص أم لا؟ فسمعوا هاتفًا يهتف أن لا تنزعوا عن رسول الله قميصه، فأبقوه على ما فيه وغسّلوه فيه، ثم إنّهم أحضروا له الأكفان بعد الغُسل، فيوشك أن يكون نزعوا القميص الذي فيه بلل الغُسل، وتركوه في الثياب التي كفنوه فيها؛ ثلاثة أثواب.
ورواية: "ليس فيها قميص ولا عِمامة"؛ حمله بعضهم على أن ليست معدودة من الثلاثة الأثواب، فإنّ الثلاثة الأثواب غير القميص وغير العمامة، على أنهم ألبسوه قميصًا آخرًا، وكان أحبّ الثياب إليه القميص ﷺ، ولكونه أستر.
قال بعض الشافعية وبعض أهل العلم: أنه يُلبس قميصًا من أجل التغسيل. ولكن الواجب عند الجميع إنما هو ستر ما بين السرة والركبة، فلذا لا يجوز أن يُغسّل الرجل إلاّ الرجال، ولا المرأة إلاّ النساء، إلاّ ما كان من الزوج وما كان من المَحْرَمِ، فالمعتمد الذي عليه الجمهور: أن يجوز للزوج أن يُغسِّل زوجته.
فقد أوصى سيدنا أبا بكر زوجته أن تُغسله، كما جاء معنا في الحديث فغسّلته، وكما أوصت سيدتنا فاطمة زوجها سيدنا علي أن يُغسّلها، فتولى غُسلها سيدنا علي، كرّم الله وجهه ورضي عنهم أجمعين.
وقال: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ غُسِّلَ فِي قَمِيصٍ"؛ فعلمنا سُنيّة التجريد عن الثياب التي مات فيها من كل مخيط، أول ما يفرغ وتخرج روحه، فإن للموت حرارة فإذا بقيت الثياب عليه أثّر ذلك على سرعة تغيّر الميت، إن كان ممن تتغيّر أجسادهم،
وكذلك يُسن للنائم أن ينام على شقّه الأيمن مستقبلًا القبلة مستعدًا للموت، ومتذكرًا له. وقد جاء عن بعض أخبار أهل الخير من المحافظين على السُنّة الكريمة، والذي لا ينام إلا والسواك عنده، وإذا استيقظ استاك، وقرأ: "الحمدلله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور"، وأنّه نازَله من اللطف عند الموت ما لم يشعر به بآلام الموت والفراق، ثمّ لمّا رُدّت روحه إلى جسده عند السؤال في القبر، قام مستشعرًا وظانًا أنّه استيقظ من النوم يبحث عن السواك، يقول: "الحمدلله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور!"، رُؤي بعد موته فأخبر بذلك، قال: ظننت أنّي قُمت من النوم، وأخذت أبحث عن السواك، وإذا بالملكين ينظران إليه، يقول أحدهما للآخر: ماتصنع بالرجل قد لُقّن حُجته، تسمعه إيش يقول؟ تسأله وهو يقول: الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور، هذا مؤمن إيش تقول فيه؟ وبتسأله عن إيش؟ تسأله من ربك وهو يقول: الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور؟! قالوا له: عن إيش تبحث؟ قال السواك، قالوا له: أين أنت؟ قال: ألستُ في بيتي؟ في بيتك! قالوا: قد مُتَّ وقد نُقلتَ وأنت الآن في قبرك، وقد لُقِّنت حُجّتك، نَم نومة العروس! وخرجت روحه كما هي شأن الموتى إلى عليين، وتبقى متصلة بذلك الجسد وما يجري عليه في قبره إلى أن يبلى أو أن يبقى إلى أن تقوم الساعة، إن كان من الأجساد التي حكم الرب أن لا تبلى.
أجساد كلها مخلوقة من نُطف، وكلها مكوّنة بصورة الآدمي، لكن ذا يبلى وذا ما يبلى والجسد واحد، سبحان الحاكم.. لا حكم لجسد ولا حكم لأرض، ولا حكم لدود ولا حكم لحيتان، ولا حكم لملائكة ولا حكم لغيرهم، الحكم له -جلّ جلاله وتعالى في علاه- يُبلي جسد هذا، ويُبقي جسد هذا، ويأمر بتعذيب هذا، ويأمر بتنعيم هذا، والكل عبيد له، فسبحان صاحب الملك.. (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الملك:1].
"غُسِّلَ فِي قَمِيصٍ"، في يوم اشتدَّ فيه الحال في المسلمين والكرب على المؤمنين، حتى أن الكبار الأفاضل العظماء من الصحابة صاروا ما بين من لم يصدّق بوفاة النبي ﷺ، وما بين من أُخرِسَ فلم يتكلم لمدة ساعات أو يوم أو يومين، وما بين من قال: أَعمي بصري حتى لا أرى بعده أحدًا فأجزع على مفارقة نوره؛ عبد الله بن زيد فعمي وقته، وما بين من أُقعد فلم يستطع أن يقوم، وما بين من يبكي في حزن في باطنه وانزعاج، حتى كان من أشد الصحابة سيدنا عمر بن الخطاب، قال: من قال أن رسول الله ﷺ مات ضربته بسيفي هذا! لا تقولوا أن رسول الله مات، حتى جاء من السُنح سيدنا أبو بكر -رضي الله عنه- فأخبروه الخبر ودخل وقبّله، وخرج من البيت إلى المسجد، وَجَد سيدنا عمر يتكلم، فاستنصته فكان في شعوره، فتشهّد أبو بكر الصديق، التفت الناس إليه وسكت سيدنا عمر، فقال: "أيها الناس من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) [آل عمران:144]"، فتلى الآية وتلوها بعده كأنما أُنزلت الساعة: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ..) [الزمر:30-31]"، وتلى المسجد الآية وراء أبو بكر، ونزلت السكينة على القلوب و الطمأنينة.
وقد كان في صباح ذلك اليوم بدا عليهم بوجهه المنور إلى المسجد وهم يصلّون صلاة الصبح خلف الصدّيق، وخرج بنفسه من دون أحد، فإنه كان أيام مرضه لا يخرج إلا خرجات معدودة إلى المسجد، ولا يخرج إلا بمعاونة اثنين عن يمينه وعن يساره، وفي ذاك اليوم مشى بنفسه من دون أن يمسك بيده أحد، وأشرف عليهم وهم يصلّون، ولمّا رفع الستارة عن الباب الذي بين ممره وبين المسجد أشرق نور وجهه، فالتفت الصحابة كلهم نحو الحُجرة، فتهلّلت وجوههم لمّا رأوا وجهه وهو لايمسكه أحد، حتى أنّ الصدّيق الذي مشهورٌ عنه ما يلتفت في الصلاة، التفت تلك الساعة، وأخذ يتأخر، فأشار إليه أن مكانك وتبسّم في وجوههم، وكانت نظرة الوداع وطمأنينته على أمته في خضوعهم وخشوعهم وإيمانهم وقيامهم في الصلاة كما علّمهم.
ودخل بيته الشريف، وصلّى بمن عنده في البيت من أهله، ثم في ضحوة ذلك اليوم استأذن جبريل عليه، ويقول: هذا عزرائيل وراءه يستأذنك أن يدخل عليك، قال: فأذن له، فدخل، وكان في تلك الساعة عنده سيدتنا عائشة، وكان قبلها بقليل أرسل إلى فاطمة فجاءت إليه، وقال: أِدنِ مني فدَنَت، فسارّها في أُذنها بكلام طويل، فرفعت رأسها وعيناها تذرفان، ثم أشار إليها أن أدنِ فدَنَت منه، فكلّمها فرفعت رأسها وهي تبتسم، يلاحِظنها بعض أمهات المؤمنين من بعيد، فلما قامت قالت عائشة: ما رأيت ابتسامة أقرب من بكاء من اليوم! تبكين ثم تبتسمين في نفس الوقت! ما قال لك رسول الله ﷺ؟ قالت: ماكنت لأُفشي سر رسول الله ﷺ، ثم خرج مَن كان عنده، وكانت عنده السيدة عائشة حين دخل جبريل، وكانت تعرف استئذان جبريل عند الباب من كثرة ما كان يجيء لرسول الله ﷺ، فكانت تعرف طريقة استئذانه عند الباب لما يجيء، تعرف أن هذا حس مَلَك ما هو إنسان، ثم شاهدته يرفع يده ﷺ ويقول: بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى، فتذكرت قوله: "إنه ماقبض الله روح نبي حتى يخيّره بين أن يبقى في الدنيا، وبين أن ينقله".
وكان قبل ذلك بيوم أو يومين أو نحو ثلاثة في المنبر، في آخر خروج له خرج فيه، لمّا رأى جزع الصحابة من مرضه، خرج إليهم يكلّمهم ويودّعهم، وقال لهم في المنبر: "إنّ الله خيّر عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله"، صاح سيدنا أبو بكر بالبكاء، وكان حاضر أعرابي، فقال: ما بال الشيخ يبكي! رسول الله ﷺ ذكر واحد خيّره الله بين الدنيا وبين ما عند الله فتعجّب لماذا يبكي! فلمّا توفي رسول الله ﷺ عرف أن أبا بكر أدرك أنه هو المُخيّر، وهو الذي خيّره الله بين أن يبقى. فلما سمعته السيدة عائشة رفع يده يقول: بل الرفيق الأعلى؛ علمت أنه اختار النُقلة ولقاء ربه، ففاضت روحه الشريفة -صلوات الله وسلامه عليه- وقال: "إن أُمتي لا تصاب بمثلي، من أصيب بمصيبة فليتذكر مصيبته بي فإنها من أعظم المصائب، وإن أمتي لن تصاب بمثلي"؛ أيُّ فراقٍ كفراق زين الوجود ﷺ؟!
فكان ذلك الشِدّة على الصحب الأكرمين، تركوه من يوم الاثنين ويوم الثلاثاء حتى كان يوم الأربعاء غسّلوه وكفّنوه ثم دفنوه ﷺ بعد أن صلّى عليه الناس أفرادًا أفرادًا، وقيل كان أرسالًا أرسالًا؛ أي جماعات منهم جماعات، وكان العباس هناك واقف، وأما الذين حضروا غُسله الشريف:
وكان سيدنا علي والقثم بن العباس وسيدنا أسامة يناولهم الماء، وسيدنا العباس قائم عليهم. ولهذا قالوا: ينبغي ألا يحضر تغسيل الميت إلا الغاسل ومن يعاونه فقط، ويسترونه عند الغُسل؛ فإنه كان يستتر عندما يغتسل حيًا فكذلك يُستر ميتًا، فقيل بالقميص، والواجب بين السرة والركبة، وعلمت في قول عند الحنفية: أن الواجب ستر السوأتين.
يقول ﷺ وقد دخل على من يغسل ابنته، "دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حِينَ تُوفِّيتِ ابْنَتُهُ"؛ وهي سيدتنا زينب زوجة أبي العاص ابن الربيع، فإنه قد توفي قبلها رقية ولم يشهد ﷺ غُسلها ولا جنازتها؛ فإنه كان في بدر ودخل المدينة بعدما نفضوا أيديهم من تراب دفنها، ثم توفيت أم كلثوم، ثم توفيت زينب، ولم يبقَ من بناته الأربع إلا فاطمة، جلست معها السيدة عائشة بعد الموت بمدة، قالت الآن قد توفي رسول الله ﷺ فبما لي عليك من الحق أخبريني ماقال لك عندما سارّك عند موته؟ قالت: أمّا الآن وقد توفي فما كنت أُفشي سرّه في حياته، فأخبرتها ببعض ماقال لها في المرة الأولى والثانية، وقالت: إنه قال لي عندما سارّني أول مرة: يا فاطمة إن جبريل كان يدارسني القرآن كل يوم مرة في رمضان، وإنه دارسني في رمضان هذا الذي مضى كل يوم مرتين؛ لأنه آخر رمضان لي، وإني لاحقٌ بربي فاصبري واحتسبي، فنعم السلف أنا لك، قالت: فرفعت رأسي وأنا أبكي، فلما رأى مابي أدناني، وقال لي: أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة؟ أو قال: سيدة نساء العالمين، وأنك أول أهل بيتي لحوقًا بي، أول من سيصل عندي من أهل بيتي؛ أنتِ، تبسمت وضحكت، فما مكثت بعده إلا ستة أشهر، لم يمت خلالها من أهل بيته أحد.
فتوفيت السيدة فاطمة -عليها رضوان الله تعالى- وهي التي قابلت أنس بن مالك عندما رجعوا من دفنه، قالت: يا أنس دفنتم رسول الله ﷺ؟ قال: نعم يا بنت محمد، قالت: أطابت أنفسكم أن تحثوا التراب على رسول الله؟! اهتزّ سيدنا أنس، قال: والله يا ابنة رسول الله سُلبنا عن مشاعرنا، ولو كنت في مشاعري هذه ما قدرت، ولكنّ الله يريد أمرًا لنبيّه. فذهبت الى القبر الشريف وأكبّت عليه وأخذت تربةً تشمُّها من القبر، وتقول:
ماذا على من شمّ تربة أحمدٍ *** أن لا يشمّ مدى الزّمان غواليا
صُبّت عليّ مصائب لو أنّها *** صبّت على الأيّام صرن لياليا
قالوا: فما استجمعت ضاحكة في الستة أشهر حتى لقيت أباها.
"حِينَ تُوفِّيتِ ابْنَتُهُ"؛ يعنون زينب بنت الحبيب ﷺ، "فَقَالَ: "اغْسِلْنَهَا" وفي هذا استدلال من أوجب الغسل وهم الجمهور، إلا في قول عند المالكية كما سمعت؛ حملوه على أنه يبين الكيفية لا يأمر الآخرين، كما قال في المُحرِم، لمّا مات مُحرِم؛ اغسلوه ولاتطيّبوه ولا تخمّروا رأسه؛ أي لا تغطّوا رأسه. فدلَّ على الوجوب كما هو عند الجمهور كما سمعت.
"اغْسِلْنَهَا ثَلاَثاً"؛ وأجمع الأئمة على أنه الواجب غسلة واحدة تعم جميع البدن تنظفه بعد إزالة ما عليه من قذر أو نجاسة إن وجد شيء، فهذا فرض وواجب عند الجمهور إلا في قول عند المالكية، والقول الآخر عند المالكية كالجمهور يجب التغسيل غير الشهيد وغير السقط الذي لم يظهر عليه علامات الحياة، والشهيد في معركة الكفار لايغسّل.
فالواجب تغسيله مرة واحدة فإذا تعذر التغسيل فالتيمم، يمّم مرة، وهو كغسل الجنابة في الاجزاء والكمال:
فقالوا بالثلاث، وقال من قال بالزيادة كما سمعت في الحديث: "اغْسِلْنَهَا ثَلاَثاً"، وحملوه على السنيّة، "أَوْ خَمْساً"؛ كذلك فيه إشارة للإيتار، ما أشار إلى الأربع! ولهذا في قوله: "أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ"؛ حمله الجمهور على أنه من الوتر؛ يعني سبعًا، كما جاء في رواية: "أو سبعًا"، ولم يذكر ستًا ولم يذكر أربعًا؛ فدلَّ على أن الوتر سنة.
"أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ"؛ فأرجع ﷺ شأن عدد الغسلات إلى المُغسِّل فيما يراه أوفق للميت وأرفق به، فإن رأى أنه يحتاج زيادة تنظيف إلى السبع فليصل إلى السبع، ولا ينبغي أن يزيد عليها لغير حاجة بأن يغسل تسعًا.
"إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ، بِمَاءٍ وَسِدْرٍ"؛ وفيه إشارة إلى استعمال السدر؛ الذي هو مطحون أوراق شجر النبق هذا الدوم العِلب، "بِمَاءٍ وَسِدْرٍ" فهو مناسب للبدن ولينٌ عليه، فلهم في ذلك كيفيات: بأن يُغسل بماء وسدر، ثم بمُزيلة له، ثم بماء قُراح، ثم بماء وسدر، ثم بمُزيلة، ثم بماء قُراح؛ أي خالص، ثم في السابعة يجعلون شيء من الكافور في الماء.
وكذلك أن يُغسّل بماءٍ فيه سدر، ثم بمُزيلة، ثم ماء وسدر، ثم مُزيلة، ثم ماء وسدر، ثم مُزيلة، ثم السابعة بماء قراح؛ أي خالص فيه شيء من الكافور. كما قال: " وَاجْعَلْنَ فِي الآخِرَةِ" أي: آخر غسلة "كَافُوراً، أَوْ شَيْئاً مِنْ كَافُورٍ"؛ يعني قليل من الكافور لا كثير يسلب اسم الماء، فما تُعدّ غسلة! بل قليل الذي يفيد رائحته ويدفع الهوام في القبر، رائحة الكافور، فيصير التغسيل إما سبعًا وإما تسعًا.
قالوا هذا في الغسلة الأولى، المالكية قالوا: هذا في الغسلة التي بعد الأولى، الأولى ماء قراح، في الغسلة التي بعد الأولى، والثانية بالماء والسدر للتنظيف، والثالثة بالماء والكافور للتطييب.
"فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِى"؛ أعلِمنني؛ يعني إذا فرغتنّ من تغسيلها. "قَالَتْ:"؛ أم عطية "فَلَمَّا فَرَغْنَا"؛ من تغسيل ابنته زينب "آذَنَّاهُ،"؛ أعلمناه أننا فرغنا قال: "فَأَعْطَانَا حِقْوَهُ"؛ ويقال فيه حِقو وحَقو؛ يعني: إزاره ﷺ، "فَأَعْطَانَا حِقْوَهُ، فَقَالَ: أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ"؛ أي أجعلنه شعارها أي يلي جسدها وجلدها، "أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ". فلِمَ قال آذنني؟ ولماذا أعطاهن الإزار الشريف إذا مافي فائدة من التبرك؟ لماذا فعل كذا ﷺ؟ و إلا هو صوفي؟! استغفر الله العظيم! هو حبيب الله رسوله محمد، أصفى الأصفياء وأتقى الأتقياء، وخاتم الأنبياء وأزكى الأزكياء.
إذا أكملتنّ غسلها أعطينَني خبر، فلما أعطينَه الخبر، قال: خذن هذا إزاري "أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ"، اجعلنَه ممّا يلي جسدها، لماذا؟ بركة يعني؟ ولا إيش! وإلا لعب وإلا مسخرة! أم عقيدة فيها خلل! استغفر الله العظيم، أعوذ بالله من غضب الله!! هل أحد أصفى من محمد بن عبد الله؟ هل أحد أعرف منه بتوحيد الله -جلّ جلاله-؟ "أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ". تَعْنِي بِحِقْوِهِ إِزَارَهُ." صلوات ربي وسلامه عليه.
"وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي بَكْرٍ: أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ امْرَأةَ أبِي بِكْرٍ الصِّدِّيق ، غَسَّلَتْ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ حِينَ تَوَفَّى، ثُمَّ خَرَجَتْ فَسَأَلَتْ مَنْ حَضَرَهَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، فَقَالَتْ: إنِّي صَائِمَةٌ، وَإِنَّ هَذَا يَوْمٌ شَدِيدُ الْبَرْدِ, فَهَلْ عَلَيَّ مِنْ غُسْلٍ؟ فَقَالُوا: لاَ".
وذكر تغسيل أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ زوجة سيدنا أبو بكر الصديق حين توفي، وهذه محظوظة، امرأة شريفة من الصحابيات هاجرت إلى الحبشة مع سيدنا جعفر بن أبي طالب وكانت زوجته، وجاءت معه في السفينة؛ فكانت من أصحاب السفينة الذين لهم هجرتان، وبعد وفاة سيدنا جعفر، وقُتل شهيدًا في مؤتة تزوجها أبو بكر الصديق، فكانت عنده بقية حياته إلى أن توفي وهي في عقده، ثم إنها تزوجت بعده سيدنا علي بن أبي طالب، وهي التي حضرت وقت زفاف سيدنا علي من سيدتنا فاطمة، وهي التي أيضًا ساعدت في تجهيز السيدة فاطمة.
"أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ امْرَأةَ أبِي بِكْرٍ الصِّدِّيق ، غَسَّلَتْ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ حِينَ تَوَفَّى، ثُمَّ خَرَجَتْ فَسَأَلَتْ مَنْ حَضَرَهَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ،" بعدما ما كملت غسل سيدنا أبو بكر "فَقَالَتْ: إنِّي صَائِمَةٌ، وَإِنَّ هَذَا يَوْمٌ شَدِيدُ الْبَرْدِ، فَهَلْ عَلَيَّ مِنْ غُسْلٍ؟ فَقَالُوا: لاَ." يعني: ما يجب كما هو عند الجمهور:
فيُسن تجديد الوضوء لمن حمل الميت أو مسه. ويسن الغسل لمن غسله وقيل يجب.
والجمهور على ما ذكروا، أنها لما سألت المهاجرين عندها قالت: أعليّ غُسل؟ قالوا: لا، يعني ما يجب؛ كانت في برد وغسّلت أبو بكر فقالوا لها: لا يجب عليك غُسل. ولهذا كان يتخصّص بحمل الجنازة من البيت إلى مكان الصلاة عليه؛ كمثل الجبّانة عندنا في تريم عدد محدود؛ من أجل إذا وصلوا إلى محل الجنازة يتوضؤون، فكانوا يتوضؤون لسُنّة الغُسل.
ولهذا كانوا يضعون الجنازة وينتظرون قليلًا لهؤلاء ليتوضؤوا، ثم يصلّون على الجنازة، فإذا صلوا على الجنازة شارك الكل وحرصوا على الثواب في الحمل، فيحمل الكل؛ لأن لا صلاة بعدها، فقبل أن يصلّوا صلاة أخرى يتوضأ الكل لسنيّة الوضوء من حمل الميت.
فكانوا يرتّبون أمورهم على العمل بالسنن وإنزالها منزلتها، والآن لمّا يتزاحمون عليها قريب الجبّانة يؤخّرونها؛ لأن تزاحمهم على الحمل يؤخّر مشي الجنازة، ويصل الأوائل آل التشييع إلى الداخل، والبقية ما زالوا بعيدين بسبب كثرة الحاملين الذين ما يفقهون، صَلِّ أول ثم تعال احمل! فهؤلاء الذين قد حملوا لهم فرصة أن يتوضؤوا كما هو السُّنة، والله أعلم.
الله يكرمنا بحسن الخاتمة، ويجعل قبورنا وقبور أهلينا ووالدينا وذوي الحقوق علينا رِياضًا من رياض الجنة، ويجعل لنا من عذابه وقاية وَجُنَّة، ويثبّتنا على ما يحبه منّا ويرضى به عنا ظاهِرًا وباطنًا. بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
20 جمادى الأول 1442