شرح الموطأ - 1- كتاب وقوت الصلاة: باب وُقُوتِ الصلاة

شرح الموطأ - 1- باب وُقُوتِ الصلاة، من حديث: (أنَّ عمر بن عبدالعزيز أخَّرَ الصلاةَ يوماً..)
للاستماع إلى الدرس

شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب وقوت الصلاة.

 فجر الأربعاء 25 شوال 1441 هـ.

1- بَاب وُقُوتِ الصَّلاَة

1 - قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يَحْيَى اللَّيْثِيُّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ : أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَخَّرَ الصَّلاَةَ يَوْماً، فَدَخَلَ عَلَيْهِ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، فَأَخْبَرَهُ : أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ أَخَّرَ الصَّلاَةَ يَوْماً وَهُوَ بِالْكُوفَةِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيُّ فَقَالَ : مَا هَذَا يَا مُغِيرَةُ أَلَيْسَ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ فَصَلَّى، فَصَلَّى رَسُولُ الله ﷺ، ثُمَّ صَلَّى، فَصَلَّى رَسُولُ الله ﷺ، ثُمَّ صَلَّى، فَصَلَّى رَسُولُ الله ﷺ، ثُمَّ صَلَّى، فَصَلَّى رَسُولُ الله ﷺ، ثُمَّ صَلَّى، فَصَلَّى رَسُولُ الله ﷺ، ثُمَّ قَالَ : "بِهَذَا أُمِرْتُ". فَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ : اعْلَمْ مَا تُحَدِّثُ بِهِ يَا عُرْوَةُ ، أَوَ إِنَّ جِبْرِيلَ هُوَ الَّذِي أَقَامَ لِرَسُولِ الله ﷺ وَقْتَ الصَّلاَةِ ؟ قَالَ عُرْوَةُ: كَذَلِكَ كَانَ بَشِيرُ بْنُ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيُّ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ.


2 - قَالَ عُرْوَةُ: وَلَقَدْ حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ زَوْجُ النَّبِيِّ ﷺ: أَنَّ رَسُولَ الله ﷺ كَانَ يُصَلِّي الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ فِي حُجْرَتِهَا قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ .

3 - وَحَدَّثَنِي يَحْيَى ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّهُ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ الله ﷺ فَسَأَلَهُ عَنْ وَقْتِ صَلاَةِ الصُّبْحِ، قَالَ : فَسَكَتَ عَنْهُ رَسُولُ الله ﷺ، حَتَّى إِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ، صَلَّى الصُّبْحَ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ, ثُمَّ صَلَّى الصُّبْحَ مِنَ الْغَدِ بَعْدَ أَنْ أَسْفَرَ، ثُمَّ قَالَ: "أَيْنَ السَّائِلُ عَنْ وَقْتِ الصَّلاَةِ ؟" قَالَ : هَا أَنَا ذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ : "مَا بَيْنَ هَذَيْنِ وَقْتٌ".

4 - وَحَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ، أَنَّهَا قَالَتْ: إِنْ كَانَ رَسُولُ الله ﷺ لَيُصَلِّي الصُّبْحَ، فَيَنْصَرِفُ النِّسَاءُ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ مَا يُعْرَفْنَ مِنَ الْغَلَسِ.

 

نص الدرس مكتوب:

الحمد لله  مُكرمنا بشريعته الغرّاء، وبيانها على لسان خير الورى سيدنا محمد صلّى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله من حبوا به طُهرا، وعلى أصحابه من رفع الله لهم بصحبته قدرا، وعلى من تبعهم بإحسانٍ بالصدق والإخلاص، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء و المرسلين سادة المقربين أخصّ الخواص، وعلى آلهم وأصحابهم وتابعيهم، وعلى ملائكة الله المقربين، وجميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

ونبتدئ ُقِراءةَ مُوطأ الإمام مالكٍ عليهِ رضوانُ الله تَبارك وَ تعالى، إمامِ دارِ الهجرةِ، مُفتي الحرمين الشَّريفين، سَيدنَا مالك بن أنس بِنْ مالك بِنْ أبي عامر الأصْبحيِّ عَليه ِرِضوانُ اللهِ تباركَ تعالى، الذي قَال عَنهُ سَيدنا الإمام الشَّافعيّ: إذا ذُكِرَ الحديث فمالكٌ النَّجمُ، وإذا ذُكرَ العِلمُ أو العلماء فَمالكٌَ النَّجمُ الثاقبْ، وما أَحدٌ أَمَنُّ عليَّ في العِلمِ مِنْ مالك، وقدْ جَعلتهُ حُجةً بيني وبينَ اللهِ تعالى، عليهِم رضوان الله.

كان صاحب الأدب الذي لا يحتاج إلى دخول الخلاء إلا في كل ثلاثة أيام مرة، ويقول: إني أستحي من الله من كثرة تردّدي في الخلاء. وكان يخرج لأجل الخلاء من حدود حرم المدينة تعظيمًا وتأدّبًا مع الجناب الشريف صلى الله على سيدنا محمد وعلى أهل الاتّباع على هذا الوصف المنيف، عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.

وكان إذا جلسَ للفقهِ ونَحْوهِ، جلس بأيِّ كيفيةٍ كان عليها، فإذا أرادَ الحديثَ، اغتسل وَتَطيِّبَ ولبِسَ أحسنَ ثيابه، ثُمَّ جلسَ على المنصةِ فكأنَ على رأسهِ وَرُؤوس من حَواليهِ الطَّير، ويلقي أحاديث المصطفى ﷺ، الذي اشتُهر عنهُ أنَّهُ لمْ يتحرك مِنْ أثر لسعِ عقربٍ وهو يُحدِّث.. لسعَهُ سِتةَ عشر لسعةً وكان لونه يتغير ولمْ يقطع الحديث حتى انتهى من مجلس الحديثِ، ثمّ قاموا فوجدوا العقرب قدْ لسعه ستةَ عشر لسعةً! قالوا له: ما تتكلم من أول ما يلسعك؟ قال: كنتُ في حديثِ رسول الله فكَرِهتُ أن أقطعه! عليهِ رضوانُ اللهِ.

وبذلك تعلمْ أنَّ الحق تعالى إنَّما ينفعُ بالأصْفياءِ الصادقين المخلِصين من عبادهِ المتأدبين الخاضعين الخاشعين وكم في زمن مالكٍ من علماءَ، بل لمَّا ابتدأ الموطأَ وأخذَ بِضعةَ عشرَ سنةً أو أكثر بل نحو الثلاثين وهو يكتب الموطأ -عليه الرضوان-، وكتبوا كثيرًا على قاعدةِ جمع الأقوال والأحاديث على ترتيب مالك، ولكن قالوا كأنَّ كل ما كتبوهُ رُمي في الآبار وبقي موطأ مالك عليه الرضوان؛ لأن شأن الصّدق والإخلاص كان مع الرحمن جلَّ جلالَهُ، وما أُريد بهِ وجه الله لا ما أريد به غيره. ولهذا كان يقول الإمام أحمد بن حسن العطاس: إنَّ بعضَ الناس يُؤَلِف للجمع وبعض الناس يُؤلف للنفعِ، ما قَصدهمْ مجرد جمع ولا أن يُذكَروا ولا أن يُقال ألّف ولكن لنفع عبادِ الله تبارك وتعالى. من عَلِم الله من نيتهِ ذلك.. نفعَ بكتابهِ، ونفعَ بأثرهِ، ونفعَ بما كان عنده هكذا.

فكان من أوائل ما كُتبَ في الحديث الشَّريف حتى قال سيدنا الإمام الشَّافعي: إنه ما تحت أَدِيم السماءِ أصحَ من مَوطأ مالك، وقالَ: ما مِنْ كتابٍ أقربَ الى القرآنِ من كتابِ مالك، عليه رضوان الله تعالى. ومعلومٌ أنَّ ذلك قبلَ ظهورِ سيدنا أحمد بِنْ حنبل وقَبل ظهور الإمام البخاريّ وقبلَ ظهور الإمام مسلم وقبلَ مجيء هؤلاءِ المحدِّثين مِنْ بعد هؤلاء، والفضل عائدٌ لأُولئك المتقدمين، عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.

حتى قال الإمام البخاري: إن أصح الأسانيد: مالك عن نافعٍ عن ابن عمر. وهكذا مضى في أدبهِ وصدقهِ مع الله وخضوعهِ وخشوعهِ -عليه الرّحمة والرضوان- واتساعهِ في العلومِ وإنزالها  منزِلَتها و بذلك الوصف الذي تلقاهُ وتربّى عليهِ من المحبةِ والخضوعِ والخشوع والأدب وكان يقول: أستحي أن أمشي بنعليَّ أو أطأ بحافرِ دابتي تُربةً تَرَدَّدَ فيها جبريلُ بالوحي على رسول الله ﷺ، رضي الله تعالى عنه.

وهكذا جاءَ في الموطأ افتتاحه بكتابِ: "وقُوتِ الصلاة"؛ الوقوتُ: جمعُ وقتٍ، والوقُوتُ: جمعُ كثرة، بخلافِ الأوقات: جمعُ قلة. ولكن وقوت جمعُ كثرة مع أن الصَّلوات إنما هي خمس، فَلِمَ جمعها بجمعِ الكثرةِ وقالَ وقوتُ الصلاة؟

  • أولاً: أنِّ جمع القلةِ وجمع الكثرةِ يتفقانِ في البداية أنَّ أقلُّها ثلاثة، إنّما يختلفان بعدَ ذلك في النهاية وقد يُستعمل هذا موضعُ هذا، وهذا موضع هذا.
  • ثانيًا: إنهُ يُراعَى في اختيارِ لَفظ جَمع الكَثرة، أنَّها تتجدد كُلَ يوم هذهِ الأوقات الخمسة. فصارتْ كم من أوقات، فصارت لذلك كثيرة كما يقولون شموسٌ وأقمارٌ؛ لأنَّهُ يَتَجدَدْ طُلوعَها، وكم شُموس معنا؟ هِي شمس واحدة لكِن كل يوم تَطْلع وتغيب، كُلَ يوم تطلع وتغيب. و لأنًّ أيضًا كُل وقتٍ من أوقاتِ هذهِ الصَّلوات يَتفَرّعْ، فَعِندَهمْ وقتُ اختيارٍ، ووقتِ فضيلةٍ، ووقتُ عذرٍ، ووقتُ ضرورة. فتكاثرت بسبب ذلِك، فصارتْ فيها معنى مِنَ الكثرةِ إلى غيِر ذَلك مِنَ الوجوه في اختياره. 

ثم اختياره الابتداء بأوقات الصلاة، لأن الوجوب لهذه الفريضة العظيمة التي هي باتّفاقِ أعظمُ فرائضِ وشرائعِ الإسلامِ العمليَّة، الصلاة، لا تجب إلا بوقتها مؤقّتة محدّدة، فعند دخول الوقت يلزم الطهارة، وما يتعلّق بالصلاة من شؤونها وأحوالها، فاختار ابتدائها بوقوت الصلاة وأوقات الصلاة -عليه رضوان الله تبارك وتعالى- لأنها فرضٌ مؤقّتٌ، وكل ما يبتدأ به من كتاب الطهارة، أو خصوص كتاب الوضوء أو غير ذلك في كتب الفقه يندرج وجوبه بعد دخول الوقت؛ فالأصل فيه الوقت، والمقصود هو الصلاة، ولكن تأتي شروطها وما يلزم لها من باب الضرورة لها، فكان مِنْ وَفرةِ فقهِهِ وعَقلِهِ اختياره الابتداء بالوقُوت؛ "كتاب وقُوت الصَّلاة" وَجاءَ في نُسخةٍ وروايةٍ: أوقاتُ الصَّلاةِ.

 

باب وُقوت الصَّلاة

 

 يَقولُ "يَحيى" راوي المُوَطْأ هذا، "يحيى اللَيّثي"- وعلى روايتهِ كانَ أكثرَ شُرّاحِ مُوَطأ الإمام مالك- يَروي: "عَنْ سِيدَنا مالك بِنْ أنس عليهِ رحمةُ الله تباركَ وتعالى، عَنْ بْنِ شِهابٍ محمدٍ الزُّهري"، هذا ابْنِ شِهاب ٍالزُّهري، هُو مَن أدْرك بعض الصَّحْبِ الأكْرَمين، وَروى عَنهُ الإمام مالك في المُوطْأ مِئةً وثلاثينَ حديثًا مِن الأحاديثِ المرفوعةِ. "عَن ابْنِ شهابٍ أنَّ عُمرَ بْنِ عبدِ العزيز أميرِ المؤمنين"، الخليفة الراشد السادس، فقد قام بالخلافة الراشدة سيدنا أبو بكر، ثم سيدنا عمر، ثم سيدنا عثمان، ثم سيدنا علي، ثم سيدنا الحسن بن علي، ثم سيدنا عمر بن عبد العزيز. فكان الخليفة الراشد السادس -عليه رحمة الله تبارك وتعالى-. تميز عن من قبله من خلفاء قومه بني أمية، وعن من بعده، فلم يبرز مثله ولم يُوصف بالخلافة الراشدة إلا هو -عليه الرحمة- مع إنّ خلافته لم تتجاوز السنتين والنصف، إلا أنّه كان أميرًا في المدينة، ثم كان كالوزير للخليفة، ثم صار الخليفة عليهِ رحمةُ الله. فسار بالسيرة المباركة النظيفة العالية الشريفة، وذكّر الناس بوقوت الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم. وأغنى عدله الناس، حتى طِيفَ بالذهب في عدد من أقطار المسلمين فلم يوجد من يقبله! فقد أغنى عدله الناس، عليه رحمة الله تبارك وتعالى .

"عن عُمرَ أنَّه أخّرَ الصَّلاةَ"، والمرادُ: صلاة العصرِ "يومًا"، أيامَ كان أميرًا بالمدينةِ، وهُو في المدينةِ المنورة. فجاءَ في بعضِ الرِوايات، وكان على منبرهِ، إشارةً إلى أنَّها سببُ تأخيرهِ الصَّلاة بعدَ الأذانِ اشتِغَالهُ ببعضِ أمورِ مَصالِح المسلمين، فَهُو على المنبرِ يُتابعُ بعضَ الشؤون، فتأخرَ أي عن الوقتِ الذي يُعتادُ عمرُ بْنُ عبد العزيز أن يُصليَّ فيه. وَهُو غير الوقتِ الذي اشتهرَ عن الأمراءِ من بَني قومهِ، فإنَّهم بَرَزَ فيهم تأخيرُ الصَّلواتِ، عما كان يُعتادُ في عَهدِ الخلفاءِ الرَّاشدين، ولمْ يَكنْ ذلك من شأنِه، ولهذا لمّا أخَّر الصَّلاةَ ذلك اليوم على غيرِ عادتهِ، "دَخلَ عليهِ سيدُنا عُروةَ بْنُ الزبير فأَخْبرهُ أَنَّ المُغيرةَ بْنَ شُعبة أخَّرَ الصَّلاةَ يوماً وَهُو بالكوفةِ" يعني: أميراً في الكوفةِ "فَدخلَ عَليهِ أبو مسعودٍ الأنصاريّ" رضي الله عنه، وهو بدريٌّ من الصَّحابةِ الأكرمين.

قالَ: "ما هذا يا مُغيرةُ أليسَ قدْ عَلِمتَ أنَّ جبريلَ نَزلَ فَصَلَّى فَصَلَّى رَسولُ الله ﷺ، ثُمَّ صلَّى فَصَلَّى رَسولُ الله ﷺ، ثُمَّ صَلَّى فصَلَّى رَسولُ الله ﷺ، ثُمَّ صَلَّى فَصَلّى رَسول ُالله ﷺ، ثُمَّ صَلَّى فَصلّى رسول الله ﷺ، خمسَ مراتٍ، ثُمَّ قَالَ: "بِهذا أُمِرْت" . قَالَ عُمر بنُ عبد العزيزِ: "إعلمْ ما تُحَدِّثْ"، أي: اسْتَبنْ و تَيَقَّنْ ما تَتَحدثُ بهِ يا عُروة، أي: لم يكن في ذهنِ سَيدنا عُمر بن عبدِ العزيز أنَّ الذي حَدْدَّ الأوقات لرسولِ الله ﷺ، جبريل بِنفسهِ اعتناءً بشأنِّها. وَلمْ يكنْ يَجهلُ أوقاتَ الصَّلواتِ، ولكنْ كانَ يرى أنَّ ذلك متلقٍ عن الخلفاءِ عن رسولِ الله ﷺ، ولَمْ يكنْ يَعلمُ أنَّ جِبريلَ هُو الذي حَدْدَّ المواقيتَ نَفسهُ لسيدنا المصطفى ﷺ. لذلك "قالَ: اعلم ما تُحدثُ بهِ يا عروةُ، أَوَ أنَّ جِبريلَ هُو الذي أقامَ لرسول الله ﷺ وَقتَ الصَّلاةَ"، فلما قَالَ ذلك مُسْتَبيناً منهُ إعجابهُ بأنَّ الأمرَ عندهُ واضح، وأنَّهُ لهُ فِيه سَند وتلقي، وقالَ لهُ كذلك "كانَ بشيرُ بْنَ أبي مسعود الأنصاريّ يُحَدثُ عن أبيهِ أبي مَسعودٍ الأَنصاريُّ"، يعني أنا سَمعتْ أبا مسعودٍ. 

كَما جَاءَ مُصرِحًا بالسماعِ في روايةٍ -في غيرِ المُوطْأ- أنَّه سَمِعَ بشيرُ بِن أبي مَسعود يُحَدِثُ عن أبيه أبي مَسعودٍ و أَتْبَعهُ بحديثٍ أَخَذهُ عن أُمِّ المؤمنينَ عائشةَ، و "قَالَ عروةُ: ولقد حَدَثتني عائشةُ زوجُ النبي ﷺ، أنَّ رسول الله ﷺ كانَ يُصلّي العصرَ"، لأنَّ الكلامَ في العصرِ وسَيدنا عُمر في وقتِ العَصرِ. "والشَّمسُ في حُجرتِها قبل أن تظهرَ"، أي: ترَتفع؛ قَبلَ أنْ ترتفعَ وتغيب، قال: (فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ) [الكهف:97]، أي: يَعْلوا عليهِ و قَبلَ أنْ تَعلو وتَرتفع (فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا) [الكهف:97]، "لا تزالُ طائِفةٌ مِنْ أُمِّتي ظاهرينَ على الحقِّ"، عاليينَ ومرتفعين من الحقِّ "لا يَضُرَهم من ناوأهم" . "قَبلَ أنْ تظهرَ"؛ أي: قبلَ أنْ ترتفعَ وتغيبَ الشَّمسُ وقبل أن تظهرَ، ففيهِ أنَّه كثيرًا ما يُصلّي في أولِ وقتِ العصرِ عليهِ الصَّلاة والسَّلام. 

وفي ذلك الإشارةُ إلى أنَّ أصلَ توقيت الصَّلوات كانَ بتعليمِ جِبريلَ لرسولِ الله  بِأمرِ الحقِّ، وذلك أولَ يومٍ من أيامِ مِعْراجهِ عليهِ الصَّلاة والسَّلام، في صبيحةِ يومِ مِعْراجِهِ بل عند زَوالِ الشَّمسِ في صبيحةِ يومِ المعراج، جَاءَهُ سَيدنا جبريل وَعَلَمهُ الأوقاتَ. وكما جَاءَ في رِواياتِ كثيرةٍ، أنَّ ذلك عشرَ مراتٍ، خمسَ مراتٍ لليومِ الأولِ في أولِ أوقاتِ الصَّلاةِ، وخمسُ مراتٍ لليومِ الثَّاني في أواخرِ وقت كلِ صلاة، ثُمَّ قالَ: "ما بينَ هٰذين وقتٌ"، ثُمَّ ﷺ بيَّنَ ذلك بفعلهِ وبقولهِ، كَما تأتي الرِواية معنا، أنَّ سائِلاً سألهُ وهُو في المدينةِ فَصلَّى في اليومِ الأول في أوائل الأوقات، وصَلَّى في اليوم الثَّاني في أواخر الأوقات، ثُمَّ قالَ: "أينَ السَّائلُ"، قَالَ: هذا الوقتُ الذي سألت عنه..؛ وفي ذلك أنَّهُ عَلَّمهُ بالفعلِ وفَعلهُ ليكونَ ذلك أوضحَ وأبْيَنَ لَهُ ولِيَعُمَ العِلمُ السَّائلَ وغيرَهُ، ولو أجابهُ وَ كَلَّمَهُ وقَالَ لهُ وقت كذا، ووقت كذا يعلم هُو ومَن حَضرَ، لكن أرادَ أن يُعَلِمَ الصَّحابةَ الَّذين حولهِ كُلَّهم عَلموا بالأوقاتِ فَفَعل الصَّلاةَ في أوائلِ أوقاتها، وفي اليومِ الثَّاني في أَواخرِ أوقاتِها. ثُمَّ قَالَ: "الوقتُ بينَ هذين" كما سيأتي معنا. وجاء في رواية في صحيح مسلم أنَّ النَّبي قال لهذا السائل: "صلِّ معنا هذين اليومين" يوم سأله عن صلاة الصبح ففعل ثُّم قال: "أين السَّائل" قال: "هذا الوقت بين هذين" صلوات ربي وسلامه عليه.

"يقول: حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيد بْنِ عَنْ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءٍ بْنِ يَسَار أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وآلهِ وَصَحبِهِ وَسلّمَ، فَسَأَلَهُ عَنْ وَقْتِ صَلاَةِ الصُّبْحِ، قَالَ: فَسَكَتَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وآلهِ وَسلّمَ، حَتَّى إِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ، صَلَّى الصُّبْحَ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ".

يعني: أول طُلوعِ الفجرِ، وَهو بُدوِء ذلك الضَّوءِ المنْتَشرِ عَرضًا. 

  • وَهُو بداية ُوقتِ صلاةِ الفجرِ باتفاقِ الأئمةِ، 
  • وإن قَالَ الإمام أبو حنيفةَ: بأَفضَليِّةِ الإسفارِ ولكنَّ دخولَ الوقتِ واحدٌ عنده وعِندَ غَيرِهِ، وإنَّما يقولُ بالأفضليِّةِ للإسفارِ وهُو تأخيرُها إلى الإسفارِ. 
  • وقَالَ غَيرُه: أنَّ المبادرةَ فيها في أَولِ وقتها هُوَ الأفضلُ. 
  • وجَمعَ بعضُهم فقَالَ: إن أرادَ أن يُطيلَها فالابتداء بالغَلَسِ أَولى حتى يُكملَها بالإسفارِ، وإن أرادَ أن يُخفَّفَها فتأخيرُها إلى الإسفارِ أفضلُ. 

وعلى كل حالٍ يأتي معنا بعضُ التفصيلِ في أوقاتِ الصَّلوات.

"ثُمَّ صَلى الصّبحَ مِن الغدِ بعدَ أن أَسفرَ"، أي: ظَهرَ الضَّوءُ وأشرقَ حتى تُعرفَ الوجُوهُ، ثُمَّ قَالَ: "أينَ السَّائلُ عن وقت الصّلاةِ؟" قَالَ: ها أَنا ذَا يا رسول الله. قال: "مَا بَينَ هذينِ وقتٌ"؛ 

  • مِن عِندَ طُلوعِ الفجرِ إلى آخرِ الوقتِ وَ هُو الإسفارُ، فَبعدهُ طلوعُ الشَّمسِ ينتهي بِهِ وقتَ صلاةِ الفجرِ. 
  • فبطلوعِ الشَّمسِ ينتهي ‏وقتُ صلاةِ الفجرِ ‏باتفاق، وبطلوعِ الفجرِ يبدأُ وقتُ صلاةِ الفجرِ باتفاق‏، 
  • وبقي بعدَ ذلك الاختلافُ في الأفضلِ هُو التَّغْليسُ بها أو الإسفارُ بِها‏. 
  • ويبقى أيضاً بيانُ أنّها لا تُجمعُ مع غيرها، ‏فلا تُقدمُ ولا تُؤَخرُ‏ صلاةُ الصّبحِ ، 
  • وأنّ لَها وقتُ‏ الفضيلةِ كما أَشرنا اليهِ، ووقتُ الاختيارِ إلى الإسفارِ كما أشرنا‏ إلى ذلك، وأَنَّ تأخيرها بعدَ ذلكَ عن الإسفارِ يُكرهُ وتأخِيرَها، إلى أَن يقعَ بعضُها خارجَ الوقتِ يكونُ حرام، 
  • بِخلافِ من دخلها والوقتُ مُتسِعْ فامتَدَّ في الصَّلاة ولو طلعتْ الشَّمسُ لمْ يكنْ عليه إثمٌ

كَما قَالَ سيِّدنا أبو بكرٍ الصِّديقُ: وكان يُطيلُ غالبًا، أكثرَ الخلفاءُ الرّاشِدين كانوا يطيلون صلاةَ الصّبحِ، وفيهم مَن يقرأُ بالأعرافِ، وفيهم مَن يقرأُ بسورةِ يُوسفَ من أوَلِها إلى آخِرِها، وفيهم من يقرأُ بغيرِ ذلك من هذه السُّور. وَقد قرَأ بعضُهم بأكثرَ البقرةِ، مِن الخلفاءِ الرّاشدين في صلاةِ الصّبحِ. وقَالَ لهم بعضُهم: كادتْ الشّمسُ أن تشرقَ‏ يا خليفةَ رَسولِ الله. ‏قَالَ: لو أشْرقت لَمْ تَجِدْنا غَافلين؛ دعها تشرق نحن نيام ولا نُصلي؟! تشرق ولا ما تشرق، قَد دخلَ الصّلاةَ بوقتٍ مُبكرٍ فلا ضررَ لو طلعتْ وهو يصلي، وإنّما كانَ يُسَلمُ قبلَ ذلك عليهِ الرّحمة.

وبالإسفارِ يقصرُ الوقتُ الذي يُعمَرُ ويَحرصُ عليهِ الأكابر؛ منهم الإمام مالكٌ، كانَ يَحرِصُ على هذا الوقت ما بين صلاةِ الفجرِ إلى طلوعِ الشَّمسِ. يقول أنَّه أَدركَ من قَبلهُ في المدينةِ على هذا الحالِ؛ أنَّه وقتٌ كانوا يشتغلون فيهِ بالعبادةِ بعدَ طُلوعِ الشَّمسِ، وصلاتهم يُقْبل بعضهم على بعضٍ،  فكانَ من جُملةِ الأوقاتِ التي يعتني بها، والمسلكُ والمنهجُ والدّأبُ الذي تَلقَّاهُ في العمل سيدنا مالكٌ عليهِ رضوان الله تبارك وتعالى، تَعظيمُ ‏هذا الوقتِ وإكبارُه، ‏ما بين صلاةِ الصُّبحِ حتى تطلعَ الشَّمسِ. 

حتى كانَ يقولُ بعضُ شُيوخنا الحبيبُ محمدٌ الهدَّار: لو كانَ لكَ ‏مِنَ النومِ سَنةٌ لا تَنمْ هذا الوقت، انتظر حتى تطلعُ الشَّمسُ. لا تنمْ بهذا الوقت ‏لو كان لك سَنة من النوم. هذا وقتٌ شريفٌ تُفاضُ فيهِ من اللهِِ إمداداتٌ، وهُو وقتُ تقسيمِ الأرزاقِ، فعِمَارتُهُ بعد صلاةِ الصّبحِ جماعةً الى أنْ تطلعَ الشَّمسُ فيه ثوابُ الحجُّ والعمرةِ التَّامةِ، كما جاءَ في سننِ الترمذي وغَيرِه.

إذًا، فيهِ بيان ُوقتِ صلاةِ الصّبحِ ‏وأنَّ أولَهُ عِندَ طُلوعِ الفجرِ وآخِرَهُ طلوعُ الشَّمسِ، كما سَيأتي معنا في الحديث. أمّا الافضليِّةُ فَيُؤيِّدَ الحديثَ الذي بعدهُ يقول: "وَحَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ" ﷺ وَرضي عَنْها وَعن جميعِ أمهاتِ المؤمنين والصحبِ الأكرمين ورواة الحديث الشريف، "أَنَّهَا قَالَتْ: إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ  ﷺ لَيُصَلِّي الصُّبْحَ، فَيَنْصَرِفُ النِّسَاءُ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ" أَكسِيَتهنَّ التي لَهُنَّ الدُّروعِ، غالبًا يكون للنِّساءِ خُضرٌ، ويكونُ من الخَزِّ وإمّا من الصَّوفِ "مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ ما يُعرفْنَّ" لا تقدرْ أن تعرفُ وجه الرجلِ من الرجلِ، لا يعرفُ الرجلُ جليسَهُ من الغَلسِ، لا تتضحُ صورته بعده بسببِ الظلمةِ. وهذا الأكثرُ المروي عنه ﷺ صلاتهُ بالغلس؛ تبكيرهُ بصلاة الصُّبحِ إلا أنَّه كما هو معلومٌ قدْ يُطيلُ الصّلاةَ في بعضِ أحيانهِ عليه الصَّلاة والسَّلام، وقد يقرأ ُشيئًا مِن السُّورِ الطّوالِ سواءً مِن طوالِ المفَصلِ وغيرها قد وردَ عنهُ قِراءتَها  ﷺ في العمومِ.. صلاةِ الصُّبحِ وصلاة الظُّهر، يقولُ قائِلُهم: إن كانَ لَيُحرِمُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فيخرجُ أَحدُنا إلى البقيعِ فيتوضأُ، ويأتي فَيدركُ معهُ الرّكعةَ الأولى، يأتي ويجدُه لمْ يركعْ بعد، فيأتي فيُصلي معهُ فيُدْركُ معهُ الركعةَ الأولى، ﷺ. 

"مُتَلَفِّعَاتٍ بمُرُوطِهِنَّ" جمع مُرْط "مَا يُعْرَفْنَ مِنَ الْغَلَسِ"، جمعُ مُرط، وهذا الذي كان يأخذُه بعضُ الصَّحابةُ ليتدفأَ بهِ أيامَ حفرِ الخندقِ وقتَ شدَّةِ البردِ في المدينةِ المنوَّرةِ؛ فلا يجدُ شيئًا يتدفأُ به من البردِ، فيأخذ المُرْط حق زوجته ويروح يتدفأ بهِ وهُو يشتغلُ مع رسولِ الله ﷺ في حفرِ الخندقِ، عليهم رضوانُ الله هم الصَّادقونَ الَّذين قامَ عليهم أمرُ الدِّينِ والشَّريعةِ والإسلام. نقفُ على ذلك. 

نظرَ الله إلينا وملأَنا بالإيمانِ واليقينِ وجعلنا في عبادهِ الصَّالحينَ وحِزبهِ المفلِحِين أربابِ التّمكينِ، ووقانا الأسْواءَ والأدْواءَ وأصلح لنا السِّرَ والنَّجْوى، وجعلنا ممنْ ترعاهم عَينُ عنايتهِ في جميعِ الشّؤونِ بوجاهته، بسرِ الفاتحة وإلى حضرةِ النَّبي ﷺ.

تاريخ النشر الهجري

26 شوّال 1441

تاريخ النشر الميلادي

17 يونيو 2020

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام