تفسير سورة محمد، من قوله تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ ..}، الآية: 4

للاستماع إلى الدرس

الدرس السادس والعشرين من تفسير العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة محمد، ضمن الدروس الصباحية لشهر رمضان المبارك من عام 1444هـ ، تفسير قوله تعالى:

{فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)}

يتضمن الدرس:

- وضع الحرب أوزارها وما يحصل عند نزول سيدنا عيسى

- حكمة اختلاف الناس

- أحوال من نالتهم الرحمة

- مشيئة الله في نصرة النبي في الأخذ بالأسباب

- اختبار الله لخلقه ومعرفة القهار 

- حفظ الله لأعمال الشهداء

- من معاني الهداية للشهداء

- تعريف الله لدخول الجنة 

- تأثير الروائح الطيبة على ذكاء الإنسان

- شفاعة الشهيد، وقصة ابن ميسرة

- انظر كيف تنصر ربك؟

 

نص الدرس مكتوب:

الحمد لله الناظر بعين رحمتهِ للمُقبلين عليه، وجاعل المواسم باسطًا فيها موائد الفضل للمُتوجّهين إليه، لا إله إلا هو لا يُحصي أحدٌ عجائبَ نعمته، وعظيمَ مِنّته على من أقبل بالكُليّة عليه، وتذلّلَ بين يديه، إنه الإله الحق الحي القيوم، الحاضر الناظر، القريب المجيب، الواسع الحكيم، اللطيف الخبير، السميع البصير، أنزلَ إلينا الآيات على قلب خير البريّات، فبلَغت إلينا نقيةً بهيةً جليلةً عظيمةً نقرأها على مدى الأوقات، مُمكَّنَةً بحفظٍ منه، لا تنالها أيدي الفُساق والأشرار والكفار، ولا يستطعون تحريف حرفٍ منها، فضلًا عن كلمة، فضلًا عن آية، فضلًا منه علينا وعلى هذه الأمة.

اللهم لك الحمد شكرًا، ولك المنّ فضلًا، فصلِّ وسلِّم على من جعلتهُ بفضلك سببًا لفضلك على عبادك، وجعلته بمنّتك سبب مِنّتك على من سواه من بريّتك، عبدك الطهر الطاهر، المُجتبى المُصطفى ذي المقام الفاخر، وعلى آله الأطاهر وعلى أصحابه الأكابر، وعلى من كان على منهجهم سائر إلى اليوم الآخِر، وعلى آبائه وإخوانهِ من الأنبياء والمرسلين سادات أهل البصائر، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المُقرّبين، وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

ويا ليتَ رمضان لا ينتهي وتدوم لنا خيراتهُ الواسعة الكبيرة، وللهِ الأمر من قبل ومن بعد، اللهم بارك لنا في خاتمتهِ، واجعلنا من خواصِّ أهل نفحاتك فيه على أهل مُغانمته، "لو تعلم أمتي ما في رمضانَ، لَتَمَنَّتْ أُمَّتي أنْ تكونَ السَّنَةُ كلُّها رمضانَ". اللهم سلِّمهُ لنا، وتسلّمه مِنا متقبلاً، برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم سلِّمنا لرمضان، وسلِّم رمضان لنا، وتسلّمه منّا متقبلاً.

أما بعدُ: فإننا في نعمة اتِّصالنا بسر الوحي والتنزيل، وتَطوافنا على المعنى الشريف الجليل، الموجب للرفعة والعزة والتبجيل، ونيل ما لا يتناوله فِكر ولا وَهمٌ ولا قيل، من فائض فيض الملك الجليل -جلّ جلاله- وعطائه الجزيل سبحانه وتعالى، وأسرار مُرافقة جامع الشرف والمخصوص بِأعلى التُّحف عبد الله الأشرف، ونبيّه الأطهر الأنظف صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

مررنا على تأمُّلِ بعضَ معاني آياتٍ في سورة سيدنا مُحمَّد صلى الله عليه وسلم، ووصلنا في الآية:  {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ …(4)} وقُلنا إنّ هؤلاء المُقاتلين من الكُفّار الذين يصُدّون عن سبيل الله -تبارك وتعالى- أرشد الحق إلى قتالهم، كما قال في الآية الأخرى: {أَلَا تُقَـٰتِلُونَ قَوۡمًا نَّكَثُوۤا۟ أَیۡمَـٰنَهُمۡ وَهَمُّوا۟ بِإِخۡرَاجِ ٱلرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخۡشَوۡنَهُمۡ فَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخۡشَوۡهُ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِینَ} [التوبة:13]، وكما قال جلّ جلاله: {فَإِن لَّمۡ یَعۡتَزِلُوكُمۡ وَیُلۡقُوۤا۟ إِلَیۡكُمُ ٱلسَّلَمَ وَیَكُفُّوۤا۟ أَیۡدِیَهُمۡ فَخُذُوهُمۡ وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَیۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكُمۡ جَعَلۡنَا لَكُمۡ عَلَیۡهِمۡ سُلۡطَـٰنًا مُّبِینًا} [النساء: 91]. بِخلافِ من اعتزلوا وألقَوا السلم، قال: {فَإِنِ ٱعۡتَزَلُوكُمۡ فَلَمۡ یُقَـٰتِلُوكُمۡ وَأَلۡقَوۡا۟ إِلَیۡكُمُ ٱلسَّلَمَ فَمَا جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمۡ عَلَیۡهِمۡ سَبِیلًا} [النساء:90] فما أعجب نِظام الخلاق -جلّ جلاله- لِخلقه.

يقول سبحانه وتعالى فهؤلاء الصنف من الصادّين المقاتلين {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ…} غلبتموهم بِأن استفشى فيهم القتل، فذهبت هيبتهُم ومُكنَتهم وقدرتهم على النيل الشديد منكم {..فَشُدُّوا الْوَثَاقَ..} الرباط الذي يُوثَق به، {..فَشُدُّوا الْوَثَاقَ..} ما يوثق به من الرباط، اجعلوه رباطًا قويًا. {..فَشُدُّوا الْوَثَاقَ..} بالأسرِ {..فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ..}، بعد هذا الأسر إما مَنّ وهو: إطلاقهم إذا رأى في ذلك إمام المسلمين المصلحة في ذلك أطلقهم، كما حصل لكثير ممّن أُسروا في عهده صلى الله عليه وسلم، ومنهم من تقدم معنا قريبًا في الحُدَيبية، وجاءوا ومنهم سبعين أو ثمانين، وبدأوا وجاءوا وأمسكوهم المسلمين، وقرّرهم صلى الله عليه وسلم على أنهم لا عندهم عهد من أحد ولا أمان، وأنهم تصرّفوا تصرّف خارج عن العُرف وعن كل اللياقة، وأنهم يستحِقّون القتل، ثم أمر بصرفهم، وأن ينصرفوا من حيث جاءوا، وكان ذلك هو المناسب لِعقد الصلح بينه وبينه قريش -صلوات ربي وسلامه عليه-، ورتّب الله على ذلك خيراتٍ كثيرة.

{..فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً..} أي: إطلاق لهم بمقابل، إمّا مال وإمّا أسرى لديهم، يُطلقونهم مقابل أن نطلق نحن أسرى منهم. يقول: {..حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا..} قد أشرنا إلى معنى وضع الحرب أوزارها، فعلى الخصوص كُل طائفة، كل جماعة في أي مكان، سالموا واستسلموا وتركوا الحرب، خلاص وضعت الحرب أوزارها بالنسبة لهم، فهؤلاء لا يُقاتَلون، ولكن على العموم عند نزول سيدنا عيسى بن مريم هنا {..تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا..} في الأرض كلها، في جميع الأرض، ما عاد هناك أحد يُقاتَل، لأنه ما عاد أحد يصدّ عن سبيل الله ولا يُغالِب! ولكن في مُدّة معينة، بداية سيدنا عيسى يقوم بالجهاد وبالقتال، ويقتل الدجال، ويقاتل أتباعه، وبِأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يقبلُ الاستسلام للجِزية من قِبَل من يدّعي اتِّباعه كذبًا من النصارى واليهود حتى يُسلِموا أو يستسلموا، وهم قومٌ قاتلوا ثمّ لمّا رأوا الغلبة قالوا: نحن سنسلّم الجزية! فهؤلاء في حكم النبي -صلى الله عليه وسلم- عليهم: أنه ما يقبل منهم الجزية، ويُطبّقها سيدنا عيسى بن مريم عليه السلام.

{..حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا..} يقول الله لحِكمةٍ شرعنا لكم الجهاد، وجعلنا أحوال الناس هكذا مختلفة على ظهر الأرض في اتجاهتهم وفي أفكارهم، وفي أعمالهم وفي اختياراتهم وفي مساعيهم؛ حِكمة، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً..} [هود:118]، لا إله إلا الله. ولكن فرّقهُم سبحانه وتعالى، ويُدخل من يشاء في رحمته، ويهدي من يشاء، ويُضِلّ من يشاء، ومن جملة الحِكَم أن تقوم أسرار الجهاد، المُجاهدة في سبيل الله، ومعاني الصبر والتضحية التي يترتب عليها علامة الصدق، وعظيم الأجر عند المُلاقاة، وشريف المرافقة على شؤون البذل والتضحية والتعبير الصحيح الصادق عن المحبة للرحمن -جلّ جلاله- {إِنَّ ٱللَّهَ ٱشۡتَرَىٰ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ أَنفُسَهُمۡ وَأَمۡوَ ٰ⁠لَهُم بِأَنَّ لَهُمُ ٱلۡجَنَّةَ..} [التوبة:111]. 

يقول جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه في آخر سورة هود: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا یَزَالُونَ مُخۡتَلِفِینَ * إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَ ٰ⁠لِكَ خَلَقَهُمۡ..} [هود:118-119]، فمن نالتهم الرحمة العظيمة الخاصة هم الذين يعيشون على حقيقة الموَدَّة والأُلفة، {..وَلَا یَزَالُونَ مُخۡتَلِفِینَ * إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} فهؤلاء الذين يعيشون حقيقة الألفة والأخوّة والمحبة فهم في الدنيا يُشابهون عيشة أهل الجنة، {..إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ}، {وَنَزَعۡنَا مَا فِی صُدُورِهِم مِّنۡ غِلٍّ إِخۡوَ ٰ⁠نًا عَلَىٰ سُرُرࣲ مُّتَقَـٰبِلِینَ} [الحجر:47]، الله أكبر! والأمثلة في ذلك ممّا كان في عهد الصحابة من المهاجرين والأنصار، ومن خَلَفهم في مختلف الأقطار، عاشوا هذه العيشة في المودة والمحبة الصادقة في الله -سبحانه وتعالى-، ومعرفة كُل منهم بفضل الآخر وقَدْره، وخدمته بل وفدائه ولو بنفسه -عليهم الرضوان-.

يقول: {..وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ..} كما يأتي معنا في الآيات، يقول: كم من قرية أشد قوة من حقك هذه مكة، الذين آذوك الجماعة فيها وأخرجوك، أشدّ منها وأهلكناها، لو أردنا نهلكهم؛ ليس صعب علينا، هو أمر يسير، ولكن نريدك تهاجر، نريدك تصبر، نريدك تدخل الغار، وتقعد فيه أيام، تُبرهن على أسرار محبتك لنا، وتُنبئ أمّتك أن التعامل معنا يكون هكذا، ليقتدوا بك من بعدك، ويسيروا في هديِك وسبيلك، نريد هذا. {وَكَأَیِّن مِّن قَرۡیَةٍ هِیَ أَشَدُّ قُوَّةࣰ مِّن قَرۡیَتِكَ ٱلَّتِیۤ أَخۡرَجَتۡكَ أَهۡلَكۡنَـٰهُمۡ..} [مُحمَّد:13]، ولكن الله يريد هذا، ويريد يتعلموا منك: أخذتَ بالأسباب واتجهت غير اتجاه المدينة، واختبأتَ وسط الغار، ورتبت مع أولاد أبي بكر الصديق، والذي يحضر العشاء، والذي يمرّ بالغنم على الشوارع التي مشوا فيها حتى لا يهتدوا إلى الأثر، رتبت الأمور وأقمتها ومع ذلك كُله ماشي من هذه الأسباب التي أقمتها لأجلنا وبأمرنا حَمَتَك! نحن حميناك، أوصلنا القوم إلى فم الغار، وانتهت الأسباب كلها، ولكنّا منعناهم أن يدخلوا إليه، بل منعناهم أن ينظروا! يقول سيدنا  أبي بكر وسط الغار: لو نظر أحدهم موضع قدمه لرآنا، لو قال كذا بس! لكن ما عنده رخصة من الخلّاق يقول كذا.. ما يقدر يُنزل برأسه، ولا واحد منهم!، سبحان الله! وهكذا حتى ذهبوا وتركوهُ في الغار -صلى الله عليه وسلم- هو وصاحبه الصديق.

إذًا {..ذَلك وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْض..} حِكمة لله تعالى يختبر الناس بعضهم البعض {وَجَعَلۡنَا بَعۡضَكُمۡ لِبَعۡضٍ فِتۡنَةً أَتَصۡبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِیرًا} [الفرقان:20] وذلك أنّ الكون مُسَيّر بإرادة مُكوِّن، فمن قِلة العقل أن يريد أحدٌ في الكون مسارًا وتسييرًا وشأنًا غير ما أراد المُكوِّن -جلّ جلاله-، فالأمر ليس إليك! تقدر تنفذ من أقطار السماوات والأرض؟ أنت تحت قهره أصلًا، شئت أم  أبيت! اعرف قدر القهّار لتَكمُل. لذا قالوا: أن الذكر الذي تكمُل به نفس الإنسان؛ يصل إلى النفس الكاملة بعد المطمئنة والراضية المرضية: اسم القهار، يا قهار! يقول يا قهار يريد أن تكمل به نفسه، أنت تحت قهره أصلًا، شئت أم أبيت! {یَـٰمَعۡشَرَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِ إِنِ ٱسۡتَطَعۡتُمۡ أَن تَنفُذُوا۟ مِنۡ أَقۡطَارِ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِ فَٱنفُذُوا۟..} [الرحمن:33]، لا واحد ينفذ ما يقدر، {..لَا تَنفُذُونَ..} إذًا أنتم مقهورون، في أحداث حياتكم اليومية تريد كذا يكون كذا، تريد كذا يكون كذا، أنت تحت قهره أصلًا، ما لك ما تُقِرّ؟ ما لك ما تعرف؟ ما لك ما تُدرك الحقيقة؟! فاعرف القهار من هو، واخضع له يرفعك ويعزّك ويشرّفك -جل جلاله وتعالى في علاه-. إن نسيته وتغافلت عنه، وتعاميت، ورُحت تخضع لنفسك أو هوى أو شيطان أو حكومة أو حزب، بيذيقك المرارة في التعب في الدارين، إيش يقدَّرك على هذا؟! فأحسن لك تواضع للقهّار -جل جلاله وتعالى في علاه- واخضع له، ولا تستبدل به غيره.

{..ذَلك وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْض..} ويعرف المؤمن قال تعالى: {وَلَنَبۡلُوَنَّكُمۡ حَتَّىٰ نَعۡلَمَ ٱلۡمُجَـٰهِدِینَ مِنكُمۡ وَٱلصَّـٰبِرِینَ وَنَبۡلُوَا۟ أَخۡبَارَكُمۡ} [محمد:31] اللهم إنّك إن بلوتنا فضحتنا، فاسترنا بسترك الجميل وثبِّّتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة. يقول: {..وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ..} وفي قراءة: {قاتلوا} وفي قراءة: {قَتَلوا}، {والذين قاتلوا} {والذين قَتلوا} {..وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ..} كلهم بأصنافهم {..فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4)} وهذه بشارة لمن صحَّ منه القتال في سبيل الله ولو ساعة أن الله يحفظ عليه الإيمان حتى يتوفّاه عليه؛ لأنه لا يضل عمله {..وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} سيبقى عملهم محفوظ بِحفظِ حافظ يرعاه، معناه سيثبت ويموت على لا إله إلا الله، إذا صدر منه قتال في سبيل الله خالص لوجه الله ولو ساعة فلهُ بشارة؛ لأن الله قال: {والذين قاتلوا} {والذين قَتَلوا} {..وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} وما يمكن لا يضل أعمالهم إلا يتوفّاهم على الإيمان، ويُكافئهم على الأعمال بالإحسان، ويِدخلهم الجِنان؛ وإلا بيضيع العمل لو تزلزل وزاغ القلب عند الموت؛ ضاع العمل {..فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} يا فوزهم!

{سَيَهْدِيهِمْ..} سيهديهم، إذا قُتِلوا، عاد باقي هداية؟ على قراءة {قُتلوا}، عاده سيهديهم؟! يهديهم أسرار الهداية التي تكون في البرزخ للجواب بالقول الثابت، ولحُسن الجواب عند السؤال، ولمواطن وشؤون البرازخ والقيامة، أنواع من الهدايات، ثمّ تفيض الهدايات على أولادهم وأحبابهم ومن والاهم، يهديهم ببركة قتل هؤلاء من قراباتهم، ويبيّن لهم طريق الخير والهدى. {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5)} موضع فكرهم، ومعارفهم، وتعقّلهم: بالهم! يصلحه، فيصلح الشأن، ويصلح الحال، ويصلح الجسد، {..وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ}، الله أكبر!

{وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ..} اللهمّ ادخلنا جنّتك مع السابقين من غير سابقة عذاب ولا عتاب ولا فتنة ولا حساب {..عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)} عرّفها لهم أنواع التعريف:

  • أولًا: في الدنيا عرّفَنا سبيلها، وأوصافها وأعمالها "إنَّ اللهَ خلق الجنةَ، وخلق لها أهلًا، فهم بعمل أهل الجنة يعملون" وبيَّنَ لنا الطريق الموصل إلى الجنة في الأقوال، وفي الأفعال، وفي النظرات، وفي الحركات، وفي المعاملات.
  • ثمّ {..عَرَّفَهَا لَهُمْ} عند دخولهم إليها كل واحد يعرف منازله ودرجاته وأماكنه بالضبط، حتى قال صلى الله عليه وسلم: إنّ أحدهم عند دخوله الجنة، أهدى لمنزله في الجنة منه لمنزله في الدنيا، تعرف المنزل حقك في الدنيا؟ تعرف أين البيت حقك؟ أنت عند دخول الجنة تعرف مكانك أكثر ممّا تعرف بيتك في الأرض! وهذا عالم كبير {..جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ..} [آل عمران:133] تعرف محلّك بالضبط أين ومكانك كأنك خلقت فيها!
  • {..عَرَّفَهَا لَهُمْ} سبحانه عرّفها لهم؛ رفعها ورفع غرفها، وأماكنها، من الأعراف وهي: الجبال، عرّفها جعل فيها منازل عالية، وقصور رافعة، وأسرّة رافعة، كما قال: {..سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ} [الغاشية:13]، فعرّفها بمعنى: رفعها.
  • {..عَرَّفَهَا لَهُمْ} طيّبها حتى أن ريحها يوجد من مسافة خمسمئة عام من العَرف، ريح طيبة عجيبة، الله الله الله! لو أنَّ امرأة من الحور العين من نساء الجنة خرجت في الدنيا في الأرض في الشرق، لوُجِد طيب الرائحة بالغرب، هل عندهم طيب من مثل هذا الشيء أصحاب العطور الغالية؟! أين يصل الريح حقهم؟ هذا من شرق الأرض إلى غربها. وهكذا حتى قال -صلى الله عليه وسلم- في منزلة تلك الجنة: "لمناديلُ سعدٍ في الجنةِ خير من الدنيا وما فيها" منديل يمسح به وجهه. الله أكبر! 

 

قال: {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} فلهم عَرَّف فائق، طيّب! يُشَم من مسافة خمسمئة سنة، تشم الرائحة الطيّبة الزكية! فكيف تكون فيها وتعيش فيها؟ في عالم الدنيا يرون أن الروائح الطيبة الزكية الشذيّة تؤثر حتى على عقل الإنسان وطريقة تفكيره وذكاؤه. حتى يقول سيدنا الشافعي: "من طاب رِيحُه زكى عقلُه". وهكذا حتى فرّقوا بين أطفال نشؤوهم يشمّمونهم كل يوم الورد ورائحة طيبة وآخرين، فطلعوا هؤلاء في غاية من الذكاء، وهؤلاء مداركهم ما زَكَت، لا إله إلا الله! وهذه رائحة الجنة.

  في ليلة الإسراء والمعراج، وجد صلى الله عليه وسلم رائحة زكية، يقول لسيدنا جبريل: ما هذه الرائحة؟ هذه رائحة ماشطة بنت فرعون، من ماشطة بنت فرعون؟! هذه كانت تمشط بنت فرعون مرتبينها تجيء عندهم تمشط بنتهم، سقط في يوم المشط من يدها، قالت: "بسم الله"، قالت لها البنت: أبي؟ قالت: من أبوكِ! الله! خالق أبيك وخالقك وخالق السماوات والأرض، قالت: ألك إله غير أبي؟ قالت: الله ربّي وربّك وربّ أبيك، قالت: سأقول لأبي بهذا الكلام، بلّغت أباها، استدعاها، قال: تعبدين إله غيري؟ قالت: الله! الذي خلقني وخلقك وخلق السماوات والأرض. قال: ترجعي عن هذا؟ قالت: أبدًا! أَمَر بقِدْر من نحاس يُملأ زيت ويغلى، وقال: خذوها وأولادها وارموهم فيه، قالت: عندي لك طلب، قالت: إذا رميتمونا في الزيت هذا بعدين اجمع عظامي أنا وأولادي مرّة ادفِنّا في مكان واحد، قال: هذا لكِ لِمَا لك من الحق علينا. حملوا ابنها الأول ورموه انخلع بسرعة زيت يغلي، الثاني، قربت معها الطفل الرضيع فلما أحسّت شهف النار أدركتها رحمة على طفلها فتقاعست، ففك الثدي منه -كان يرضع- فك الثدي من فمه وقال: اثبتي يا أماه إنكِ على الحق! ورموها. قال: هذه الرائحة حقها، شمّها صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء والمعراج من دون الروائح الموجودة في الجنّة كلها، لكن فاحت رائحة ماشطة بنت فرعون لِصدقها، ولتضحيتها، ولمحبتها، وآثرت ربّها -جلّ جلاله-، قُتل أولادها أمامها، وقتلت مع رضيعها، فهنيئًا لها عليها رضوان الله.

يقول: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} يحفظها لهم، ويُنمّيها، ويجزيهم الجزاء الوافي؛ حتى يكون للواحد منهم: يشفع في سبعين من آل بيته، من قبيلته كلهم وجبت له النار -وجب له دخول النار- فما عاد يدخلون بشفاعة هذا الشهيد. يُغفر للشهيد أول قطرة من دمه، لا إله إلا الله! ويُعطى مزايا كثيرة، فكيف بأعالي الشهداء الذين من أجل الله -جل جلاله- وحده ولوجهه قاتلوا؟!

يذكر الحافظ أبو نعيم عليه رحمة الله أن ابن ميسرة يقول خرجت في غزوة، فالتفتت وإذا غلام كله مُدرّع -لابس الدرع في القتال- وإذا به يرتجِز يقول:

أحسِن بمولاكَ سعيد ظنّــا ** هذا الذي كنتَ له تمنّى

تنحَّ يا حور الجنان عنـا ** ما لكِ قاتلنا و لا قُتلنا

لكن إلى سيدكنّ اشتقنـــــا ** قد علم السّر وما أعلنا

 قال ومال إلى الميمنة حتى ثناها، وإلى الميسرة حتى ثناها، وإلى القلب حتى ثناها، ثم عاد! وارتجز بأبيات أخرى، قال: ثم دخل في القوم فقَتَل منهم عددًا ورجع إلى مصافه، قال: فتحامل عليه مجموعة منهم، قال: فحمل عليهم، وقتل منهم عدد، ورجع إلى مصافه، وأخذ يرتجز بأبيات، وفي ثالث مرة قال حتى قُتِل في سبيل الله على المحبّة، الله أكبر! يُريد وجه ربه.

قال: {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا الله..} تنصروا دينه، وشريعته، وسنة نبيه مُحمَّد -صلى الله عليه وسلم- {..يَنصُرْكُمْ..} يعني: يقبل منكم هذا، ويثبِّتكم على الصدق، وعلى الإخلاص، ومُداومة العمل، يثبّتكم، قال: {..يَنصُرْكُمْ..} على نفوسكم وأهوائكم وعلى كل القواطع تقطعكم، وعلى من عاداكم، على مراتب في النصر {..وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمَ (7)} فلا تزيغوا، ولا تضلوا فِكرًا، ولا نِيّةً، ولا عملًا، {..إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} اللهمّ اجعلنا ممّن ينصرك وانصرنا، وثبّت أقدامنا. {..إن تَنصُرُوا اللَّه..} وَجب عليك أن تخرِج من رمضان بنعمة أن تكون من أنصارِ ربّك -جلّ جلاله- بِكل ما أُوتِيت، {..إِن تَنصُرُوا الله يَنصُرْكُمْ..} يؤيّدكم، ويعينكم، ويأخذ بأيديكم، {..ويُثَبِّتْ أَقْدامَكُمَ} على الصِّراط المستقيم حتى تُتوفَّوا مسلمين مؤمنين وتنالوا رِضوانه.

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا..} ممّن يقاتلونكم ويحاربونكم ويؤذونكم، {..فَتَعْسًا لَّهُمْ..} والعياذ بالله تعالى، تعساً لهم؛ خَيبة وهَوان، ويُقالُ للساقط المُنكبّ على وجهه: تعِس، تَعِسَ: سقط وانكَبّ على وجهه، {..فَتَعْسًا لَّهُمْ..} أي: لهم السقوط والهَوان والذلّة والخيبة. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8)} لا يجدون لها نتيجة، ولا يصلون بها إلى غاية، ولا يجدون عليها ثواباً؛ {ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ..} من الأوامر والنواهي والوحي والتشريع، {..فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)} والعياذ بالله تعالى، لأنهم عاندوا الجبار -جلّ جلاله-، وكان يجب أن يُحسِنوا التفكير، كما أشار إليهم في قوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ.. (10)}، كما يأتي معنا إن شاء الله تبارك وتعالى.

فانظر كيف تنصر ربّك؟ باقي معك أيام قليلة من رمضان، انصُر الرحمن بالصدق والإخلاص والإيقان في إقامة أمره، وتعظيم شريعته، وإحياء سنة نبيّه في أعضائك، وفي قلبك، وفي أسرتك، وفي بيتك، وفيما حواليك. وانوِ أن تكون بعد رمضان ناصرًا لربك حتى تموت، لا تُقدّم أمرًا على أمره، ولا تؤثِر شيئًا عليه كائنًا ما كان، واحمِ سنّة نبيّه وهديه، وإن نشروا برامج، ومنظمات، وأعمال، وخطط كبيرة.. دعهم! انصره؛ فسينصرك عليهم.

{إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ..} بجميع مخططاتهم، في جميع مخططاتهم {..فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} تراهم يفعلون هكذا في العالم اليوم، وستأتي.. ما تمرّ الأيام إلا والناس يدخلون في دين الله، ويظهر نصر دين الله، وإن انحرف من انحرف، وضلَّ من ضل، وتأثر من تأثر، ولكن الغاية والعاقبة عظيمة، فانتبه مِن سرّ صِلتك بالحي القيوم الذي لا يموت، وتأدّب معه، وانصره بكل ما تستطيع، فلك العاقبة.

{إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ..} ارزقنا محبّتك، ومحبّة ما أنزلت، ومحبّة رسولك، ومحبّة ما بلغنا، وما هدانا، وما دلّنا، وما دعانا، والعمل بذلك على الوجه الأرضى لك، يا خالقنا وخالق السماوات والأرض، ثبّتنا على ما تحبّه منا برحمتك يا أرحم الراحمين، فقد أرسلت إلينا نبيك،

دعانا إلى حــق بحـــق مُنـــــزل **** عليه من الرحمن أفضل دعوةِ

أجبنا قبلــــــنا مذعنين لأمــــــــره **** سمعنا أطعنا عن هدى وبصيرةِ

فيا ربِ ثبتنا على الحقّ والهـدى **** ويا رب اقبضنا على غير ملةِ

وعمّ أصولاً والفروع برحمة **** وأهلاً وأصحاباً وكل قرابة

وسائر أهل الدين من كل مســلم **** أقام لك التوحيد من غير ريبة

وصل وسلم دائم الدهر سرمــــداً **** على خير مبعوث إلى خير أمة

محمد المبعوث مـــــنك بفضلك **** العظيم وإنزال الكتاب وحكمة

 

برحمتك يا أرحم الراحمين

 

تاريخ النشر الهجري

28 رَمضان 1444

تاريخ النشر الميلادي

18 أبريل 2023

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام