شرح الحِكَم العطائيَّة لباراس -112- من قوله: (تسبقُ أنوارَ الحكماءِ أقوالُهم، فحيث صارَ التنوير.. وصل التعبير)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ لكتاب شرح الحِكم العطائية للشيخ علي بن عبدالله باراس رحمه الله تعالى، ضمن فعاليات الدورة التعليمية الثلاثين بدار المصطفى بتريم، في شعب التبي هود عليه السلام
عصر يوم الثلاثاء: 3 محرم 1446هـ، من قوله:
( تسبقُ أنوارَ الحكماءِ أقوالُهم، فحيث صارَ التنوير.. وصل التعبير )
نص الدرس المكتوب :
182: "تَسْبِقُ أَنْوَارُ الْحُكَمَاءِ أَقْوَالَهُمْ؛ فَحَيْثُ صَارَ التَّنْوِيرُ.. وَصَلَ التَّعْبِيرُ".
تسبق أنوار الحكمة، وهي أنوار الحضور الكائنة عند رفع الستور، كنور اليقين وعينه وحقه، الذي محل تنزلها الأسرار والأرواح والقلوب، وهذه كلها أسرار غيبية وأحوال وهبية لا تكون بعمل ولا تنال بحيلة؛ بل إنما يحظى بها المجذوبون المرادون غالباً قبل وجود تأهلٌ منهم لها أو تطلع منهم إليها، بل تفجؤهم كفاحا، ويلقي عليهم أنفاس الوقت أرواحاً، فأول ما يقع منهم النظر إلى الوهاب المبدئ المبتدئ بالإِمتنان، ومُفيد الفضل والإحسان. وغيرهم ممن أخذ في طريق التّرقي مدارس السلوك ليس كذلك، أول ما رأى نفسه وأوصافها وأفعالها.
فالحكيم: هو العالم بالله دون غيره من سائر علماء الرسوم؛ لأن شعاره مخافة الله وهي رأس الحكمة، كما ورد: "رأس الحكمة مخافة الله عز وجل". وخوف الحكماء من الله صِرف لا يمزجه خوف سبب من الأسباب؛ بل خوف اتّصاف؛ كالهيبة بإزاء الجلال، والانقباض والانطواء تحت سطوات العظمة.
فهذا وما جرى مجراه من خوف العلماء بالله المُعبّر عنه بالخشية، إذ هي أعمّ؛ لذلك المعنى عنا الله بقوله: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر:28].
وخوف السّالكين وطوائف العباد والزهاد لأسباب نصبها الله مُزعجة لهم إليه، وسائقة لهم إلى عبادته، وأسباب مشوقة تدعوهم إلى دخول حضرته كما قال الله عز وجل: (ذَٰلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ ۚ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ) [الزمر:16]؛ فافهم الإشارة في قوله: (يَا عِبَادِ) -الخاصّين بي- (فَاتَّقُونِ).
والحكماء إذا أرادوا أن يتكلموا وقصدوا إرشاد طالب، فأول ما يفزعون إلى الله في أن يوصل إليه كما وُصِل إليهم، فيتكلمون مع الخروج عن رؤيتهم في حضرة سيدهم، فيصل التعبير حيث وصل التنوير. إن كان من أنوار القلوب، وصل التعبير إلى القلوب فانبسطت عليها أنوار الإيمان، وامتلأت بإشراق الإيقان.
وإن كان من أنوار الأرواح، وصل التعبير إلى روح السامع، فيرتاح شوقاً ويطرب حباً، فلا يتمالك الروح عند سماع ذكر الحبيب، ولا يستقر دون التطلّع على أخباره.فيتدله بذلك الروح وسنيّ السّوح، فتبدو لوامع وتلوح، وتنزل مواهب وفتوح منوح.
وإن كان من أنوار الأسرار العليه وَصَلَ التعبيرُ إلى سرّّ السامع، فيستغرق في الشهود ويطيح في الوجود، ويغيب في الشهود عن الوجود، وتتوالى هناك عليه تَجَلِّيَاتٌ أزلية وجمالات سرمدية، تتصل بالعوالم الديمومية. فما أعجب هذه العبارة حيث قال: (وحيث كان التنوير وصل التعبير)، ولي في ذلك شعرًا:
السابقون إلى عين اليقين تكن *** أقوالهم تبعًا والنور قائدهافسَارَعَتْ حيثُ كان القائلونَ يكن *** للسامعين قِرىً في موائدها.
فالكلام ترجمان الجنان، وكل جنان مؤيّد بنَفَس الرَّحمنِ وسرِّ امتناني، خَرج الكلام مغمورًا بالنور موجِدًا عند السامع السرور، وممنحه غايات الأماني والحبور.
يقول: "تسبق أنوار الحكماء أقوالَهم، فحيث صار التنوير وصل التعبير"، يعني: كلامهم يصل إلى مبلغ ما أُعطوا من النور، وتوجهوا إلى من يخاطبون ويكلمون أن ينازلهم من ذلك النور، فإلى ذلك المدى يصل التعبير؛ أي: تحصل الفائدة من تعبيراتهم ومن كلماتهم.
يقول: "تسبق أنوارُ الحكماء أقوالَهم، فحيث صارَ التنويرُ وصل التعبيرُ"،
قال: "تسبق أنوار الحكماء أنوار الحضور الكائنة عند رفع الستور"؛ مثل أنوار علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين، "الذي محلّ تنزُّلها الأسرار، والأرواح، والقلوب".
-
فعلم اليقين: متعَلَّق به القلب.
-
وعين اليقين: متعلّق به الروح.
-
وحق اليقين: متعلَّق به السرّ.
فباطنُك يا أيها الإنسان قلبٌ ورُوحٌ وسرٌّ، قد يُطلق بعضُها على بعض، ويُطلق بعضُها ويُراد به الكل.
-
ولكن أوّلُ ما في باطنك: القلب، وهو الذي يتذَكَّر، وهو الذي يَعتبِر، وَهُوَ الذي يعلم، فالقلبُ محلُّ المعرفة.
-
ولكنّ باطن هذا القلب الروح، (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي..) [الحجر: 29]، وهذا الروح محلّ المحبة.
-
وباطن الروح السرُّ، سرُّ النفخة، فالرُّوح النفخةُ، والسرُّ -سرُّ النفخةِ- (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي..)؛ فالسرّ هذا محلّ المشاهدةِ.
-
ومفتاح القلب: لا إله إلا الله.
-
ومفتاح الروح: الله الله.
-
ومفتاح السرّ: الضمير هو هو هو.
فأكثِر من "لا إله إلا الله" حتى ينفتح قلبُك وتصل إلى عالم القلب. ثُمَّ أَكثِر من اِسْمِ الجلالة "الله الله الله" حتى ينفتح روحُك وتصل إلى عالمِ الروح. ثمّ أكثِر من الضمير "هو هو هو" حتى ينفتح سرُّك وتصل إلى عالم السرّ، فتُشاهد مع مَن يشاهدُ. بالتَّعَلُّقِ بأهلِ السرِّ يبدو لَك َالسِّرُّ.
قال: وهذه مواهب يحظى بها "المجذوبون المرادون غالبًا تَفجَؤُهُمْ كفاحًا"، فما يقع منهم النظر أوّلًا إلا إلى الوهاب المبتدئِ بالإمتنانِ، المعطي، الرحمنِ، مفيضِ الفضل والإحسان. وغيرهم ينظر إلى هو، نفسه؛ وإلى وَصْفِه؛ وإلى عَمَلِه؛ مثل قول: بي؛ لي؛ مِنِّي.
قال الشيخ بامخرمة:
مانا من آل أبي لي***كلا ولا سبيلي
..لي، لا بي شيء، ولا لي شيء، لا لي شيء أملكه وأستحقه، ولا بي يقوم شيء إلا بالله تعالى ولاحول ولاقوة إلا بالله، ما أنا من أهل بي.. لي.
مانا من آل أبي لي***كلا ولا سبيلي
في الحط والرحيلي***إلا آخذ شي بلاشي
فتشت في قشاشي** لقيت فيه ماشي
آويت إلى فراشي** طالبك شي بلاشي
يالله بشيء بلا شيء
سبحان المتفضل المنعم.
قال: هؤلاء ينظرون إلى نفوسِهِم، أنا عملت، وأنا قلت، يعني: "لي.. بي"، لو تخلى عنك إِفضَالُهُ ساعةٍ لهلكت وما بقي لك شيء لا حِسِّي ولا معنوي، فالأمر كلُّه له، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
قال: "الحكيم: هو العالم بالله دون غيره من أهل علماء الرسوم"، يعلمون معلومات منقطعة عن نورانية الخشية.
-
و"رأس الحكمة مخافة الله عز وجل".
-
(إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر:28]، وخوفهم من الله -تعالى- لذاته، وهذا أعظم الخوف.
-
أما "خوف السّالكين وطوائف العباد والزهاد لأسباب نصبها الله مُزعجة لهم إليه، وأسباب مشوقة تدعوهم إلى دخول حضرته كما قال الله عز وجل: (ذَٰلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ ۚ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ) [الزمر:16]"؛ لا إله إلا الله.
قال: "والحكماء إذا أرادوا أن يتكلموا وقصدوا إرشاد طالب، فأول ما يفزعون إلى الله في أن يوصل إليه كما وُصِل إليهم".
-
قال الله لسيدهم ﷺ: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ) [القصص:56]، يعني: على يدك نهدي من شِئْنَا.
-
كما قال له في الآية الأخرى: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) [الشورى:52]؛ لكن ما شيء باستقلال منك ولا بغيرك إلا منا.
(إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ.."")، يعني: وأنت لا تحب شيء، ولا تحب أحد إلا لأجلنا، ومن أحببته سبقت له منا الهداية والحسنى من غير شكّ.
ففي قوله: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ)؛ ثناءٌ عليه عظيم ﷺ، كما قال الله: (وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ) [القصص:56]، وهل يمكن أن يحبَّ ﷺ ضالًّا؟! أو يحبَّ فاسقًا؟ أو يحبَّ كافرًا؟ إلا أن يُؤولها البعض بمن أحببت؟ يعني: أحببته لذاته، وأحببت الهداية له. فمحبةُ الهدايةِ -نعم- جعلها الله في قلبه لكل أحد، يحب هدايته، وهو أمر متعبد به، حتى تعبَّد اللهَ موسى وهارونُ -عليهما السلام- بمحبة هداية فرعون، وهو يعلم أنه لن يهتدي، ولكن قال الله لهما: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ) [طه:44]؛ فمحبة الهداية؛ نعم، أجل.
لكن أن رسول الله ﷺ -بنفسه- يحب شخصًا بعينه لا يكون هاديًا مهديًا ما يتأتّى؛ لأنه سيد من يحب في الله ويبغض في الله، وهو القائل: نحب بحبك الناس، ونعادي بعداوتك من خالفك من خلقك، فبهذا المعنى محبته للشخص يعني: ما يحب شخصًا إلا والشخص محبوبٌ عند ربه، ويقول الله تبارك وتعالى: هَؤُلاء ٱلَّذِينَ تُحِبهم نحن نتولاهم ونرعاهم؛ ولكن الله يهدي من يشاء -جل جلاله وتعالى-.
قال: إذا توجهوا لإرشاد طالب "يفزعون إلى الله في أن يوصل إليه.." وإلى قلبه وإلى روحه وإلى سره ما أوصل إليهم.
قال:
-
"إن كان من أهل أنوار القلوب" أو تكلم بنور القلب فقط "وصل التعبير إلى القلوب" ماذا يحصل في القلوب؟ القلوب المعرفة من الإيمان، وإشراق الإيقان وهذا محلُّه القلوب.
-
لكن إذا كان من أهل الأرواح وتكلم بنور الروح، فهذا يصل التعبير إلى روح السامع، فما الذي يحصل في الروح؟ قال: "ترتاح شوقًا ويطرب حبًّا لا يتمالك الروح عند سماع ذكر الحبيب، ولا يستقر دون التطلع على أخباره"، يقول:
وَحَدَّثتَني يا سَعدُ عَنهم فَزِدتَنـــي *** شجوناً فَزِدني مِن حَديثِكَ يا سَعدُ
هَواهم هَوىً لَم يَعلَمِ القَلبُ مِثْلَهُ *** فَلَيسَ لَـهُ قَبـــلٌ وَلَيسَ لَـهُ بَعــــدُ
"فيتدله بذلك الروح وسنيّ السّوح، فتبدو لوامع وتلوح، وتنزل مواهب فتوحٍ منوحٍ". يا مرَوِّحَ الأَرواحِ، رَوِّحْ أرواحَنا بأنوار معرفتك ومحبتك.
-
قال: "وإن كان من أنوار الأسرار العليا" -صاحب سرّ فيصل نوره إلى سرّ المخاطِب-لا اله الا الله- "وصل التعبير إلى سرّ السامع، فيستغرق في الشهود ويُطيح في الوجود، ويغيب في الشهود عن الوجود، وتتوالى هناك عليه تجليات أزلية وجمَالات سرمدية"، الجمال الأَقْدَسُ الْأَنْفَسُ الدَّائمُ، الذي لذّة شُهودِه تزيد على الأبد، وهو جمال الحق.
قال سيدنا الإمام الحداد:
هَذَا جَمَالُ الحَقِّ قَدْ تَجَلَّى ***....................
تجلّى لهذا المُوَفَّق الذي انفتح سرُّه فشاهد واستغرق في الجمال، وإلا فهو موجود من قبل ما يعرف هذا، ومن قبل ما ينفتح لهذا.
هَذَا جَمَالُ الحَقِّ قَدْ تَجَلَّى *** وَلَمْ يَكُنْ مَحْجُوبٌ قَبْلُ كَلَّا لَكِنَّ قَلْبَ العَبْدِ حِينَ يُجْلَى *** شَاهَد……………..
المحجوب العبد ما هو الجمال الرباني!. الجمال الرباني في جميع ذرات الوجود، وفي جميع مظاهر الأسماء والصفات، وفي أسرار الذات التي لا يُحاط بها، مُشرق قويّ واضح جليّ.
وَاشْهَدْ جَمَالًا أَشْرَقَتْ أَنْوَارُهُ *** فِي كُلِّ شَيْءٍ ظَاهِرًا لَا خَافِي
ولكن ما يشاهدونه الناس محجوبون، المحجوبون ما يشاهدونه، ولم يكن محجوبًا هذا الجمال قبل كلّا لكن العبد هو المحجوب.
لَكِنَّ قَلْبَ العَبْدِ حِينَ يُجْلَى *** شَاهَد وَكَانَتْ مِنْهُ السَّوَاتِرْ
من هذا العبد، وَكَانَتْ مِنْهُ السَّوَاتِرْ
اللهُ أَكْبَــرْ هَذِهِ الحَقِيـقَة *** قَدْ أَشْرَقَتْ مِنْ مَشْرِقِ الطَّرِيقَة فَامْسِكْ أَخِي بِالعُرْوَةِ الوَثِيقَة *** وَهْيَ اتَّبَاعُكْ سَيِّدَ العَشَائِرْ
من هو؟
مُحَمَّدَ المَبْعُوثُ بِالهِدَايَة *** وَالحَقِّ وَالتَّحْقِيقِ وَالوِلَايَة
إِنْسَانَ عَيْنِ الكَشْفِ وَالعِنَايَة ***وَرُوحْ مَعْنَى جُمْلَةِ المَظَاهِرُ
ابن عبد الله ﷺ، أبو القاسم، أبو الزهراء البتول.
وَرُوحْ مَعْنَى جُمْلَةِ المَظَاهِرُ ﷺ.
قال:
السابقون إلى عين اليقين تكن *** أقوالهم تبعًا والنور قائدها
فسَارَعَتْ حيثُ كان القائلونَ يكن *** للسامعين قِرًا في موائدها
وفي قراءة: " في فوائدها"
-
فإذا تكلم بلسان القلب؛ سرت إلى القلوب.
-
وإذا تكلم بلسان الروح؛ سرت إلى الأرواح سرايا، ويُحصِّل قِرى مما في روحه.
-
وإذا تكلم بلسان السر) سَرَت إلى الأسرار سِرايات، وقُرئت وضُيِّفت وأُكرمت بشيء مما في سره.
-
وإذا تكلم بقلبِه وروحِه وسرِّه؛ انتعشتِ القلوبُ والأرواحُ والأسرارُ.
وسيأتي معكم في كلام الشيخ علي -عليه رحمة الله-، يقول: كنت مع شيخي الحبيب عمر بن عبدالرحمن العطاس، أسمعه يتكلم مع الناس، ويُؤثر كلامه في قلبي نورًا ما حصلته في كلام المصنفين والمذكرين، وهو في كلامه العاديّ يتكلم مع الناس ويخالطهم وينزل معهم في الكلام؛ فأجد لكلامه تأثيرًا وتنويرًا لقلبي؛ لأن الحبيب عمر كان يتكلم بقلبه وروحه وسره، وإذا وجد مُتلقيًا فاضت.
وهو بنفسه -الشيخ علي- لما شيخه الحبيب عمر كان عند شيخه الحسين بن الشيخ أبي بكر، يجلس، وخطر على قلبه ويريد مذاكرة في الحقيقة من شيخه الحسين، فالتفت سيدنا الحسين، وجاب كلمات بمعنى يصلحون المركوب حقهم، ويَعُدّون الخيل، ويعطون الكبار قوتهم، والصغار قوتهم، ولا يخلطوا ذا بذا، ويشدّوا الحزام؛ من أجل نطلع الحضرة -يقصد بيت الحضرة هناك-؛ كل الكلام هذا تترجم للحبيب عمر بن عبد الرحمن العطاس، بعلم الحقائق ويشرب منهم مشارب؛ وظاهره إلا يأمرهم من أجل يشدوا الخيل ليطلع لدار والده هناك -دار الحضرة يسمونها- وقال لهم أعطوهم الطعام الفلاني والقوت الفلاني ووقع في قلب الحبيب عمر بن عبدالرحمن معاني الحقائق وانطوت له فيها كلها وقال: هيا نطلع الى الحضرة وانتهت المسأله عنده. وهذا رجع تلميذه الشيخ علي باراس قال: يتكلم عمر بن عبد الرحمن العطاس مع العوام؛ سمعته كلام عادي ينور قلبي ويرفعنا مراتب أكثر مما حصلوا من كلام المصنفين وكلام الواعظين والمذكرين من خلال كلامه العادي -رضي الله تعالى عنهم- لا إله إلا الله.
قالوا الإمام الحداد لما زار سيدنا عمر بن عبد الرحمن العطاس أول مرة، وزاره ثلاث مرات، قالوا له: كيف رأيت عمر بن عبد الرحمن العطاس؟ قال: "رأيته قلب ورب لا نفس ولا هوى، وما رأيت متواضع مثله فسألت الله أن يكرمني بتواضعه"، لا إله إلا الله. وأول ما التقى به واحد سأل الحبيب عمر بن عبد الرحمن، قال له: كيف رأيت الحبيب عبد الله الحداد الذي جاء عندك؟، قال: تريم تربي.. تريم تربي، عليهم رضوان الله تبارك وتعالى. في نعمة تربوا وفي نعمة رُبّوا.
هُمُ أقوام غذوا في المحبّة مِن صِغَرهُم *** وعاشوا في مخافات وغابوا في فِكَرهم
ويسعد كل من كان في عمره نظرهُم *** في البُكرة صباح أو عشية في مساهُم
ثم ذكر الحبيب ﷺ الحبيب علي قال: له ذات إذا شافها الأعمى شفي من عماه. لا إله إلا الله.
ورضي الله عنكم، إلى أن قال:
183: "كلّ كلام يبرز، وعليه كسوة القلب الذي منه برز.
كلّ كلام برز من باطن إلى ظاهر؛ فهو دليل ما برز عنه من أيّ اللطيفتين. إن كان من اللطيفة القلبية النورانية الربّانية، المقدّسة عن دنس لوث الأكوان وغبار قتر الأغيار؛ خرجت صافية رائقة فائقة. ما صادفت لطيفة مودوعة إلا كانت في الفؤاد غرسة مزروعة، يصادف منها كلُّ من سمعَها سرَّ الحياة كما تصادف الأرض عند نزول وابل المطر الحياة. ولكنّ الأرض بعد ذلك تَفْتَرِق إلى قيعان، وأرض طيبة، وإيخاذات حافظة، كما ورد ذلك مستوفى المعنى في الحديث النبوي.
وشاهد ذلك عند السامعين ظاهر، فإنّ الحكمة الواحدة يتكلم بها واحد فتقبل منه، ويتكلم بها الآخر فتردّ، وما ذلك في الحكمة، وإنّما هو بحسب من برزت عنه: من الصفاء القلبي، والكدورة النّفسانية، والظلمة الشهوانية الهوائية الأرضية.
فالشاهد في المعنى الذوق الموجود في الكلام، فما يتميّز إلا به ويُعرف ذلك من زاحم الحكماء ومارس كلام العلماء، فإنك تجد في كلام بعضهم ما لا تجده في كلام الآخر مع استوائهما في العبارة، بل قد يكون من هو أَرَكُّ في ظاهر اللفظ أقوى تأثيرًا في الباطن، وذلك لما عنده من وُفور اليقين وكمال الصحو والتمكين. وذلك الذ تُحسن عبارته ظاهرًا من غير قوة يقينٍ في الباطن، وكمال تحقيق، تجده دون ذاك".
"كلّ كلام يبرز، وعليه كسوة القلب الذي منه برز."، وقد تكون العبارة واحدة، القصة واحدة، الكلام واحد، لكن من ذا يخرج عليه نور وذا ماشي عليه نور، وذا عليه ظلمة، وذا نور كثير، وذا نور قليل؛ بسبب ما في بواطنهم، هذا بحكم الغالب وما يجري.
وإلاّ فالحقّ سبحانه وتعالى قد يُفيد بعض الناس بأيّ كلامٍ جرى من أيّ أحد، ويمدّه من عنده تعالى الحقّ، ويفهم فيما فهمه، وكلّما قرب من حضرة الله يصير كلّ شيء فائدة له، ويستفيد من الصغير، ومن الكبير، من أيّ كلامٍ جاء يستفيد منه معاني. ويصير الحقّ يخاطبه بألسنة الكائنات كلّها، ويتعرّف إليه بألسنة الكائنات كلّها، ويفهِّمه بألسنة الكائنات كلّها؛ لأنه تركها كلّها من أجله، وقطع علائقه عنها كلّها له، وما جعل علاقته بها إلّا على ما يحبّ، فصار يمدّه بها كلّها -جلّ جلاله و تعالى في علاه-.
ورضي الله عنكم، إلى أن قال:
"وقد كنت أجد عند حضوري بمجلس سيدي وحيد عصره عمر عبد الرحمن أنه يتكلم مع العوام فيما يتكلمون، وأجد له من التأثير ما لا أجد في كلام نظيره من المصنفين وكثيراً ما يصل من غيره مذاكرةً، وأجد القلب عند ذلك ساكنًا لا يأبه بها، فإذا تكلمَ أنصت القلب وتعشق إلى كلامه تعشقاً ذوقيأً.
فإذا اطلع ذو غباوة على ما أجد في بعض كلامه لَعَجِبَ منّي كلّ العجب، فالحمد لله فلو أخذتُ فيما وجدتُ من كلامه من الفوائد لما وجدتُ لها حصرًا وبقيتُ في بقيةِ مدتي أتصفح كلامه، فأجد لها أوجهًا، وذلك لِما هو عليه من كمال التمكين في مقامات اليقين.
وكان يروي لنا عن شيخه قدوةِ الأنَام المشهود له عند الخاصّ والعامّ بأنّه الختام حسين بن سيّدنا الشيخ أبي بكر -نفع الله بهم ونظمنا في سلكهم، وجمعنا معهم مع الأحبّة في دار السلام- كلامًا يرويه، استخرج منه علوما لطيفة وأحوالاً منيفة مع أنّه كان ذلك الكلام ممّا يتداوله العوام، وقد أفردناه في نبذةٍ لطيفةٍ، فليطلب منها هناك يعثُر على صواب إشاراتهم في بواطِنِ عباراتهم، ولي في ذلك:
إِنَّ اللِّسَانَ دَلِيلُ السَامِعِينَ عَلَىٰ *** مَا فِي الْقُلُوبِ مِنَ الْأَنْوَارِ مَسْتُورُ
فَكُلُّ قَوْلٍ يَجِدُهُ السَّامِعُونَ يَلُح *** فِي الْقَلْبِ فَأعْلَمْ بِأَنَّ السِّرَّ مَعْمُورُ
وَمَا يَرُدُّهُ بِسَمْعِ السَامِعِينَ لَهُ *** دَلِيلٌ يُخْبِرُ بأنَّ القلبَ مستور".
قال: "تجد في كلام بعضهم ما لا تجده في كلام الآخر مع استوائهما في العبارة، بل قد يكون من هو أَرَكُّ في ظاهر اللفظ أقوى تأثيرًا في الباطن"، كنا يوم في مجلس يتكلم فيه واحد من الأعاجم باللغة الأوردية ويترجم له واحد من العرب، يعرف اللغة ويترجم له، في أثناء كلامه ذكر بعض الشيء وتأثر وبكى، وبكى العرب وهم لم يعلموا ماذا قال؟! وعندما ترجم المترجم الكلام ما أحد بكى، تأثروا بكلام الأعجمي وهم لا يعرفون معناه! ولما تكلم المترجم بلغتهم ما تأثروا به! وقال المترجم: أنا ما أقدر أترجم مشاعر الإنسان هذا، مشاعره ووجده ما أقدر أترجمه لكم، فقط أترجم لكم كلامه. فترجمة الكلام ما أثرت الأثر الذي قاله بلغته وبكوا الناس وتأثروا وهم لا يدرون ماذا قال! لا إله إلا الله.
وهكذا قال بعضهم: كان في مؤتمر في أندونسيا، و عندهم السماعات للترجمة باللغة، قام بعد ذلك السيد محمد علوي المالكي يلقي كلمة، وكان بعضهم -هؤلاء- الضباط الكبار خرج السماعات التي تترجم، وقعد يسمع كذا، قال واحد: أنا عارف هذا ما يعرف العربية والشيخ يتكلم بالعربية، ثم قلت له: ما لك أنت ما تعرف العربية، قال: لما أسمع منه هكذا يؤثر في قلبي أحسن من الترجمة، قال: أنا أسمع منه يؤثر في قلبي أحسن من الترجمة.
قالوا: وكان وقع في قلب بعض أولاد سيدنا عبد القادر الجيلاني، أن والده مع سهولة كلامه يحصل الأثر الكبير فلو أذن له بالكلام بيأثر في الناس أكثر. تكلم في المجلس، في يوم المجلس قال: قم، تكلم وجاب كلام بليغ ولا أحد تأثر ولا أحد شعر به، فقلت: اجلس. جلس الشيخ وقال: البارحة أم الدار -أهل الدار- جاءوا بدجاجة طبخوها في كوامخ طيبة فجاءت الهرة وأكلتها؛ بكوا الناس ونزلت الخشية، عجيب، ماذا وقع في بال كل واحد منهم؟ هذا مثال للرياء، هذا مثال للعجب، هذا مثال للشيطان يسرق أعمال الإنسان.. وبكوا.. هذا مثال لسوء الخاتمة، وقع في قلوبهم هكذا وبكوا وتأثروا، الولد يتعجب، شفت يا ولدي جبنا كلام عن أمك لكن شف الناس بكوا وتأثروا، الأثر يا ولدي ما هو بالبلاغ ولا بالكلام ولا بمجرد اللسان، فأراد يعلمه ويسقيه من شربه عليهم رضوان الله عليه.
وهو بنفسه لما أُمر أن يقوم مقام التربية الخاصة للإيصال لله تعالى ويظهر بذلك، بقي تواضعه وخشيته متراخي، حتى رأى الحبيب ﷺ وقال له: أخرج وتكلم على الناس، يعني: قم مقام التربية الخاصة في الإيصال إلى الله تعالى. وقال له: أنا ولدت في أرض العجم ولساني فيها ثِقل وعلماء بغداد فصحاء وكبار، قال: افتح فمك، فتح فمه فتفل في فمه ﷺ سبع مرات، فعقد المجمع وقال: لما اجتمعوا وبدأت أتكلم أُرْتِج عَلَيَّ، فرأيت سيدنا علي أبي طالب مقبل يقول لي: افتح فمَك، ففتحتها فتفل فيه ست مرات، قلت: أكمِل سبعة، قال: لا أدب مع رسول الله، رسول الله سبعة وأنا ستة بس يكفي ما أصل إلى الحد. فابتدأ يتكلم ضجت القلوب ونزلت الخشية، وبدأ يعقد مجلسه، جمع منه بعض كلمات لازالت مؤثرة إلى الآن في القلوب بعد مرور سبعمائة أو ثمان مائة سنة على كلامه -عليه رضوان الله تبارك وتعالى-. الله ينور قلوبنا ويطهرها ويصفيها ويزكيها.
واصل لنا فَتْحَ أبَوَابِكَ يا فَتَّاحُ، رَوِّحْ لنا الأرواحَ، واسقنا من أَحْلى رَاح، واسقنا شُرْبَ طيب طيب تلكَ الأقداحَ، وتولنا ما توليتَ بخواصِّ المحبوبين أهل اليقين والتمكين من السادةِ المُقَرَّبين. اللهم لا تحرمنا خيرَ ما عندك لشَرّ ما عندنا، اللهم املأ قلوبنا بأنوارِ العلم والمعرفةِ الخاصةِ واملأ أرواحنا بأنوارِ المحبةِ الخالصةِ، واملأ أسرارنا بأنوارِ الشهودِ الأَسْنى بمرآةِ حبيبكَ الأصفى في جميعِ الشُّؤُونِ، في الظهورِ وفي البطونِ.
يا من يقول للشيءِ كن فيكون، اجعلها ليلةً من أبركِ الليالي، واجعلْها يوم من أبركِ الأيامِ، واجعلها ساعاتٍ من أشرفِ الساعاتِ لنا ولأهلينا ولأولادنا ولطلابنا وأحبابنا وأصحابنا، وزماننا وأهل زماننا، وأمَّةِ حبيبكَ مُحَمَّدٍ ﷺ، والعوالم وأهلها يا مُنْشِئَ العوالم وأهلها، يا مُكَوِّنَ الأكوانِ كلِّها، يا من بيدِهِم مقاليدُ الأمورِ كلِّها.
لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، آمنا بك وبرسولك ﷺ الصفوة المختار، وبأنبيائك آدم، وإدريس، ونوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومن بينهم من النبيين والمرسلين، وبكل نبيٍّ أرسلته، وكل رسولٍ ابتعثته، آمنا بهم وبما جاءوا به عنك، وصدقنا بهم وبما جاءوا به عنك على مرادك وعلى مرادهم.
اللهم فبمنزلَتهم لديك، حققنا بحقائق الصدق معك في جميع الأحوال، وارفعنا إلى المراتب العوال، واجعل هذا العام السادس والأربعين بعد الأربعين ومائة، بجاه حبيبك الأمين، من أبرك الأعوام على أمته ظاهراً وباطناً بكل معنى وبكل وجه، يا حي يا قيوم.
وبلغنا ما نَروم وفوق ما نروم، وابسط لنا بساط المعرفة الخاصة، والمحبة الخالصة، واجعل لنا في ليالينا هذه وأيامنا شُرباً من شراب المعرفة واليقين، والدخول في دوائر عبادك المفلحين، وحزبك المتقين، وأعذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ومن كل سوء أحاط به علمك فرج كروب الأمة، واحفظنا واهالينا أولادنا، وطلابنا، وأصحابنا، بما حفظت به الذكر الحكيم.
و انصُرنا بما نصرت به المرسلين، ورقنا إلى أعلى مراتب علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين، وأصلح شُؤوننا بما أصلحت به شؤون الصالحين، واختم لنا بأكمل حسنى وأنت راضٍ عنا.
وإلى حضرة النبي
اللهم صلي وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه
الفاتحة
03 مُحرَّم 1446