(536)
(228)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب القبلة، باب ما جاء في مسجد النبي ﷺ، وباب ما جاء في خروج النساء إلى المساجد.
فجر الأحد 28 ربيع الثاني 1442هـ.
باب مَا جَاءَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ (ﷺ)
529 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ رَبَاحٍ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أبِي عَبْدِ اللَّهِ سَلْمَانَ الأَغَرِّ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ".
530 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَوْ عَنْ أبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي، رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي".
531 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي بَكْرٍ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الْمَازِنِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي، رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ".باب مَا جَاءَ فِي خُرُوجِ النِّسَاءِ إِلَى الْمَسَاجِدِ
532 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "لاَ تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ".
533 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "إِذَا شَهِدَتْ إِحْدَاكُنَّ صَلاَةَ الْعِشَاءِ، فَلاَ تَمَسَّنَّ طِيباً".
534 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَاتِكَةَ بِنْتِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، امْرَأَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَنَّهَا كَانَتْ تَسْتَأْذِنُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَسْكُتُ، فَتَقُولُ: وَاللَّهِ لأَخْرُجَنَّ إِلاَّ أَنْ تَمْنَعَنِي، فَلاَ يَمْنَعُهَا.535 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ، أَنَّهَا قَالَتْ: لَوْ أَدْرَكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ لَمَنَعَهُنَّ الْمَسَاجِدَ، كَمَا مُنِعَهُ نِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ. قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: فَقُلْتُ لِعَمْرَةَ: أَوَمُنِعَ نِسَاءُ بَنِى إِسْرَائِيلَ الْمَسَاجِدَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ.
الحمد لله مُكرمنا بالشريعة وبيانها، على لسان من جمع له الحسن جميعه، سيدنا محمد بن عبد الله صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وأصحابه أهل المراتب الرفيعة، وعلى من تبِعهم بإحسان إلى يوم وضع الميزان، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين من عظّم الله لهم القدر والشأن، وعلى آلهم وأصحابهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
ويذكر لنا الإمام مالك -رضي الله تعالى عنه- الأحاديث المتعلقة بمسجد النبي ﷺ. يقول: "باب مَا جَاءَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ ﷺ" بالمدينة المنورة، ويروي لنا هذا الحديث "عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ" رضي الله تعالى عنه، وقد جاء الحديث في الصحيحين وغيرهما، يقول: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ". فتبيّن مكانة مسجد النبي عليه الصلاة والسلام، ومضاعفة الصلاة فيه إلى ألف، والصلاة سواءً كانت فرضًا أو نفلاً على نظر بين أهل العلم فيمن خصًصها بالفرض.
بل يمتدّ إلى بقية الحسنات والطاعات، كما يشهد له حديث: "رَمَضَانُ بِمَكَّةَ أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ رَمَضَانَ بِغَيْرِ مَكَّةَ"، فدلّ على أنه لا يقتصر مضاعفة الثواب على الفرض والنفل من الصلاة، بل ومن الصوم أيضًا وبقية الطاعات والعبادات، أنها تتضاعف، فمضاعفتها في المسجد النبوي إلى ألف صلاة فيما سواه باستثناء المسجد الحرام.
وذهب الأكثر من أهل العلم إلى أن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في المسجد النبوي الشريف بمائة، فهي تعدل مائة ألف، وفي المسجد النبوي بألف، وهو الذي جاء فيه الحديث أن الصلاة في مسجد بيت المقدس بخمسمائة صلاة.
ويُذكر عن الإمام مالك -رضي الله عنه- القول بتفضيل المدينة على مكة المكرمة. وعن جماعة من الصحابة منهم سيدنا عمر بن الخطاب وغيره ومنهم من بعده؛ من التابعين وتابع التابعين والجمهور، وما مال إليه الشافعي: أن مكة خير بقاع الأرض عند الله -جلّ جلاله- كما يشهد له الحديث عند الهجرة: "والله إنك لخير أرض الله، وأحبّ البلاد إلى الله، ولولا أنّي أُخرِجت منك ما خرجت". وهذا فيما يتعلق بعموم المدينة دون الموضع الذي ضمّ قبر المصطفى، أما الذي ضمّ أعضاء المصطفى وجسده الشريف، البقعة التي ضمّت أعضائه، فباتفاق الأولين والآخرين من القرون أنها أفضل البقاع وأحبّها إلى الله قطعًا، وصرّحوا بفضيلتها على العرش والكرسي وبقية الكائنات التي خلقها الله، لمكان أفضل الكائنات وسيد الكائنات وحبيب مكوّن الكائنات محمد ﷺ.
وكذلك من قال: بتفضيل المدينةِ على مكة، استثنى منها بقعة الكعبة المشرفة، يعني: بقية المدينة غير القبر الشريف ليست أفضل من الكعبة المشرفة، ولكن أفضل من بقية أجزاء مكة وعلى كل الأحوال فالفضل في الأماكن راجع إلى النص والتوقيف من الحق ورسوله. وهذا مؤدى اجتهاد أرباب المعرفة والعلم فنظروا في هذا فمنهم أيضًا من أوّل قوله: "خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ" فقال: أن مما سواه بيت المقدس. والصلاة في بيت المقدس بكم؟ بخمسمائة، فيصير الصلاة على هذا القول في المسجد النبوي، خير من ألف صلاة في بيت المقدس؛ يعني خمسمائة ألف؛ لأن الصلاة في بيت المقدس بخمسمائة، وخير من ألف صلاة يعني: خمسمائة ألف، فتُضاعف في المدينة بخمسمائة ألف. وعلى كلِّ الجمهور على غير هذه التأويلات، وأن القول الفصل ما قال:
المراد في كل واحد منها، أنها في غير المساجد الثلاثة، الصلاة في كل واحد منها؛ أي: في غير المساجد الثلاثة. يتضاعف؛ في مسجد مكة بمائة ألف، وفي المسجد النبوي بألف، وفي مسجد بيت المقدس بخمسمائة، باعتبار ما عدا المساجد الثلاثة من بقاع الأرض كلها.
وفي هذا تفضيل الأماكن بسِرٍّ من إرادة الحق -جلّ جلاله- واصطفاءه، حتى يُضاعف الثواب فيها، ولا دخل لهذا في كسب الإنسان ولا في اجتهاده، فالذي يصلي من أبناء مكة وقد وُلد بمكة المكرمة تُضاعف له هذه المضاعفات، وهو لم يرحل وهو في موطنه ومحله ولم يعمل شيء زائد على من يصلي في الأماكن الأخرى، ولكن تُضاعف صلاته لأجل المكان. ثم أنّ هذه المضاعفة الشريفة هل يدخل فيها بعد ذلك مضاعفات؟ الجماعة بسبع وعشرين؟ السواك ركعتين بسواك خير من سبعين ركعة بغير سواك؟
ونظر بعض أهل العلم إلى واسع فضل الله وأنه ممكن يدخل هذا في هذا، فتكون إذا أنت صليت صلاة الجماعة بسبع وعشرين، تضربها في الألف ترجع سبع وعشرين الف، فإذا كانت ركعتين تضربها في سبعين ركعة كذلك، وهكذا.. فإذا كانت في رمضان فالمضاعفة في رمضان إلى سبعين أو إلى ألف، على المختلف في الروايات وفضل الله أوسع لكل من عَمِل مخلصًا لوجهه، قاصدًا وجهه الكريم جلّ جلاله وتعالى في علاه. وقال تعالى: (..وَٱللَّهُ یُضَـٰعِفُ لِمَن یَشَاۤءُۚ..)[البقرة:261]. ولكن هذا على وجه العموم، كل من صلى في هذه الأماكن أي صلاة مقبولة فله بألف صلاة، وذلك أيضًا فيما جاء أن "في مسجدي هذا"، هل المراد الذي كان في حياته ﷺ فقط؟ أو مهما امتدّ ومهما اتسع؟ كما يروى في بعض الروايات.
بل النظر والقول هل المضاعفة في خصوص المسجد أو تعمّ بقية أجزاء المدينة أو أجزاء مكة المكرمة؟
فكذلك الأماكن الشريفة يتعرّض الإنسان فيها لمضاعفة الثواب إذا أطاع، ويتعرّض لمضاعفة العقاب إذا عصى -والعياذ بالله تبارك وتعالى- أعاذنا الله من ذلك. وبذلك كان ابن عباس يحب الخروج إلى الطائف، يقول: ما رأيت بقعة يؤاخذ الله فيها على الإرادة إلا هذه البقعة، (..وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) [الحج:25] ما قال ومن يلحد، إنما قال: ومن يُرد! (..وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ..) فآخذ على الإرادة في ذي البقعة، بقية الأماكن ما يؤاخذ بالإرادة إلا إذا صمّمت وعزمت أو فعلت، ولكن هذه تقع فيها المؤاخذة بمجرّد الإرادة، فكان يهابها. وللمجاورة فيها شأنٌ مهما كان بالأدبِ مع الله ومع بيته ومع حَرمه، وملازمة الإقبال عليه جلّ جلاله وتعالى في علاه.
يقول: "خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ"، وجاء في النصّ أيضًا أن صلاة في المسجد الحرام خيرٌ من مائة صلاة في مسجدي؛ مائة صلاة في المسجد النبوي، لأنها مائة ألف ترجع، وهي هناك بمائة ألف، فهذه النصوص رجّحت القول بأن الأمر على ظاهره في أن الصلاة في المسجد الحرام أعظم ثم في المسجد النبوي، ثم في مسجد بيت المقدس. والمضاعفة هذه ترجع إلى الثواب فقط، معلومٌ هذا، ما تتعدّى إلى الإجزاء بالاتفاق. فما يُمكن واحد ضيّع صلوات فرائض أو نوافل، جاء يقضيها في ذا المكان، نقول الثواب يتضاعف نعم، لكن القضاء ما تقضى الفريضة إلا بفريضة واحدة، ما يتأتى بمئة ألف، أما يضيّع خمسين صلاة ستين صلاة ويقول: سأقضي مرة واحدة في الحرم المكي أو في الحرم المدني!! نقول لا! لابد أن تقضي بعدد ما فات عليك، في أي بقعة كنت ولو كنت حيثما كنت، لابد أن تقضي العدد كامل، وإنما مضاعفة الثواب نعم، هو ثوابها كألف وثوابها كمئة ألف وفوقها والله يضاعف لمن يشاء. ولكن الإجزاء؛ لا تجزئ إلا عن عددٍ واحد فيما فات عليك من الصلاة. وهكذا علمنا أن القول بعموم ذلك للنوافل والفرائض ولبقية الطاعات والحسنات في تلك البقعة المكرّمة، ولهذا يقول ﷺ عن حرَمه الكريم: "من أحدث فيها حدثًا، أو آوى محدِثًا، فعليه لعنةُ اللهِ والملائكةِ والناسِ أجمعين، لا يَقبل اللهُ منه يومَ القيامةِ صرفًا ولا عدلًا". فهي أماكن يجب أن تُهاب.
وكما سمعتم أيضًا الإشارة في كلام الحبيب عمر بن حامد الجيلاني في سيدنا مالك وما أصبح إمام دار الهجرة إلا وهو معظّم للبقعة ومن فيها لأجل من فيها، ولم يكن يحب أن يلبس النعلين في المدينة المنورة، ولا أن يركب على دابّة، ويقول: أستحي من الله أن أطأ بحافر دابّتي ونعليّ تربةً تردّد فيها جبريل بالوحي على رسول الله، ومشى فيها رسول الله ﷺ. حتى بلغ من تعظيمه أنّه إذا أراد قضاء الحاجة خرج من حدود الحرم كله! ولكن كان هو في مجاهدته له أكلة في كل ثلاثة أيام، في الثلاثة الأيام يأكل أكلة واحدة! ولهذا ما يحتاج الخروج إلى قضاء الحاجة إلا قليلًا، ويخرج خارج حدود الحرم كله، وبهذا التعظيم والمحبة رفع الله قدره، ونفع الله بعلمه، وانتشر علمه في الآفاق عليه رضوان الله تبارك وتعالى.
ومن المعلوم تفضيل البلدتين الكريمتين بالاتفاق، هذه محل مولده ونشأته وبعثته، وهذه مهاجَره ومحل مرقده ووفاته وقبره ﷺ، فما يوجد بُقع في الأرض يدور الخلاف حول أيهما أفضل إلا حيث وُلد ونشأ وأوحيَ إليه، أو حيث هاجر ودُفن وتوفي ﷺ فقط! ما في بقعة ثانية تنازع هذه البقع، وما جرى الخلاف إلا ما بين هاتين البلدتين الكريمتين والمعظّمتين. زادَهم الله تكريمًا وتعظيمًا وتشريفًا، وحفظهما من جميع الآفات والعاهات، وخلّص بيت المقدس من أيدي المعتدين والظالمين والغاصبين. ومن أبعد ما يُروى من الأقوال أن المراد بالمضاعفة في المسجد الحرام: في الكعبة، هذا بعيد! وإنما يُطلق المسجد على ما حوالي الكعبة؛ البيت الحرام، وقيل: هو مسجد الجماعة، وقيل: جميع مكة، وقيل: جميع حدود الحرم كما سمعت.
ثم ذكر لنا حديث سيدنا أبي هريرة وأبي سعيد الخدري: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي، رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي". والحديث أيضًا في الصحيحين، رواهما البخاري ومسلم بعد الإمام مالك -عليه رضوان الله- وأخرجَاه في صحيحيهما. "مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي" ﷺ و بعد ذلك يروى: "ما بين قبري ومنبري"؛ والمراد: بيت سُكناه الذي سكن فيه، وقبره هو في نفس البيت الذي يسكن فيه ﷺ. وهل المراد أحد بيوته الذي دُفن فيه وهو البيت الذي جعله لسيدتنا عائشة -عليها رضوان الله تعالى- وبقية البيوت مفرّقة، أكثرها حواليه، لكن بعضها مفرّقة. المراد البيت الذي توفي فيه والذي قُبِرَ فيه ﷺ. " مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي، رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ" الذي هو أقرب البيوت إلى المنبر الشريف فهذا بالاتفاق، هذا أقرب البيوت ويؤيده رواية: "قبري" اطلاع الله له أنه سيُقبر في هذا المكان ﷺ، فعبّر ببيتي وعبّر بقبري صلوات ربي وسلامه عليه.
وروى عنه سيدنا أبو بكر أنه: ما مات نبي إلا قُبِر حيث قبض الله روحه. قبره في ذاك المكان، فقَبروه حيث قال: "بَلِ الرَّفيقَ الأعلى بَلِ الرَّفيقَ الأعلى"، واختار النقلة، وقُبض روحه الكريمة في ذلك المكان ﷺ، فقَبروه فيه. و ذرعوا ما بين بيته ومنبره إلى نحو ثلاث وخمسين ذراع أو أربع وخمسين وسدس، من عند المنبر الشريف؛ محل المنبر الشريف إلى عند القبر الشريف. "رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ" فله معنى منه ما يُدرك ومنه ما لا يدرك. والبقعة كما جاء نفسها تُنقل إلى الجنة في يوم القيامة، كما جاء ووَرَد عن المساجد كلها. فأما هذه البقعة فهي من أشرف البقاع وأعظمها، حتى قال بعض أهل العلم: لو أن حالفًا حَلَف أنه في الجنة أو في روضة من رياض الجنة وهو في تلك الروضة لم نستطع تحنيثه بعد قول النبي ﷺ! كيف يحنث والنبي قال: "مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي، رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ". وهكذا كما عدّ ﷺ حِلَقِ الذكر رياض الجنة، وقال: "الجنَّةُ تحتَ ظلالِ السُّيوفِ"، وقال: "الجنَّةُ تحْتَ أقدامِ الأمَّهاتِ". فتكون معاني ممتدة إلى الوصول إلى الجنة وتحصيلها، والبقعة هذه متميزة فهي من البقاع التي يرفعها الله في القيامة فيُدخلها إلى جنّته فتكون من رياض الجنة. كما خُيّر الجذع أن يكون نخلةً في الدنيا أو يُغرس في الجنة، فاختار أن يُغرس في الجنة، والجذع والروضة لن تُغرسا في أول الجنة ولا الثانية ولا الثالثة… ولن تكون إلا مع صاحبها في الفردوس الأعلى.
يقول: "وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي" وفيه صِلة بين المنبر الشريف والحوض الكريم معنوية في الدنيا، ثم يُؤتى بمنبره الذي كان يخطب عليه فيوضع على حوضه في يوم القيامة ﷺ، فينظر إلى أمّته ويتفقّدهم عليه الصلاة والسلام، كما أنه يذهب و يجيء ويسقي بيده ويأمر -كما صحّ في الحديث- ابن عمه علي بن أبي طالب أن يسقي عمومًا من المؤمنين، ويسقيهم بيده عليه وعلى آله وصحبه صلوات الله وتسليماته. يقول:" مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي، رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ". وفي الحديث الثاني الذي رواه عن عبد الله بن زيد المازني أو بمعنى ما تقدّم وهو أيضًا في الصحيحين.
ثم ختم الكلام عن المساجد بما يتعلّق بالنساء وحضورهنّ المساجد، وأن الأصل فيه عدم المنع ما لم تكن فتنة وما لم يخرج عن الحدود؛ وهذا هو الأصل القائم الباقي. "لاَ تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ" فإذا ترتّب على ذلك شيء من المحظور فالأمر كما أشارت السيدة عائشة وهي لم تُجزم بتحريمٍ، وإنما قالت: أرى لو أن رسول الله رأى هذا لمنعهنّ المساجد. وماذا رأت عائشة من النساء في ذاك الوقت؟ وإلى أي حدّ أُثّر على المرأة بشيءٍ من الأفكار في ذلك الوقت أن تخرج عن هيبة خطاب الحق -جلّ جلاله- وتُدرك أن خيرها وشرفها الأكبر ظاهرًا وباطنًا دنيا وآخرة في امتثالها لأمر الله الذي فرض عليها الحجاب وشرع لها الآداب، ما مقدار هذا فيما حدث للنساء فيما بعد عهد الصحابة والتابعين إلى زماننا الذي نشاهد فيه أن يُدعى النساء إلى أن يقتدين بمن فَسَقت، وبمن فَجَرت، وبمن تعدّت الحدود، ويمدحون من تعدّت حدود الأدب والحياء وما يسمّونه من عادات البلدان وما إليها، والعادات عادات ولكن الواجبات واجبات، والطاعات طاعات، ليست من مجرّد العادات في شيء، والخطاب الرباني خطاب فوق الكل، ولكن للتدليس والتلبيس واللعب على النفوس فيدخلون من هذه الأبواب كل مدخل، وعلى كل الأحوال فهناك الضوابط كما أشار الحديث: "لاَ تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ"، ثم يقول: في الحديث الآخر:"إِذَا شَهِدَتْ إِحْدَاكُنَّ صَلاَةَ الْعِشَاءِ، فَلاَ تَمَسَّنَّ طِيبًا" فلا تمسّن طيبًا، ما هو تجيء على أي حالة، ما هو تجيء مزيّنة، ما هو تجيء مزخرفة، ما هو تجي مطيّبة. "فَلاَ تَمَسَّنَّ طِيبًا" حتى لا يُشمّ منها أي رائحة تبعث السوء، هذا هو المنهاج، وهذه هي الضوابط. كما سأل بعض الأحباب والإخوان يقول:
الآن ابتُلِيَ المسلمون في كثير من الأماكن ما كانوا يعهدون فيها اختلاط النساء بالرجال فصار الآن قائم الأمر فيها فما هي ضوابط الاختلاط؟
الضوابط ما جاء في السُنّة، ما جاء في الحديث الشريف.
"ما تركتُ بعدي فتنةً أَضَرَّ على الرجالِ من النساءِ"، ولا أضرّ على النساء من الرجال الفَسَقة الذين في قلوبهم المرض، ومنهم الذين يحثّون المرأة على التبرّج، هؤلاء أخطر فتنة على المرأة، ومنهم الذين يستدرجونها، ويستميلون عاطفتها، هؤلاء أخبث الخلق وأضرّهم على المرأة وأشدّهم فتنة على المرأة، وليس على الرجال أشدّ فتنة من النساء المتبرّجات وقليلات الحياء والمائلات المميلات اللاتي رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، و"خير متاع الرجل المرأة الصالحة"، لا أحسن للرجل من المرأة الصالحة التقية العفيفة النظيفة أحسن ما يكون للرجال. وشِرارهنّ شر ما يكون، أخطر على الرجال. كذلك الرجال خيارهم خير من يكون للنساء، يقول ﷺ: "خيرُكُم خَيرُكُم لأَهْلِهِ وأَنا خيرُكُم لأَهْلي". وشِرارهم أضرّ ما يكون على النساء، هم الذين يُلقون إليهم الأفكار، و يستثيرون منهن التهجّم على منهاج الرب والخروج عن السُنّة المطهّرة، واعتقاد الشرف والفضل بإظهار زينتها وتبرّجها وتكشّفها، وهم الذين بعد ذلك يصطادونها ويستعملون ألسنتهم وأيديهم وعيونهم وإشاراتهم وما إلى ذلك؛ فيُوقعونها في مفاسد وبلايا صعب الخروج منها، بل قد يُنزع بها الإيمان من أصله والعياذ بالله تبارك وتعالى. فالله يحفظ رجال المسلمين، ويحفظ نساء المسلمين من الآفات والعاهات وموجبات الشر ظاهرًا وباطنًا إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
هذا ضابط من الضوابط الذي ذكرها ﷺ " فَلاَ تَمَسَّنَّ طِيباً". بل ونذكر أيضا في الحديث: إذا استعطرت المرأة فمرت على الرجال ليجدوا ريحها فهي زانية؛ لأنها تثير بذلك شرًّا وضرًّا في مجتمع لا يحتاج إلى إثارة الشر ولا إثارة الضر، بل يحتاج إلى تهدئة ويحتاج إلى تسكين لنفوس. وهكذا امرأة سيدنا عمر ابن الخطاب تستأذن سيدنا عمر للخروج إلى المسجد لحضور الصلاة كان يسكت، تقول له: "وَاللَّهِ لأَخْرُجَنَّ إِلاَّ أَنْ تَمْنَعَنِي" إذا جاء منع منك صريح ممنوع، خلاص ما يجوز لي أخرج إلا بإذن زوجي. ولما كان الحال في وقت سيدنا عمر يختلف أحيانًا ما كان يمنعها، كان يسكت ساكت، وسكوته قالوا كان يرجّح أنه يودّ لو أنها تكتفي بالصلاة في البيت، ولكن ما رأى سبيل إلى التحريم والمنع في الحال الذي كانوا فيه، وكان فيه الصحابة وخصوصًا أنهن في حياته ﷺ صلّين خلف الرجال. يقول: "إِلاَّ أَنْ تَمْنَعَنِي، فَلاَ يَمْنَعُهَا".
ثم ذكر حديث السيدة عائشة: "لَوْ أَدْرَكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ لَمَنَعَهُنَّ الْمَسَاجِدَ، كَمَا مُنِعَهُ نِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ" يُستفاد من هذا الحديث:
وأما الوصول إلى التحريم فكما قالوا عن كلام السيدة عائشة: أن الله قد أطلع نبيه على ما سيكون من أمّته صغيرًا وكبيرًا، ولو احتاجت الأمة إلى التصريح بالمنع لذكر ذلك عليه الصلاة والسلام، فإنه مدرك ما سيكون بعده، قيلاً وكثيرًا، وقد عرض الله عليه أعمال أمته ﷺ، وما سيعملون بعده، ولكن مع ذلك تحمل لنا السيدة عائشة أن المعنى: أنه يجب أن لا نتجاوز الحدود وأن نحافظ على الضوابط وأن نحذر من الاسترسال والاستخفاف بالقيم، فإن ذلك يؤدي إلى هدم لحقائق الدين، ولصلاح الدنيا والآخرة، والله أعلم.
ما شاء الله، كلام نفيس له صفة التقديس؛ لأن المولى سبحانه وتعالى يُجري على ألسنة المخلصين، ما يوافق مراده ومراد حبيبه ﷺ. وهذه الأحاديث التي سمعناها، ورواها مالك ورواها غيره كما سمعنا في كلام الحبيب عمر، حُقّقت من حيث الإسناد ومن حيث المتن، ونُوّعت الأحكام وأجريت لها القوانين الدقيقة، التي لا يُمكن أن يكون أي كلامٍ لأي متبوع في هذا الكون قد نال عُشرَ عشرِ ما كان لحديث النبي محمد ﷺ، من التعظيم عند الإلقاء، ومن التعظيم عند التلقّي، ومن التحرير والتحقيق في دلالات الألفاظ كما سمعنا. سمعنا في دلالات الألفاظ ما يمكن أن يكون من احتمالاتٍ، يمكن أن يكون دلالة الملفوظ النبوي دالًّا عليها، وإذا رجعنا إلى مكتوبات أولئك المحرّرين و المحقّقين، لمَا يمكن لأحدٍ أن يُضيف إليها جديدًا قط؛ لأنهم قد استوعبوا ولأنهم قد أجهدوا أنفسهم رغبةً في خدمة دين المولى سبحانه وتعالى، المتمثل في قال الله، قال رسول الله، فعل رسول الله، أقر رسول الله… وأضافوا إلى ذلك التعظيم الجمّ -الكثير-.
هذا مالك كان لا يحدّث حديث إلا بعد أن يغتسل وبعد أن يلبس أحسن ثيابه وبعد أن يتطيّب، بل كان أحدهم يأتي إليه ويطلب منه أن يسأله مسألة، فيقول إن كان من مسألة الفقه أجبتك عليها؛ لأن الفقه هو فهمٌ لغير معصوم، إنما هو دلالات النصوص المستخرجة منها هذه الأحكام والمتعبَّد بها، أجبتك، وإن كنت تسأل عن شيء يتعلق بملفوظ رسول الله وحديث رسول الله انتظر، حتى يكون له الهيئة التي يعتادها ويتعبّد المولى -سبحانه وتعالى- بها عندما يحدّث بحديث النبي محمد ﷺ.
المسجد النبوي الذي كان له ذلك التشريف العظيم بالسيّد الكريم ﷺ. كان أحد مشايخنا يُسأل عن شدّ الرحل للقبر الشريف أو للمسجد؟ قال: وهل كان المسجد إلا مقبرةّ! ولكنه تنوّر، ولكنه تعظّم بأن النبي ﷺ أُضيف إليه ذلك المسجد، فقال: "ومسجدي" والمساجد لله كما هو النص القران، لكن هذه الخصوصية لرسول الله ﷺ والمكانة العظمى لمقامه الشريف ﷺ نُسِبَ المسجد إليه فكان المسجد متفرّدًا. وكانت تلك البقعة المباركة التي ضمّت جسده الشريف، فكما نقل ابن عقيل الحنبلي -رحمة الله- قوله الذي تداوله الناس ودوّنوه ونشروه، قال: أما البقعة التي ضمّت جسد رسول الله، فلا والله لا العرش ولا الكرسي ولا السماء ولا الأرض أفضل منها على الاطلاق! ما يتعلّق بتحديد حدود المسجد ونيل المثوبة المترتبة على الصلاة عليه سمعنا في كلام الحبيب عمر هذا التفصيل الذي حُرّر والذي نُقـل وشملته هذه الدواوين الفقيه من قِبل أئمة الإسلام، الذين عظّموا ما عظّم المولى سبحانه وتعالى. والفضائل في مسجد النبيّ تتعلق بالمسجد على التفصيل الذي مرّ معنا والتحرير الذي حرّره العلماء من حيث شموله لكل ما ينسب إلى ذلك المسجد، وكما قال النووي في المجموع، وهو بحث هذه المسائل، قال: ومسجدي ولو وصل إلى صنعاء.
أما المسجد الحرام فالمعتمد أن المضاعفة تكون في حدود الحرم، وليس في حدود مسجد الجماعة، وليس في حدود مكة، إنما تصل إلى الأعلام الذي حدّ بها إبراهيم عليه السلام حدود الحرم. والدليل على ذلك أن النبي ﷺ لا يقرّر لأمّتهِ ولا يختار لأمّته إلا الأفضل، فعندما كان في حجّة الوداع كان يصلي في الأبطح بالصحابة، والأبطح أين هو؟ الأبطح بدايته من أمام مقبرة الحجون التي فيها أم المؤمنين السيدة خديجة رضي الله تعالى عنها، فلو كان لا يترتّب الثواب إلا على مسجد الجماعة الذي يحفّ بالكعبة المشرفة لذهب ﷺ وأمر أمّته أن يصلوا ذاك؛ لأنه لا يختار لهم إلا الأفضل والأحسن. فدلّ ذلك على أن الفضل يعمّها كلها.
مهما بلغ حدسك، ومهما بلغ تصوّرك، لما يمكن أن يخطر على ذهنك من تقرير او تفريعٍ لهذه المسائل تجدها مخدومة، تجدها محررة، تجدها منقحة، تجدها على هذا الوصف الذي سمعناه ونثره بيننا الحبيب عمر، متّع الله بحياته وأدام به النفع. فما أحسن ما أنتم عليه من هذا الحال وما أبرك الأيام والساعات والليالي والأوقات التي تبدأ بمثل هذا الصباح المبارك، كثير وأكثر الناس نائمون، وأكثرهم في الغيّ سائرون، أما أنتم بهذه الدعوة المباركة، في هذه الدار المباركة، وفي هذه البلدة المباركة، شغلتم أوقاتكم بأحسن ما يشتغل به الحريصين على أن يملأوا ساعاتهم وأوقاتهم وخزائنها بما يكون لهم بها انسحاب هذه السعادة عليهم، وليس عليهم وحدهم بل على أولادهم واولاد أولادهم، (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ..) [الطور:21].
بارك الله لكم، زادكم فضلًا، وأدام المتعة في عِز ورفعة، بهذا السيد الكريم العظيم الحبيب عمر أدام الله به النفع، وأمدّه بالقوة والصحة والعافية، وبارك في بَنِيه، وبارك في كتاباته، وبارك في آثاره، وجعلها إن شاء الله في استمرار دائمًا مستمر، وأمدّنا إن شاء الله تعالى بميراث النبي ﷺ، وجعل لنا منه الحظ الوافر إنه على ما يشاء قدير، والعفو منكم. بسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي ﷺ.
28 ربيع الثاني 1442