(228)
(536)
(574)
(311)
تفسير الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ لسورة الفاتحة وقصار السور بدار المصطفى ضمن دروس الدروة الصيفية العشرين في شهر رمضان المبارك من العام 1435هـ.
﷽
(وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا ۖ لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ (9))
الحمد لله الذي تلوح للبصائر عجائب إفضالاته ومِنَنِهِ الغوامِر، وتُمطر على ساحات قلوب المتوجّهين إليه سحائب المَنِّ المواطر، سبحانه من كريم هو الأول والآخر وهو الباطن وهو الظاهر، بيده الأمر كلّه وإليه يرجع الأمر كلّه، فلا سَعِدَ من اتّكل على سواه ولا من حاد إلى من عداه، وحاز حقائق السعادة من أقبل بالكليّة عليه وتذلل تعظيماً له بين يديه، جعلنا الله وايّاكم منهم.
قد خصنا بإرسال رسول مُنزّه فيما يبلّغ وينوي ويفعل ويقول، ختم الله به الرسل وابتدأ، فهو الشمس الساطعة للهدى لكلّ من اهتدى، صلِّ اللهم وسلّم وبارك على نورك الذي بدا، عبدك محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، وعلى آله وأهل بيته ومن إليه ينتسب، وعلى مهاجريه وأنصاره وكل من له رأى وصَحِب، وعلى كل مَنْ في حُبِه إذا ذُكِرَ له طرب، وعلى آبائه وإخوانه من النبيين والمرسلين وآلهم وصحبهم وتابعيهم بصدق ويقين إلى يوم الدّين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين وجودك ياأجود الأجودين.
يا مُنعماً علينا بالوقوف على بابه واللياذ بإعتابه والتأمل لمعاني كتابه وبلاغات سيد أحبابه، كان هذا لنا منك تَفَضُّلاً ومَنًّا، فأتم النعمة علينا وتولّنا دنيا وآخرة في كل حس ومعنى.
وبعد،،،
فإننا في هذه العطايا الربانيّة في الأيام الرمضانية والخواتيم لها الإحسانية، مررنا على معاني في سورة الهمزة تُبيّن معاني العزّة لله ولرسوله وللمؤمنين، وأن المتحقق بالإيمان متنزّه عن اللمز والهمز، وأن الهمز واللمز على اختلاف معانيه:
فكلُّ هذه المعاني للهمزة واللمزة حامت حول التّعييب والاستهزاء والاستخفاف والغيبة والسّب والذّم لعباد الله، وهي أوصاف قبيحة، شؤونها أن تؤدي بأصحابها إلى الفضيحة، وأن يخزوا يوم القيامة على درجات، فإذا مسَّ -منهم- ذلك الهمز واللمز ذا مكانة عند ربّ العزّة، كانت العاقبة أشد، وكانت النهاية أخطر وأعظم في العذاب الأليم.
وذكرنا أن مسالك من انحطّوا -الهمز واللمز- وأن شرائع الله تُطَهِّر المنتمين إليها إذا التزموا بها عن أن يكونوا عناصر همزٍ ولمزٍ في الحياة، وإنما هي شؤون من أعرض عن الله، وأعرض عنه الله، ومن المعلوم تناولها لكل من اتّصف بهذا الوصف، وإن كان قد ذُكِرَ بعض أسماء، وجاء الإشْكال في مثل من ذكرنا:
ومهما كان نزول الآية في واحد منهم -فالحكم عام- وإن كان من تناول منهم بالاستهزاء خير الأنام، فالخطر عليه من المخاطر العِظام، لعظمة المصطفى عند ربّه، وإن كان الحق تبارك وتعالى في غَيْرَتِهِ على حق حيوان كالهرة التي حبستها المرأة؛ عَذَّب المرأة بالنار وصَوّر لها القطة تنهشها، فما بالك في:
وإذا كان يُقاد بين الناس وبين الحيوانات في القيامة، فلا يمضي حيوان رفسْته يوماً برجلك -استضعافاً له من غير حق- إلا وقف يأخذ حق رفسته منك في محكمة القيامة، ليرفِسك كما رفسته في الدنيا، ويُهينك على رؤوس الأشهاد، فإذا كان الأمر كذلك فيمن تطاول حتى على الحيوان، فكيف بمن تطاول على الإنسان؟ فكيف بمن تطاول على أهل الإيمان؟ فكيف بمن تطاول وظَلم أهل الإحسان والعرفان؟ فكيف بمن عمل ذلك مع النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين؟!!
ولذا لا يتولّع أحد بأذى الصالحين من عباد الله، إلا مات غالباً على غير الملة، على غير الإسلام، وإن الحق يقول: "مَن عادَى لي وَلِيًّا فقَدْ آذَنْتُهُ بالحَرْبِ"؛ فإذا حاربه رب السموات والأرض؛ فحسْن الخاتمة يأتي بها مِن عند مَن؟ مِن عند مَن؟ مِن بيت مَن؟ مِن مخزن مَن؟ مِن قدرة مَن؟ إذا جبّار السماوات والأرض يحاربه؟ نعوذ بالله من غضب الله.
يقول:
(وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ (1))، من يهمز ويلمز، إما بعينيه أو بحاجبيه أو بشفتيه أو بلسانه أو يتكلّم يسّب ويشتم ويواجه الناس بالسوء أو يتكلم من خلف ظهورهم، كلّ ما قفّى واحد وخرج من عنده استلمه، وخط طوله وعرضه من هنا ومن هناك.
قال تعالى: (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق:17-18]، من قول؟ أي قول يقول يُكتب، حتى إنها تكتب أنّات المريض آه آه. وقولك للواحد كيف حالك؛ يُكتب. من أين أتيت؛ يُكتب. السلام عليكم؛ يُكتب؛ قلتها بصدق، بكذب، بأدب، باستهزاء؛ كله مكتوب، موجود، كل شيء يُكتب؛ (مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق:18]، يسجّلونه ويعرضونه على الربّ وبعد ذلك يُثبت هذا في الحسنات وهذا في السيئات وفي الصحف يُؤتى بها يوم القيامة، "من كان يؤمن بالله وباليوم الاخر فليقل خيراً او ليصمت"؛ امسك لسانك، "مِن حُسنِ إسلامِ المرءِ ترْكُهُ مالا يَعنيهِ".
(وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ (1))، قال: (الَّذِي جَمَعَ مَالًا (2))، سعى في تحصيل المال ووفّره، وفي قراءة حمزة والكسائي (جَمَّعَ مَالًا (2)) بالتشديد (جمّع مال)، لأنه مأخوذ القلب والبال مع المال، مال مال مال ، لا يريد إلا المَال و إسمه مال لأنه يميل ولا يبالي. وكأنه لا يميل عنه، فأخذ المال منزلته من عقل هذا الإنسان وقلبه غير منزلهِ وغير مكانه، وماهو إلا وسيلة لقضاء الحاجات يستخدمها الذي سُخِّرَت له أو يجعل له الله قضاء الحاجات من دونها بإرادته سبحانه وتعالى.
(جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2))، وعدّده، (جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2))، إما:
فصار:
(جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2))المال؛ "الدُّنيا حُلوةٌ خضِرةٌ وإنَّ اللهَ مُستخلِفَكم فيها فناظرٌ كيف تعملون" من أخذها من حِلِّها وانفقها في محلّها سَلِم، ولهم بعد ذلك درجات بحسب النيّات والتصرّفات. ومن صدقت نِيّته ولم يتكسّب للتفاخر ولا التّكاثر، لكن لسداد الحاجة والقيام بالنفقة، ولإعطاء المحتاج وإلى غير ذلك، فـ "من امسى ويده كالَّة من عمل يده، بات مغفورا له"، ولكن من كان لا يُبالي، أمِن حِلٍّ أو حرامٍ دخل عليه المال، فـكل من لم يبالي من أي بابٍ دخل عليه الرزق، لم يُبالي الله به في أي وادٍ من أودية جهنم أهلكه. ولذا كان يقول بعض صلحاء الأمة في القرون الأولى: إنَّ رَدَّ الدرهم من شبهة، خيرٌ من أن تتصدّق بـ مئة ألف ومئة ألف ومئة ألف، ردَّك الدرهم من شبهة تخاف أن يكون حرام، وهنا قالوا:
لا يغرنّكَ من المرء قميصٌ رقعه *** أو إزار فوق نصف الساق منه رفعه
أَرِهِ الدرهم تعرف غيّه أو وَرَعَه
ولما جاؤوا بواحد يشهد عند القاضي ولم يعرفه، طلب مزكّي، فجاء واحد من المعروفين يُزَكِّيه، قال له سيدنا عمر: أنت تعرفه؟ قال: نعم، قال: جاورته في منزل؟ قال: لا، قال: صاحبته في سفر؟ قال: لا، قال: عاملته بالدينار والدرهم؟ قال: لا، قال: لعلّك رأيته يصلّي في المسجد؟ قال: نعم، قال له: اذهب فإنك لا تعرفه. فأنت تعرف الرجُل إذا صاحبته في السفر أو إذا جاورته في المنزل؛ عرفت مدخله ومخرجه، كيف هو، وإلا عاملته؛ فإن أكثر الناس يتبيّنون هناك، الناس يظهرون هناك، وترى كلام زين وطيّب، ووقتها يتحوّل الى لون آخر، أعوذ بالله من غضب الله.
أَرِهِ الدرهم تعرف غَيّهُ أو وَرَعَهُ
وأعطى النّبي ﷺ يوماً مال لسيدنا عمر، فقال: يارسول الله، أعطه غيري، فهو أحوج به مني، قال: "ياعمر ما آتاك من هذا المال من غير مسألة ولا إشراف في نفس فخذه، فإن كنتَ محتاجاً إليه فتموَّله، وإلا فتصدَّق به وما لا، فلا تُتبِعُهُ نفسك"، لا تكون أنت مُتَشوِّف وطمّاع على هذا الحال؛ فعلّمهُ الميزان ﷺ في التعامل مع المال نعم، ويُحْمَد حال من كان يستخدم المال، لكن أكثر الناس يستخدمهم المال فيستعْبدهم -هذا أكثر الناس- وأما الذي يستخدم المال، فالمال لا يُطغيه ولا يُلهيه ولا يُوقعه في ترك سُنَّة، فضلاً عن ترك واجب ولا في فعل مكروه فضلاً عن فعل حرام، يستخدم هو المال ولا يستخدمه المال، وهكذا.
تعجَّب بعض أرباب الدنيا لمّا تكلموا مع بعض الصالحين، فقال لهم : معبودكم تحت قدمي، قال: ما تقول هكذا؟ قال: أنتم تعبدون المال والجاه، ونحن وضعناه تحت القدم هذه، وأنتم لا زلتم عبَدة لها، قال النبي ﷺ: "تَعِسَ عبدُ الدِّينَارِ، وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدُ الخَمِيصَةِ،…، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وإذَا شِيكَ فلا انْتَقَشَ"؛ أي إذا دخلتْ فيه شوكة لا تخرج منه؛ "تَعِسَ عبدُ الدِّينَارِ، وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ"؛ فكن عبد الله يُعِزّك ويُكْرِمك.
قال: (جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسِبُ (3))، وفي قراءة: (يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3))، كأنه يتوهم أن المال يُخلّده في الحياة فلا يخرج منها ولا يموت -من شدة شغفه بالمال- يظل يعدّده ويظن انه سيبقى له، وهو سيبقى للمال، ولا هو سيبقى للمال ولا المال سيبقى له.
أنطقَ الله مرة أرضًا كلّمت متخاصمَين عليها، يقول: عليك حق،، وأنت وصلت هنا؟! وقالت الأرض: إنه قد ملكني قبلكم مِمَّن اسمه أحمد فقط سبعين؛ كلهم قد ماتوا! وغير الأسماء الأخرى الذين قد ملكوني! وأنتوا تتنازعون على ماذا؟ قال: إن الذين ملكوني من الذين هذا اسمهم فقط أحمد منهم سبعين، والباقين كثير من الأسماء الاخرى ملكوا وذهبوا، لو دامت لغيرك ما وصلت إليك! -لا إله إلا الله-.
(يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3))، أي أبقاه مُخَلدّاً في الدنيا، وكذلك معنى (يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3))، يتوقّعُ أن بقاءهُ ببقاء المال، وأنه إذا فَنِيَ المال مات وهَلَك، كما يحصل في نفوس بعض المولَّعين بالمال يجعل حياته كلها المال، إذا ذهب المال يظن أنه سيموت، يقول أنّ خلودهُ مقرونٌ بالمال في نظره الفاسد؛ والمال ما يُخَلِّد أحد، ولو تجمّع كله لكي يؤخر واحد أجله دقيقة أو دقيقتين أو نصف الدقيقة مايمكن، ما يمكن.
(يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3))؛ فيطول أملهُ حتى ينسى الموت، (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ) [الحشر:19]، يقول الله: (كَلَّا ..(4))، كلمة رَدِع وزِجر: أي باطل ما ظن وحسِب. يقول بعضهم أن في قول الله: (يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3))، تعريضٌ للعمل الصالح يقول: هذا ماله -يتعامل مع المال- لا يُبقيه ولا يُخلّد ذكره ولا يُوجب له النعيم الدائم الباقي، أي أنه ترك الذي يُخلّد فخره وذكره وقدره ويخلّدُه في النعيم المقيم، وهو العمل الصالح وأخذ يتشبث بالمال، كأنه عمل صالح أمامه
(يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ (3))، ليس من الأشياء التي تخلّد للإنسان الشرف والكرامة، وتخلّده في دار الكرامة، لماذا يتعلّق به هذا التعلّق؟ فيعرّض بذكر العمل الصالح أمام هذا الفاني الحقير يقول: (يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3)).
وقد كان قارون صاحب مال كثير، فماذا بقي له من ذكر جميل؟ (وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ..) [القصص: 76]، ليست الكنوز نفسها، مفاتيح الكنوز!! خمسة رجال أقوياء لا يقدرون أن يحملونها من كثرتها، ليست الكنوز هي نفسها إنما المفاتيح (مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) [القصص:76]، خمسة من الرجال الأقوياء تنوء بهم وتثقل عليهم، لا يستطيعون حملها من كثرتها..
وماذا بعد ذلك؟ظهر (عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) [القصص:79]، يُمَثّل الله ويُبَيِّن لنا حال الناس في نظرتهم إلى المال. والآن، كما سيأتي الدجّال وأصحابه المتقدمون من قبله -أقوى العُدَد- لهم فلسفة المال هذه، يلعبون بها على العقول وعلى النفوس وعلى الوِجهات من الناس، ويقول: (فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ۖ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ..) [القصص:76]، يعني المغترين بها (يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [القصص:76]، كل زمان له قارونه أو قوارينه؟ وقوارين زماننا يخرجون على قومهم في زينتهم، يقومون بعرض هنا وهناك، والذين في قلوبهم مرض يعملون مثل هؤلاء و(يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [القصص:79].
(وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ..) [القصص:80]، هذه نظرة فاسدة باطلة، وهذا اعتقاد فاسد غير صحيح (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ) [القصص:80]، وماذا بعد ذلك؟ هذان فريقان والنتيجة؛ أن الفريقين رأوا النتيجة لهذا الرجل نفْسه: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ) [القصص:81] ولا نفعه فرعون ولا نفعه هامان ولا نفعه القوم الذين يصفقون وراءه ولا الذين قالوا: (يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ..) [القصص:79]، (.. فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ) [القصص:81]. (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ..) [القصص:82]، انظروا الى نظرتهم، والتفكير المِعْوج كيف نتيجته؟ (لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا ..) [القصص:82]، من يريد هذا؟ وانتم كنتوا تتمنون مثله (لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا ۖوَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ..) [القصص:82]، قال الله: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا..) [القصص:83].
(عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ..) [القصص:83]، هذا شغل أذهان الكفار على ظهر الأرض يريدون علوّ في الأرض، بأي معنى من معاني العلوّ؟ لكن أهل النبوّة والأصحاب والأولياء، يقولون: تعالوا اطلب العلوّ عند ربّ الأرض والسماء، اطلب لك مكانة عند الأعلى (عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ) الأرض كلها تُزلزل عما قريب (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً) [الحاقة:14]،تريد أن تعلوَ في الأرض يا أَبْلَه؟! كم ستجلس في الأرض؟! وكم ستجلس لك الأرض؟! والأرض أصلًا من تحتك تدور كل يوم دورات .. انتبه لنفسك، لا ينفع العلوّ عليها!! ابحث لك علوّ عند واحد لا يتغيّر ولا يتبدّل ولا يتدكْدك ولا يتكسّر ولا يَفنى.
فهذا الحد الفاصل بيننا وبين الفلسفات هذه الدنيوية القائمة، وقد تلتبس الأفهام على بعض العقول؛ هذه حقائق!! والإسلام هو فيه.. ونحن..!! شوية شوية. بيننا وبين القوم فوارق، بيننا وبينهم حدود، لا نظرتنا إلى المال كما نظرتهم ولا نظرتنا إلى الأرض كنظرتهم ولا نظرتنا إلى الدنيا كنظرتهم، ولا ينظرون إلى الآخرة كما ننظر اليها، ما دام اختلفوا معنا في النظرة لرسول الله، هذا أصل وأساس اختلفنا فيه، أنذهب ونريد أن نسابقهم وننازعهم وننافسهم، على أي النظرات؟ فعندنا منظاره، ومنظاره منظار الحق،(وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ) [النجم:4]، صلى الله عليه وعلى اله وصحبه وسلم.
قال: (يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا ..(4)) لا خلود ولا بقاء ولا دوام،
وإن نلت منها مال قارون لم تنل *** سوى لقمة في فيك منها وخرقة
والباقي للحساب بعد ذلك.
قبل سنين واحد من آل الثروة مات، بعد ذلك -تبين- في فحص الأطباء وجدوا أن سبب موته هو سوء التغذية، كان يجمّع أرصده وحسابات ويبخل حتى على نفسه؛ لأجل ما تنقص، فكم مُقَنِّط عن نفسه حتى في الأكل إلى أن أصاب جسده سوء التغذية! انظر الى الأبله هذا البليد! بعد ذلك -مات- وأخذ يحاسب عليها كلها، وجاء أولاده ليس فيهم تربية؛ ضيعوا -أموال أبوهم- وأكلوها ولعبوا بها، والحساب الأول عليه، وهم عليهم الحساب فيما بعد ما استلموا، ولا استمتع بها حتى في تغذية جسده الأغبر هذا. لم يعرف لِمَ خلق الله المال؟ ولماذا مَلَّكهُ المال؟ وبِمَ اختبره الله بالمال؟
(فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ) -وجاء منه- (فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ..) [الفجر:15-16]، مسكين لا يجد شيء، مامعه شيء سوا؛ (فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ) [الفجر:16]؛ (كَلَّا)، لا ذا إكرام ولا ذا إهانه، إذن بطِّلْ الميزان هذا، ماذا يبقى عندك أنت؟ الله قد أبطلَهُ في كتابه، لماذا يبقى في نفسك أنت؟ هذا باطل، ميزان غير صحيح.. (كَلَّا)، لا الإكرام بوجود المال والإمكانيات، ولا الإهانة بالفقر بقلّة المال ليس بهذا ولا بذاك. (كَلَّا ۖ بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ االْمِسْكِينِ) [الفجر:17-18]، يعني لا تقومون بالطاعات التي بها الإكرام، وتعملون الذي به الإهانة، (وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) [الفجر:19-20]، الله.
وإنما يَصلُح المال للصالح بصلاح الصالح، يُنفقه فيما يرضي الله -جل جلاله- وتعالى في علاه. ولله حكمة يبسط ويُقتِّر الأموال؛ لمؤمنين! لكفار! لأزمنة، لأوقات، لأماكن، من وقت إلى وقت، وكله بقدر، بأجل مَحصي ومُعيّن؛ مقداره، ووقته ونوعه من وقت إلى وقت، من مكان إلى مكان يظهر ويأتي يذهب، اختبارات من الله يختبر بها عبادة؛ (هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ..) [النمل:40]، ولذا كان التحقيق.
هذا لربك اعتبارات ولكل نواياهم ومقاصدهم وأحوالهم وشؤونهم معه ومعاملاتهم مع خلقه فيفضل ذا أو يفضل ذاك، فما دارت الأفضلية حول قلّة المال ولا كثرته أصلاً، "إنَّ اللهَ يُعطي الدُّنيا مَن يُحِبُّ ومَن لا يُحِبُّ، ولا يُعطي الدِّينَ إلَّا مَن يُحِبُّ، فمَن أعطاه اللهُ الدِّينَ فقد أحَبَّهُ".
اللهم وَفِر حظنّا من الدين والإيمان واليقين، ولا تفتنّا بما آتيتنا ولا زويت عنّا، وكل من آتيته منّا مالاً فاجعله حلالاً مباركاً عليه، لا يصرفه عن العكوف على بابك والاستقامة على منهاجك، ومن منعته شيئاً منه لا تتبعه نفسه ولا تبتله به، فلا نشتغل بحَمْدِ من أعطانا ولا نُبتلى بذم من منعنا، وأنت من وراء ذلك كلّه أهل العطاء والمنع.
لهذا يقول الإمام الحداد: "إن كنت طالباً للدنيا فاطلبها من عند مالكها"، اطلبها من عند مالكها، سيعطيك منها ما يعطيك ولكن اطلبها منه في توفيق وعافية، حتى لا يعطيك شيء ثم يفتنك به وتضيع عليك الدنيا والآخرة، اطلب منه رزق واسع لا يعذبك عليه، ماهو رزق واسع وبعد ذلك إنت تقع غارق في النار ثم ماذا ينفع؟ -الله الله-.
ينسى كل التعب وهو مازال في البداية، الشريط كله امتحى، كل الذي قاساه. نعيم إلى الأبد، فما تساوي شيء هذه الحياة (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [الحديد:20]، فيا فوز من أطاع الله فيها وأقام الحق فيها ومضّى فيها منهج الله -جلَّ جلاله- لأنه خالقه، كيف يترك الخالق الذي خلقه ويأخذ منهج ذا وذا؟ فِكر ذا وذا؟ يقوم به في الحياة؟ لا خلقوك ولا خلقوا حياتك ولا خلقوا الأرض من تحتك ولا مسكوا السماء من فوقك! ما بك! هل نسيت الذي مسك السماء من فوقك؟ وسخّر الأرض من تحتك؟ ووَّطدها لك بالجبال؟ وأخذت مناهج غيره ونظام غيره وتنساه؟! ومرجعك إليه!! اذهب وخذ النظام الي تبغى وبعد ذلك سترى؛ أنت وهم سترجعون إلى مَن؟ حتى المجرمين سيرجعون إليه، هل في إله ثاني سيرجعون إليه؟ لايوجد مكان ثاني ولا إله ثاني!
(وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ) [السجدة:12]، أين سيذهبون أصلًا؟! هل في أحد سيحشر في يوم القيامة إلى عند سلطان؟ وإلا إلى عند وزير؟ وإلا إلى عند دولة؟ هم أرباب الدول سيأتون يوم القيامة -الذي كانوا متكبرين على الخلق -مثل الذرّ يمشون ويطأهم الناس بأقدامهم! من هذا؟ قالوا: هذا كان المشهور في زمانه..ماذا يسمى، لا أدري، ماذا؟ مثل الذرة! والناس يمرّون فوقه، يمرّون بأرجلهم. أين الهيلمة التي كان عليها في الدنيا؟ مغرور مسكين، متاع الغرور، غَرَّه فصار مثل النمل.
يُحشر المتكبرون في صورة الذر فيُجمعون في وادي "بولس" على ممر أهل المحشر، يمرّون عليهم ويضعون أقدامهم كلهم عليهم، جزاء ما تكبروا في الدنيا، الكِبَر يليق بواحد، خالق كل شيء. غيره ماله حق يتكبّر! (كَلَّا)، لن يستمر، نحن في عمرنا القصير هذا، وجدنا أحزاب وفئات وبعض الحكومات قامت، وقالوا: إلى الأبد وإلى الخلود وكتبوها بالشعارات الكبيرة إلى الأبد! بعد -ما أدري- كم مرّت من السنين وذهبوا ولم يبقَ شيء أبد، وبعضهم رجعوا في القنوات ينشرون فضائحهم، ونحن لازلنا في الدنيا، والأشياء ستظهر (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ) [الحاقة:18] و نحن في الدنيا، كم عَمَّرْنا؟! لا عمَّرنا عُمر نوح، ولا نصفه ولا رُبعه. لنا كم سنة في الدنيا، والعِبَر ملآنة.
رأينا أصنافا جاؤوا وذهبوا وشعوبا ودولا وقبائل جاءوا وذهبوا .. شريط يمر بالناس، ولما ينتهوا عند النفخ في الصور، ويجي الكل، وعلموا الآن الحُكم لمن والمُلك لمن (لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ..) [غافر:16] ما دُمنا راجعين لهذه الحقيقة فلماذا نغتر بالواقع الموجود هذا؟ بل نمضي فيه كما أراد منْ خلَقنا -جلَّ جلاله-.
وقد أبرز الله لنا النموذج الطيّب، قال: هذا محمد ﷺ أمامكم؛ (إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) [ال عمران:31]، اللهم على اتّباعه ثبتّنا في الأقوال والأفعال والنيات والمقاصد، وأن لا يجيء يسرق هممنا ونياتنا واحد خبيث ساقط ما يساوي شي، مُنحرف عن اتّباع محمد؛ نتّبع واحد ما يساوي عند الله جناح بعوضة! البعوضة خيرٌ منه.
(كَلَّا..(4))، لا يخلّدون ولا يبقون في الدنيا (لَيُنبَذَنَّ..(4)) نُبِذوا، هذا المتكبر الهماز اللماز (لَيُنبَذَنَّ..(4))، يُرمى، كان يَرمي الناس، اليوم هو يُرمى!
(لَيُنبَذَنَّ..(4))؛ لأنه كان لا يبالي بقيمة الناس ولا بكرامتهم ولا بأعراضهم ويظل ينبذهم ويتكلم عليهم (لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ..(4))؛ لأنه هو كان يحطّم خلق الله؛ يكسّر خواطرهم ويكسّر في أعراضهم، والآن عندك حُطمة هنا، أنت أحطم وستقع لك حطمة؛ لأن الجزاء وِفاق، والجزاء من جنس العمل.(لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ..(4))، يُرمى بشدة. ينبذ: أي يُطرح (فِي الْحُطَمَةِ..(4))، المراد النار وهي واحدة من طبقات النار اسمها الحطمة، الطبقة الثانية. -أعلاها وأخفها عذاب- طبقة جهنم بعد الحطمة، الحطمة يتحطّم كل شيء يصل إليها، تُحَطّم العظام، أي شيء يقع فيها تحطّمه، وهذا الإنسان عائش يحطّم خلق الله، يهمز ويلمز ويتكلم ويغترّ بماله، يقال له؛ تعال هنا انظر الى الحطمة أمامك(جَزَاءً وِفَاقًا) [النبإ:26]، حَطَّمت تُحَطَّم.
(لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ..(4))، وبعدها، وبعد اسمها أيضاً النار، وإن كان كلها تسمى النار، تسمى لظى (كَلَّا ۖ إِنَّهَا لَظَىٰ* نَزَّاعَةً لِّلشَّوَىٰ) [المعرج:15-16]، وإلى السابعة؛ آخر طبقة اسمها الهاوية، لا يُدرك لها قعر، الهاوية هذه فيها كبار المجرمين من الكفار، وأسفلها الزمهرير الذي به العذاب أشد من العذاب بالنار، تعذيب بالبرودة، أشد من العذاب بالنار فيها إبليس وجماعته والكبار الذين معه وتعاونوا معه أيام كانوا في الدنيا من شياطين الإنس والجن، وهو قد تبرّأ منهم: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ۖ مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ ۖ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ..) [إبراهيم:22]، وأنت رئيسنا وتمشّي لنا الخطط، واليوم؟ قال: ضحك عليهم في الدنيا وضحك عليهم في الآخرة.
وهذه من الحطمة فما تحتها من النار ولظى غير جهنم تُوصد على أصحابها، جهنم الأولى هذه الطبقة فيها عصاة الموحدين من مات وفي قلبه ولو مثقال ذرة من إيمان وعليه معاصي ما غُفرت له وما عُفِىَ الله عنها يُعذّب بمقدار ذنوبه ثم يخرج؛ هذه في الأولى، وأدناهم عذاب: أقلهم عذاب في الأولى هذه من يُنعل بنعلين من نار يتأثر جسده كله حتى يفور لهما دماغه يرى نفسه أشد الناس عذاب وهو أهون أهل النار عذاب، لما يحس بهذا الألم، يرى نفسه أنه أشد أهل النار عذاب وهو أخفهم. اللهم أجرنا من النار.
وآخر من يخرج جُهينة بعد سبعة ألف سنة، فإذا خرج أوصدت الباقية،ولهذا يقول: (إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ(8)) مطبقة مغلقة ومالها أبواب، لها أبواب كبيرة -سبعة- لكن أوصدت الآن، أوصدت، غُلِّقت وجيء بالعُمُد المُمَدة فلُّصقت بها، لايوجد مخرج، ماعاد يطمعون بالخروج (وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) [البقرة:167].
(لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4))، الله عظّم هذا المصير الشديد -أجارنا الله منه- (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5)) يقول النبي (مَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَة (5) نَارُ اللَّهِ ..(6))، يقول؛ النار الذي تولى الله إيقادها، (نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6))، أوُقِد عليها ألف عام -أول ما خلقها- حتى أحمرّت، وألف عام حتى ابيضّت، وألف عام حتى اسودّت؛ فهي سوداء مظلمة لا يُطفأ لهيبها. لو أن شرارة منها -شرارة ليس لهب، شرارة- وقعت في المغرب لوجِد حرارتها في الكرة الأرضية من أقصى المشرق، ما هذه الحرارة؟ حرارة (إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ) [المرسلات:32-33].
والنبي ﷺ ليلة الإسراء والمعراج طاف فيها ورأى المنازل فيها، وكيف يكون أهلها، فما أحد بلغ حق اليقين كما بلغه المصطفى ﷺ، حتى يقولوا: إنه لأعرف بمنازل المؤمنين في الجنة منهم بها ﷺ، يعرف منزل كل واحد ﷺ، ويقول في بعض ما رأى وشاهد يقول: "ورأيت قصراً مكتوب عليه اسمك"، يقول لسيدنا عمر بن الخطاب، "أردت أن أدخله فذكرت غَيْرتك فتركته"، بكى سيدنا عمر، وقال: أعليك أغار يا رسول الله؟ رضي الله عنه وهكذا.. جعلنا الله من أهل جنته وأجارنا من النار.
من قال بعد صلاة الصبح: "اللهم أجرنا من النار" (سبعاً) قبل أن يتكلم فمات من يومه؛ أجاره الله من النار، ومن قالها بعد المغرب (سبعا) قبل أن يتكلم فمات من ليلته؛ أجاره الله من النار، سبع مرات يقول "اللهم أجرني من النار سبع مرات".
ثم بعد هذه الشدائد كله يذهب عنه…نعمة كبيرة على المؤمنين، لكن أكثر الناس لا يقولون إن النبي علّمهم إيّاها ما أدري ماذا معهم؟!! مشغولين؟ وإلا ماذا ؟ ولا شيء تعب عليهم عندما يقولون، ماذا معهم؟ اللهم أجرني من النار، اللهم أجرني من النار، اللهم أجرنا من النار نعم، -الله يكرمنا بالجوار من ناره-.
قال: المؤمن الصادق إذا استجار بالله من النار، استعاذ به ثلاث مرات، تقول النار: يا رب أَعِذْهُ مني، هذا عبدك يستجير مني، أجره مني. المؤمن الصادق إذا سأل الله الجنة ثلاث مرات، الجنة تقول: يا رب عبدك هذا يسألك الجنة اجعله من أهلي، دخِّله إليّ. "اللهم إنا نسألك رضاك والجنة ونعوذ بك من سخطك والنار" وقل ثلاث مرات "اللهم إنا نسألك رضاك والجنة ونعوذ بك من سخطك والنار،اللهم إنا نسألك رضاك والجنة ونعوذ بك من سخطك والنار" يا فوز الذين يجيرهم من النار الموقدة (الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7)).
ونسأل الله الجوار منها ومن كل سوء (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَىٰ أُولَٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا ۖ وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) [الأنبياء:101-103]،.
بحق القرآن الذي أنزلت والنبي الذي أنزلته عليه، اجعلنا من الذين سبقت لهم منك الحسنى فهم عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت انفسهم خالدون لا يحزنهم الفزع الأكبر، يا أكبر يا بر يا رحيم، مُنَّ علينا وقنا عذاب السموم، يا بر يارحيم، مُنَّ علينا وقنا عذاب السموم، لا تحرق أحد منهم بالنار يا رب، لا من جميع أهلينا وأصحابنا ومن يسمعنا وأهاليهم أجمعين، فإن منهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه ومنهم من تأخذه إلى أكثر من ذلك، اللهم أجرنا منها، أعضاءنا كلها، احفظها من شرها.
العجيب أن الذي مات وفي قلبه إيمان ويُعَذّب في النار -لمَاّ يدخل النار- أعضاء السجود السبعة، النار ما تلمسها، تحرِق من هنا ومن هنا، وتترك الجبهة وبطون الراحة والركبة ما تمسها، لأنه سجد بها لربها، تهاب ربها وما تمسها إلى أن يُكمّل العذاب الذي عليه فيخرج ومواضع السجود ما يصيبها شيء، أعضاء السجود السبعة والباقي تلعب عليه به.
اللهم أجرنا من النار إن شاء الله، ما لنا طاقة لا أعضاء السجود ولا باقي أعضاءنا، نموت ونحن على الإيمان الكامل التام والتوحيد ورابطة -إن شاء الله- بمن أنزل الله عليه القرآن، نُحشر معه نظل بظل لوائه، نَرِد على حوضه ونمضي على الصراط معه، وندخل الجنة معه وندخل الجنة معه وندخل الجنة معه، آمين (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) [التحريم:8] ماترى حلاوة!! (مَعَه) هذه ثلاثة حروف سكّرَت ناس كثير (مَعَهُ)، تعرف معه معه، الله... النعيم كلّه هناك، الخير كلّه هُناك (مَعَهُ)؛ (نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، ونحن نقول كما يقولون (رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [التحريم:8]، برحمتك يا أرحم الراحمين.
واصلح شؤوننا وشؤون الأمة أجمعين وأهلينا وأحبابنا والأمة لتجنّب مسالك النار، وأعمال أهل النار وأخلاق أهل النار وأفعال أهل النار حتى لا تُقَرّبنا من النار ولا تُقَرِّب النار مِنّا، اجعلنا من أهل جنّتك ومن أهل الفردوس الأعلى، ومن أهل الدرجات العُلى مع خِيَار الملأ من غير سابقة عذاب ولا عِتاب ولا فتنة ولا حساب ولا توبيخ ولا عقاب برحمتك يا أرحم الراحمين، وبنية صلاح شؤوننا وشؤونكم أجمعين، وباقي أيام رمضان يُحَلّيها لنا ويُجَلِّي لنا خيرها، اجعلنا من خيار أهلها ويبارك لنا فيها ويختمها لنا بخير ويجعلنا من أهل الخير في لطف وعافيه.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صلِّ عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
24 رَمضان 1435