(536)
(228)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب القرآن ، باب ما جاء في ذِكرِ الله تبارك وتعالى.
فجر الثلاثاء 7 جمادى الأولى 1442هـ
باب مَا جَاءَ فِي ذِكْرِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى
562 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أبِي بَكْرٍ، عَنْ أبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ، فِي يَوْمٍ مِئَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مئَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مئَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزاً مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ، إِلاَّ أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ".
563 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أبِي بَكْرٍ، عَنْ أبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ فِي يَوْمٍ مئَةَ مَرَّةٍ، حُطَّتْ عَنْهُ خَطَايَاهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ".
564 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ سَبَّحَ دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ ثَلاَثاً وَثَلاَثِينَ، وَكَبَّرَ ثَلاَثاً وَثَلاَثِينَ، وَحَمِدَ ثَلاَثاً وَثَلاَثِينَ، وَخَتَمَ الْمِئَةَ بِلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ، غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ".
565 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ صَيَّادٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ فِي الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ: إِنَّهَا قَوْلُ الْعَبْدِ: اللَّهُ أَكْبَرُ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ.
566 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زِيَادِ بْنِ أبِي زِيَادٍ، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِعْطَاءِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ، فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ، وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ ؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى.
قَالَ زِيَادُ بْنُ أبِي زِيَادٍ: وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: مَا عَمِلَ ابْنُ آدَمَ مِنْ عَمَلٍ، أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ.
567 - وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُجْمِرِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى الزُّرَقِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ، أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا يَوْماً نُصَلِّي وَرَاءَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَلَمَّا رَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ وَقَالَ: "سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ". قَالَ رَجُلٌ وَرَاءَهُ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، حَمْداً كَثِيراً طَيِّباً مُبَارَكاً فِيهِ. فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "مَنِ الْمُتَكَلِّمُ آنِفاً؟" فَقَالَ الرَّجُلُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "لَقَدْ رَأَيْتُ بِضْعَةً وَثَلاَثِينَ مَلَكاً يَبْتَدِرُونَهَا، أَيُّهُمْ يَكْتُبُهُنَّ أَوَّلاً".
الحمدُ للهِ مُكرِمِنا بشرعهِ العظيم، وهَدي نَبيّه الكريم، الهادي إلى الصّراط المستقيم. اللهم صلِّ وسلم وبارك وكرّم عليهِ، أفضل الصَّلاة وأزكى التَّسليم، وعلى آلهِ وأصحابهِ، وأهل ولائهِ ومحبته والاقتداء به مِن كلِ حَبرٍعليم، وكل صادقٍ مع العلي العظيم، وعلى آبائهِ وإخوانهِ من أنبيائك ورُسلك أهل التّكريمِ والإجلالِ والتّعظيم، وعلى آلِهم وصحبهِم وتابعيهم، والملائكة المُقرّبين، وعِبادك الصَّالحين مَن وهبتهم الفضل العظيم يا عظيم، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا كريم يا رحيم.
وبعدُ،
فيذكر لنا الإمام مالك -عليه رضوان الله- في موطئه، ما جاء في ذكر الله تبارك وتعالى، الذي هو الجُنّة والحصن والوقاية للعبد من مختلف الآفات والشرور وكل محذور، في البطون والظهور، في الدنيا والبرزخ ويوم النشور. وقد أذِنَ الحق لعباده أن يذكروه، فكانت مِنّةً عظيمة منه -جلً جلاله- ولولا ذلك ما استطاع أحد أن يذكره.
وقدْ كانَ ﷺ يقولُ عِندَ قيامهِ من النَّوم: "الحمدُ للهِ الّذي رَدّّ عليَّ روحي، وعافاني في جَسدي، وأَذِنَ لي بذكرِهِ". فإنَّنا إنَّما نَذكُر ببالٍ أو بقلبٍ أو بذهنٍ مخلوقٍ محصور، وبألفاظٍ محدودة محصورة، والمذكور لا حَدَّ له ولاحصر. ولكِنَّا لا نستطيع غيرَ ذلك، فأذن لنا أن نذكره بذلك، بل وَعدنا أَن يَذكُرنا هو، مَلك المَمالِك جَلَّ جلالِه وتعالى في عُلاه.
فَيذكُر ذاكِريهِ من كلِ مُنيبٍ وتوّاب وأوّاب وخاشع، بأنواعِ مِنَّتهِ ورحمتهِ وفضلهِ وقربهِ وإحسانهِ، ورِضاهُ جَلَّ جلاله وتعالى في عُلاه. ويَذكر المُعرضينَ مِنَ الغافلينَ، بَلْ مِنَ العاصِينَ المُصِرِّينَ على العصيانِ والكُفر، باللعنةِ والطَّرد -والعياذ باللهِ تباركَ وتعالى- فاللهُ يَجعلنا مِن أهلِ الذِّكر الجميل، مِن الذِّكورين بما يُذكر بهِ محبوبيهِ، والمُقربين إليه.
"باب مَا جَاءَ فِي ذِكْرِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى"، وذَكر لنا حديثَ: "أبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ"؛
"لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ"، فالملكُ لهُ وَحدهَ. ولا مُلك حقيقي لشيء سِواه قط قط قط قط قط!
وما مُلكُ جميعِ الخلائقِ فيما مَلَّكَهم تعالى؛ إِلا مَجازِيٌ، صُورِيٌ، حادثٌ يقبل الانقضاء والنهاية والزوال، وأعلى ما آتاهُم، وأفضل وأجلّ ما تَكَرمَ عليهم بهِ من المُلك: الملكُ في دارِ الكرامةِ، ومستقرّ الرّحمة (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا)[الإنسان:20] وذلك المُلك حادثٌ، ويقبل الزيادة، ولو شاء أفناهُ أفناه، ولكن أرادَ بفضلهِ أن يبقيهِ، فَهو باقٍ بإبقائِهِ. فإذًا المُلك لهُ بالحقيقةِ، لأنَّ أهل هذا المُلك الّذي أعظم ما يُملَك من الخلقِ، ما يُمكن للخلقِ والعباد أن يملِكوا أكبر من ذلك، ولا أكثر من ذلك؛ هذا المُلك في قبضتهِ، وليسَ باقٍ لهم إلا بإبقائهِ، فلِمن المُلك؟!
إذاً المُلك له على الحقيقةِ وهذا أعلى ما يكون، وأما ما عدا ذلك فَمُلكٌ صُورِيٌ؛... قليلٌ، قصيرٌ، حقيرٌ، ناقصٌ، زائلٌ، منتهٍ، فانٍ، مُنقرض، كلُ ملك ما سِوى ذلك، بقي هذا أعلى مُلك، وأعلى ملك يؤتيهِ الله عبادهِ الجنَّة، وهذا المُلك بالجنَّةِ حادث، ويقبل الزيادة، وليسَ بباقٍ إلا بإبقاءِ الله فَهو الملك إذًا.
"لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ" وهو الّذي يستحق الثّناء الحَسن من جميع كائناتِهِ ومخلوقاتهِ، ولا تستطيع أن تُثني عليهِ بِما هو أهله، ولكن رضيَ منها أن تثنيَ عليهِ بالحمدِ وبالشكرِ، لسانًا وحالاً وعملاً، وعدّ ذلك منهم شكرًا وحمدًا، ووعدهم أن يَشكُرَهم عليه،ِ ورضيَ بالحمدِ شُكرًا له من خلقه، ولا يستطيع أن يحمَده تعالى هو بما هو أهله، إلا هو.
وقال أحمدُ الحامدينَ من خلقه،، وسَيدُ الحامدين، هو أقوى الحامدين، وأعظم الحامدين له: "سبحانك لا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أنْتَ كما أثْنَيْتَ علَى نَفْسِكَ"، وإذا كان زين الوجود، حبيبُ الرّحمن، لا يحصي ثناءً على الله،ِ فلئن لا يُحصي ثناءً عليهِ جبريل من باب أولى، وميكائيل، وحملة العرش، وإبراهيم وموسى وعيسى ونوح، وكلهم لا يستطيعون، فمَنْ دونَهم -من باب أولى- لا يحصي الثناء عليهِ من قبل أحد، بل هو كما أثنى على نفسه،. فلهُ الحمد حتى يرضى، وله الحمد إذا رضي، وله الحمد بعد الرّضا، ولهُ الحمد في كلِ لمحةٍ ولحظة أبدًا، كما يليق بجودهِ وكرمه، عدد خلقه، وزنة عرشه، ورضا نفسه، ونسأله أن يحمَدَ نفسَه عنَّا بِما هو أهله.
"لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ"، هذا اللفظ ممّا ذُكر، وفي رواية زيادة: "يحيي ويميت"؛ "لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يحيي ويُميت، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ"،
يقولُ: من قالَ في اليومِ -كُلَ يوم-: "لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ، فِي يَوْمٍ مِئَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ"؛ يعني هذهِ الكلمات، وفي رواية "كان"؛ يعني: هذا القول، "لَهُ عَدْلَ"؛ أي: مثل، ومساوي، "عَشْرِ رِقَابٍ"؛ عِتق عَشر رقاب، يعني: مثل ثواب إعتاق عشر رِقاب، طول عمرك ما تملك رقبة واحدة حتى تعتقها، ولكن يعطيك عتق عَشر رِقاب بهذهِ الكلمات اليسيرة.
وهذه من الكلمات التي أصلها في (الوِرد اللطيف)، اختُصِرَ منه آخرُه، وجيءَ بالكلماتِ الجامعة الواردة في الأحاديثِ الأخرى؛ سبحان الله وبحمده عددَ خلقه ورضا نفسه،… سبحان الله العظيم وبحمده، عددَ خلقه،.. إلى آخره.ِ والأصل في الورد اللطيف:
هذا الأصل في ترتيب الإمام الحداد للورد اللطيف، ثُمَّ اختُصِرت هذهِ الأذكار من مئة مرة إلى هذهِ الأذكار الّتي تأتون بها لما وردت في الأحاديث الأخرى، من أجل غير المتفرّغين للعبادة والذكر، إمّا من المُشتغلين بالعلم،ِ أو أصحاب الأعمال والأشغال الأُخَر، فيكتفون بمثلِ هذا.
أمّا هذا، حَثُهُ ﷺ على مئةِ مرة من "لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ، فِي يَوْمٍ مِئَةَ مَرَّةٍ" وأن من أتى بها "كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ" طول عُمرك ما تَملك رقبة واحدة.. وثواب عَشر رِقاب كاملة تَحصِّلها بهذا الذّكر اليَسير، فيا فوز أهلَ الذّكر، وما أشدَّ حرمان، و حسرة أهل الغفلة!
تمرّ عليهم الأيام ولا يحصّلون شيئًا من هذه الأرباح، مُقابل إيش؟ ولا مُقابل شيء! إلا كسل، وغَفلة، وإهمال، واشتغال بِما لا يفيد.. فقط.. هذا المقابل، ولا مقابل إيش؟ تضَيّع هذه الأرباح والخير كُلَّه مقابل إيش؟ تكاسل، وغفلة، واشتغال بِما لا يفيد! ضَيَّعوا الأعمار الّتي ما دَروا أنَّ اللحظة منها ما يُساويها مُلكُ الأرض..
لقد ضاعَ عُمرُ منك ذرةٌ منهُ تُُشتَرى *** بملء السَّماءِ والأرض أيّت ضيعةِ
فكم ساعة؟ وكم لحظة أضعناها؟ اللَّهم أعِنّا على ذكرِك وشكرِك وحسنَ عبادتك.
قال: "كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ"
طَيّب وهذه فيها عِتقٌ كامل من النّار، وفوق ذلك: "وَكُتِبَتْ لَهُ مئَةُ حَسَنَةٍ" خالصة "وَمُحِيَتْ عَنْهُ مئَةُ سَيِّئَةٍ" فوقَ العِتق، "وَكَانَتْ لَهُ حِرْزاً"؛ حصنًا، وحفظًا، وحراسةً من الشيطان، من تَسلُطهِ، "يَوْمَهُ ذَلِكَ" طول اليوم، وهو في حرز وحصن من الشّيطان، ببركةِ هذا الذّكر، "وَكَانَتْ لَهُ حِرْزاً مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ، إِلاَّ أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ"، وفي لفظٍ: "إلا من قالَ مِثلُ ما قالَ أو زاد"؛ زاد على ذلك.
ففيهِ:
وفي قوله: "أو زادَ عليه"؛ إشارة إلى أنَّهُ لا يَتَقَيَّد الأمر بِما جاءَ مِنَ الفضلِ في المئة، وأنَّهُ يمكن أن يزيدَ على المئة؛ لأنَّ شَرعَ الذّكرِ مشروعٌ على الإطلاق، ومبسوطٌ، بل جاءَ فيهِ الأمر بالاكثار، ولم يأتِ لفظُ الأمر بالإكثارِ في القرآنِ لشيءٍ منَ الأعمالِ الصَّالحات المختلفة إلا الذّكر، فَما نقرأ في القُرآنِ صَلّوا كثيرًًا، أو صوموا كثيرًًا، أو جاهِدوا كثيرًًا…
فأوصى بالكثرةِ من ذكرهِ -جلَّ جلالَه- لِننال ونَحوزَ ونفوزَ بذكرهِ لنا، فَنُدرك عطايا لا حدَّ لها.
"من ذَكَرني في نفسه،ِ ذَكَرتَهُ في نفسي، ومَن ذَكَرني في مَلأ، ذَكَرتهُ في ملأ أكثر منهم وأطيب". (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) [البقرة :152]. وذكره جلَّ جلالَهُ بِهذا الذّكر وبغيره، أن ينطوي قَلبُك على استحضارِ أسمائه وصفاته وعظمَته وجلاله؛ هذا معناه. فيكون قَلبُك مستحضر لعظمته، وجلاله، وكبريائه، ومعاني أسمائه، وصفاته.ِ
وذكر: "لا إله إلا الله" أعلى الاذكار، وهو الّذي يُؤمر بهِ في البدايةِ لِكلِ مريد وسائر وسالك في السَّير إلى الله، وإليهِ يُرجع في النِّهاية. "أفضل ما قُلت أنا والنَّبيون ومِن قَبلي: لا إله إلا الله". قال الله لحبيبه، أقرب المُقربين، وأعلم العُلماء به: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ..) [محمد :19] لا إلهَ إلا الله!
فَينبغي أن يَكثُر مِنها المُؤمن، وكانَ يقول بعض العارفين: أكثِر من لا إله إلا الله حتى تصبح كُلكَ لا إله إلا الله!
ولمَّا قُتِل بعض العارفين،َ نزلَ دَمَّه مُنكتٍبًا في الأرضِ: لا إله إلا الله..لا إله إلا الله.. لأنَّهُ مُمتلئ بِـ لا إله إلا الله. ولمَّا تابعوا عبر التلفزيون تخطيطَ القلب بعضَ الصّالحين من المتأخرين، فانكتب خط القلب عندَ مماتِهِ لا إله إلا الله، وإذا بالتخطيطِ حق القلب يظهر بالتلفيزيون لا إله إلا الله، وماتَ الرّجل لأنَّه مُمتزج بِها، ولأنَّه من خواصِّ أهلَها، وما يكونُ ذلك إلا لِمن أكثرَ مِنها.
وكانََ يكثرُ منها سيدنا الإمام الحداد، حتى يُكَلِمُه المُتَكلّم فَيُجيبُهُ بكلمتين، ثُمَّ مُدة ما يَسمعُ كلامَ المُتكلم يلهجُ هو في قلبهِ بـ لا إله إلا الله.. وبعدها يَرُدُّ عليهِ كِلمَتين، ويشتغل وقتَ استماعهِ لكلامِ من يُخاطِبه بِـ لا إله إلا الله.. لا إله إلا الله، عليها نَحيا، وعليها نموت، وعليها نُبعث إن شاءَ الله.
وحَصلَ بهذا الذّكر:
بعدها يقول: مُحَيتُ عنهُ مِئة سيئة، هذه زيادة؛ يعني تَكْفير الخطايا عمومًا.. على ما عُدَّدَ منها خُصوصًا، مع زيادة مئة درجة، وما زادَه عتق الرّقاب الزّائدة على الواحد.. فَما أعظمَ الذّكر، ويا فوزَ الذّاكرين!
َ يا ذاكِرَ الله، يا بُشراك، نِلتَ الأمان
"مَا عَمِلَ ابْنُ آدَمَ مِنْ عَمَلٍ، أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ" لا شيء يُنَجّي مِن عذابِ الله مِثل ذِكر الله، اللهُ يُعيننا على ذِكره، ويُحقِّقنا بحقائقِ ذكره، ويجعلنا من خواصِ أهلِ ذكره.
ثُمَّ ذَكرَ لنا حديثَ التّسبيح بعد الصّلوات، قال: "عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ قَالَ: مَنْ سَبَّحَ دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ"، يعني: عقب وبعد كلَ صلاة، وحَملهُ أكثر الأئِمة على الصّلاة المكتوبة. كما جاءَ مُقيَّدًا ببعضِ الرِّوايات، وإلا الصَّلوات كثيرة، فرض، ونفل. فالمراد إذا أُطلق هذا أرادوا بهِ الصَّلوات الخمس.
"دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ"، وقد يجمع المسافر أو المريض -كما هو رأي الجمهور من العلماء- يجمعُ بين الفرضين، فَلِرخصة الجمع تخفيفًا عليه، فيكون الذّكر مرة واحدة من هذهِ الاذكار، بعدَ الفرضين كافٍ؛ ما يحتاج يأتي به مرتين؛ لأنَّهُ شرعَ له الجمع للتخفيفِ، فأن يخففُ عليهِ بالذّكرِ دون الصَّلاة من بابِ أولى، فيكفيه أن يأتي بالذّكرِ مرة واحدة، فإذا جمع وصلّى الظّهر والعصر، هل يحتاج يأتي بآية الكرسي مرتين أم مرة واحدة؟ سبحان الله ثلاث وثلاثين، أم ستة وستين؟ مرة واحدة تكفي عن الاثنين، تخفيفًا من اللهِ للمسافرِ وللمريضِ.
قال: "مَنْ سَبَّحَ دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ"، بعد كل صلاةٍ "ثَلاَثاً وَثَلاَثِينَ" أي: مرة قبله. أيضًا "عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ فِي يَوْمٍ مئَةَ مَرَّةٍ، حُطَّتْ عَنْهُ خَطَايَاهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ"، سبحان الله وبحمدهِ في اليومِ مئة مرة، وهو كما ذَكرنا هو المُرتب في الأصلِ في (الورد اللطيف)، من قالَ سبحانَ الله وبحمدهِ، وهو أيضًا للحال، أي: مع تلبّسي بحمدِ ربي الذي وفَّقني لتسبيحهِ، أنا أُقدِسه وأنزّهه، حامدًا له، "وَبِحَمْدِهِ"، "سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ"، إذ وفَّقني لتقديسهِ وتسبيحهِ وتنزيههِ، فأنا أحمدهُ، فأنا أنزِهُه متلبّسًا بحمدهِ، حالة كوني متلبسًا بحمدهِ؛ فالواو (واو) الحال؛ "وَبِحَمْدِهِ"، متلبسًا بحمدهِ مقترنًا بالتَّسبيح له بحمده؛ إذ لم أستطع تسبيحه، ولا تنزيهه، إلا بفضلهِ عليّ، فأنا مع تنزيهه أحمده، "سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ"، مع حمدي له إذ هو الذي وفَّقني للتقديس والتسبيح، ولولا ذلك ما قدرت، فأنا أحمده، فإذا سَبَّحتهُ أسبِّحه حال كوني بقلبي ولساني حامدًا له، "سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ"؛ هذا معنى: "وَبِحَمْدِهِ"، "سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ" من قالها فِي يَوْمٍ مئَةَ مَرَّةٍ، حُطَّتْ عَنْهُ خَطَايَاهُ"؛ أُلقيَت وأُزيحت وأزيلت عنه، لا إله إلا الله! "وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ".
قالوا في هذه الأحاديث وأمثالها مما جاءَ فيهِ كفارة السَّيئات:
"وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ"؛ والمُراد أن أهل هذا الذّكر يتنزّهون عنِ الخطايا والذنوب، فَيظهر عليهم أثر ذلك بتحقيقِ التّوبة وصدق الأوبة إلى الرَّب جلَّ جلاله وتعالى في علاه.
"مَنْ سَبَّحَ دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ ثَلاَثاً وَثَلاَثِينَ، وَكَبَّرَ ثَلاَثاً وَثَلاَثِينَ"، قال: الله أكبر؛ أكبر مِن أن يُتصوّر أو أن يُحاط بشيءٍ من أسمائهِ، وصفاتهِ، وذاتهِ؛ لا يُحيط بهِ عقل مَلَك، ولا إنسي، ولا جني، ولا غيرها من المخلوقات؛ لا يُحيط بأسماءِ اللهِ وصفاتهِ وذاته شيء، فليس كمثله شيء، فهو أكبر، الله أكبر! ولا كبير إلا هو على الحقيقة، إنَّما يكبر كلَ شيء بمقدار ما يُعظِّم الحق أمَرهَ.. الله أكبر!
"وَحَمِدَ ثَلاَثاً وَثَلاَثِينَ"، أقرَّ بالثّناءِ واعترفَ بالنعمِ من المُنَعِّم ثلاثاً ثلاثين، حَمِدَ الله ثلاثاً وثلاثين. وفي بعض الرِّوايات الحَمْد قبلَ التَّكبير، وأنَّهُ بإختلافِ الرِّوايات دلّ على أنَّهُ لا إشكال في التَّرتيب بينها، يبدأ بأي واحدة، كما قال ﷺ في الباقيات الصالحات: "أحبّ الكلام إلى الله أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر، لا يضرّك بأيهنّ بدأت".
بأي واحدة من هؤلاءِ الأربع؛ ولكن أكثر الرِّوايات كما جاءَ على ما يَستعملهِ عامة المسلمين بقول: سبحان الله والحمدلله ولا إله إلا الله والله أكبر؛
فهذا ما أشار إليهِ الحافظ ابن حجر في هذا التَّرتيب، الّذي هو معهود معتاد، ولكن "لا يضرّك بأَيَّهِنَّ بدأتَ".
ومجموع الرِّوايات ورد التسبيح: ثلاث وثلاثين، وورد خمس وعشرين، وورد إحدى عشر مرة، وثلاث ومرة واحدة، وسبعين، ومئة. وورد التَّحميد: ثلاث وثلاثين، وخمس وعشرين، وإحدى عشر، وعشرة، ومئة. وورد التهليل "لا إله إلا الله": عشرة، وخمس وعشرين، ومئة، وكل ذلك حَسَن على ما جاءَ في الرِّوايات.
وقال في التَّسبيح: اعقدوه بالأنامل، "فإنَّهُنَّ مسؤولاتٌ مستنطقات"، فيحسب بأنامِله التي قد رتَّبها الله -سبحانه وتعالى- في كلِ إصبع ثلاث أنامل، وفي الإبهام أنمُلتين "فإنَّهُنَّ مسؤولات مُستَنطقات".
وجاءَ عن سيدنا علي أنَّهُ قال: "نِعمَ الذّكرُ المُسَبِّحة". وجاءَ عن سَيدنا أبي هريرة أنَّهُ كان له خيط فيه ألف عقدة، لا ينام حتى يُسبِّح بهِ. وجاءَ في روايةٍ عن أبي هريرة أيضًا: "وكان يُسبّح بالنّوى". وهكذا قال الشّيخ ابن حجر: والرِّوايات في التّسبيح بالنَّوى والحصى كثيرة عن الصّحابة وبعض أمهات المؤمنين، بل إنَّه رآها ﷺ وأقرَّها عليها وكان بين يديها حصى تُسبّح به، فخرجَ من عند صفية أُم المؤمنين وهي تُسبّح، ورجع وهي تُسبّح، قال: ما زلتِ على حالتكِ التي كُنتِ عليها؟ قالت: نعم! قالَ: قد قلتُ بعدك كلمات تعدل ذلك، وقال: سبحان الله عدد ما خلق في السَّماء، سبحان الله عدد ما خلق في الأرض، سبحان الله عدد ما بين ذلك، سبحان الله عدد ما هو خالق. الحمدلله عدد ما خلق في السَّماء، الحمد لله عدد ما خلق في الأرض، الحمد لله عدد ما بين ذلك، الحمد لله عدد ما هو خالق، وهكذا.. وفيه: اتخاذ السّبحة للمتفرّغ للذكر، وذلك غير المُشتغل بطلبِ العلم، وفي غير أوقات تلقّي العلم وأخذه.
وقال: "وَخَتَمَ الْمِئَةَ"؛ أي: يتمّ العدد: ثلاث وثلاثين، وثلاث وثلاثين، وثلاث وثلاثين صارت تسع وتسعين، باقي واحدة من المئة، "وَخَتَمَ الْمِئَةَ بِلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ".
وجاءَ في روايةِ أنَّ لفظ التَّكبير أربع وثلاثين، وفي روايةِ لفظ الحَمد، وجاءَ في روايةِ: أن الحمد عند النّوم أربع وثلاثين، "غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ" ببركةِ الذّكر والحديث أيضًا جاءَ في صحيحِ مسلم.
وذَكرَ بعد ذلك الباقيات الصَّالحات: "عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ فِي الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ: "إِنَّهَا قَوْلُ الْعَبْدِ: اللَّهُ أَكْبَرُ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ"؛ هي الباقيات الصَّالحات: سبحان الله، والحمدلله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
"إِلاَّ بِاللَّهِ".. "لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ" فلا قوة لأن أغمض عيني أو افتحها إلا بالله، وما لذرّةٍ أن ترفع رجلها ولا أن تضعها إلا باللهِ، ولا لطائرٍ أن ينشر جناحيهِ الا بالله، لا حول ولا قوة لهم على ذلك إلا باللهِ العلي العظيم، فكل شيء من دونِه ومن دون إرادته لا شيء، وكل شيء عَدَم من دون إيجاده، وبعد إيجاده لا حركة له ولا سكون، ولا أخذ، ولا رد، ولا طلوع ولا نزول إلا بالله. لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم؛ وهذا يُبَين لنا معنى (..وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ..) [الحديد:4]، معنى من معانيه.
ثُمّ ذكر حديث أَبُي الدَّرْدَاءِ -رضي الله عنه- عويمر، وقيل: عامر بن زيد بن قيس، أنصاري، أسلم يوم بدر، أول مشاهد أبو الدرداء يوم أحد، ثم لُقِّب بـ: حكيمِ هذهِ الأمة،
فكان صاحب الحكمة عليه الرضوان، وتوفي في آخر خلافة سيدنا عثمان بن عفان، أبي الدرداء على الأصح وقال أنه عاش، ثُمَّ يَذكر: "أَلاَ أُخْبِرُكُمْ" وهذا الحديث جاء مرفوعًا من عدد من الرِّوايات "بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ"، أفضل أعمالِكم "وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ" منازِلكم "وَأَزْكَاهَا" أطهَرَها "عِنْدَ مَلِيكِكُمْ"، ربكم سبحانه وتعالى، "وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِعْطَاءِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ"، أي: الفضة "وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُم"، أي: الكُفار في الجهاد في سبيلِ الله " فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ، وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ"، تقتُلوهم ويقتُلونَكم، يعني: خيرٌ لكم من بذل الأموال والأنفس في سبيلِ الله "قَالُوا: بَلَى".
جاءَ في روايةِ ابن ماجه: "قالوا: وما ذاك يارسول الله؟" ما هذا خير أعمالنا وأزكاها عند مليكنا، وأرفعها في درجاتِنا، وخيرٌ لنا من إنفاق الذهب والورق، ومن أن نلقى عدُونًا نقاتله إيش هذا؟ أفضل من هذا كله؟ "وما ذاك يا رسول الله؟" "قَالَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى"، فازَ الذَّاكرون بخيرِ الدُّنيا والآخرة.
ذِكرُ الله! بل جميع العبادات وسيلة لِذكرُ الله، والمقصود الأعظم منها: ذِكرُ الله جلَّ جلاله، والذكر الكامل: هو الّذي يجمع لِذكر اللسان، والقلب، والشّكر، واستحضار عظمة الرّب، وهذا لا يعدلهُ شيء، وإنَّما يَعظُم فضل المُجاهد بكثرةِ هذا الذّكر.
وقالوا عن سيدنا الإمام الغزالي أنَّهُ لمَّا دخلَ بحر الذّكر المخصوص، وذاقَ حلاوته، قال ضَيَّعتُ قطعةً مِن العمرِ، في الوجيز، والوسيط ،والبسيط؛ في الكتب التي ألفها، قالَ ضَيَّعتُ قطعة من عمري! كانوا يَعِدّون أنَّ تأليفهم للكتبِ من أوقات الغفلة. وقالوا عن الإمام الحداد في قولهِ: إنّا لِنَعلمُ ولم نحظَ بذوقِ لما مَعنا من التَّشتيتِ أو تأليف الكتبِ. وقالوا: لولا الغفلة ما ألّفنا، فَعدُّوهُ من ايضاع العمر، وهو من أفضل الأعمال؛ ولكن لمَّا ذاقوا حلاوة الذّكر، رأوا شيئًا عظيمًا، فعدّو هذا من أوقاتِ الغفلة.
قالَ الإمام الغزالي: بل يَعُدّ العارفون الغفلة من أنواع الرّدة ولو خطرة على سبيلِ المبالغة كما قال قائلهم:
ولو خطرتْ لي في سواكَ إرادةٌ *** على خاطري سهوًا حكمتُ بردّتي
كانت لقلبيَ أهواءٌ مفرّقةٌ *** فاستجمعت مذ رأتكَ العينَ أهوائي
يقول:
قومٌ همومهم باللهِ قد عَلِقت *** فَمالهم هِمةٌ تَسمو إلى أحدِ
فَمطلبُ القوم مولاهُم وسَيِدَهم *** يا حُسنَ مَطلبهم للواحدِ الصّمدِ
وهكذا، ذَكروا عن الإمام علي بن ميمون المغربي جاءَ واتصل بهِ عالم كبير من العلماء إسمه علوان الحموي كان مُفتي مدرّس، لمَّا اتّصل بالشّيخِ علي بن ميمون قالَ له: اترك التّدريس هذا! تركَ التّدريس.. قال: اترك الفتوى هذه! ترك الفتوى.. قالَ له: اذكر الله! اشتغل بالذّكر… صار الجهّال يقولون هذا الشيخ أضلّ شيخ الإسلام! هذا السيد أضلّ شيخ الإسلام! كان يقرأ القرآن أحياناً، قالَ اصبر اترك القرآن الآن، اذكر.. قالوا هذا زنديق هذا!... والشّيخ طاوع الشّيخ، عكفَ على الذّكر، حَصَل له المزيد والمشاهدة، قالَ له: إقرأ القرآن، اقرأ.. لمَّا فتح يقرأ، وإذا بمعاني وفتوحات، قال: أنا ما كنتُ اقرأ قرآن من أول! قال لهُ الشّيخ: أنا ما مَنعتَك من قراءة القرآن؛ مَنعتك مِن لقلقةِ اللِسان، كُنتَ تجلس بلسانِك من أول، هذاك كان قرآن تقرؤه؟! قال: لا والله ما كنت اقرأ القرآن! قال: إقرأ الآن.. وعادَ بعد ذلك إلى نفع النّاس وإرشادَهم، بحالِ غير الحال الّذي كانَ عليهِ.
قال: أنا ما كُنتُ أمنَعكَ من قراءة القرآن، أحب القرآن؛ لكن كنت تلقلِق بلسانِك، ما تقرأ أصلًا! الآن تعرف تقرأ اقرأ.. لا إله إلا الله!
وهكذا، يقول: "زِيَادُ بْنُ أبِي زِيَادٍ:مَا عَمِلَ ابْنُ آدَمَ مِنْ عَمَلٍ، أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ "، وقد صحَّ ذلك مرفوعًا الى النّبي ﷺ "عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ، أَنَّهُ قَالَ : كُنَّا يَوْماً نُصَلِّي وَرَاءَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ"، في إحدى الفرائض "فَلَمَّا رَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ وَقَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، قَالَ رَجُلٌ" من هو هذا الرّجل؟ هو رفاعة أوغيره؟ " قَالَ رَجُلٌ وَرَاءَهُ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ"، في رواية أنه إعرابي جاءَ، فلمَّا رفع النّبي رأسهُ، وقال: سَمِعَ اللهُ لِمن حَمِده، هذا تكلم من دون ما أحد يلقنه ولا يعرف هذا، قال: "رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، حَمْداً كَثِيراً طَيِّباً مُبَارَكاً فِيهِ"، رأى نعمة الرّكوع والرّفع مع زين الوجود سيد أهل الخشوع، قال: "رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، حَمْداً كَثِيراً طَيِّباً مُبَارَكاً فِيهِ. فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ"؛ يعني: أكملَ الصلاة، "قَالَ: مَنِ الْمُتَكَلِّمُ آنِفاً؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ". وجاءَ في رواية أنَّهُ قالَ: من المُتكلم في الصّلاة؟ ما حد تكلم، قالَ من تكلم آنفاً في الصّلاة؟ ماحد تكلم! الثّالثة قال: أنا يا رسول الله.. "فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَقَدْ رَأَيْتُ بِضْعَةً وَثَلاَثِينَ مَلَكاً يَبْتَدِرُونَهَا، أَيُّهُمْ يَكْتُبُهُنَّ أَوَّلاً".
والحديث في صحيح البخاري كذلك، ما رواهُ الإمام مالِك أخرجهُ البخاري في صحيحه عن رفاعة بن رافع عن هذا الأعرابي أنّهُ لمّا قال هكذا، ما قالَ لهُ النّبي ترفع صوتك بالذّكر، هذا بِدعة! ما قال له هذا… وما قال له تأتي بذكر من عِندكَ ما عَلّمتك إيّاه أنت مبتدع! بل قالَ له: رأيتُ بضعاً وثلاثين مَلكًا يبتدرونَها أيّهم يكتُبها أول.
لهذا قالَ ابن حجر في شرح البخاري: وفي هذا دليل على إحداث الذّكر وعلى رفع الصّوت بالذّكرِ؛ فإنّ الرّجل رفع صوته. بل جاءَ في رواية أخرى: أنّه ﷺ كان يُصلّي، فجاءَ أعرابي وراءهُ يصلّي، لمَّا كَبَّر قال: اللهُ أكبر، قال: الله أكبر كبيرا، والحمدلله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، وكانَ يرفع صوته هذا الأعرابي بعد ذلك، حتى يقولوا أنّه التفتَ إليه بعض الصّحابة من هذا الّذي يرفع صوته فوق صوت الرسول ﷺ ... فلمّا أكمل الصلاة ﷺ، انصرف من الصّلاة، قال: من هذا العالي الصّوت؟ من الّذي يتكلم بصوتِ مرتفع؟ قيل: هذا يا رسول الله، قال: ما أردتُ إلا الخير، قالَ لهُ ﷺ: لقد رأيتُ كلامًا يصعدُ إلى السّماءِ حتى فُتحت فدخل فيها.
وجاءَ في روايةِ الإمام مسلم: "لقد عجبتُ لهُنَّ" يعني: الكلمات التي نطقتَ بِهُنَّ "لقد فُتحت لها أبوابُ السّماء". قالَ ابن عمر: فما تَركتُهُنَّ منذُ سمعتُ رسول الله يقول ذلك. إذا كبّر يقول: الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلا. ثُمَّ نُقِلَ كلا الذّكرين عنه ﷺ نفسه، مع أنَّه بدايته كانت من غيرهِ من الأعرابي، من ذا و ذا ولكن صار هو بنفسهِ يذكره، صلّى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وصحبهِ وسلم.
رزقنا حسن متابعتهِ، وحشرنا في زمرتهِ، وأدخُلنا في دائرتهِ بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي مُحمَّد ﷺ.
09 جمادى الأول 1442