(536)
(239)
(576)
الدرس الثامن والعشرين من تفسير العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة محمد، ضمن الدروس الصباحية لشهر رمضان المبارك من عام 1444هـ ، تفسير قوله تعالى:
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17)}
الحمد لله مُكرمنا بآياته وبيانها على لسان خير بريّاته، سيّدنا محمد بن عبد الله، رحمة الله المسداة ونعمته المهداة، صلى الله وسلّم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهداه، وعلى آبائه وإخوانه من رسل الله وأنبياه، وعلى آلهم وصحبهم وعلى تابعيهم وعلى جميع ملائكة الله المقربين، وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين..
أما بعدُ: فإننا في نِعمة تأمّلنا لكلام ربّنا سبحانه وتعالى، وخطابه وتعليمه ووَحيه، وتفهيمه وتبيينه وتعرُّفِه وتعرِيفه لخلقه، تأمَّلنا أوائل آيات سورة سيدنا محمد -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- مررنا على قولهِ -جلّ جلاله-: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهَمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهَمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10)}، دعا الخالق عباده إلى أن يُحسِنوا النظر، ويُعملوا الفكر في واقع الأمم، ومن مَضى قبلهم من أنواع الطوائف، وأن يستفيدوا من ذلك، وأن يأخذوا من ذلك ما يُنبِّههم وما يُوجهّهم وما يغنمون به أعمارهم القصيرة على ظهر الأرض، ويقولوا إنما فعل بالسابقين كذلك يكون لِمن بعدهم، قال سبحانه وتعالى: {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ * ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ * كَذَٰلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} [المرسلات: 16-18].
ويقول: {ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا..} اللهم زِدنا إيمانا وتولّنا في كل شأنٍ بما أنت أهله، {..وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَىٰ لَهُمْ (11)} قُلنا كُلّ من ليس له مولى نافذ الحكم والأمر ظاهر وباطن فليس له مولى، كُل من اتّخذه موالي غير الذي بيده الأمر ليس بِمولى؛ لأنه يضعُف في نفسه ويضعُف عن نفع غيره، كما قال -جلّ جلاله وتعالى في علاه- في ذكر هذهِ الحقيقة، يقول سبحانه: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} [الأعراف:197]، وقال في الآية قبلها: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} [الأعراف:191-192] فإذًا من مولاهم؟! هم الذين تولَّوهم هؤلاء، ما يستطيعون نصر أنفسهم ولا يستطيعون نصرهم! {..لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} [الأعراف:197] فأيّ موالي هذه؟! مالكم مولى إذًا. ولهذا قال لهم -صلى الله عليه وسلم- في غزوة أحد: أجيبوا! على أبي سفيان لما كان في كفره، وقال: إن لنا العُزّى ولا عُزّى لكم، قالوا: ماذا نقول له؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم، بعد ما قال لهم: اعلُ هُبل، يومًا بيوم بدر؛ أجابوا قالوا: لا سواء! قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، قال: إن لنا العزى ولا عزى لكم، قال صلى الله عليه وسلم: أجيبوه؟ قالوا: ما نجيبه؟ قال: قولوا الله مولانا ولا مولى لكم، {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا..} [البقرة:257]، تولّنا وزِدنا إيمان وتولّنا في جميع شؤوننا ظاهرًا وباطنًا في دنيانا وآخرتنا يا نعم المولى ويا نعم النصير.
قال الله عن عموم مشروعية الجهاد والقيام بأمره على ظهر الأرض: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الأنفال:39-40]، لا إله إلا الله، ويقول سبحانه وتعالى: {..هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج:78]، ويقول -جل جلاله وتعالى في علاه-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [آل عمران:149]، فكل من فكّر قال إن الجماعة الفلانية والدولة الفلانية -وهي كافرة- بتنقذه وبتخلّصه ويطيعهم في شيء؛ {..يَرُدُّوكُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ..} يسقطوكم إلى تحت {..فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ}، بل الله مولاكم. إن أردتم عزًّا أو نُصرة أو صلاحًا أو خيرًا ظاهرًا أو باطنًا، فتعالوا إلى عنده {بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} [آل عمران:150] جلّ جلاله.
فالحمد لله على نعمة الإيمان، اللهم زِدنا إيمان وتولّنا في كل شأن، {ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَىٰ لَهُمْ}، {..وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [آل عمران:192]، {..وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [الشورى:8]، {..وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءُ..} [الأحقاف:32]، ما أحد يقدر يرد عنهم غضبه ولا سخطه، ماشي مولى؟ من مولاه أصلاً؟ من مولاه؟ {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الأعراف:194].
يقول -جلّ جلاله-: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ..} اللهمّ ارزقنا الإيمان وعمل الصالحات، يُدخلهم بفضله وجوده وكرمه، يُدخلهم الجنات لأنه لا يُضل أعمالهم، فلهم مولى يتولّاهم ويُنمّي لهم أعمالهم الصالحة ويُضاعِفها ويدخلهم جنته جلّ جلاله، {..وَالَّذِينَ كَفَرُوا..} ما لهم مولى، فما غاية ما يحصّلون؟ {..يَتَمَتَّعُونَ..} ببعض الملاذ الحسية الجسدانية في الدنيا بس، شي معهم غير هذا؟ {..وَيَأْكُلُونَ..} حتى الأكل حقهم مثل الأنعام! مجرد اللذاذة ومن دون ما يُفرّق بين حلال وحرام كالبهيمة؛ تأكل من أي شيء، من هنا ولا من هنا، وماشي عندها ما تعرف، والقصد فقط تأكل وهذا يشبهها.
قال:{..وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ..} لا يُفكّرون من أين جاء الطعام؟ وكيف كُوِّن؟ {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} [الواقعة:63-65]، تقلّبون أيديكم، بعدين ماذا تقولون؟ {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ} [الواقعة:66-69] هؤلاء يشربون ما يفكرون! ويأكلون ما يفكرون! ولا دروا من أين جاء ولا كيف؟ وإذا رأوه يُحدِث -سبحانه- ألوان في هذا المكان أو في هذا الوقت في الزمن يعملونه، طيب من الذي رتب؟ من الذي رتّب هذا وقته ذا؟ ومكانه كذا؟ والطينة الفلانية مناسبة له؟ مَن مِن دولكم رتّب هذا؟ ايش من تكنولوجيا عندكم رتّبت هذا؟ الله، لا إله إلا الله! وصيف وشتاء، وذا يصلح هنا وذا يصلح هنا، من الذي رتّب هذا كله ودبّره؟ أمامكم آيات ظاهرة بس تأكلون وتمشون ما تفكرون كيف جاءت ولا كيف ترتبت وما المقصود من تناولها؟! وما الفرق بين الحلال والحرام! فهؤلاء مثل الأنعام يأكلون بس {..وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ (12)} عاقبة، وبئس المثوى وبئس المصير وبئس الغاية التي ينتهون إليها، اللهم أجِرنا من النار.
وفي الحديث أيضاً:" لا يجتمع كافرٌ وقاتله في النار" يعني: من قاتله من أجل الله وفي سبيل الله ما يجتمعون في النار أصلًا، يعني هذا المؤمن ما يدخل النار، وعليه قراءة: {وَالَّذِينَ قَاتَلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} قال: ما يجتمع كافر وقاتله في النار، لكن قد يجتمع مؤمن وقاتله في الجنة.. يُمكن، يتوب الكافر ويرجع بعد ما قتل واحد من المسلمين أو عدد من المسلمين، ثم يُنيب إلى ربّه ويموت مسلم أو يُستشهد في سبيل الله فيدخل هو والمقتول حقه الذي قتله معًا إلى الجنة.
يقول تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ..} مكة المكرمة ومن فيها من عصابة الكفار الذين ردّوا دعوتك وآذوك وعاندوك، قال: مثلهم كم قُرى؟ أي كم من جماعات في قرى كثيرة، كانوا أكثر منهم عدد وأكثر منهم عُدّة وكانوا أقوى منهم في الأجسام وأقوى منهم في الأسلحة وأقوى منهم في التفكير.. كثير {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ..} فماذا يظنّوا هؤلاء؟ يظنّوا بنا عجز أو ماذا؟ أو ينتظرون غير ما عملنا بمن قبلهم؟ مِمّن شابهوهم، يقول -وهم أشد منهم قوة-: {..أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ (13)}، ما قدر أحد يؤخر العذاب عنهم ولا يؤخر الهلاك عنهم! لا شطارتهم ولا قوّتهم ولا أسلحتهم ولا وزاراتهم ولا ملوكهم! ما حد قدر يؤخر العذاب عنهم! عذبهم الله وانتهوا {أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ}، {..وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [آل عمران:192] الله أكبر!
{وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ} ففيه إنذار لهؤلاء وتحريض على أن يرجعوا عن غيّهم، يقول تعالى والحقيقة في مسار الحياة: {أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ..} بينة؛ أي: طريق واضحة جليّة صحيحة قويمة مصدرها الرب. {أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ..} وأعظم مَن هو على بيّنة من ربه: محمّد صلى الله عليه وسلم، سليم الفطرة، قَويم السلوك من نشأته وطبيعته، ومع ذلك أثنى عليه الخلّاق: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- ويتَّبع وحي ربه. {أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ..} أتباعه كلهم -صلى الله عليه وسلم- صاروا على بيّنة تلقّوها من الرب بواسطة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فما أحد بأي فكر في العالم يُمكن أن يُماثل أتباع أنبياء الله؛ لأن أتباع الأنبياء يقيمون أمورهم على علم الله ووحي الله وتنزيل الله، والآخرين كلهم بأصنافهم على ماذا يُقيمون الأمور؟! على ظنونهم وأوهامهم ومدارك عقولهم؛ وهذه تختلف تتغير تتبدل! فلهذا كل ما خالفوا فيه ما بُعث به الأنبياء تحوّل عليهم حسرة وندامة في الدنيا وفي الآخرة، كلّه؛ كل فِكر كل عمل وسلوك خالف ما جاء به الأنبياء تحوّل على العاملين به إلى سوء وإلى ندامة في الدنيا والآخرة.
فالحمد لله على نِعمة الإسلام والشَّرف لمن مصدره، لو كان مصدرك عقلك أنت وهواك أنت لكنت على ضلال وعلى خطر، كيف مَن أحضروا عقول ناس آخرين تافهين مِمّن لم ينظر الله إليهم؟! يقولون لك لا نحن اكتشفنا كذا، هذا كذا، هذا يصلح هذا ما يصلح، وتمشي على عقولهم هؤلاء؟! {.. إن هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ..} [الفرقان:44]، وتمشي على عقولهم وتترك هَدي الله ومنهج الله ووحي الله؟ الحمد لله على نعمة الإسلام، اللهم ثبِّتنا على الحق فيما نقول، وثبِّتنا على الحق فيما نفعل، وثبّتنا على الحق فيما نعتقد، {أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ..} سوء العمل زُيّن له {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ..} [فاطر:8] لا إله إلا الله.. اللهم اهدِنا فيمن هديت.
{أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ}، ومن كان على بَيِّنَةٍ مِن رَّبِّهِ هل يُمكن أن يكون {كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ}؟ وهكذا، والذين يعيشون معكم على ظهر الأرض ويدّعون أي شيء يدّعونه من التقدُّم والتطور أو المعرفة أو كذا، أُلقِ عقلك وبصرك وسمعك وانظر على ماذا يبنون أمورهم؟ وكيف يتصرّفون؟ وما الذي عملوا بأنفسهم وبشعوبهم وبالدول حواليهم؟ كيف عاش الناس في أوقات امتِداد نفوذهم وحُكمهم في العالم؟ كيف عاش الناس؟ مآسي مآسي، مأساة بعد مأساة، وإلى أن توصّلوا إلى أن يُقنّنون للشذوذ ومُخالفة الفِطرة! وكم قد أخذوا من أموال الغير وكم نهبوا من ثرواتِ الغير؟ وكم استغلٍوا نفوذهم وسياستهم في أخذ ما لا يستحِقّون؟ وفي إخضاع ذا بذا، وفي ضرب ذا بذا وضرب ذا بذا؛ لأنهم أصلًا ما هناك أساس صحيح يقومون عليه في فكرهم ولا عقولهم؛ كفار! النِّعمة إذا جاء نور من عند الله وقال لك: افعل ولا تفعل؛ هذا الطريق الصحيح، هذه الرفعة للإنسان، هذا الشرف للإنسان، هذه العِصمة من الزَّلل والخطأ في المنهج، صادر من فوق مِن عند مَن {..أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق:12] {..وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الجن:28]؛ هذا هو النور وهذا هو الخير، أمّا أفكار بعد أفكار بعد أفكار وإلى متى؟! ويجرّبوا على الناس فكر بعد فكر، ومنهج بعد منهج، وكلام بعد كلام، ولعبوا بحياة البشر لعب! الله يدفع شرهم عنّا وعن جميع المسلمين، ويُحيي قلوب المسلمين لِتعلم نعمة الإسلام وتقوم بحق منهج الله فتعمل به وتطبّقه وتنشره وينقذون به بمن سواهم.
يقول سبحانه وتعالى: {..وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُم (14)} هؤلاء {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ..} [الجاثية:23]، -سبحانه وتعالى- وقال: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44] -والعياذ بالله تبارك وتعالى- في أهل اتباع الهوى، واتّباع الهوى أمر خطير ومُريب، كيف يتحوّل عند بعض الناس إلى حُرية؟! معنى الحُرية، ما معنى الحرية؟ تتّبع هواك، في أي شيء؟ في أي شيء يتعلّق بالديانات وغيرها؛ إلا مصالحنا إلا نظامنا إلا قوانيننا بس ما لك هوى فيها، لابُد تخضع لها، قل: إذا بخضع لكم بخضع لربي أحسن! ربي هو الذي خلقنا وأخضع له وأضبط هواي أحسن ولا أضبط هواي لحقكم هذا النظام الذي أنتم أحدثتموه من رؤوسكم تتأمرون تتألّهون به عليّ وتستعبدونني! أنتم بشر مثلي؛ أحسن أُستعبَد لله الذي هو يملكني -جلّ جلاله- وأضبط هناك شهواتي وأهوائي، أمّا يكون هواي وشهوتي تبع لكم ولمصالحكم إذا ما يضر مصالحكم؛ خَربِط وابعد عن ربك والعب بدينك والعب بالقيم والعب بكل شيء.. بس لا تمسّ مصالحنا، لا تمس نظامنا وقوانيننا، وإلا أنت مخالف للنظام سنقيم عليك القانون! إيش هذه الحرية؟! خلّونا حر ليش تُحَكِّمون عليَّ نظامكم؟! قالوا: الحرية بس لا تخلّي نظام الحق يحكمك ولا ما جاء به الأنبياء.. بس هذا معنى الحرية عندنا، أما النظام لابد منه ما حد قدر يعيش بالدنيا بلا نظام، النظام بس خل هواك تبع لنا نحن، لأهوائنا نحن، يعني استبدل بالإله الحق أهواءنا؛ لتكون أهواءنا إله لك بدل الله! -أعوذ بالله من غضب الله- ايش هذا؟!.. هذا هو الذي يعملونه، هذا الذي يدعون إليه! -نعوذ بالله من غضب الله-! ولذا قال الله في الذين يتّبعوا الأحبار والرهبان وقد بدَّلوا حكم الله، حرّموا ما أحل وأحلّوا ما حرّم، قال: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31]. وما أحد منهم جاء للرهبان يسجد له أو يعبده ويقول أنت ربي؛ إلا قبلوا منهم يُغَيِّروا حكم الله وقالوا هذه هي عبادتهم لهؤلاء الأحبار والرهبان {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31].
يقول: {..وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} لكن الذين شُرِّفوا بأن يكون هواهم تبعًا لما جاء عن الله، يحمله مُنتخَبوه مِن خلقه وبريَّته الذين اصطفاهم {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75]؛ هؤلاء لهم الجنة..{مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ..} -اللهم ألحقنا بالمتقين- {مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ..} وعد حقٍّ من قِبل الخالق الذي لا يُخلِفُ الميعاد {..فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ..} وفي الجنة بحر ماء وبحر لبن وبحر نهر وبحر خمر، ومنه تتفرّع الأنهار، وكثير من الأنهار تتفرَّع عن الكوثر للخاصة.. إلى غير ذلك في تداخل الأنهار بعضها ببعضها والاتصال ببحر الجنة.
{..أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ..} ومشكلة اللبن في الدنيا يتغيّر قال: {..لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ..}، {..وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ..} لماذا لذّة للشاربين؟ لأن خمر الدنيا ريحه فيها نَّتانة، ولونه ما هو رايق، ولكن يستعملونه من أجل المفعول حقه، ويصدّعهم وينزفون: تروح عقولهم؛ هذه المساوئ كلها ما حد هي في خمر الجنة، وفيه اللذة، إن نظرت إليه تَلْتَذ، وإن شمّيت رائحته تلتذ، وإن طعمته تلتذ، و: {لَّا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ} [الواقعة:19]، لا مرض ولا صداع ولا ذهاب عقل.. هذا الخمر العجيب! أمّا هذا: يذهب عقولهم، يصدّعهم، يجيب لهم أنواع من الأمراض، وطعمه ما هو لذَّة، ورائحته ما هي لذّة، ولونه ما هو رايق، هذا في الدنيا خمر الدنيا كله بهذه الصورة، لكن خمر الجنة: {..وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ..}.
{..وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى..} مشكلة العسل في الدنيا الغش حقّه وخلطه، قال لك: {..مُّصَفًّى..} من الأصل ما خرج من بطون النحل، خُلِق بيد القدرة مباشرة، لا يحتاج إلى شمع ولا شيء ولا يختلط بشيء، مُصفّى من أصله خلقه الله {عَسَلٍ مُّصَفًّى..}، الله أكبر {وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا..} ولهم فيها -في الجنة- {..مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ..} ما تعلم وما لا تعلم، كل الثمرات الطيِّبة النافعة موجودة في الجنة، {..مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ..} وايش عاده فوق هذا؟ {..وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ..} ماذا يعني ومغفرة من ربهم؟ يعني: يتنعَّمون في وسط جنَّتِّه على حسب مراتب مغفرته لهم، وهم قد دخلوا الجنة مغفور لهم، ماشي مغفرة وسط الجنة داخل.. إلّا من قبل قد غفر لهم؛ لكن هم الآن يتنعَّمون في الجنة بالمغفرة السابقة على قدر رتبة المغفرة كلٌّ منهم يلتذ، حتى بأنواع هذا النعيم الحِسِّي؛ لذّتهم به على قدر ما غَفَر لهم؛ فهم يتنعَّمون في الجنة بلذاذة المغفرة من الرحمن -جَلَّ جلاله- {..وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ..} هذا كله وسط الجنة.
قال: {..كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)} هل يُقَاس هؤلاء بهؤلاء؟! إذًا فلا يجوز للمؤمن ولا لِعقله أن يحزن على شيءٍ فاتهُ في الدنيا، العاقبة والمصير بهذه الصورة، وهذا هو الفرق كبير، فليتحمل كل شيء في سبيل الوصول إلى هذه الغاية وإلى هذه النهاية. قال: {..كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ..} هل هذا المُتَنَعِّم في الجنان بهذا النعيم وهذه الأنهار وهذه الثمرات والمغفرة فوقها، ولَذّة الرضوان من الرحمن -جَلَّ جلاله- الله الله الله الله! وعلى قدر معرفتهم بالله يتلذّذون، لذّة أرواح تزداد ولا تنقص، وإلى الأبد؟ {..كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ..} الحارقة التي تَشوي الوجوه وتُنضِج الجلود وتُبدّل بغيرها.
{..وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا..} شديد الحرارة {..فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} مِن حرارته لمَّا يُقَرَّب إلى وجه الواحد منهم، يشوي وجهه من شدة الحرارة! وكيف يشربه هذا؟ ويشرب لا بد، ويتجرَّعه ويصل بطنه يقطّع أمعاءه قِطعة قِطعة، حتى تخرج قِطَع قِطَع أمعاءهم من أدبارهم، ويرجع ثاني مرّة! {..وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)} هل هؤلاء مثل هؤلاء؟ هؤلاء ليسوا مثل هؤلاء، لكن هؤلاء هم على أنفسهم عُرِض عليهم الجنة، وعُرِض عليهم الطريق إليها، وأبَوا!
{وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ..} من منافقين وكفار ويحضر عندك المجلس، والجنة قريب منه، وفتح أبوابها سهل، ولكن يستمع إليك لا يُعَظِّم ولا يُنصِت ولا يهتم ولا ينتبه! {إذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَىٰ} [الإسراء:47]. يستمعون ويخلّون النبي ويتكلمون و يتناجون بينهم البين والنبي يتكلم! {نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَىٰ إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا * انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} [الإسراء:47-48] -والعياذ بالله-، اللهمّ لا تحرِمنا خير ما عندك لشَرِّ ما عندنا، وارزقنا حُسنَ الإنصات لِمَا بلَّغ نبيُّك، هذا الكلام من خير ما بلّغه عن الله: القرآن العظيم، شَرِّف اللهم مسامعنا وقلوبنا بالإصغاء والإنصات إليه، تعظيمًا ومحبَّةً وعبوديَّةً وأدبَاً وخضوعًا وإقبالًا وإيمانًا ويقينًا، يا أرحم الراحمين.
{وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ..} من أصحابه {..مَاذَا قَالَ آنِفًا}؟ إيش قال؟ إيش قال النبي؟ أنتم أين كنتم؟ لأنهم ما ينصتون ولا يصغون، وبعض الكلام الذي فيه العتاب عليهم ونحوه يستهزئون ويلمزون! قال إيش؟ إيش قال؟ {..قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا..}؟ آنفًا يعني: الآن قبل قليل، ماذا قال قبل هذا {..مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَٰئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ..} -أعوذ بالله- {وَلَٰكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التوبة:46]، لولا الطبع على القلوب لعَرفوا قدر من هو أمامهم يبلّغهم رسالة ربهم ويهديهم إليه -جَلَّ جلاله-!.. يقول: {..أُولَٰئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16)} فالهوى كم أردى، وكم أهْلَك!
قال سيدنا الإمام الحداد:
واعْلَمْ هُدِيْتَ وَخَيْرُ العِلْمِ أَنْفَعُهُ ** أَنًَّ اتبَاعَ الهَوى ضَرْبٌ مِنْ الخَبَلِ
فَكَمْ وَكَمْ ضلَّ بالأَهْوَاءِ وَطَاعَتِها ** مِنْ عَاقِــــلٍ جَامِـــعٍ لِلْعِــلْمِ وَالعَمَــلِ
وراح كله بسبب اتباع الهوى، ولا عاد نفعه عقل ولا علم ولا عمل! {فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأحقاف:26]. {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ..} [الأحقاف:26]. مشكلتهم هذه المعلومات السطحية والماديَّة القليلة يرونها كل شيء! {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ..} [غافر:83]. ايش صورة العلم هذه؟ كما الجماعة فرحانين بعلمهم هذا، وهم ما يدرون مَن خلقهم؟ ما يعرفون، لماذا خُلِقُوا؟ ما يعرفون! وفرحانين أنهم علماء! {..فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا..} خلاص هذا ايش من علم عندنا؟ العلم إلا عند الأنبياء، ما شي عندنا نحن.. نحن إلا نلعب بقشور! قال: {..فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا..} الآن خلاص الفرصة انتهت عليهم ما عاد يُقبَل منهم {..سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [غافر:85].
ثَبِّتنا على الحق يا رب! ابتليت كثير من عقول وقلوب المسلمين بتعظيم الكافرين وتمجيدهم وإرادة مُشابهتهم في أي شيء، خلِّصهم من هذه البَلِيَّة يا حيُّ يا قيُّوم، وحرِّرهم من هذه الرذيلة يا حيُّ يا قيُّوم. اجعل من قِرانا في شهر رمضان إكرامًا منك تخليص قلوب كثيــر من رجال ونساء المسلمين من هذه البلايا والآفات، وتعظيم الكفار والفجّار والأشرار، وارزقهم تعظيمك وتعظيم نبيك، ونعوذ بك أن تطبع على قلوبنا، ونسألك أن تجعل قلوبنا مُنشرحة مُنوّرة واعية لشريف وحيك ولذيذ خطابك يا ربّ الأرباب.
{..أُولَٰئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16)} لكن بالمقابل: الذين آمنوا وصدقوا {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا..} صدَّقوا بِمحمد وما جاء به عن الله واتبعوه {..زَادَهُمْ هُدًى..} الوحي الذي ينزِل يزيدهم هدى، والتعليم يزيدهم هدى، ومُساءلة هؤلاء واستهزائهم يزيدهم هدى، الله يزيدهم بكل ذلك هُدى {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى..}. اللهمّ اهدنا وزِدنا هدى. قال تعالى عن الصادقين من أصحاب الكهف الذين خرجوا من مجتمع الكفر الذي أجمع على الشرك وخافوا أن يُكرهِوهم على ذلك، خرجوا إلى الكهف، قال سبحانه وتعالى: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13]. {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17)} أعطاهم حقيقة التقوى {..وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} فاتّقوا سخط الله وغضبه ظاهرًا وباطنًا، ما رضوا لأنفسهم بشيء يُسخِط خالقهم -جَلَّ جلاله- {..وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} فاستقاموا على منهج التقوى، اللهمّ ثبّتنا على ذلك المنهاج، ورَقِّنا بأعلى معراج، وأحسِن لنا خاتمة رمضان، وأصلح لنا كل شأن برحمتك يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين.
يتنازع أصحاب الفَلَك في إمكانية رؤية الهلال وأكثرهم يستبعدون رؤيته، فإن أبقى الله لنا ليلتنا بقي معنا يوم من رمضان، والله يجعل لنا البركة فيه، وفيما يجود به على أهليه، ويجعلنا من خواصِّ أهليه، وفيمن يُحبّه ويرتضيه اللهم آمين. بَلّغ الكل ما يرتجيه وفوق ما يرتجيه، ممّا أنت أهله في ظاهره وباطنه، وحسِّه ومعناه، ودنياه وآخرته، يا رب الدنيا والآخرة، وأصلِح شؤننا بما أصلحت به شؤون الصالحين
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم
30 رَمضان 1444