تفسير الفاتحة وقصار السور - 17 - تفسير سورة قريش
للاستماع إلى الدرس

تفسير الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ لسورة الفاتحة وقصار السور بدار المصطفى ضمن دروس الدروة الصيفية العشرين في شهر رمضان المبارك من العام 1435هـ.

نص الدرس مكتوب:

﷽ 

(لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ (4))

 

اللهم لك الحمد شكراً ولك المَنُّ فضلاً، وأنت الذي جُدتَ علينا وواصلتَ الجود طَوْلاً، وأنت الذي كنت للكرم والإحسان أهلا، ونحن العبادُ الذين أكرمتهم ولم يستحقوا شيئاً أصلاً، لك الحمد أبداً سرمداً على إرسالك إلينا نبي الهدى، فبِهِ اهتدينا إلى سواء السبيل، وتهيأ المُهتدي منا أن يرقى المقام الجليل، وأن يُسقى من أحلى السلسبيل، أدم اللهم صلواتك على ذلك العبد الجليل، صاحب الخُلُق العظيم والنهج القويم وسيد أهل الصراط المستقيم، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وأهل محبته وقربه، وعلى آبائه وإخوانه من النبيين والمرسلين، وآلهم وصحبهم وتابعيهم بإحسان إلى يوم الوقوف بين يديك يا رب العالمين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

وبعد،،

فإنا في نعمة التأمُّل لكلام الإله الخالق الحق، مررنا على معاني من سورة الماعون، وقبلها سورة قريش، التي قال كثير من أهل التفسير أنها متصلة المعنى بالسورة التي قبلها، (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ) [الفيل:1]. سورة قريش التي ابتدأها الله تعالى باللام، مُدخِلاً إيّاه على (إِيلَافِ قُرَيْشٍ)، فقال: (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1))، والإيلافُ: الإِلْفُ والعادة، (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1))؛ لِمَا أَلِفوا وأُلِّفوا ودام لهم واستمر عليهم من أنواع الخير، من مثل: الأمن في البلد، وعند الذهاب في الرحلات، وسياق الطعام لهم من مختلف الجهات، ألِفوا ذلك.

 

دوام نعم الله تتطلَّب كثرة الشكر

يقول الله: (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1))، فالذين قالوا إن السورة متصلة بما قبلها قالوا: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ) [الفيل:1]، من ذلك الهلاك (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2))، فإن قريشاً كانت تنعم بالمكانة بين الناس، ويهابهم الملوك فمن دونهم، وإذا مشوا في طريقهم في الأسفار قالوا: أهل حرم الله، وما أغار عليهم المُغير، ولا أذاهم أحد، فلو مُكِّن أبرهة من فَعْلَته وخرّب البيت العتيق، لَتَخرَّبت منزلتهم ومكانتهم عند الناس، ولذهبت هيبتهم، ولتجرأ الناس عليهم كغيرهم من القبائل في مختلف الجهات. فيقول: أهلكهم من أجل هذا، كما تشير آخر السورة أيضاً، (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ) [الفيل:5]، (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1))، ويُذكر أن سيدنا عمر قرأ السورتين في ركعة ولم يفصل بينهما، وأن مصحف ابن مسعود جعلهما سورة واحدة.

(لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1))، وقال بعضهم: بل اللام متعلق بما بعدها، وفي السورة نفسها (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ (3))، أي تأمّل قريش فيما ألّفناهم وآتيناهم من كل هذه النِّعم، فحقُّهم أن يعبدوا رب هذا البيت، (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ (3))، (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1))

 وقال من قال من أهل العلم: (اللام) للتعجب، لا تعلُّق له بما قبله، ولا بما بعده، فإنه مستعملٌ في لغة العرب، إعجب لأمر قريش وإلْفهم هذا وما آتيناهم، وتعَجّب وانظر وتأمل، (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1))، تأمل واعجب من كريم ما ألّفنا قريشاً من الخير. 

 

ماهو "الاحتفاد"؟ وكيف تم التخلُّص منه ؟

ثم نَصَّ على إِلفٍ مخصوص، وهو إلف رحلة الشتاء ورحلة الصيف، لأنهما دار عليهما المدار في جلب الخير والرزق لهم والأطعمة وتوفير المال، فاستقرت بذلك حياتهم، وذلك أنهم مرت بهم ظروف وأحوال وتعرّضوا لجوع ولشدة، وكان ممن له شأن بارز في ذلك هاشم بن عبد المطلب جد النبي ﷺ، وكان ذو مكارم وعقل ومناقب ورأى ما حَلَّ بالقوم، وكانوا من عفتهم وتأففهم أن يسألوا الناس، إذا أَحَسَّ أحدٌ منهم بشدة الفقر والجوع خرج بأسرته -أخرجهم إلى الصحراء وضرب أخبية- والذي يحس بالموت يدخل تحت الخِباء، ولا يشعر بهم أحد فسموه "الاحتفاد".

وكان لابن هاشم -أحد أولاده- صديق، وجاء إليه يوماً يبكي لضائقة في بيتهم، فجاء يبكي إلى عند أمه فأعطته بعض الطعام، فذهب فأكل به مدة ثم جاء يبكي، فقام هاشم وخطب في القوم وقال: الله جعلكم أهل حَرَمِهِ، في هذا المكان، ورأيت فيكم هذا الاحتفاد وهذه الشدة، ولي رأي، قالوا: قل ما تشاء، فرأيُك مأمون ومقبول عندنا ونحن تبع لك، قال: أرى أن كل غني منكم أُضيفُ إليه أسرة أخرى، رجل عنده أولاد يشبهون في العدد أولاد هذا، فأضمُّهم إليه واجعل لكم رحلة في الشتاء إلى اليمن، وفي الصيف إلى الشام، تَتَّجِرون فيها، وما جاء من الربح يقسمه هذا الغني مع المساعد له، الذي يعطيه إيّاه يساعده في السفر، فيقسم الربح نصفين الغني مثل الفقير، ويعطوه. ففعل ذلك، فكانوا من أعز الناس وأكثرهم مالاً، وكُفي المؤونة فيهم صاحب الفقر، وانتهت المسألة.

وهذا يدل على أن الله تعالى لَمَّا خلق هذه الأرض، خزن فيها ما يحتاجه من يعيش عليها، قلُّوا أو كثُروا، فإذا أحسنوا النظر واستعمال ما آتاهم من وسائل، كفاهم الأمر كفاية تامة، وإذا اتَّبعوا أطماعهم وأهوائهم وجشعهم وما إلى ذلك، تعبوا وحصل فيهم ما حصل. 

كانت الشدة هناك، ولهذا كان اسمه عمرو، عمرو العُلا، -هاشم- فلما كان في تلك السنين الصعبة، كان يهشم الثريد ويُطعم الناس ويرسله لهم، فسُمي هاشم لهشمه الثريد، أعز الطعام، وبثه في الناس، فكان كثيرَ الإطعام والإنفاق والتفقد للأسر المحتاجة.

 والناس إذا أحسنوا التدبير -قد قال تعالى: (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا) [فصلت:10]، ويقول -سبحانه وتعالى-: (وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ * وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ) [الحجر:19-20]، فجعل لنا معايش في الأرض، وأنبت لنا من كل شيء موزون- فإذا أحسنّا استخدام الأرض وما فيها، وقد كان لأهل مكة أرض لا تُنبت زرعاً، فسخّر الله لهم من يحمل الثمار إليهم، ولما تآلفوا وتحابوا نزلت عليهم البركة وفاض عليهم الخير. وقال ﷺ في انتهاج هذا المسلك يشجّع عليه: 

 

صفة في أهل اليمن جعلت لهم مزيّة خاصة عند النبي ﷺ

وذكر الأشعريين من أهل اليمن، وقال: "إنَّ الأشْعَرِيِّينَ إذا أرْمَلُوا -يعني حصلت فيهم المجاعة والشدة والفقر والحاجة- أو كانوا في سفر، فقلّ زادهم جمعوا أزوادهم ثم اقتسموها بينهم بالسوية، فهم مني وأنا منهم"

 فذكر هذه المنْقبة، وأنها سبب لربطهم بصاحب النبوة، ودخولهم في دائرته الخاصة؛ حُسن تعاون بعضهم مع البعض، واقتسامهم ما بينهم بالسويّة، فما من مجتمع يُنْتبى فيه من فقرائهِ ويعاد عليهم بالخير إلا رحم الله الجميع، وأفاض عليهم الخير والبركة، وما من مجتمع أُهين فيه أهل الفقر وأُذِلُّوا وأُهملوا، إلا عمَّ البلاء الجميع، وأصحاب الغنى منهم مهما زاد غِناهم، فإنه يكون في واقع حالهم من الشدائد والنكبات والبلية والأزمات والتعرّض للآفات شيء كثير، ثم يذهب على الكل، ولا هذا ولا هذا، فهذه سُنَّة الله -تعالى- في تعامل الخلق.

 

رحلتا الشتاء والصيف

فلما قام بهذه الفكرة، ورتّب الرحلة إلى اليمن، والرحلة إلى الشام، فلما أنَّ اليمن أدفأ في الشتاء، يذهبون إلى اليمن، والشام بارد، فيذهبون في الصيف إلى الشام، فقال: (إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2))، فكانوا يمرون بالبلاد والناس يحترمونهم، لأنهم أهل حرم الله وجِوار بيت الله، فتمكّن الأمر فيهم أنهم أُطعموا من الجوع، وأمِّنوا من الخوف، (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1))، لأجل إلْفِهِم المستمر لِمَا أُعطوا من نعم الله، فهم وسط الحرم آمنون مطمئنون، (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت:67]، وهم وسط هذا الحرم الآمن.

 وإذا تأملت هذا المعنى والحقيقة وجدته؛ كل من حَسُن اعتصامه بالحق ورسوله في كل وقت وزمن، تجد في أحواله وممشاه ومسيره أنه في حرم، والتخطّف يحصل من حواليه، فنِعم الحرم حرم الله ورسوله، بتحقيق العبودية للحق، والقيام بأمر الله كما ينبغي، (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت:67]، وكانوا إذا سافروا أُحترِموا، ولم يتعرّض لهم أهل القطْع للطريق وأهل النهب وأهل السلب والغارات، احتراماً لبيت لله، وقد أيّدهم الله بحادثة الفيل، وهذا الاعتقاد بقي سارياً في الناس، حتى كما سمعنا في سورة النصر، بقي كثير من العرب ينتظرون، يقولون: محمد إن تمكّن من دخول البيت، وقام فيه، والحكم فيه، فهو نبي من عند الله، وإلا فالذي ردَّ الفيل يرد غيره، ما يمكن أن يتغلّب على مكة إن لم يكن نبي، كان هذا اعتقادهم.

لذا لما جاء فتح مكة، صار الناس يُسلمون بالعشرات، بالمئات، بالقبيلة الكاملة، (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا) [النصر:2]، فكان هذا الاعتقاد سائداً بين الناس، (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1))، وقريش ذرية "النضر بن كنانة بن خزيمة" فمن لم ينتمِ إلى النضر فهو كناني، ما يقال قريشي، ماهو قريشي، ولكن كناني

 

لماذا سُمِّيت بقبيلة "قريش"؟ 

  • وقريش: اسم للتجمّع، فإنَّ قُصي جمعهم بعد التفرّق، ولذا لقبوه بـ "مُجمِّع"، من بعد ما تفّرقوا في أماكن، جمعهم وردهم مرة أخرى إلى ذاك الموطن والمكان، فسميت قريش
  • وقيل قريش: اسم الدابة الكبيرة التي في البحر، وفي ذلك قال الشعراء كلاماً:

قريشٌ التي تسكن البحر *** وبها سميت قريشٌ قريشاً

وقالوا: وذلك أن هذه الدابة من أكبر دواب البحر، ما تجيء على شيء أمامها إلا أكلته، ولا تؤكل، وكان لقريشٍ من المكانة والعظمة ما يُشبه هذا، فسموا بهذا السمك الذي لا يزال يسمونه الناس الآن القرش في البحر.

 

قصة حصلت للإمام أحمد بن حسن أثناء سفره في  البحر

قال الإمام أحمد بن حسن العطاس: كنا يوماً مسافرين في البحر، ثم أخَذَنا صاحب السفينة إلى جزيرة -رأيناها جزيرة- قال: فنزلنا بها، وطبخنا العشاء وبتنا، وقمنا قبل الفجر -قاموا توضؤوا في البحر- وابتدأنا نصلي، وإذا الأرض من تحتنا تتحرّك فخففتُ الصلاة، وأكملنا بسرعة. هرعوا إلى السفينة، قال: وإذا بهذه الذي ظنناها جزيرة، هو حيوان قرش، وكان طافي وبقي طول الوقت، حتى طبخوا عشاهم فيه وباتوا وما تحرّك، ولما كانوا في أثناء الصلاة، ودخل آخرهم إلى السفينة، غاص!! ولا عاد شيء جزيرة من كُبَرِه، قال: حتى قلت للذين معي أحسن نعيد الصلاة، لأننا أكملناها بقلق، بدون حضور، فقال واحد من الذين معه: أعيدوها، أما أنا فمن الفزع انتقض وضوئي، -وأحدث-  فهذه الدابة الكبيرة في البحر اسمها قرش، وتصغيرها قريش، وسُميت بها القبيلة -أولاد النضر بن كنانة بن خزيمة-.

 

أصحاب محمدﷺعجائب في تسخيرالله الأسباب لهم 

ونوع من السمك الكبير أدركه جماعة من صحابة نبينا ﷺ لما بعثهم في سرية، وما كان عنده من الزاد إلا جراب تمر، فزوّد المجموعة بجراب التمر، وما أحد من من الجيش يقول: من أين سنأكل بعد ذلك؟ وما عندهم شيء كلهم، ولكن كانوا أهل إيمان وتقوى واتباع، خرجوا بجراب تمر -يعطونهم كل يوم تمرات، نقص التمر -النفقة اليومية- صار يعطيهم ثلاث تمرات فقط. الأمير يقسّم عليهم من ثلاث تمرات في اليوم، هذه هي غداء وعشاء ولا غيرها، ثم نقص فصار يقسّم تمرة، كل واحد في اليوم تمرة يمصُّها، وبعد ذلك يقول -لمّا يحكون الحكاية الصحابة- يقول بعضهم: ما تفيدكم التمرة؟ ماذا تنفعكم؟، قالوا: وجدناها حين فقدناها، يقولون حتى لما فقدنا التمرة، تمنينا تمرة فلم نجدها، فنِيَ ما عندهم؛ فأرسل الله لهم من البحر حيوان كبير على الساحل، وخرج، فصاروا يقطعون منه ويأكلون، حتى مِقْوَر عينه دخل فيه 14 رجل، 14 رجل وسعهم مِقور العين.

ونظر بعض الصحابة إلى أصغر ضلع، فأخرجه وأوقفه على الأرض، فنظر أطول جمل وأطول رجل، قال له أن يقوم ويركب على الجمل، فما وصل إلى تحت الضلع من أطراف أصباعه، وذلك من ارتفاعه، قال حتى سمُنَّا من أكل السمك، ويسَّر الله لهم الرزق، أتباع محمد عجائب؛ عجائب في أدبهم، عجائب في تربيتهم، عجائب في تلبيتهم، عجائب في صبرهم، عجائب في تجملهم، عجائب في تسخير الله الأسباب، لأنهم (صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) [الأحزاب:23]، فصدقهم الله -رضي الله عنهم-.

 

استقر حالهم برحلتي الشتاء والصيف 

(لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1))، الإيلاف العام لكل ما ألفوا من النِعم والتيسير، وخصوصاً(إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2))، فإنه بهاتين الرحلتين، استقر حالهم وأمْرهم، وقام صلاح معاشهم، واستتباب وضعهم، (إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2))، ارتحال يرتحلونه في الصيف وفي الشتاء؛ أيام الشتاء إلى اليمن، وأيام الصيف إلى الشام.

 

خروج النبي ﷺ الى الشام مرتين

وهكذا بقي الأمر حتى وقت البعثة، والنبي ﷺ قد خرج في رحلة الشام مرتين؛ مرة وهو ابن اثنا عشر سنة مع أبي طالب، ورُد من أطراف الشام من عند صومعة بحيرى الراهب، وذلك أن بحيرى هذا الراهب العابد والذي عنده علم من الكتاب، يظل يعبد في صومعته تمرُّ تحتها القوافل، فكان يرقُب ذاك اليوم مجيء القافلة، فنظر إلى غمامة تظلل تمشي معهم، وتأمّل فأدرك نور معهم يمشي في القافلة، فتذكّر الأخبار عنده في الإنجيل، وفي التوراة، حتى تاريخ خروجه إلى الشام موجود، وفي السنة التي يخرج فيها، وهذه السنة من سنين خروجه في صباه مكتوب عندهم.

 فتحرّك وتوقّع أن يكون وسطهم هذا النبي الذي يجيء آخر الزمان، والذي بشّر به عيسى، فلما جاءوا جلسوا تحت شجرة، والعادة المتبعة -وهو أدب من الآداب التي أورثت عن الأنبياء من قبل- أنّ أصغر القوم يتولّى الخدمة للكبار، فلما وصلوا كان الذي عليه أن يُرتب الرواحل والمتاع أصغرهم سناً، وكان ﷺ في الثانية عشر من عمره، فاشتغل بربط رواحلهم وإخراج متاعهم، وسابقوه إلى ظل الشجرة.

 فلما أتمَّ الخدمة وجاء، وجد الظل مكتمل فجلس في ناحية أخرى من الشمس، فمالت الشجرة بأغصانها فظللته، وهذا "بُحيرى" يرقُب، أرسل إليهم يقول: اليوم غداء وعشاء هذه القافلة من قريش عندي كلكم، فقالوا: ما بال هذا الراهب!، لنا سنين نمر تحت صومعته، ما يوم قال لنا تفضلوا، ولا غدّانا ولا عشّانا، واليوم دعانا!، 

فتهيأوا وقت الغداء وذهبوا إليه وتركوا عند المتاع محمداً ﷺ، فيتأملهم يدخلون واحد بعد الثاني، لم يرَ الأوصاف التي يعرفها. قال: هل بقي منكم أحد يا معشر قريش لم يأتِ إلينا؟، قالوا: ما بقي منا إلا غلام تركناه عند متاعنا، قال: هذه وليمة اليوم، ما أحب أن يتخلّف عنها أحد من قريش أبداً، لا صغير ولا كبير، ابعثوا إليه لا بّد أن يجيء.

 فبعثوا إليه، فلما أقبل رأى وجهه فرأى العلامات، قال: من أبو هذا؟، قال أبو طالب: أنا، قال: لستَ بأبيه ولا ينبغي لأبيه أن يكون حياً، قال: أنا عمه، قال: صح، هل مات أبوه وهو في بطن أمه؟، قال: نعم، كيف عرفت؟. فاختلى بأبي طالب، وقال له: ابن أخيك هذا فيه أوصاف النبي الذي يخرج آخر الزمان.

 وسأله عن أحوال ليتأكد منه، فدخل عنده يكلِّمه، يقول له -يسأله عما يجد وعما يرى- وقال: أتأذن أن أنظر بين كتفيك؟ ثم نظر فوجد أثر خاتم النبوة، أُغمي عليه، فلما أفاق قال له: احتفظ بابن أخيك، وإني أخاف عليه اليهود، وعندنا في الإنجيل وفي التوراة عندهم، أن هذه السنة من السنين وصوله إلى الشام، فأخاف عليه أن يقتلوه. ردَّه من هذه الأرض لا يقدم معك إلى باقي الشام، دعوه يرجع، وألّح عليه في ذلك وذكر له أخبار، فرأى صدق الرجل، فقال للحارث بن عبد المطلب أخوه، فقال له: خذ محمد وارجع أنت وإيّاه إلى مكة، فحمله عمه الحارث، ورده إلى مكة المكرمة.

أما الرحلة الثانية، فقد دخل فيها إلى داخل الشام، وعُمق الشام، في أيام خديجة بنت خويلد أخرجته في تجارة لها إلى الشام، فخرج ﷺ وضاعفت له الأجر، وتضاعف عندها الربح لما خرج، وما دعته ليخرج إلا وقلبها مشغوفٌ بما يُذكر عنه من أوصافٍ كرام، وما تسمع من كلام أهل الكتاب عن قرب هذا النبي، وأن الأوصاف تنطبق عليه، فتعلّقت بذلك، ووكَّلت خادمها ميسرة غلامها، تقول له: ارقب لي محمد، من خروجه إلى حين رجوعكم مكة، ماذا يقول، وماذا يفعل، وكيف يمشي، قل لي.

 فصار يتحفّظ ميسرة ما يقول النبي، وما يفعله، لكي يخبر سيدته خديجة عندما يرجع، فخرج وإيّاه، وباع البضائع وزاد، ولقي هناك نسطورا -راهب آخر- وعرفه أيضًا بالعلامات، ووصل إلى عنده جماعة من اليهود، وكانوا يترقبون النبي، فصرفهم عنه، وقال لهم: أنتم تقرأون عندكم في التوراة أنه سيبعث أو لا يُبعث؟، قال لهم: إذا كان سيبعث كما قال لكم الله، أنه سيُبعث، هل أنتم تريدون أن تردوا قضاء قضاه الله؟، قالوا: لا، فقال: ارجعوا، و رَّدهم.

 

نساء قريش،كل واحدة تتمنى أن تكون زوجا لمحمد ﷺ

فلقي أيضًا بعضهم في السوق من علماء اليهود، وعرفوه، وكانوا يكلمون ميسرة ويقولون: من هذا؟ وما يكون منك؟ وماذا يقول؟ ويقولون هذا سيكون له شأن، وصرّح له بعضهم أنه سيكون نبي، وعمره خمسة وعشرين سنة، وعاد من الشام. وعند عودته -وكانت في عليّة لها في بيتها- ورأت ومعها نسوة؛ شخصان يظللان على الجمل -وفيه رسول الله ﷺ- تقول للنساء عندها: تنظرون أحد؟ قالوا: شخصان يظللان الراكب على الجمل، ترقُبه، فإذا هو محمد ﷺ، وكان ملَكان تبدّيا لهن، فلما وصل، قالت: كيف الربح؟، قال: ربحنا أضعاف الربح. كيف محمد؟ وماهي أخباره؟، قال: كان كذا، كان كذا، وكان كذا، ورآنا نسطورا، وجاءنا واحد من اليهود لقيناه في السوق، قال كذا، وهذا قال كذا؛ امتلأت بمحبته، ورجت أن تكون زوجة لهذا النبي، المذكور في كتب الله، الذي يقوم بالخير آخر الزمان، ويُبعث للخلق كافة.

فأرسلت إليه تخطبه لنفسها، وحقّق الله لها آمالها، وكانت تُحدثه قبل البعثة، بأنها سمعت كذا وسمعت كذا، وأنها متوقعّة أنه هو الرسول، ولكن من ثباته وكماله وأدبه وأمانته مع الله، يقول لها: إن أكن أنا هو، فلكِ ما أردتِ، وإلا فإن الذي عملتي هذا من أجله الله -تعالى- سيكافئك، الذي عملتي معي هذا من أجله -سبحانه وتعالى- سيكافئك به ويعطيك الجزاء. حتى جاء الوحي، وانكشفت الستارة، وظهر الخبر.

 

الملائكة لاتدخل منزل فيه امرأة مكشوفة الرأس 

وأرادت أن تطمئن، فذهبت إلى عند ورقة بن نوفل ابن عمها وأكد لها الأمر، وتُطمأن طمأنينة فوق طمأنينة. قالت: إذا جاء صاحبك المَلك جبريل أخبرني، فلما أقبل يوماً قال: ها هو جبريل أقبل، فكشفت رأسها، وملائكة الرحمة لا تدخل منزل فيه امرأة مكشوفة الرأس فاختفى، قال: اختفى، فأعادت الغطاء، قال: أقبل فاطمأنت هي، يقول: 

وأماطت عنها الخمـــــار لتــــــــدري ***  أهو الوحي أم هو الإغماء 

فاختفى عند كشفها الرأس جبريل *** فما عـــــــاد أو أُعيـــــد الغطـــــــاء

 واستبانت خديجة أنه الكنز *** الذي حاولته والكيمياء

ثم قال: فما أحسن ما يبلغ هنا الأذكياء.

 

خديجة أول من آمن بالنبي محمد ﷺ 

عناية لها من الله، ما هو مجرد ذكائها، صرف قلبها إلى حبيبه، فجعلها صاحبة النصرة وصاحبة التضحية والبذل، أول من عرف أخبار الوحي هي، جاء من غار حراء إلى عندها، وهي التي كانت تزوده بالزاد في غار حراء أيام كان يذهب يتعبّد هناك، وكان يخرج بعد عشرة أيام إلى الشهر في كل مدة يقضيها، فكانت تواعده في بعض الليالي، تقول له: لا تتعب تجيء إلى مكة، أنا أخرج لك بالزاد إلى الطريق. فتتناصف الطريق وإيّاه، وهناك تلقاه يبيت معها ﷺ، ثم يأخذ الزاد ويذهب إلى الغار، وهي ترجع إلى مكة، في المكان الذي يلتقيان فيه، أقاموا مسجدا سموه مسجد "الإجابة" معلوم المكان الذي كانت تلاقي النبي ﷺ فيه.

حتى جاء الوحي، فنزل ﷺ من غار حراء إلى عند خديجة "دثروني دثروني زملوني زملوني"، ما هو؟، قال: جاءني كذا كذا كذا، قالت: والله لا يخزيك الله أبداً، إنك تحمل الكَلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فوالله لا يخزيك الله أبداً، ثم قال: خفتُ على نفسي، قالت: لا والله، فوالله لا يخزيك الله أبداً.وهكذا كان من آثار وأخبار الرحلات -رحلة الشتاء ورحلة الصيف- فهذه الرحلتين في الصيف كانت لرسول الله ﷺ. 

 

لا أحسن في تنظيم الشؤون المالية من منهج الله

وفي خروج جماعة إلى اليمن منهم جده عبدالمطلب، وتهنئتهم لسيف بن ذي يزن وتوليه، وكان عنده من العلم ما عرف به جد النبي، فسأله عن أولاده ومَن مِن أولاد أولاده، وهل فيهم اسم محمد؟ وأخذ يخبره، قال له: أرى فيك العلامة أنك جده، وأنه يقوم بأمر الله، وبدين الله، فكان من جملة ما حصل لعبد المطلب من الإشارات، وزادت محبته لرسول الله ﷺ.

(لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2))،  فيحتاج الناس على ظهر الحياة أن يرتبوا. ولا أحسن في شؤونهم المالية من منهج الله -تبارك وتعالى- إذا قاموا بها- فهي خير نظام، وقبل ثمانين سنة، ومائة سنة، ضجة في العالم على النظام المالي، وصراع كبير وادعاءات أين الأفضل، وقام نظام الرأسمالية ونظام الاشتراكية، يدّعي كل نظام منهم أنه سينعش العالم، ويُسعد العالم، ويُحل الثراء والغنى والخير بين العالم، فما أسرع ما تلاشى النظام الاشتراكي، وكل محل قام فيه أصاب أصحابه الفقر والشدة والتعب، وزمجر النظام الرأسمالي قليلا، وكلما مرت السنين، مبادئهم الرأسمالية والاشتراكية تخف وتخف.

وحتى من قديم، كان يقول الشيخ الشعراوي: هؤلاء النظامَين إذا كل واحد يخفف من غلواء ما عنده وما يتمسك به، لا بدَّ أنهم سيرجعون وسيتلاقون في الوسط، ولن يجدوا إلا الإسلام. قال: الإسلام هو الوسط ما بين هذا النظام وهذا، (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة:50]، فإذا قاموا بمنهج الله، واستغلوا مِنَن الله وما بسط لهم من الموائد، فإن أمورهم تستقر، ويكفيهم ما عندهم من الخير.

 

بيت شرَّفه الله وعظَّمه 

(فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ (3))؛ تشريفاً وتكريماً للبيت، أضاف ربوبيته إلى هذا البيت، مُمتناً عليهم ومذكّراً لهم بفضل هذا البيت ومكانته لدى الحق -سبحانه وتعالى-، وأن من بركته، رحِمهم الله تعالى وأعانهم ويسّر أموراً كثيرة لهم بجوار هذا البيت، وهي نتائج أيضاً مما قال سيدنا الخليل إبراهيم: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ) [ابراهيم:37]، فكان كذلك.

وصار كما قال الله -تبارك وتعالى-: (يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ) [القصص:57]، وكان علماء مكة إذا التقوا أيام الحج بالصالحين والوافدين من أقطار الأرض، يقولون: يُجبى إليهم ثمرات كل شيء حتى من الرجال، حتى الرجال يأتون إلى الحرم ويلتقون بهم هناك، وهكذا  (يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ)[القصص:57]، فالعجب أنه حتى الثمرات الظاهرة هذه، تجد تواجدها في مكة إلى حد أن بعض الثمرات تتوفر في مكة أكثر من توفرها في البلد حقها التي تنتجها، (يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ)[القصص:57]، فبارك الله لنا في مكة وللأمة، فإن ما حَلَّ بحرمنا حَلَّ بنا.

الله يحفظ الحرم، ويحفظ البيت العتيق، ويحفظ مكة والمدينة، ويُسلمهما من جميع الآفات، ويحفظ جميع من يَحُل فيهما من المؤمنين والمؤمنات، ويرعاهم بعين العنايات، ويدفع عنهم خطط عدوه وأعداء دينه أجمعين، ولا يبلغهم مراد فينا ولا في الحرمين الشريفين، ولا في أحد من أمة النبي محمد، ويُخلّص الحرم الثالث بيت المقدس، ويلطف بإخواننا في غزة وفي جميع فلسطين وفي جميع بقاع الأرض؛ في شامنا ويمننا وشرقنا وغربنا، يا مفرّج الكروب فرِّج كروبنا يا رب هذا البيت انظر لنا وإلى المؤمنين.

نظرة تزيل العنا  ***  عنا وتدني المنى منا 

منا وكل الهنــا  ***  نُعطاه في كل حين

أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ

(فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ ..(4))، (أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ ..(4))، كلما جاعوا أطعمهم، وإذا أذاقهم في شيء من الفترات شدة الجوع، خفف الأمر عليهم وفتح لهم باب الرزق والتيسير، (أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ (4))، فهم يمشون آمنين مطمئنين في البلدان، وبلدهم مكرّم مُصان، وجاءهم الفيل وأبرهة والجيش وما فيه، وراحوا وانصرفوا وهم آمنون، (وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ (4)).

ثم دندنت الناس على ظهر الأرض، الطعام والأمن، التغذية والأمن، وكلما طلبوها من هنا ومن هنا عملت لهم مشاكل. بعض الأماكن قالوا: نريد أن نأتِ لكم بالأمن والديمقراطية، وبعد ذلك جاءوا ووقعت المشاكل الكبيرة والآفات. الذي يطعم من الجوع ويؤمن من الخوف واحد اسمه الله، الله -جلّ جلاله- هو وحده. من تمسّك بحبله، ومشى في سبيله، وقام بأمره، فيُطعَم من الجوع ويأمن من الخوف، وأي واحد يريد طعام من الجوع وأمن من الخوف، والتجأ إلى شرق أو إلى غرب، قل له: لا تزال في كرب، حتى تعرف الأمر بيد من، وتعود إلى من بيده الأمر -جل جلاله وتعالى في علاه-.

فنسأل الله أن يحوِّل حالنا والمسلمين إلى أحسن حال، اللهم أطعمنا من الجوع، وآمنّا من الخوف، واجعلنا من الهداة المهتدين، يا أمان الخائفين برحمتك يا أرحم الراحمين.

 

 بسرِ الفاتحة 

وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صلِّ عليه وعلى آله وصحبه، 

الفاتحة

تاريخ النشر الهجري

20 رَمضان 1435

تاريخ النشر الميلادي

17 يوليو 2014

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام