(535)
(363)
(339)
يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير قصار السور، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم من العام 1438هـ.
﷽
(كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ(12) فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ (13) مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21))
الحمدُ لله مُكرِمِنا بالقرآن وتنْزيله، وبمحمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم وتفْضيله، صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وصحبه وجيلهِ، وعلى أحبابه المتّبعين لِسبيله، وعلى آبائه وإخوانه مِن أنبياء الله ورُسله، وعلى آلهم وصحبهم والملائكة المُقرّبين وجميع عباد الله الصالِحين، وعلينا معهم في كل شأن وحين، عدد خلقة ورضا نفسه وزنة عرشة ومداد كلماته.
وبعد،،،
فإننا في تأمُّلِ كلام ربِّنا الخالق البارئ المُبدئ المُعيد، الذي بيده الأمر كلّه، وإليه يرجع الأمر كلّه -جَلَّ جلاله وتعالى في علاه- تأمَّلنا ما ذَكَر لنا في سورة عبس، وما أثنى على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم في حَمْلِهِ الأمانة وحِرْصه الكامِل التام، على هِداية الأنام، وتقْريبهم إلى مولاهم الملِك العلّام -جَلَّ جلاله-.
وانتهينا إلى قوله: (كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11))؛
(كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11)) القرآنُ ذِكْر؛
(إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ) هذه الآداب، هذه المسالك، هذه الطريقة، هذه الآيات؛ تذْكِرة.. حَقَّاً إنها تذْكِرة لِمن أراد أن يتذَكَّر (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق:37].
(كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ (12)) ذَكَرَ هذا القرآن وهذا الوحي وهذا التنزيل وهذا الأدب وهذا المسْلك (فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ (12))، كما قال في السورة التي قبلها: (لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ) [التكوير:28]. بعد أن ذكر نبيّه (وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ * وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ * وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ * فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ * إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ * لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ) [التكوير:22-28].
(كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ (12)) هذه التذْكِرة أثنى الحق عليها (فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ (13))؛
قال تعالى لمّا ذكّرنا بِحقيقة مِن حقائق هذه الحياة التي يكْثُر فيها الغُرور ويجب أن لا يغْترّ كلّ عاقِل، يقول: (بَلْ يُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) وفي قراءة: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ * إِنَّ هَٰذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَىٰ * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ) [الأعلى:16-19]؛
مِن هُنا لم يكن اللوح ولا الورق ولا الخشب ولا الحجر الذي كُتِب عليه القرآن كغيره، فإنَّ عظمة هذا الوحي والكتاب تَسرِي، حتى قال ﷺ لبعض الصحابة: "ولا تَمَسّ القرآن إلا وأنت طاهر"؛ فصار يُعظّم كلّ ما أتّصل بهذا الكتاب، كما أن الصُحف بأيدي الملائكة وبأيدي الأنبياء (مُّكَرَّمَةٍ (13) مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15)) محْمولة على أيدي سَفَرة: سفراء، مَن السفرة؟!
(بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16))، ومن معانيه الملائكة الكرِام. والكتاب يُسفِرُ عن المعاني؛ فلهذا سُمِّيَ بسِفْر، كما أن السَّفَر يُسفِرُ عن أخلاق الرجال، وكذلك يقال ايضاً للسَّفيرِ المُصلِح بين القوم والمُبَلِّغ الخبر مِن طائفة إلى طائفة: يكون سَفِيراً لأنه يُسفِرُ ويُنبِئ عن الخبر.
ولذلك فكلّ مِسَاسٌ بعُصبَةِ الصحب الكِرام؛ مِسَاسٌ بِمُرَبِّيهم، مِسَاسٌ بِمُعلِّمهم، والعجب أن طوائف يدّعون أنّهم اهْتدوا إلى حقائق يتكلّمون على سادتنا الصحابة، فكأنهم هم -بمشايخهم- تربَّوا وتزكّوا أحسن مما ربَّى النبي أولئك! مَن ربَّاكم ومَن ربَّاهم؟! مَن علَّمكم ومَن علَّمهم؟! مَن فهَّمكم ومَن فهَّمهم؟! مَن أدَّبكم أنتم ومَن أدَّبهم؟!
لا مُقارنة! اسْتحيوا على أنفسكم هذا حبيب الله وعبده ورسوله المُصطفى! .. مشايخكم يُربّون أحسن مِنه يعني؟! كم عددكم أنتم؟ الطائفة مِنهم ألوف وألوف، كلّهم مُمتازين -ماشاء الله- جئتوا على الحقيقة؟ أنتم! وهذا ما عرف في صحابته يُريهم الحقيقة!؟ ما هذا! يعني مشايخكم أقْدر وأجْدر وأنْور؟! اتّقوا الله!.
محمد ﷺ أقْدر على التهْذيب والتأديب والتزْكية وإيضاح الحق وإنارة السبيل، ليس مشايخكم! إن كان في خير في مشايخكم فمن آثار خير محمد! لكن صاحِب الخيرية كلّها، ربَّى هؤلاء وأدَّب هؤلاء، فكيف تكون نتيجتكم أحسن مِن نتيجته! تربيتكم أحسن مِن تربيته؟! أنتم اهْتديتم وهؤلاء ضلّوا؟!! أنتم اسْتقمْتم وهؤلاء اعْوجّوا؟! من أنتم؟! من أنتم؟!
(وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) [الرعد:7]. مَن هادي هؤلاء؟! جلسوا مع من؟ أخذوا مِن مَن؟ سمِعوا مِن مَن؟! صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
فليُتقِ الله في حقِّ رسوله وما اتّصل برسوله، وأول المُتصِلين بِرسوله مِن الأمة آله وصحبه؛ فمن يعِرف عظمة الله وقدرِه وعظمة رسوله يعرف قدر الآل وقدر الصحابة معاً؛ لأن مصْدر شرفهم واحد.
وهكذا يقول الشاعر الفرزدق وهو يُشير إلى علي بن الحسين زين العابدين يقول:
مَنْ يَعْرِفِ اللَهَ يَعْرِفْ أوَّلِيَّةَ ذَا *** فَالدِّينُ مِنْ بَيْتِ هَذَا نَالَهُ الاُمَمُ
فمن يعْرف الله يعْرف مَن محمد! الصفْوة الخِيرَة المُنتخب المُجتبى من قِبَل هذا الإله! .. إذًا مِن أصحابه؟ إذًا مَن آله!
وأنت شُرِّفَت لأنك مِن أمّته، الصِلة بينك وبينه بعيدة، لكن هؤلاء الصِلة قريبة، فأنت نِلت الشّرف وصِرت خير أمّة مِن خير أمّة، وتُريد أن تكدح في الرأس الذي أخذ الشرف من الأصل؛ يوشِك أن تخْرُج مِن دائرة الأمّة -والعياذ بالله تعالى-.
يجب أن تعْرف عظمة الحق، وأنّه يعرف ربك الخالق الذي أحاط بكل شي عِلما، يعْرف يختار أو لا يعرف؟! اختار الأنبياء وجعل خيرهم محمد، اختار لكلّ نبي صحب، وخير الأصحاب أصحاب خير الأنبياء، واختار لكل نبي آل، خير الآل آل خير الأنبياء، واختار لكل نبي أُمّة، فخير الأمم أُمّة، خير الأنبياء..
بشرى لنا معشر الإسلام إنَّ لنا *** مِنَ العِنَايَةِ رُكنَاً غير مُنهَدِمِ
لمَّا دعا الله داعينا لطاعته *** بأكرم الرُّسلِ كُنَّا أكرمَ الأُمَمِ
لمَّا نبينا أكرم الرُّسُل؛ كُنَّا أكرم أمة (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران:110]. انت ستدخل في خير أمّة، وستجىء، للمُلْتصِقين به من الآل والصحابة وستضعهم تحتك؟! اِعقِل! اِعقِل! إن كان هو خير فهو مُنحدِر مِن هؤلاء، إن كان لك شيء فهؤلاء رأس الخير، رأس الخيرية في الأمة عليهم رضوان الله، ولذا قال ﷺ: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وهكذا (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16))، لكن هذا الإنسان، مع عظيم فضل الرحمن، ومع وضوح البُرْهان، ومع حُسنِ البيان؛ يتشبَّث بالطغيان، والعِناد والكُفْران! فيَندُب الله حال مَن يَشُذ ويخرج عن الحق الواضح من بني آدم، من بني الإنسان والدلائل قائمة، والأدلة واضحة فتغلبه نفسه وهواه؛ فيكفر، يريد أن يغطّي الضوء الواضح البيِّن (قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17))؛
(قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17)) ما أشد وأعظم كْفره، ولا يليق به أن يكون بهذه المثابة والصورة وقد أُعطِيَ الفطرة وأُعطِيَ الإبلاغ، ووصل إليه النبأ والرسالة من الحق -جَلَّ جلاله- فيندب حال هؤلاء الكفار.
(قُتِلَ الْإِنسَانُ) الكافر (مَا أَكْفَرَهُ (17)):
(مَا أَكْفَرَهُ (17)) أعْجب من كُفْر هذا وقد أُعطي عقلاً وسمعاً وبصراً (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) [الإنسان:3]. وأُنزِل إليه كِتاب وأُرسِل إليه رسول ويَكفُر! تعجَّب (مَا أَكْفَرَهُ.) قال: ارْجِع تفكّر في أصلك، في تكوينك، أنت الآن إنسان تُكابِر.. تُعاند، اصبر واعلم ما أصلك؟
(قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18)) من نُطْفة، قُطرَة مِن المني مذرة تستقذرها.
(مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19)) سمعًا، بصرًا، لحمًا، عظامًا.. من نُطْفة إلى علقة، من علقة إلى مُضْغة، من مُضْغة إلى هيكل عظمي، من هيكل عظمي إلى كِسوة باللحم، ومُخ وعُروق وعصب (فَقَدَّرَهُ (19)) ما التقدير البديع هذا؟!
يا أخي نُطْفة تتحوّل الى عِظام! نُطْفة تتحوّل الى شعر! نُطْفة تتحوّل الى سمع، بصر! نُطْفة تتحوّل الى دم! نُطْفة تتحول الى بشر! نُطْفة تتحوّل الى لحم! ما هذا؟ نُطْفة! والآن عندما صار سميعا بصيرا، صار يزمجر؛
ما الذي فيه من إشكال؟ يستغربون البعث والحشر، كيف أنتم خيالات عندكم! خيالات ماذا؟! أنت أمامي موجود أو غير موجود، هل هذا خيال! إن كان هذا خيال ذاك خيال.. لأنك أنت موجود أمامي من لا شيء أصلاً، ماكنت شيء.. قل لي قبل مائة سنة أين كان شعرك هذا؟ أين أسنانك هذه؟ أين عيونك هذه؟ وثم من أين جئت؟! من النطفة هذه.
والآن تتعجّب كيف يُردّنا؟! أنت أخْبل.. بليد لأن واقِعك يُكَذِّب منْطِقك هذا الفارِغ الفاسِد، واقِعك يقول: آمِن بمن يُعِيد، فإنه قد بدأ (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ) أيُعقَل الواحد يقول: فقط هذا مرة واحدة يعْرف يخلق ثم لايقدر!! كلام هذا؟! وإذا صنعت الأمر أول مرّة.. ثاني مرّة أقْدر عليه، هذا بالنسّبة لِميزان البشر، أما الله فقُدرته طليقة وكلّ شيء عِنده سواء (وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الحديد:2]. -جَلَّ جلاله-.
(مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19)) -الله أكبر- (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20)) كيف خرجت من بطن أُمّك؟ بحجْمك هذا وشكْلك؟ كيف تخْرج؟
(ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20)):
(ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20))؛
(ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20)) وعامة المولودين مِن البشر وأخصّ مِنهم مِن أنواع الحيوانات يخْرِجون من غير العمليات ومن غير..، كيف يخْرِجون؟ ومَن رتَّب لهم الخروج؟ وكيف تيسّر؟ جنين في بطن أمه، هل يعرف ينقلب؟ هل يعرف يُقدّم الرأس؟ ويعرف الطريق من هنا أو من هنا؟! كيف يعرف؟ من يدفعه؟ من يخرجه؟
(ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20)) إذا كان هذا أصلك! وتأتي اليوم عندما أصبحتَ رئيس أو مسؤول، رفعْتَ رأسك!
(قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17)) ما أشدّ كُفْره! وما أعظم كُفْره! مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20)) تعيش مُدّة قد حددها بالأنفاس، باللحظات، لو اجتمعوا أهل الأرض وحتى معهم أهل السماء أن يزيِّدوا نفس أو يُنقِصوه لحظة أو يزيدوه ما قدروا (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) [الأعراف:34].
ولذلك كان يقول سيدنا علي بن أبي طالب: أقوى حارِس للإنسان أجله.، قال: هذا خير حارس! أجلك، الساعة كم، فقط هو هذا، وقبْلُه لا أحد يقْدِر عليك لا آدمي ولاجِنّي ولا مَلَك ولا أحد يقْدِر، الساعة التي حدّد الله موتك فيها هي هي، إذا انتهى أجلك، لا يوجد لك حارس، هات لك حُرّاس الدنيا كلّهم! لا يوجد لك حارس.
وهكذا (ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21)) -جَلَّ جلاله- إذا انْتهت مُدّته المُحددة له.. نَفَس.. نفسين، عشرة آلاف، مليون نَفَس، ثلاثة مليون، أقل، أكثر، بالضبط يكَمِّل أنْفاسه.
قال ﷺ: "إن روح القدس -يعني جبريل- نَفَثَ في روعي، أنَّ نفساً لن تموت حتى تسْتكْمِل رِزقها وأجلها.." حتى تسْتكْمِل رِزقها وأجلها "فاتّقوا الله وأجْمِلوا في الطلب"
حتى لا يخْلُق سبحانه حبّة وهي رِزق للإنسان مِن حينما تتكوّن في شجرتها مكْتوب عليها بالقلم الربّاني هذه رِزق فلان ابن فلان لا يأكُلها غيره، هذه رِزق الشاة الفُلانية، هذا رِزق الحِمار الفلُاني، هذا رِزق البقرة الفلانية، لابُدّ يصِل إليها، لو تُحاول تأكُله كذا ما تستسيغه، تُسَلِّمه لها لِيصل لها؛ لأنه قد قُسِم لها.
اعْتبِر، نحن قسمنا بينهم، تلقه حقَّا، وبالحقِّ نزل. جلسوا اثنين يتجادلون.. يقول هذا: إن الرِزق لا يجيء إلا بالحركة، قال له: يا أخي الحركة واحدة مِن أسْباب الرزق، الله جعلها كذلك (وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ) [النور:83] بِحركة أو بغير حركة. قال له: لا تكثِّر عليّ كلام، الآن نجرّب أنا وأنت، أنت أجلس في بيتك وأنا سأخرج سأتحرّك و سننظر من يأتي بالرزق. قال: تفضّل، إن أراد أن يرزُقُني قبلك سيرزقني. خرج فوجد فاكِهة عِند الباب أخذها ورماها لأخيه، وقال: خُذ، أنظر أنا الذي تحرّكت وجئت بِالرزق، وذاك أخذها وأكلها، قال: أكملت كلامك؟ قال: من الذي رزقه الله أول؟! قال: أنا. قال: وأين الرزق؟ قال: أنا الجالس الله رزقني! أنا بقيت هُنا جالس ما تحركت؛ الله رزقني، جعلك خدَّام لي تذهب تجيء برزقي، وأكلت رزْقي، وأين هو؟ أذهب ابحث لك عن رزقك أنت.
(وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ) [الذاريات:22-23]؛ تنطق لا تدري كيف تجيء بالكلام، فهو رزق هكذا يأتي، مُقَدَّر من قِبَل الله.
سمِع بعض الأعراب هذه الآية تُقرأ: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ) قال: ما صدَّقوه حتى حلف لهم! ويح العباد! قال: اغضبوا ربهم، ما رضوا أن يصدّقونه حتى حلف لهم! (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ).
(مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21)) جعله من أجل أن يُقبَر، ليس مثل بقيّة الحيوانات تُرمى على الشوارِع وفي البراري، يُقبَر.
(ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21)) ولهذا قال عن الذين قُتِلِوا في يوم بدر مِن الكفار على أيدي الصحابة الكِرام رضي الله عنهم قال الله لهم: ليس أنتم قتلتم بأنفسكم، أنا رتَّبت ذلك (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ..) وقال لحبيبه (..وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ) [الأنفال:17]. -جَلَّ جلالة وتعالى في علاه- فالأمر أمره.
رزقنا الله الإيمان واليقين، ودفَع عنَّا الكُفر والعِناد والفُسوق والعِصيان، اللهم حَبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قُلوبنا، كَرِّه إلينا الكُفر والفُسوق والعِصيان، واجعلنا من الراشدين.. برحمتك ياأرحم الراحمين
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صلِّ عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
09 رَمضان 1438