(536)
(228)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب القرآن ، باب ما جاء في تحزيب القرآن.
فجر الثلاثاء 30 ربيع الثاني 1442هـ.
باب مَا جَاءَ فِي تَحْزِيبِ الْقُرْآنِ
540 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيِّ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: مَنْ فَاتَهُ حِزْبُهُ مِنَ اللَّيْلِ، فَقَرَأَهُ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ، إِلَى صَلاَةِ الظُّهْرِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَفُتْهُ، أَوْ كَأَنَّهُ أَدْرَكَهُ.
541 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ جَالِسَيْنِ، فَدَعَا مُحَمَّدٌ رَجُلاً فَقَالَ: أَخْبِرْنِى بِالَّذِي سَمِعْتَ مِنْ أَبِيكَ. فَقَالَ الرَّجُلُ: أَخْبَرَنِى أبِي، أَنَّهُ أَتَى زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ تَرَى فِي قِرَاءَةِ القُرْآنِ فِي سَبْعٍ، فَقَالَ زَيْدٌ: حَسَنٌ، وَلأَنْ أَقْرَأَهُ فِي نِصْفِ شَهْرٍ أَوْ عَشْرٍ أَحَبُّ إِلَيَّ، وَسَلْنِي لِمَ ذَاكَ؟ قَالَ: فَإِنِّي أَسْأَلُكَ. قَالَ زَيْدٌ: لِكَيْ أَتَدَبَّرَهُ وَأَقِفَ عَلَيْهِ.
الحمد لله مُكرِمنا بالقرآن، وبيانه على لسان من أنزله عليه، أحبّ الخلق إليه وأرفعهم منزلةً لديه، سيدنا مُحمَّد صلى الله وسلم وبارك وكرّم في كل وقتٍ وحينٍ عليه، وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار ومن والاهم في الله -تبارك وتعالى- واستقام على منهاجهم ليرتقي بمعراجهم، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، أرباب التمكين في القرب من الحق والفهم عنه والتبيين له لعباده بخير تبيين، وعلى آلهم وصحبهم والتابعين وعلى الملائكة المقرّبين، وعلى جميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
ويواصل الإمام مالك -عليه رحمة الله تعالى- ذكر الأحاديث المتعلقة بالقرآن، وجاء في هذا الباب: "باب مَا جَاءَ فِي تَحْزِيبِ الْقُرْآنِ"؛ وتحزيب القرآن يعني: أن يجعل المؤمن على نفسه حزبًا؛ أي: قدرًا من القرآن يرتبه، فيلتزم به ويواظب عليه. وهكذا في عموم الطاعة والعبادة نُدِبَ المؤمنون إلى أن يجعلوا لهم فيها أحزابًا؛ أي: مقادير يرتبونها على أنفسهم يلتزمون بها.
ومن حميد المسلك لكل سالك في السير إلى الله تعالى، أن يجعل على نفسه من أنواع العبادات، من صلوات ومن صوم، ومن قراءة للقرآن، ومن ذكر، ومن صدقات إلى غير ذلك… شيئًا معلومًا يزيد عليه عند النشاط والسعة ولا ينقص منه عند الكسل، فهذا مسلك حميدٌ طيبٌ؛ يزيد عند النشاط ولا ينقص عند الكسل، فيكون شيء مرتّب معين كما كان هدي الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- مقتدين برسول الله خير الأنام ﷺ.
وأما الذي يجعل ساعات ليله ونهاره مُهملة سدى، وأحيانًا يشتغل بذا وأحيانًا يشتغل بذا ولا يرتب على نفسه ترتيب، فلا تظهر بركة وقته ولا بركة عمره، ولا يظهر الأثر فيما يقوم به من الطاعات المتفرّقة القليلة، فإن الأوراد من غير حضور لا تنفع، ومن غير مداومة لا تؤثر، وإنما تنفع مع الحضور وتظهر آثارها وخصائصها ومزاياها مع المداومة والاستمرار. فبذلك جاءنا تحزيب القرآن؛ وهو الوِرد الذي يرتبه المؤمن على نفسه في اليوم والليلة من كلام الله -تبارك وتعالى- وقراءته.
وهكذا جاء عن بعضهم ماهو أكثر من ذلك، فيرجع الأمر إلى قوة المؤمن وفراغه و قدرته، وأن لا تخرجه كثرة القراءة عن الترتيل وعن تدبّر المعنى. ويحذر أن يكون ممن اشتكى منهم من أُنزِل عليه القرآن بهجر القرآن: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) [الفرقان:30].
فالوسط الذي عليه أكثر الصحابة الختم في كل أسبوع، ولا بأس بالختم في كل عشر أو في كل نصف شهر، ولا أقل للسالك من أن يختم في كل شهر؛ بأن يقرأ في كل يوم جزءًا من القرآن الكريم. ويحذر من هجران القرآن، وقد يكون لبعض المُتَعَتعينَ أو الذين تَشُقُّ عليهم القراءة أو حَسَني التدبر مع كثرة الانشغال بمهمّاتٍ وواجبات أن يقرؤوا بعض الجزء في اليوم والليلة.
وقد صرَّح بعض الأئمة مثل الحنابلة بكراهة تأخير ختم القرآن عن أربعين يومًا، فقال: يُكره للمؤمن أن يمرّ عليه أربعين يومًا ولا يختم ختمة، ما تأمّل ما كَلَّمَه به إلهه! ما يتدبّر ما أرسله إليه خالقه وبلّغه على لسان نبيه! فينبغي أن يتعاهد هذا القرآن، والأمر بالتعاهد ثابت في السنّة.
وهكذا يقول الحنفية: ينبغي لحافظ القرآن أن يختم في كل أربعين يومًا على الأقل، ولِيُقْرِن مع تعاهد القرآن فهم معانيه والاعتبار بما فيه لا مُجرّد التلاوة، قال تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أًمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا..) [محمد:24].
وهكذا صرّح الحنفية وغيرهم بأنه لا يستحب أن يختم في أقل من ثلاثة أيام، وهذا كما أشرنا لعموم المؤمنين، وفيه جاء الحديث: "لَمْ يَفْقَهْ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ"؛ يعني: لا يتدبره ولا يتفهَّمه، يسرُدُه سرد وليس ذلك مراد، بل المراد التدبُّر، وهذا لا يناقض من وجود التدبّر والتأمل عند الأقوياء، فيقرؤنه ولو في ركعة كما سمعت عن سيدنا تميم الداري وعن سيدنا عثمان بن عفان وغيرهما من الصحابة ثم من التابعين؛ فيقرؤوا الختمة في ركعة واحدة بتدبرٍ وتأملٍ، وهذا شأن الأقوياء والمتعلقة قلوبهم بكلام الله جلّ وعلا.
وهكذا جاء في ترجمة الإمام عبدالرحمن بن محمد السقاف أنه: ابتدأ يقرأ ختمة بالليل و ختمة بالنهار، ثم ختمتين في الليل وختمتين في النهار، ثم ثلاثًا، وانتهى إلى أربع ختمات بالليل وأربع ختمات بالنهار، هذا ما بلغنا. ولم يكن بلغ سيدنا الإمام النووي في تلك القرون، ثم بلغنا من بعد عن بعض الصالحين والأولياء أنه زاد على الأربع في الليل وأربعًا في النهار في استغراقٍ بالقرآن وامتلاءٍ بالقرآن.
وهذا الإمام محمد بن صالح بن عبدالله العطاس وقد عرفنا ولده -أصغر أولاده- الإمام عبدالرحمن بن محمد، فكان والده حضر المذاكرة مرة مع الحبيب علي الحبشي فحث على تلاوة القرآن والارتباط به، وذكر سيدنا السقاف وأنه يختم أربع ختمات بالليل وأربع ختمات بالنهار، فقال: هذه المذاكرة عليّ وأنا يجب أن أراجع نفسي في حالي مع القرآن، فرتّب على نفسه الختمتين والثلاث ثم إلى الأربع، فكتب إلى الحبيب علي بعد سنة، قال: الآن رتبنا أربع ختمات بالليل وأربع ختمات بالنهار كما ذكرتم عن سيدنا السقاف. ثم كتب إليه في السنة الثانية فقال: زدنا واحدة، عندنا خمس بالليل وخمس بالنهار، قالوا: وانتهى أمره إلى الست والسبع والثمان، فصار يختم ثمان ختمات بالليل وثمان ختمات بالنهار. وكان يستغرق إذا قرأ ولا يحس بما حواليه، حتى إن كان ليقرأ وهو على دابته تمشي، فَلِمَا يتنزَّل له مع خشوعه وحضوره يثقل على الدابة فتقعد على الأرض؛ تبرك وهو لا يشعر، فيستمر في التلاوة يظنها تمشي، حتى يأتي من ينبهه ويحركه، ويقول له الدابة باركة على الأرض فيقوم.
وهكذا، كانوا ينتظرونه في يوم مع جماعة من أهل العلم والخير في ضيافة وعزومة، فقالوا: إن الحبيب محمد بن صالح العطاس تأخر، قال لهم الحبيب أحمد بن حسن العطاس ما بيتأخر بيخرج على وقته، انظروا بتحصّلون الدابة باركة على الأرض وهو يقرأ، اذهبوا حرِّكوه، فخرجوا و وجدوه يقرأ والدابة باركة، وهو يقرأ ويقرأ.. نبهوه ونبهوه حتى انتبه، قال: مالكم؟ قالوا: الدابة باركة، قال: ارفعوها، فرفعوها وقامت، قال له: ماذا فعلت بالدابة؟ قال: قرأنا عليها من القول الثقيل، (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) [المزمل:5]، قالوا: متى خرجت؟ قال: من الساعة كذا؛ وإذا به من أول النهار خرج له مدة طويلة، ساعات والدابة باركة وهو لا يدري بها، مستغرقًا بالقرآن.
فهذا شأن للخصوص من خيار الأمة، وأنت بعدما تسمع كلام الخصوص هؤلاء لا تبعد بنفسك بُعدًا كبيرًا وتهمل الكتاب العزيز حتى يَمرُّ الشهر ما تقرأ ختمة! بل ينبغي أن تجعل لك حزبًا، فإن زين الوجود كان يُحزِّب القرآن تحزيبًا، ويجعل له منه الوِرد في اليوم والليلة. وكان يمرُّ على بعض الوفود في كل ليلة بعد العشاء، أيام كانوا بالمدينة في وفادتهم ويتحدث إليهم، وتأخر عنهم ليلة ثم جاء فقال: إني لم أتأخر عنكم إلا أنه شغلني فلان ابن فلان عن حزبي من القرآن فكرهت أن آتيكم حتى أُتِمَّه، فأكمل ورده من القرآن ثم جاء إليهم ﷺ وهو الذي أُنزل عليه القرآن، كان معتنيًا بالقرآن.
وهذا قال: "باب مَا جَاءَ فِي تَحْزِيبِ الْقُرْآنِ"، وهكذا يقول المالكية والحنابلة: يُسَنُّ أن يختم القرآن في كل أسبوع، هكذا جاء عن المالكية والحنفية، وهو مروي عن جماعات من الصحابة أنهم كانوا يحزبون القرآن الكريم؛ يحزبونه: ثلاثًا وخمسًاً، وسبعًا؛
فيختمونه في كل أسبوع، وعليه عامة السلف -عليهم رضوان الله- ويرتبون في مساجدهم وأماكنهم ختمة القرآن في كل أسبوع.
فلا ينبغي للمتعلم ولا للمُعلّم أن يُقصِّر في القرآن ويهجره، ولكن ولو أن يأخذ جزءًا في اليوم على الأقل، فيقتصر عليه بلا هَذرَمَة.
ويذكر لنا هذا الحديث، وأشار الإمام مالك في بعض أحاديثه إلى أنه تختلف أيضًا طبائع الناس في تَفهُّم المعنى بالتأني، وفي سهولة حضور المعنى واستقامة الحفظ بشيءٍ من الحدر والإسراع، فقال:
قال: فيراعي طبعه في هذا من دون أن يصل إلى حد الهَذْرَمَة وترك التدبر، ومن دون أن يصل في التأنّي إلى حد التمطيط، بعضنا يُسمّونه تجويد؛ وهو تمديد بلا قواعد؛ من دون قواعد التجويد، ويُمطّط ويُزيِّد ويبالغ في ذلك فيخرج عن حد التلاوة المأمور به.
وهكذا جاءنا في الحديث قوله لعبد الله بن عمرو بن العاص "فَاقْرَأْهُ -القرآن- في سَبْعٍ وَلَا تَزِدْ علَى ذلكَ" أو "وَلَا تَزِيدنَّ علَى ذلكَ" كما جاء في رواية أبي داود، فهذا الأصلح لعامة السالكين. ويقول سيدنا أوس: سألت أصحاب رسول الله ﷺ -يعني من أدركه منهم- كيف تُحزِّبون القرآن؟ قالوا : ثلاث، وخمس، وسبع، وتسع، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة؛ هذا ستة أسباع، وحزب المفصل وحده؛ الباقي بعدين إما من سورة (ق) وإما من سورة (الحجرات) يقرؤونه سابع ليلة خلاص، فحزَّبوه على هذه الأسابيع التي عليها رتّب الشيخ سالم بافضل أسابيع القرآن في المنطقة، وتقسَّمها ما بين أول الليل وآخره فيكون في كل خميس ختمة.
ويُكره أن يؤخره عن الأربعين اليوم كما سمعت، قال الإمام أحمد: تأخيره عن ذلك يُفضي إلى نسيان القرآن والتهاون به، فمهما لم يكن عذرٌ فلا ينبغي أن يؤخِّره عن هذا الحد.
وجماعة من السلف جروا على ظاهر الحديث، وكانوا يختمون القرآن في ثلاثٍ دائمًا، وكرهوا الختم في أقل من ثلاث. ولكن أيضًا ورد عن آخرين منهم ما سمعته من ختمةٍ في ركعة، وختمةٍ في يوم وليلة، أو مرتين، أو ثلاث، وزاد بعضهم على الثلاث.
وكما جاء عن بعض المتدبّرين أنه سُئل عن حاله مع القرآن؟ وقال لي: في كل يوم وليلة ختمة، ولكن لي ختمة أخرى في كل أسبوع، ولي ختمة ثالثة أقراؤها في كل شهر، ولي ختمة رابعة أقراؤها في كل سنة بتدبّر، قال: ولي ختمة بدأتها منذ سبعة عشر سنة وأنا لم أكملها للآن! قال: أين وصلت؟ قال: وصلت عند قوله تعالى: (إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ…) [النحل:90]، فجلست ستة أيام في قوله: (إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) وعدلت أمري ونفسي، وكان من العدل الذي قمت به أن شاطرت ربي في أموالي وما أملك النصف؛ أخرجت منها النصف، ثم راعيت العدل في عطائي، والعدل بين أهلي وولدي، والعدل في أوقاتي وقضائها، حتى قال: ثم إني انتقلت من بعده إلى الإحسان (وَالْإِحْسَانِ)؛ فأخرجت باقي ما عندي! العدل: أخرجت النصف ولمّا جئت للإحسان أخرجت الباقي، وجلس يرتّب نفسه في الإحسان أيام وهو يقرأ: (وَالْإِحْسَانِ)، ويتأمل في الأحوال وهو يقرأ: (وَالْإِحْسَانِ)، ويقيم نفسه في أحواله، ويقول: (وَالْإِحْسَانِ)، حتى ينتقل إلى: (...وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ…)، وهكذا.. هذه سبعة عشر سنة مازال في أقل من نصف الختمة يختمها، غير الختمة التي يختمها في كل يوم، وكل أسبوع. وهكذا الارتباط بالقرآن، ولا شيء أصلح لك وأنجح وأربح لفكرك وعقلك ونورك واستقامتك وصلاحك من القرآن، لو ارتبطت به، ولو مكّنته أن يسري نوره إليك بالتعظيم والإجلال والتدبُّر والتأمل، ربطنا الله بكتابه.
ومن جعل القرآن أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلف ظهره ساقه إلى النار، وهكذا قال شيخنا الحبيب عبدالقادر لبعض أصحابه وقرابته، قال: وإني وفي زحمة أعمالي، وكثرة ما كان عندي؛ من أعماله في جدة وغيرها، لا أسمح بترك سُبع القرآن؛ السُبع في كل يوم ليلة لا يمكن يسمح بتركه أبدًا، حتى ولو في زحمة أعماله وكثرة قيامه بالمجالس وحضوره، وكثرة الوافدين عليه وما إلى ذلك… ولكن لا يسمح بأقل من السُبع في اليوم والليلة، من أيام صغره، من أيام والده حفظ القرآن وربطه به. لمّا جاء الحبيب عبدالله بن عيدروس زائر إلى سيؤون وسأل الحبيب أحمد بن عبد الرحمن، وقال: مدرسة أقمتموها مدرسة النهضة، فيها قسم لتحفيظ القرآن؟ قال: لا، قال: تحتاج تحفيظ القرآن، فأنشأوا تحفيظ القرآن، وكان من جملة من تحفَّظ الحبيب عبدالقادر في صغره، ثم أخذ عن الشيخ بارجاء القراءات السبع، وكان قد أخذها الشيخ بارجاء في مكة المكرمة، وأخذ عنه سند القراءات السبع في صغره، ثم استمر على هذا الحزب من الصغر إلى الكبر،. الله يربطنا بالقرآن ويجعلنا من أهل القرآن.
وكان إذا نام الحبيب عبدالله بن عيدروس يقرأ القرآن، ويتلو حتى قد يسمعه من بجانبه إلى أن يستيقظ وهو يقرأ القرآن، فيقولون: إنه ممّن اختلط القرآن بلحمه ودمه. وهكذا كثير من أخيار الأمة في الشرق والغرب اتصلوا بالكتاب العزيز اتصالًا حسنًا وغاصوا على أسراره وامتزج بهم القرآن. ويقول -نقلًا عن الإمام النووي-: كان السيد الجليل ابن كاتب الصوفي يختم بالنهار أربعًا، وبالليل أربعًا، قال القاري: يمكن حمله على مبادئ طيّ اللسان وبسط الزمان.
ويقول سيدنا عمر: "مَنْ فَاتَهُ حِزْبُهُ مِنَ اللَّيْلِ، فَقَرَأَهُ" أمّا رواية "حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ، إِلَى صَلاَةِ الظُّهْرِ،" فقد حملوا فيها الوهم على الراوي داود، وأنه إنما جاء كما جاء في الروايات أخرى: "ما بين صلاة الصبح إلى صلاة الظهر"، فما بين الزوال والظهر كم يَسَعْ أحزاب من القرآن؟! كم يَسَع وقت؟! وقوله: أنه وَهِمَ فيه بعض الرواة، فرواه: "حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ، إِلَى صَلاَةِ الظُّهْرِ،" لأنه لا يُدرك فيه… ولكن كما جاء في الرواية الأخرى ومرفوعاً أيضًا، وهذا أيضًا مما لا يُقال بالرأي. وجاء مرفوعًا للنبي ﷺ أنه قال: "مَن نامَ عن وِردِهِ مِنْ اللَّيْلِ، فَقَضاهُ ما بيْنَ طلوعِ الشَّمسِ إلى الظُّهْرِ؛ كُتِبَ له كَأنَّما صَلَّاهُ مِنَ اللَّيْلِ"؛ وفيه أنه كانوا يقضون ما فاتهم ويتداركون ذلك، وهذا من كرم الله، يَعُدُّهُ كأنه قام في الليل إذا قضاه مباشرة في هذا الوقت، وكانوا كل ما يعتادونه من الخيرات إذا فاتهم منه شيء قضوه.
يقول: "كَيْفَ تَرَى فِي قِرَاءَةِ القُرْآنِ" على سيدنا زيد بن ثابت يسألونه: "كَيْفَ تَرَى فِي قِرَاءَةِ القُرْآنِ فِي سَبْعٍ، فَقَالَ زَيْدٌ : حَسَنٌ"، أمر طيب "وَلأَنْ أَقْرَأَهُ فِي نِصْفِ شَهْرٍ" أي: في نصف شهر، أسبوعين "أَوْ عَشْرٍ أَحَبُّ إِلَيَّ، وَسَلْنِي لِمَ ذَاكَ؟ لماذا أحب إليَّ؟ "قَالَ: فَإِنِّي أَسْأَلُكَ. قَالَ زَيْدٌ: لِكَيْ أَتَدَبَّرَهُ وَأَقِفَ عَلَيْهِ."؛ أي: أقف على معانيه وسره ودلالاته وإشاراته ورموزه وما فيه، رضي الله عنهم.
ولما قال حمزة لابن عباس: إني سريع القراءة، إني أقرأ القرآن في ثلاث، قال ابن عباس: لأن أقرأ سورة البقرة في ليلة أتدبرها وأرتلها أحب إليّ من أن أقرأ القرآن كله حدرًا كما تقول، وإن كُنتَ لا بد فاعلًا فاقرأ ما تسمعه أذنك ويفهمه قلبك.
سُئل مجاهد عن رجلين قرأ أحدهما البقرة والآخر قرأ البقرة وآل عمران في وقتٍ واحد، كان ركوعهما وسجودهما وجلوسهما سواء، أيهما أفضل؟ قال: الذي قرأ البقرة وحدها، وقرأ قوله تعالى: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ…) [الإسراء:106].
ولهذا يقول الجمهور: أن الترتيل أفضل، قال تعالى: (...وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) [المزمل:4]، وقالت السيدة عائشة في وصفه ﷺ: وكان يقرأ بسورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها.
وهكذا ذكرنا عن الإمام مالك قال: من الناس من إذا هَذَّ كان أخفّ عليه، وإذا رتل أخطأ، ومن الناس من لا يُحسن يَهُذْ. والناس في ذلك على ما يخف عليهم، وذلك واسع؛ القصد أنه لا يخرج الذي يَهُذْ إلى حد هجر تفهُّم المعاني، ولا يبالغ الذي يتأنى ويرتل إلى التمطيط والخروج عن قواعد التجويد. فربما يتكلف الإنسان ما يخالف طبعه ويشق عليه ويقطعه ذلك عن القراءة والإكثار منها.
جعلنا الله وإياكم من أهل القرآن وأهل العمل به، ورزقنا المتابعة لحبيبه، وفتح علينا في القرآن فتحًا مبينًا، وألَّف بيننا وبين الكلمة منه والحرف والآية والسورة ائتلافًا لا يفارقنا طرفة عين، يظهر سِرّه في القلوب والعقول والأرواح، يا مجيب الداعي ويا مغيث المستغيث، واعمُر بالقرآن قلوبنا وديارنا وقبورنا ومنازلنا ومساجدنا وشوارعنا وأسواقنا، واجعلنا من أهل القرآن عندك في لطفٍ وعافية، بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
01 جمادى الأول 1442