(536)
(228)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب القرآن، متابعة باب ما جاء في الدُّعاء.
فجر السبت 11 جمادى الأولى 1442هـ.
متابعة باب مَا جَاءَ فِي الدُّعَاءِ
572- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أبِي عَبْدِ اللَّهِ الأَغَرِّ، وَعَنْ أبِي سَلَمَةَ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ".
573- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ، أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: كُنْتُ نَائِمَةً إِلَى جَنْبِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَفَقَدْتُهُ مِنَ اللَّيْلِ، فَلَمَسْتُهُ بِيَدِي، فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَى قَدَمَيْهِ وَهُوَ سَاجِدٌ يَقُولُ: "أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَبِكَ مِنْكَ، لاَ أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ".
الحمدُ للهِ مُكرِمنا بنورِ الشَّريعة و الهدى، و ببيانِها على لسان سيدنا مُحمّدٍ المُقتدَى، صلّى الله وسلّمَ وباركَ وكرّم عليهِ أبدًا سرمدًا، وعلى آلهِ وأصحابهِ السعداء، وعلى من والاهم في الله، وبهم اقتدى فيما خفيَ وبدا، وعلى آبائه وإخوانهِ من الأنبياءِ والمرسلين سادات الهُداة الأتقياء الشهداء، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكةِ المُقربين، وجميع عبادِ الله الصّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنّه أكرم الأكرمين و أرحم الراحمين.
ويواصل سيدنا الإِمام مَالِك -عليه رضوان الله تعالى- ذكر الأحاديث المتعلقة بالدّعاء، ويذكر لنا: "عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أبِي عَبْدِ اللَّهِ الأَغَرِّ"، من مشاهير التَّابعين عَبْدِ اللَّه الأَغَرِّ، أصلهُ مِن أصبهان، "عَنْ أبِي سَلَمَةَ" بِن عبد الرَّحمن، "عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله تعالى عنهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: يَنْزِلُ رَبُّنَا"، وقد جاء هذا الحديث مِن رواية عدد من الصَّحابة، وجاء في الصٍّحيحين وغيرهما، "يَنْزِلُ رَبُّنَا" جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه، "تَبَارَكَ وَتَعَالَى"؛
فجاء بهذه اللفظة عند قولهِ: "يَنْزِلُ رَبُّنَا": ليقطعَ الفهم السَّقيم لمن أرادَ أن يُفسر النّزول بنزولٍ يشبه نزول الأجْسامِ والكائناتِ والخلائق، وذلك غاية الجرَأةِ على الرّب، ونسبة الجسميةِ، والجسمية وجميع شؤون الحوادث من لوازم الحوادث يتنزه عنها المُحدث، المُوجد، المُبدئ، البارئ، الناشيء الذي ليس كمثله شيء.
وكلُ عابِدِ جسمٍ فعابدُ صنمٍ والعياذ بالله، أي عابدٌ لغيرِ الله، فتباركَ ربنا وتعالى، ولكنَّ هذهِ اللفظة في هذا الحديث ونظائرها، في ما يُسمى بأحاديث الصفات، كذلك نظائرها مِما جاءَ في الآيات القرانية، وهي المُسماة أيضًا بآيات الصفات، أتت فيها ألفاظٌ، والألفاظ تحتمل معاني؛ تحتمل معنىً لائقًا بجلالِ الله تبارك وتعالى، وعظمتهِ وقدسيتهِ ليس له دخلٍ في جسمانيةٍ، ولا مشابهةً بكائنٍ، ولا حادثٍ أصلًا:
فَصاَرا هذان القِسمان: قِسمُ التَّفويضِ، وقِسمُ التَّأويلِ؛ مسلكُ الصَّحابة والتَّابعين والسَّلف الصَّالح رضي الله عنهم، ومسلكْ أهل السُّنة والجَماعة رضى الله عنهم، من سوادِ هذه الأمة.
ومن يتَصور أنَّ معنى كلام الشَّافعي، حفرَ حفرةً نزل فيها، وبعد ذلك حفرة ثانية أنزل منها… مجنون، لا يُعقل هذا الكلام! فإذا كان هذا الكلام في كلام المخلوقين يتَنزّه عنِ الجِسمية إلى أمرٍ معنوي، فكيفَ إذا نُسبَ إلى ربِ العالمين الذي ليس كمثلهِ شيء؟!
فإنزالهُ على معنىً جِسماني كُفرٌ وبُعد عن اللهِ وعن رسولهِ، وإثباتُ صنميةٍ والعياذ بالله، فلابُدَّ مِنْ تنزيلهِ على أمرٍ معنويّ لائقٍ بجلالِ الله، نعم هو كذلك، وهل يتعيّن هذا الأمر الواجب على جميع الأمة أن يؤمنوا بهِ، على المعنى المعنويِّ الذي لا علاقةَ لهُ بالجسميةِ، ولا بالتَّشبيهِ، ولا التَّكييف، ولا التَّمثيل، ولا يلزمُهم أن يُعيَّنوا ما مُراد الله بهذا، و يَعلمُ ويُعلِّم تعالى من شاء مِنْ عبادهِ مُرادهُ بهذا.
ومنْ العبائرِ العظيمةِ عن سيدنا الإِمامُ الشَّافعي ُيبيّن مَسلك الصَّحابة وأهلُ السُّنة قوله: آمنت باللهِ، وما جاء عنِ الله على مُرادِ اللهِ.. وما جاءَ عنِ اللهِ؛ على المعنى الذي أرادهُ الله. وآمنتُ برسولِ اللهِ، وما جاءَ عن رسولِ اللهِ، على مراد رسول الله؛ لا على تَصَّور المُتصَّورينَ، وتجسيمِ المُجسِّمينَ، وتكييف المُكيفينَ تبارك ربنا وتعالى.
ومن جملةِ ما جاءَ في التأويل اللائقِ، -وهو غير هذا التَّفويضِ، والتَّفويضِ أَسلم- مِنْ جُملة ما جاءَ ِمنَ المعاني، والذى هو ثابتٌ في استعمال هذه اللفظة في اللغة العربية، والمعنى لائقٌ بجلالِ الله، أنَّ معناه أمرُه للمَلَكِ أن يَنزلَ مِن أعلى السَّمواتِ إلى "السَّمَاءِ الدُّنْيَا" معنى السَّمَاءِ الدُّنْيَا: أي: القُربة، القَريبة، الأدنى والأقرب "السَّمَاءِ الدُّنْيَا" أي: الأقربْ إلى حيثُ يسكنْ المُكلَفونَ والبَشر، مِنْ البَشر والجِن، أي الأقرب إلى الأرض، يعني السَّماء الأولى بالنسبةِ لأهلِ الأرض.
وقدْ جاءَ في عددٍ مِنَ الرِّوايات السَّمَاءِ الدُّنْيَا، يعني: القَريبة، التي هيَ بالنِّسبة لأهلِ الأرضِ الأولى، فيأمر المَلك أن ينزلَ فينادي المَلك: هل مِنْ داعٍ فيُستجابُ له، هل مِنْ مُسْتغفِرٍ فيُغفَر له، وعبَّرَ عن ذلكَ في الحديثِ بـ: ينزل ربّنا يقول: هل مِنْ مُسْتغفِر أغفَر له، كما عبَّرَ القُرآنُ عنْ قراءةِ المَلكْ جبريل، حينما َينزِل إلى النَّبي ﷺ فيقرأ عليه، فقالَ لهُ الرَّحمن: (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) [القيامة:18] قُرْآنَهُ كيف قرأناهُ؟ يعني: قرأه جبريل عليك، فلمَّا كانت قراءةُ جبريل بأمرِ الله نُسِبَ إلى الله، فكذلكَ شأنُ هذا المَلك، فى نزولهِ ونداءه، نُسِبَ إلى الله جلَّ جلالهُ؛ فهذا معنى مُؤيدٌ بالآية، ومؤيدٌ بحديثٍ أيضًا، ثبت عنه ﷺ أنهُ قال: إذا بَقيَّ ثُلثُ اللَّيل، أو َمضى ثُلثُ اللَّيل، أو كان شَطرُ اللَّيل الآخِر "أمرَ الله مَلكًا أن ينزلْ إلى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فيُنادي".
ثمَّ أرادَ بعضُ علماءِ السُّنة أنه يروي بمعنى رحمته أو بمعنى أمره، وانتقدهُ بَعضُهم الآخر، ولكن بمعنى أمره مُتعلق بالمعنى، ومِمَّا يُقطَعُ بهِ عند جميع الصَّحابة والتَّابعين وتابعيهم، وعلماء السُّنة: أنَّ فى المُراد بهذا الكلامِ:
فهذا أمر مُتَفقٌ عليه، دلَّ عليهِ الحديث، وتَعَشقَّت أرواحُ المُؤمنين الخِطابَ والنِّداءَ والمُنَاجاةَ في هذا الوقت.
والوقتُ جاء في رواياتٍ صحيحة كما في هذا الرِّواية :
فالمُطلقُ مَحمولٌ على المُقَيَّد، والمُقَيَّدُ: ما كان فيهِ من (أو) إن كانت للشَّكِ فالرّجوع إلى ما لا شكَ فيهِ؛ أي الرِّواياتِ التي جاءت مِنْ دون: (أو)، والرِّوايات التي جاءت مِنْ دونِ (أو) أكثرها عن ثُلثْ اللَّيْلِ الآخر، فتَبيَّنَ أنَّ لأهلِ كلِ منطقةٍ على ظهرِ الأرضِ مِنْ المُكلِفين، حينَ يَبقْى ثُلثْ اللَّيْل الآخر، جودٌ مِن الله خَاصّ، وتجلٍّ خاصّ، وإِفضالٌ واسع على المُتَعرضين لنفحاتهِ في تلك السَّاعات. وقد قالوا: مَن نامَ كثيرًا، جاءَ يوم القيامة فقيرًا؛ فإنهُ وقتُ الظفر، ونيلُ الوطَر.
"كريمٌ… ** ينزل في كل ليلة…** … فلو رأَيتَ الخُدَّام قيامًا على الأقدام ** وقدْ جادوا بالدّموع السواكب ** والقوم بين نادمٍ وتائب ** وخائفٍ على نفسهِ يعاتبْ ** وآبقٌ من الذّنوب إليهِ هارب ** فلا يزالونَ في الاستغفار (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ) [آل عمران:17] حتى يكفّ كَف النَّهار ذيول الغياهب -الظُلمة، فيطلعُ الفَجْر- ** فيعودونَ وقدْ فازوا بالمطلوب ** وأدركوا رِضى المَحبوب ** ولمْ يعد أحدٌ مِنْ القَومِ وهوَ خائب" -مولد الإمام الدَّيْبَعِيِّ-. في كل ليلة لا يطلع عليهم الفَجْرُ إلا وقدْ صلَّحوا أنفسهم، ضَبَّطوا أوراقهم، ونَظَموا شؤونهم، وانتهوا مِنْ حالهم مع ربهم، فيُصبحونَ على خيرٍ عظيم، يتجددْ لهم في كلِ ليلةٍ، فيشتاقونَ ويُراقبون مُضّي ساعات النَّهار شوقًا إلى ساعات اللَّيْلِ، ولهم في النَّهار سبحٌ طويل، في متابعةِ الحبيب الجليل ﷺ.
على أنَّ نفحاتَ الله لا تَنحصِر ولا تَنقصِر في وقتٍ؛ ولكنَّها في بعض الأوقاتِ، وفي بعض الأماكنِ أطيب، وأرغب، وأرحب، وأوفر، وأكثر، وأكبر، وأنور، وأزهى، وأجلّ، على أنها قدْ تُصادفُ أحدًا في وقتٍ غيرَ هذهِ الأوقات، وفي مكانٍ غيرَ تلكَ الأماكن، فليسَ مِن حاصرٍ يحصر الله في تجلياته، ولا إمداداته، ولا إفضاله سبحانه وتعالى، بل الأزكياء مِن الأتقياء يُحسنون الترقُب للنفحة في مختلفِ الأحوال، كم من نفحاتٍ جاءتهُم وهم في طرقٍ يمشون.. كم من نفحاتٍ جاءتهُم وهم بينَ أن يطْعَموا أو يشربوا.. كم من نفحاتٍ جاءتهم وهم بينَ مُخاطبة لصغيرٍ أو كبيرٍ، فنازَلهم من العليِّ الكبير ما نازَلهم. "ألاَ وإنَّ لربِّكم في أيامِ دهرِكم نَفَحات، ألا فتَعَرَّضوا لها".
ولكنَّ هذا كله يلغي شأن مُعيَّن الأوقات ومُعيَّن الأماكن للرحمات والنَفحات فينبغى الاعتناء بها، والتردد إليها، والحرِص عليها، وفي ذلك:
فلمّا سمعَ الإمامُ أبو بكر العَدْني بن عبد الله العَيدروس الدِّيك يصرُخ موذِنًا بإقتراب الفجر قال:
ديك اسكتْ، ليتك أخرس *** لا تفرق بين إِلفَين
صُبْح سَالك لا تنفّس *** اجعلْ الليلة كَليلين
وقالَ في الإشارةِ إلى مُحَصَلاتِ أولي الأنوارِ والطهرِ في هذا الوقت:
نُصِبتْ لأهلِ المُناجاة في حُندس اللَّيْلِ أعلام *** واستقبَلتهم لطَائفُ بهجاتُ فضلٍ وإكرام
مِنْ لذةٍ لا تُكَيَف ولا تُصَوَر في الأفهام *** قدْ ذاقها مَن عَناها وهامَ فيها الذي َهام
وقالَ في بيان ذلكَ:
يا ذا الذي ناداني *** وقت السُحَير أشّجاني
نِداهُ لي أسقاني *** مِنْ قَرقَفاه ألهاني
سَكِرتُ به وأفْناني *** عن كلِّ ضدّ ثاني
من قاصٍ أو داني *** في العَالمِ الجِسماني
آنستُ أُنسَ الأُنسِ *** في مهرجانِ القُدْسِ
وأفنيتُ هيكلْ نفسي *** وقَالبي وحسِّي
وزالَ وَهمُ اللبَسِ *** وحُندساتِ الحَدسِ
بالبَارقِ النَّورانيّ *** والواردِ الرَّباني
هذا مقامُ الوهبِ *** لا يُرتقى بالكَسبِ
قال سيدنا الإمامُ الحَدادْ: وإذا أكرمَ الله القائمَ باللِّيْل بشيءٍ مِنْ تَنّزُلِه ونَفَحاتهِ لأهلِ القيام، صارَ بحيث لا يصبر عنِ القيامِ!.. ما يقدر لو كلّفه ما يقوم، ما يقدر، لِما يجد من الحَلاوة، ما يصبر عَنها، بحيث يصير لا يصبر عنِ القيامِ.
قالَ عُتبة الغلام: كابدتُ قيامَ اللِّيْلِ عشرينَ سَنة ثُم تنعمتُ بهِ. فكيفَ بِمن يُطالب التَّنَعُمُ بقيامِ اللِّيْلِ ولذّتهِ، ولم يَقُم عشرينَ ليلة متوالية؟ وهذا قالَ عشرينَ سنة! ثُمَّ تنعمتُ بهِ... ثُمَّ وراءَ هذا التنعُم استحضرَ أكابرهُم عظَّمةَ هذا الإله، وقالوا: ألاَ يحقُ أن يُقام لهُ لأنَّه الإله، لوجههِ! فيا ويحَ الذي أعجبه نَسيمَ السَّحر فقامَ ليستنشِقه لحظِ نفسهِ، ألا ينبغي أنْ يقومَ من أجلهِ خالصًا له!
وقالوا في هذا:
ومن أظلمُ مِمَن قامَ لِيَستنشِقَ نسيمُ السَّحر، أليسَ اللّٰهُ بأهلِ أن يترُكَ النَّومَ من أجلهِ، وأن يُقامَ لهُ لِرُبوبيتهِ وأُلوهيتهِ، ويتشرفُ العبدُ بِذلكَ وانتِصابَ قدميهِ بينَ يديه، جلَّ جلالهِ وتعالىٰ في عُلاه! فاللهُ يُوفقنا لِحُسنِ الإقبالِ، وصدقِ الإقبالِ عليهِ في جميعِ الأحوال، ويرزقنا اغتنامِ الأوقات المُعينة للعطاءِ الواسعِ، والرحماتِ الكبيرة.
"يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى" وتَنَزه، وهكذا جميع الألفاظِ التي جاءت في الكتابِ والسُّنةِ ممَّا يُوهم عندَ مَن لا عِلم له تشبيهًا بالخَلقِ يُراد بها المعنى اللائقِ بالحقِ (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ..) [الشورى:11]
وبهذا جاءتنا اللغة التي أنزلَ اللهُ بها القُرآن،
فإذا واحد تصوّر يقول: أووه اليد حقُّ الأميرِ كبيرةٌ مسكَ البلادَ كُلها في يدهِ! قُلْ: يا أبلهَ أمسكَ البلادَ بيدهِ المعنوية وليسَ بيدهِ الحِسية! يمكن يدكَ أكبر من يده، ولكنك لا تُمسك البلاد، ولكِن هو يُمسك البِلاد بسُلطانهِ ونفوذُ أمرهِ. فهكذا جاءتْنا اللغة، فإذا جاءت فيما يتعلقُ بالرَّبِ فالمعنى هو اللائق بالرَّب، بعيد عن الجسميةِ و توابعها، كذلكَ كان الصَّحابة والتَّابعون وتابِعوهم بإحسانِ في فهمِ هذهِ الآياتِ والأحاديثِ:
قالَ: "حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ" وما أعظمَ ذلكَ الوَقت، ثُمَّ إنَّه جاءَ في تقسيمِ جمهور أهلُ العلمِ:
ثُم إنَّ مِنْ ساعاتِ الإجابة في اللِّيْل: السَّاعة التي في مِثلِها برزَ زَيِن الوجود، ووُلِدْ، وهي قُبيل الفجرِ، ولكن هذا بتوقيتِ مكةَ المكرمة، فيُصادفُ في بعضِ البُلدان أول اللِّيْلِ، وفي بعضها وسط الليلِ، وفي بعضها أول النَّهارِ، السَّاعة التي ولِدَ فيها ﷺ ففي مِثلِها في كُلِّ ليلةٍ يَستجيبُ الله دعاءَ عبادهِ، وهي ما بينَ بروزهِ مِنْ بطنِ أُمهِ وانفصالِهِ عنها، فهيَ لحظاتٌ قبلَ طُلوعِ الفجرِ، هذهِ من أوقات الإجابةِ.
وقد كانَ الحبيب عبد الله بِن عُمر الشَّاطري يقول للطلابِ: لا يُسمَى طالب عِلم مَن ليسَ له قيامٌ باللِّيلِ. وجاءَ مَن يُريد طلبَ علمَ الحديث عن سيدنا الإِمَام أحمدْ بِنْ حَنبَل فباتَ عندهُ فقَرَّبَ لهُ الماء، مِن أولِ اللِّيْلِ، فلمَّا خرجَ الإِمَام أحمد قُربَ الفجرِ وجدَ الماءَ على حالهِ، قالَ لهُ: ألم تُصلِّ من الليلِ؟ قالَ: لا، الآنَ قمت فصلَّى معه، وقالَ: اذهب حيثُ جِئتَ فإنَّكَ لا تَصُلح لِعلمِ الحديث.. أنتَ تنام لمَّا يطلعِ الفَجر، ما تُصلِّي مِنَ اللِّيْلِ شيءٌ، لا تصلحُ لِعلمِ الحديثِ. فقد كانوا يمزجونَ العُلوم بالأذواقِ، والفهوم، والسَّلوكِ، والأعمال -عليهم رضوان الله- ولا يرتضَونَ صُورَ العلمِ، ولا شكله، ولا مُجردَ خَزنِ المعلوماتِ، ولكنَّها أنوار، وقُربات، ومشاهدْ وتجليّات، ينالونَ بها إرثَ النُّبوة.
"فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ"، ولمَّا سألَ بعضُ الأخيارِ إمرأةً كانت مع كُبارِ الصَّالحين، سألها عنْ قيامهِ في اللِّيْلِ فقالت: أنتَ أحسنَ منهُ قيام، فهو يقومُ في آخرِ اللِّيْلِ؛ ولكنَّ ما رأيتُهُ مثلكَ يُصلي كثيرًا، و يقرأُ كثيرًا، ولكنْ أسمعهُ في أثناء كلامهِ يُردد أنا، أنا، أنا،.. صاحْ هذا الرَّجل وبكى قالَ: إنَّ الذَّي كُنتِ معه يستشعِرُ ويسمع نِداءَ مَن في السَّماءِ، هل من داعٍ فأستجيبَ لهُ؟ فيقول: أنا، هل من مُستغفرٍ؟ فيقولُ: أنا، هل من طالبِ حاجةٍ؟ فيقول: أنا، وهذا الذي لم نبلُغه بعدُ بأعمالنا هذهِ ولم ننتهي إليهِ.
"فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ" واحد ربُّ العزةِ، ربُّ العرشِ بعظمتهِ كل ليلة يقول لهُ كذا وهو ينام، ينام، ينام ولا يقوم، ما أجفاه، وما أقلَّ أدبه معَ مولاه! وفي بعضِ ما أنزلَ الله على بعضِ أنبيائهِ: كذبَ من يدَّعي محبتي، فإذا جنَّ الليل نامَ عني، أليسَ كُلُّ مُحبٍّ يحبُ أنْ يخلوَ بِحبيبهِ؟!
وقالتْ السَّيدة عائشه لمَّا قصدها بعضُ الصَّحابة قالوا: حدِّثينا بأعجبَ ما رأيتِ من أحوالِ النَّبي، فقالتْ: وبأيِّ شيءٍ أحدثُكَم، كانَ كُل حالهِ عجب وبكَت، ثُم حدَّثتهم قالتْ: كانَ إذا جَنَّ الليلُ، وخلا كُلُّ حبيبٍ بحبيبهِ، خلا هوَ بِحبيبهِ وقامَ يُناجي ربَّهُ. ولقد وردَ عليَّ في ساعةٍ مُتأخرةٍ من الليلِ ليلةً، قالتْ: فعَمِدَ إلى قربةٍ فيها ماء فتوضأ، ثُمَّ قامَ يُصلِّي فلمْ يزلْ يسجدُ ويبكي حتى طلعَ الفجر، وجاءَ بلال يُؤذنهُ باجتماعِ النَّاسِ للصَّلاةِ، فرأى عليهِ أثرَ البُكاءِ، فقالَ: يا رسولَ اللّه أتبكي وقد غفرَ اللهُ لكَ ما تقدمَ من ذنبكَ وما تأخرَ؟ فقالَ: يا بلال أُنزلتْ عليَّ اللَّيلةَ آيات ويلٌ لِمن قرأها ولم يتفكر فيها، ويلٌ لِمن قرأها ولم يتفكر فيها، ويلٌ لِمن قرأها ولم تفكر فيها، وتلا عليهِ: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) [آل عمران:190-192] إلى آخرِ الآيات.
ثُم ثبتَ عنهُ أنَّهُ كُلَّما قامَ من النَّومِ قرأ الآيات ﷺ في كلِّ لياليهِ، إذا استيقظَ من منامهِ، وحمدَ اللَّهَ ودعا، قرأ الآيات الكريمة: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ..) فما أحسن أن تتشبهَ بهِ، وأن تقتدي بهِ، ليكُونَ بينكَ وبينه حب اتصال، وخيط وصال، فهو الأولى أن تقتديَ بهِ وتتَّشبه، لا أن يُنازلَ فكركَ في ليلكَ غيره مِن الغافلينَ، أو الفاسقينَ، أو البعيدينَ، فارتبط بسيدِ المُرسلين حبيب ربَّ العالمين يرضى عنكَ الرَّب و ينيلكَ لذةَ القُرب.
وحكتْ السَّيدة عائشة في الحديث الذَّي يليهِ عن بعضِ قيامهِ في بعضِ الليالي، "قَالَتْ: كُنْتُ نَائِمَةً إِلَى جَنْبِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَفَقَدْتُهُ مِنَ اللَّيْلِ" ما وجدته في الفراش، فقامتْ تتحسسُ منه، "فَلَمَسْتُهُ بِيَدِي، فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَى قَدَمَيْهِ وَهُوَ سَاجِدٌ" وقعتْ يدي على قدميهِ، وسمعته في سجودهِ يَقُول: "أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ" مَنْ يُناجي مَن، ويستعيذُ برضاهِ من سخطهِ؟ وهو أعظمُ الخلقِ حظًا من رضى اللّٰه وأبعدهم عن سخطهِ! "وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَبِكَ مِنْكَ، لاَ أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ".
قالَ الإمامُ الغَزاليّ:
فإنّهُ لا يكون الفِعل إلاَّ فِعله، ولا الصِّفة إلاَّ صفتهِ، فهو الذي ينفعُ ويضرّ، ويُقرِّب ويُبْعد، ويُشقي ويُسعد، "فأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ" في شُهودِ الذَّات الأَحدية، "أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ" فيَا ربَّنا نعوذ برضاكَ من سخطكَ، فارضَ عنَّا، وأعذنا من سخطكَ، وإن تعرضنا له بقلوبنا وجوارِحنا، قد تعرّضنا لسخطِكَ، و لكنَّا نعوذ برضاكَ مِن سخطكَ، ونعوذُ بكَ أن تسخطَ علينا لشيءٍ مِن سيئاتنا، فاجعلْ سيئاتِنا سيئات مَن أحببتَ وارضّ عنَّا، وازَددْ عنَّا رضًا، فإنَّا نعوذ و نلوذ ونلجأ برضاكَ مِن سَخطكَ، وبِما تحفظُ بهِ، وبمعافاتكَ في القلوبِ، والأديانِ، والعقولِ، والأرواحِ، والأبدانِ، والأهلِ، والولدِ، والإخوانِ، والطّلابِ، والأحبابِ، والأصحابِ، والدنيا، والبرزخِ، والآخرةِ، نعوذ "بِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ"، فلا تُمرضنا ولا تعاقِبنا بشئٍ من شؤونِ قلوبنا، ولا جوارِحنا في أنفسنا ولا أهلينا، ولا أولادنا، ولا في أرواحنا، ولا في عقولنا، ولا في قلوبنا، ولا في الدُّنيا، ولا في البرزخِ، ولا في الآخرةِ، وقبلَ وبعدَ ذلكَ كلهِ نعوذُ بكَ منكَ، فالأمرُ أمرُك، والكلُّ لكَ، ولا يكونُ إلا ما أردتَ، فمنكَ المَعاذ وإليكَ الملاذ وبكَ العياذ، فنعوذ بكَ منكَ فارأف وارحم والطُف، ولا تُعرِض، ولا تحجُب، ولا تُبعد، ولا تسخط، نعوذُ بكَ منكَ، "لا نحصي ثناء عليكَ"، نحنُ ولا ملائكتكَ، ولا الأولونَ والآخرون، كُلَّ ثنائهم دونَ ما أنتَ أهلهُ، أنتَ "كما أثنيتَ على نفسكَ".
وقالَ أكرم من كشفتَ لهم عنْ سِرِّ عظمتكَ، ومكَّنتهُ مِنْ الثَّناءِ عليكَ، وحمدكَ بما لم يُثنِ عليكَ أحد غيرهُ، مثلهُ، ولم يحمدكَ أحدٌ غيرهُ مثلهِ، وقالَ مع ذلكَ: "أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ"، يعنى: مهما أثنيتُ عليكَ وحمدتُكَ فأنتَ أكبرُ من ذلكَ وأجلُّ، ولن أصِلَ إلى ما تستحقُ من ثناءٍ وحمد قطُّ قطّ، وثنَائي وحَمدي إيَّاك مِن جودِكَ عليَّ وفضلكَ، يحتاجُ إلى حمدٍ من أينَ آتى به؟ فـ "لاَ أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ". قالَ سيدنا عليّ زين العابدين: "الحمد لله الذَّي حَمِدَ في الكتابِ نفسهِ".
فليكُن هذا من ذكركَ فإنَّهُ وردَ عنهُ أنَّهُ يكثرُ منه ﷺ بعد الوِتر، و يأتي بعدَ الوِتر، وهكذا سمِعته السَّيدة عائشة في هذا الحديث الذَّي رواه مالك و رواه الإمامُ مُسلم في صحيحهِ، "أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَبِكَ مِنْكَ"
ثُم استدلَ مَنْ قالَ أنَّ لمس المرأةِ لا ينقضُ الوضوء؛ لأنَّها لمستْ قدميهِ، ومن قالَ -وهو قول عند الشَّافعية- أنه لا ينتقضُ الملموس بل اللامس، استدلّوا أيضًا بهذا الحديث، وقالوا لم يكن لامسًا بل كان ملموسًا.
وتأوّلَه من يقول بالنقضِ باللمسِ:
وهكذا التأويل والحديث واسعٌ في الاحتمال: أن يكونَ اللمسُ بالبشرة مباشرة، أو يكونَ على يدها أو على رجلهِ الكريمة ساتر، أو أن يكونَ شعرَ بها أو لم يشعر بها ﷺ وهو في سجودهِ؛ ولكن المنقول عنهُ في كمالهِ أنه مع عظيم تجلِّي الله عليهِ، كانَ يشعرُ بما حواليهِ، يُحس بِما حولهِ ﷺ لقوّتهِ، وقليلٌ من ذلكَ يطرأ على عارفين ومقرّبين فيغيبون ولا يحسونَ بشيءٍ، لتمكنهِ وكمالهِ ﷺ. وأين ما غيَّبهم ممَّا نازله، ما غيَّبهم إلا ذرةً ممَّا نازله ﷺ، فهو صاحبُ التَّنَزل الأعظم، ومع ذلكَ لا يغيبُ بإحساسهِ عمَّا حواليهِ، قوةً من قوةِ الله له وتمكينًا له من الله.
رزقنا الله محبّته، وشرَّفنا بمتابعتهِ، وأكرمنا بالحضورِ في حضرتهِ، وشرَّفَ وزيّن وأكرم أعيننا بالنظرِ إلى غُرّتهِ وطلعتهِ، وأسعدنا في الدَّارين برؤيتهِ ومرافقتهِ، وجعلنا في خيارِ أُمّتهِ، بعظيم منزلتهِ وعليِّ قدرهِ ووجاهتهِ عند هذا الإله الحق، بهِ عليكَ، حققنا بحقائقِ المتابعةِ له والإقبالِ عليكَ بمنهاجهِ، والرُّقيّ بِمعراجهِ، والحضور في حضرتهِ، وشهودكَ بمرآتهِ بسرِّ الفاتحة إلى حضرةِ النَّبي محمدٍ ﷺ.
12 جمادى الأول 1442