تفسير سورة النَّبَأ -4- متابعة السورة من قوله تعالى: (لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلَا شَرَاباً)

تفسير جزء عمَّ - 106 - مواصلة تفسير سورة النبأ {لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلَا شَرَاباً}
للاستماع إلى الدرس

يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير قصار السور، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم من العام 1438هـ.

نص الدرس مكتوب:

(لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِّن رَّبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36))

الحمدُلله وتتوالى علينا الأياّم، ونَقْتَحِمُ العشر الأواخر بما فيها من العطاء الوافر والخير المُتكاثر، جعلنا الله من المتهيّئين لواسع عطائه، المتلقّين لعظيم نَعْمائه، اللّهمّ لك الحمد شكرا، ولك المنّ فضلا؛ فأتْمِمْ علينا نعمتك، وبارك لنا فيما بقي من أيّام قليلة لشهر ورد فيه، "لَوْ تَعْلَمُ الأُمَّةُ مَا فِي رَمَضَان لَتَمَنَّتْ أَنْ تَكُونَ السّنة كلّها رمضان".

اللّهمّ بارك لنا في هذه الأيّام المعدودات، واللّيالي المحدودات بعطاء وَجُودٍ منك غير معدود ولا محدود، يا برّ! يا ودود! يا واسع الكرم والجود! 

اللّهمّ وأتمم علينا النّعمة في الصّلة بِكتابك وفَهْمِ خِطابك ولا ينصرف الشّهر عنّا إلّا وقد ربطتّ قلب كلّ منّا بأسرار الخطاب، وأشهدْته من سرّ ذلك الخطاب ما به يرقى في مراقي أهل مُناجاتك وأهل ذوق لذّة المناجاة برحمتك، ياأرحم الراحمين! 

وصلّ وسلّم على من فتحتَ به باب الذّكر والقرآن وجعلته السّبب الكبير للرّحمة الواسعة والامتنان، وصلّ معه على آله المطهرين من الأدران وصحبه الغرّ الأعيان، وعلى مَن تَبعهم بإحسان وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين ذوي الشّأن، وعلى آلهم وصحبهم وعلى الملائكة المقرّبين، وجميع عبادك الصّالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك ياأرحم الرّاحمين. 

أمّا بعد،،،

فإنّنا مَضينا في التَّأمُّل في خطاب ربّنا، يحدثنا عن مصيرنا الكبير ومآلنا العظيم ومرجعنا الهائل إمَّا جنَّة وإمَّا نار وتلك الغاية التي ينتهي إليها جميع المُكلّفين؛ آمنوا أو كفروا، صدّقوا أو كذّبوا، أيقنوا بذلك أم أنكروا، المرجع إلى هذا،

هُمَا مَحَلّاَن مَا لِلْمَرْءِ غَيْرُهُمَا *** فَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ أَيُّ الدَّارِ تَخْتَارُ

إنّ الله خلق الجنّة وخلق لها أهلا، فَهُمْ بِعمل أهل الجنّة يعملون، اللّهمّ اجعلنا منهم؛ وخلق النّار وخلق لها أهلا، فَهُم بِعمل أهل النّار يعملون؛ لا يُحبّون أن يُصلّوا، لا يُحبّون أن يصوموا، لا يُحبّون القرآن، لا يُحبّون الوفاء، لا يُحبّون ضبط اللّسان، لا يُحبّون ضبط العين، لا يحبّون مراعاة حقوق النّاس، فهم بعمل أهل النّار يعملون، والعياذ بالله تبارك وتعالى.

تأمّلنا في معانٍ مِن الآيات حتّى مررنا على مآل أهل الكُفر والعياذ بالله تعالى مِن كلّ مَن بلغته الدّعوة فلم يؤمن؛ فويل لكل مَن بلغته دعوة الحقّ التي بعث بها رسول ﷺ وأعرض وتولّى وأدبر واسْتكبر.

يقول: (إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِّلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَّابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24))، بَرْدًا؛ نسيما أو بُرودة أو راحة أو نَوما

وَلَا شَرَابًا، لا برد الشّراب، ولا نَفْس الشّراب، ما في شراب أصلا، (إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25))، الماء الحامي الذي يغلى ويشوي الوجوه، والغَسَق: 

  • هو القيح والصّديد الخارج من فُروج الزّناة والزّانيات -والعياذ بالله تعالى-.
  • ومعنى آخر للغَسَق وغَسَّاق في قراءتين وهو زَمْهَرِير النّار مقابل لقوله: (لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25))، أي ماء حارّ وبرودة حارقة شديدة زائدة؛ 

فإنّ في دركات جهنّم، دركات مخصوصة بالحرق بشدّة البرد -بالبرودة- وهي أشد من الحرق بالنار، والعياذ باللهّ الزّمهرير، قال الله في أهل الجنة: (لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا) [الإنسان:13]، وفي النّار زمهرير، أجارنا الله من النّار وأنواع عذابها! 

هذا الأمر الذي يتحدّث الحقّ عنه على ألسن أنبيائه من عهد آدم إلى أن خُتموا بالنبي محمّد، أكبر وأخطر ما يتعرض له كلّ مكلف من البشر، يَتَنَاسَوْنَهُ النّاس ويعدّون المستقبل شيء آخر، والأمر المهمّ شيء آخر، مع أنّه لا يمكن أن يُصادفهم شِدّة ولا عذاب ولا تعب ولا خوف مثل أهوال القيامة والنّار الموقدة، والعياذ بالله!

لا أنْ َيقبض عليك شرطة، ولا أن يُتابعك مخابرات، ولا أن يُدخلونك أماكن تعذيب في الدّنيا، ولا أن تَحْتَوِشْكَ أُسُود ولا سباع؛ لا يوجد أشدّ، لا يوجد أخطر، لا يوجد أتعب من عذاب النّار، كلّ هذا يصير هيِّن، مع ذلك، قَلَّ تفكيرهم فيه، قَلَّ انتباههم منه

وما يمكن أن يُصادفوا راحة ولا لذة، لا لذة مَشرب، ولا مَنكح، ولا مَلبس، ولا مَطعم، ولا مَشرب، ولا مَركوب، ولا سُلطة، ولا مُلك، ولا جَاه، ولا لذة أيّ شيء كمثل لذّات الجنّة، كمثل رضوان الحقّ، ما يمكن! ما يمكن أن يُستلذّ بشيء مثل ذلك! فكيف يُترك الأهمّ الأعظم ويذهب الفِكر كلّه في الأشياء الأقلّ، الأهون، المُنتهية الزّائلة، المُنقضية، المُنقرضة، الفانية.

لذا قالوا لسيّدنا الشّافعي: إذا واحد عنده وصيّة وصّى مال لأعقل النّاس، قالوا مَن أعقل النّاس؟ قال الزُّهّاد في الدّنيا، أعطوه الزُّهاد في الدّنيا هم العُقّال، هم الذين أدركوا الحقيقة ورغبوا في الباقي، الدّائم، الكبير، وتركوا الحقير الفاني، مَن أعقل منهم هؤلاء؟ هم العُقّال؛ وهذا استنباط الإمام الشّافعي،

  • يُؤيده قول الله تعالى: (وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا ۚ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [القصص:60]. 
  • بالعقل تعرف أنّ ذاك الباقي أعظم، وهذا متاع الحياة وزينتها، (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ) [النساء:77].

كيف يكون العقل عند مؤثْر القليل الفاني على الكثير الباقي؟ من أين العقل هذا؟ كيف هو العقل هذا؟ من أين هو؟ أين عقول أكثر هؤلاء الموجودين في الدّنيا الآن من الكفار؟ يُعجَب بعضهم أنّهم صنعوا بعض الأجهزة، وبعد ذلك؟ وبعد ذلك؟ وماذا بعد هذا؟ اشتغلوا بهذا ونَسُوا أنفسهم وتعرّضهم للنّار الموقدة والعذاب الدائم، أين العقل؟

يقول الحق: (أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ)، بِمُتع الحياة الدّنيا وزينتها، (ثُمَّ جَاءَهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ) [الشعراء:205-207]، ماذا أفادهم هذا؟ ماذا نفعهم هذا مدّة التّمتّع في الدّنيا؟ ما يفيدهم إذا قد رجعوا إلى هذا العذاب؟ 

  • (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ)، قال الله، (وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ) [البقرة:96]، اتْرُكه يعمّر ألف سنة، وبعد ذلك يرجع إلى العذاب، وبعد ذلك ما فائدته؟ لا إله إلا الله! 
  • اللّهمّ هب لنا عقولا واعية مُنوّرة مُدركة، تُدرك الحقيقة ما تخدعها النّفس ولا يخدعها الشّيطان ولا تخدعها الأهوية ولا شياطين الإنس ولا شياطين الجنّ، يا ربّ العالمين!

لذا يقول سيّدنا النبي لسيّدنا خالد بن الوليد، عندما جاء في أيّام عام صلح الحديبية، ليُسْلم قال: "أَبْطَأْتَ يَا خَالِد، كُنْتُ أَرَى لَكَ عَقْلًا يَهْدِيكَ إِلَى الحَقّ قَبْلَ اليَوْم"، تأخّرت إلى الآن، أبطأت، فإذا كان عندك عقل ووعي لإدراك الأشياء، يَهديك إلى مسلك الحقّ ورسوله، لا يوجد أطيب منه، ولا أنسب، ولا أحسن عاقبة، ولا أفضل، ولا أكمل، ولا أجمل قطّ؛ إذا عندك عقل تَعقِل هذه الحقيقة. 

ولهذا قالوا: "دِينُ المَرْءِ عَلَى قَدْرِ عَقْلِهِ"، ما هو هذا العقل؟ هو العقل الذي ُيدْرِك به الحقيقة، يُدرك به الحقّ؛ هذا هو العقل، ما يَنْبَهِم عليه الأمر، يرى به العواقب؛ 

لذا قالوا مِن جملة اشتقاق العقل، أنه سُمِّي عقل؛ لأنه يَعْقِل صاحبه عن ارتكاب القبيح، أي يقول له؛ اللّذّة الزّائلة الحقيرة إذا كانت تُؤدي إلى تعب كثير ليست صالحة، وليس في مصلحتك أن تستلذّ بها، ابْعد منها فيحجُب ويحجُز، يَعْقِل صاحبه عن ارتكاب القبيح، لا يجعله يرتكب القبيح، لأنّه يرى العواقب، ويرى حقائق النّفع أين تكون، لا في صور الأشياء.

 هكذا، هذا المصير الكبير يحدثنا عنه العلي الكبير بنفسه الخالق: 

  • (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا) [النساء:122]. 
  • (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا) [النساء:87].

فأصدق القائلين يحدّثنا يقول: هنا كذا وكذا وكذا، وهنا كذا وكذا وكذا، مَرجعكم إلى واحد من هذين الدارين هؤلاء

(إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26))، قال الله هذا الجزاء المُتوافق مع تلك المقاصد والنّيّات والاعتقادات والأعمال؛

  • لا ذنب أعظم من الكفر.
  • ولا عذاب أعظم من النّار.

هذا مقابل هذا، والعياذ بالله تعالى!

لا يَليق بالمُتَجَرِّئ على خلّاقه وموجده من العدم، إلّا أن يَتألّم ألما دائما، كما تجرّأ على الدّائم الحيّ القيّوم الذي وعده بالنّعيم الدّائم فَأَبَى؛ فما حقّ مَن أعرض عن النّعيم الدّائم واختار اللّذّة الحقيرة إلّا أَن يُؤلَّم ألما دائما؛ لأنّه عُرِضَ عليه اللّذّة الدّائمة فأبى؛ فَخُذْ إذن هذا المُقابل؛ مقابل هذا الاختيار خُذْ لك ألم دائم، أعطيناك، عَرَضْنا عليك أن تترك لذّة حقيرة مِن أجل لذّة دائمة، أَبَيْت، خُذْ لك ألما دائما مُقَابل اختيارك، تمام! أنت اخْترت، (جَزَاءً وِفَاقًا (26)).

أمّا عقليّات مَن يَقول: أنّهم كفروا وعصوا فترة محدودة وهذه فترة دائمة طويلة، هذا ليس وفاق؛ بل هذا هو الوفاق في ميزان الخلّاق، أمّا عقلك الذي يُريد أن يوقف الحقّ الخالق موْقف مخلوق مع مخلوق، ويُحاسبه على المدّة وعلى المسافة، نقول له؛ عقلك هذا خَارِب، فاسد.

هذا الميزان الذي جئتَ به هو ميزان مع واحد مثلك، لا خَلَقك ولا كَوّنك، وتقول له: أنا إذا عَصَيْتُك مدّة مُعيّنة، احْبِسْنِي مدّة معيّنة على مدّة المعصية، لأنّك إنت وإيّاه أصحاب مُدَدْ معيّنة، لا مِنكم خالق، ولا..؛ لكن إذا أردت أن تقابل ميزان خالق بمخلوق، فعقلك لابد أن يكون صحيح، وليس مُخَبَّط، يَعُدُّ الخالق مثل الخلق؟!! لا..لا..لا، هذه خبالة، هذه غفالة، جهالة، ما هذا عقل!! 

فَالعذاب في الآخرة مُوافق تماما لأعمال الكُفّار والفُسّاق في الدّنيا ولا وِفاق أوفق مِن هذا، عُرِضَ عليهم النّعيم الدّائم فَأَبَوْا؛ وهُمْ قادرون بِمَا أُوتُوا مِن اخْتِيَار وقُوَّة و بَصَر وَسَمْع. 

  • (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيل فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) [الإنسان:2]. 
  • (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) [الإنسان:3]. 

فأخذ يستهزئ ويُكذِّب بالنّعيم الدّائم، فما له إلّا العذاب الدّائم، هذا الوفاق، لأنّه قابل الخلّاق مُقابلة مُتجرّئ وهذه جراءة ليست مِن مخلوق على مخلوق، جراءة مِن مخلوق على مخلوق، تحتاج جزاء وحساب، وتحتاج عقاب ليُقَوّم؛ لكن إذا تجاوز الحدّ بتجرئ مخلوق على خالق جبّار؛ هذا مَنْ من آدمي! هذا مَنْ من إنسان! هذا يحتاج إلى عذاب شديد؛ فهو العذاب الشّديد الذي أُعدّ وهُيّئ لهم، (جَزَاءً وِفَاقًا (26))، لأنّه أوصى، (إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27)):

  • إمّا لا يخافون الحِساب.
  • أْولَا يُؤمنون بالحساب، (لَا يَرْجُونَ حِسَابًا).
  • أو لم يسكن عندهم إيمان قطعا لأنّ كل مؤمن يَرجُو وهذا لا يوجد عنده إيمان، ماحَامَ حول قلبه أبدا حتّى يَرْجُو، فهو كافر. .

(إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28))؛ 

  • فكوْنهم (لا يرجون حسابا) يقول الإمام الفخر الرّازي: "إنّ هذا مِن فساد القُوّة العمليّة". 
  • (وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا)، "هذا مِن فساد القوّة العقليّة".

فإذا فسد العقل والتّصور، وانضاف إليه فساد العمل فهو الغاية في السّوء؛ فيستحقّ عذاب غاية في السّوء، (لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28))، فسد منهم التّصور والعقل وفسد منهم العمل والمُعاملة؛ فبلغوا الغاية والقمّة في الفساد فلهم الغاية والقمّة في العذاب.

(وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29)) أي أحطنا به علما دقيقا مُفصّلا، ثمّ جعل من جملة ما أظهر سبحانه وتعالى مِن علمه، ما كُتب في اللّوح المحفوظ، وما تَكْتُب الملائكة في الصحف:

  • (وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا) [الكهف:49]. 
  • (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ) [القمر:52-53]. 

لكن أكبر من هذا كلّه علْمه هو، وإحاطة علمه بكلّ شيء، إحصاؤُه لكلّ شيء مِن كلّ وجه بكلّ معنى، مِن كلّ الجهات؛ هذا أعظم ممّا كُتب وممّا سُجّل وممّا صُوّر، كلّ شيء أعظم من هذا، علمه هو، أكبر وأجلّ من هذا:

  • (وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) [الطلاق:12]، 
  • (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29)).

بل قد يَفهم في عالم الخلْق -وعِلْمِهم محصور- يفهم من جليس له، بعض شؤون وأحوال وأعمال، مهما وصف لك، وشرح لك، وذكر لك عنها، وكَتَب وسجّل وصوّر، ما تتصوّر عنه الذي عرفه ذاك جليسه الخاصّ، هذا يحصل ونحن في عالم الخلق، إن الصُّوَر لا تؤدي المَعنى؛ 

أمّا بالنسبة لعلم الله فالأمر أكبر، فكلّ ما تُسجّله الملائكة وكلّ الصحف، وكلّ الذي تَشهد به الأعضاء، وكلّ الذي يُرسم ويُصوّر أمام الأعين قليل بالنّسبة لعلمه المحيط؛ فهذا أعظم وأجلّ؛ 

  • (وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) [الطلاق:12]. 
  • (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29)). 

يقول لأهل ذلك الموقف: (فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30))، يعني استحققتم العذاب الشّديد وتجرّأتم وتكبّرتم؛ ومع ذلك أبدأكم بعذاب وأنا قادر على أكثر مِنه وأُؤخر الزّيادة شيء فشيء؛ فأنتم تستحقون ذاك الزّائد لكن أَبْدَأُ معكم بأقلّ أقلّ، ما أنقلكم مُباشرة إلى الزّيادة والأشدّ ولكن أدخل بكم مِن درجة درجة في زيادة العذاب، نعوذ بالله! 

وهناك أهل الجنّة، زيادة النّعيم مستمرّ، (لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) [ق:35]، الله أكبر! لا ينقص شيء مِن عطاء الله ولا من نعيم الله، كلّ ما يتنعمون به مِن السّرور، مِن الفرح، مِن الحبور، مِن الرّضا، مِن الطّمأنينة، مِن مناظر العين، مِن مسموعات الأذن، مِن المشمومات، مِن الفواكه والأشجار، من الأنهار، من الثّياب؛ كلّ ما يتنعّمون به، لا يبقى على حالة واحدة ووقت معيّن، بل يزداد يزداد يزداد حُسنا، يزداد جمالا، يزداد إشراقا، يزداد رائحة، يزداد طِيبا، يزداد بهاءً، يزداد جمالا، زيادة باستمرار، لا يقف في حد، الله! 

وهم في أيّام الدّنيا كانوا يزدادون كلّ يوم من العمل الصّالح شيئا قليلا، قليلا؛ لكن فُتح لهم باب زيادة واسعة مِن كل جانب؛ ذاك اللّائق بالخلق، وهذا اللائق بالخالق الحقّ جلّ جلاله؛ 

أولئك كانوا يَزدادون كُفر يوما بعد يوم، ويزدادون مَعصية إلى معصيتهم يوما بعد يوم؛ فاليوم هؤلاء في زيادة عذاب وهؤلاء في زيادة نعيم، وإنّه لو وقف عِند حدّ معيّن،! سيبقى حسب ما جعله الله في طبيعة الإنسان شيء مألوف؛ ينقص لذّته، وذاك يكون مألوف فينْقص ألمُه وشدّته؛

  • فأنتم في زِيادة راحة، زِيادة لذّة، زِيادة نعيم، زِيادة أُنس، زِيادة حُبور، زِيادة سُرور، زِيادة رِضا، زِيادة طمأنينة، زِيادة هناء. 
  • وأنتم زِيادة ألم، زِيادة وحْشة، زِيادة شِدّة، زِيادة بُعد، زِيادة طرِد، زِيادة غضب، زِيادة لَعْنة، زِيادة عقارِب، زِيادة حيّات، زِيادة حميم، زِيادة زقّوم. 

مُسْتمرة الزِّيادة، الله! فانظر كيف بالزِيادة الفانية تشتري زِيادة أبديّة مِن جميع الجوانب وجميع الجهات، ثيابك التي عليك في كلّ يوم تزداد حسناً؛ في لونها، في شكْلها، في تقْديرها، في بهائها، في روْنقها، الأشجار التي معك، الثِّمار التي معك كل ما تأخذ ثمرة تنْبُت مكانها أحسن مِنها، خُذ ثانية تَنْبُت أحسن، خُذ ثالثة تنْبُت أحسن وإلى الأبد.. الله!

يخرجون إلى ساحة النّظر إلى وجهه الكريم يرجعون يقولون: ليست فقط زيادة حتّى في الثّياب أو في الجنان أو في الأنهار، ولكن في ذواتهم، الرجال يقولون لنسائهم ازددتم حسناً بعدنا وبهْجة وجمال، يقولون لهم: وأنتم رجعتم إلينا بحُسن أزيد، وجمال وبهاء أعْظم؛ يقول: ما لنا لا نزداد حسناً وقد أذِن لنا بالنّظر إلى وجهه، الله! الله!

في الطريق سمِعتْ حليمة السّعديّة الأتَان تقول: كيف لا أقوى وقد ركِبَني رسول الله؟! وهؤلاء يقولون: كيف لا نَزداد حُسْناً وبهاءً وقد أذِن لنا ربّنا فنظرنا إلى وجهه الكريم؛ اللّهمّ ارزقنا لذّة النّظر إلى وجْهِك الكريم. 

وهكذا، يقول لهؤلاء: (فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30))، اللّهمّ أجرنا من عذابك! وترى مَن خُلِق وغلبتْ عليه أعمال أهل الجنّة، لو فكّر في مَعْصية أو في إيذاء، يُفكِّر في شيء كبير وبعد ذلك، ينقص ينقص.. ينقص.. يُنَزّل؛ والشّرير الذي غلبت عليه أعمال أهل النّار في أيّ شرّ، في أيّ أذى، في أيّ ضُرّ، يُفكِّر في صغير، يُكبّرُه.. يُكبّرُه، يزيده.. يزيده.

جاء إخوة يوسف قالوا: عندنا مُشْكِلة، أبونا مائل إلى يوسف، وقلبه مع يوسف، والان؟ ماالعمل؟ (اقْتُلُوا يُوسُفَ)، لكن هذا لا يتناسب، (أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا)، ولا تقتلوه، القتل هذا عيب، حرام، هذا كبير، شيء شنيع، نزَّلوا، (يَخْلُ لَكُمْ)؛ قال: لا تُسألوا (أَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ)، وضعوه في بئر من أجل المارة يمُرون عليه، (يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ) [يوسف:9-10]، لأجل لا يبقى هكذا في محلّ لا أحد يخدمه، في عِنده مرونة، انظر خفّفوه؛ 

لكن الشّرير والشّيطان يجيء يُفكّر؛ يقول: اضْرب فُلان، يقول: لا لا نَحْبسه أحسن، يقول: لا لا نَقْتله، يقول: نُعذّبه قبل ما نقتله، كلّ ساعة يُصنّع في العذاب.

هذا أيضاً مُتناسب مع الزّيادة في الآخرة، هؤلاء يزدادون كذا، وهؤلاء يزدادون كذا، هؤلاء في الجنّة ماذا يزدادون؟ وهؤلاء في النّار ماذا يزدادون؟ (جَزَاءً وِفَاقًا (26)) والجزاء من جنس العمل، غفر الله لنا جميع ذنوبنا صغيرها وكبيرها وعامَلنا بِفضله وما هو أهله.

حتّى يجيء -من رحمته بهؤلاء- يقول: (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ) [العنكبوت:7]، ماذا نجزي؟ الأحسن؛

  • قال: فقط ما عاد ينظر إلّا إلى الأحسن مِن أعمالهم فيُجازيهم عليها، والذي ليس أحسن يتركه.
  • ومن جملة المعاني في ذلك أن يقول: انظروا إلى أعظم حسنة تَضاعفت له، إلى أيّ مقدار -أكبر شيء-؟ يقولون: ياربّنا الحسنة الفلانية، التي ضَاعفتها له إلى كذا أعظم شيء-، يقول: كلّ حسناته اجعلوها مثلها

يقول: نَجْزِيَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كَانُوا يَعْمَلُونَ، ولكن الجزاء عند الآخرين نَجزينهم أسوأ ما كانوا يعملون، والعياذ بالله تبارك وتعالى! فيُجازيهم على أسوأ أعمالهم، أجارنا الله مِن ذلك، اللّهم عاملنا بفضلك!.

يقول تبارك وتعالى: (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31))، مفاز:

  • إما مصْدر فوز.. فاز.. يفوز.. فوزا 
  • أو مكان: مفاز.
  •  المفاز يرجع مَعْناه أيضاً في اللّغة إلى الخلاص من الشِّدّة والعذاب والتّعب. 

ومن هُنا كان العرب يُسمّون الصّحراء والفلاة الطّويلة، قليلة الماء، مفازاً، تفاؤلاً بالخلاص منها والنّجاة، إنّهم لا ينْقطعون فيها ولا يُهلكون، يقول لك: مفازاً يعني تمرّ فيها، تنجو.

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31))، يمرّون على الصِّراط ولا يسقطون في النّار، لا تَلْمسهم النار، لا تقهرهم النّار، لا تقشبهم النّار، لا تنال مِنهم النّار شيء.

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31))، نجاةً وخلاصاً ودار يفوزون فيه بأنواع الفوز.. 

  • (فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ) [آل عمران:185]، الله! الله! 
  • (لِّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا) [الفتح:5]؛ هذا هو الفوز، اللّهمّ اجْعلنا من الفائزين!

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ) -بساتين، أشجار- (وَأَعْنَابًا (32))، خصّها بالذِّكر من بين الأشجار في هذه الحدائق، (حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ)، الحور العين: كواعب، (وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33)) 

  • أَتْرَابًا: أمثال. 
  • أَتْرَابًا: متساويات في الحسن والجمال. 
  • أَتْرَابًا: مُتحابات مُتآخيات. 
  • أَتْرَابًا: صافيات مُتصافيات (عُرُبًا أَتْرَابًا) [الواقعة:37]. 
    • يعني لا توجد في الجنة مُشكلة اسْتِثقال أحد، ولا غَيرة من أحد، ولا مُراقبة لأحد،لا يوجد. 
  • أَتْرَابًا: كلّ الطّبيعة التي فيها تعب في الدنيا -تروح- تُنزع مِنهم. 
    • ذ(وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ) [الحجر:47]. 

فهكذا نعيم الجنّة، كلّ الأسواء التي يُلاقيها الإنسان في الدّنيا تتبدّل، تذهب؛ حتّى الأزواج والنّساء يصِرن أتراب؛ مُتحابّات، مُتآخيات، صافيات، مُتساويات، وكلّهنّ في سنّ واحد؛ إلّا أنّ المؤمنات يكنّ أجمل مِن الحور العين؛ لِما عَبَدْن الله تعالى في الأرض، ولِمَا امْتُحِنّ بالتّكْليف، وصَدَقْن مع الله؛ حتّى فُزن وتَجاوزْن هذا، فَيَعْلُو حُسْنهُنّ على الحور العين في الجنّة.

 وكلّهم يُنْشِئْهم الله نشأة أُخرى، والعجب في القُدْرة الإلهية هذه، نحن تأمّلنا في هذه القُدْرة أنّ الأشكال هذه، مِننا ملايين على ظهر الأرض ولا يوجد اثنين متطابقين، لا يجد! سبحان الله! تعجّب لهذه القُدْرة؟! تعجّب! 

أيضاً في الأخرة كلّهم يرجعون في جمال فائق -أهل الجنّة- كلّهم، كلّهم لوناً وشكلاً وعرضاً وحجماً وطولاً وصحّةً، كلّهم في شيء فائق، ومع ذلك كلّ واحد عليه مَسْحة من الصّورة التي كان عليها في الدّنيا حتّى يعْرفه صاحِبه؛ هذا فلان، وأنّ شكله اختلف، والحال اختلف؛ طوله ستين ذراع، عرض سبعة أذرع، شخص آخر 

لكن انْظُروا إلى القُدْرة الإلهيّة، يَتْرك مَسْحة، تتأمّل الملامح، تقول: فلان هذا، أنت فلان!، يقول: وأنت فلان!، يتعارفون في الجنّة؛ ثمّ يقول: أنا قد لقيتك في الدّنيا، يقول: لقيتك في يوم كذا، في مكان كذا، تَذكر؟ في المسجد الفلاني، تعلم كم جمعت أنا على تلك الجلسة في المسجد؟ تَعَال!، يُريه مدائن ذهب وفضّة، يقول: انْظُر! الله أعطاني هذا من أجل ذاك اليوم، الذي أنا لقيتك فيه في المسجد الفلاني، في المكان الفلاني، (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ) [الصافات:27]، قال الله تبارك وتعالى؛ أهل الجنة، فهذا غريب!؛ 

وأهل النار كلّهم يتحوّلون إلى قُبُح، صور قبيحة ومُنتِنة وَشنيعة ومع ذلك عليها مَسْحة من صورة صاحِبها في الدّنيا؛ ما القُدْرة هذه في التصوير! المُصوّر -جلّ جلاله- (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ) [آل عمران:6]؛ لمّا تتأمّله تعْرِفه أنّه فُلان، قد تسوّدَ وقد تَقبّح وقد تَغيّر وغُلُب وكبُر ولكن تعْرِفه أنّه فُلان، ما هذه القُدْرة! القُدْرة على التّصوير هذا والتّكوين! الله أكبر! جلّ الله!

حتّى يتلاقى اثنان من أهل الجنة، يقول: فلان الحمدُلله الذي نجّانا وأدخلنا الجنّة وكنت أنا وإيّاك على كذا، وكان معنا واحد يضحك علينا ويستهزئ بالدّين وبالخير وبالحقّ؛ فيناديهم الله، فيقول لهم: ( هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ)، هل تريدون أن تروا صاحبكم هذا؟! فيفتح لهم الحجاب فيرونه في النّار، (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ) [الصافات:54-55]، يعرفونه، ينادونه؛ فلان! يسمع الصّوت وهو في العذاب، نعم!، ويتذكّر هذا صوت فلان الذي كان يضحك عليه في الدّنيا ويستهزئ به، يا فلان!، نعم!، أنت فلان!، يقول: نعم!، (تَاللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ)؛ كنت تُحاول أن تُوصلني لمكانك هذا والعذاب الذي أنت فيه، إن كدت لتُهلِكْني، (وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي)، بالتّثبيت على الخير والحقّ والموت على الدّين، (لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) [الصافات:56-57]، عندك في العذاب هناك، الله! الله! الله!؛ 

يقول: هات لي ماء! اسْقِنِي، أَعْطِنِي شيء، يقول: (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ) [الأعراف:50]، لا يوجد لك نصيب من هذا، كُنّا نَدْعوك وأنت تضحك علينا، تقول: مجالسكم وذاك التّسبيح والتّحميد، لا تعرفون لماذا أنتم في الحياة، وأنت تضحك على الذّاكِرين، تضحك على المُصلّين، تضحك على العابِدين، ما عاد لك شراب ولا عاد لك طعام، اجلس في مكانك (أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ۚ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ) [الأعراف:50]، نعوذ بالله من غضب الله!

يقول: (حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34))، مُمتلئة، مُترعة، مع كونها مُمتلئة مُقدّرة، كيف مقدّرة؟ على حسب الحاجة، لا تزيد ولا تنقص، إذا نَقَص قد يسبب لك تعب! لا يوجد تعب في الجنّة، لا يَترك عليك حتّى أثر التّعب.

وإذا أردت شراب ثاني، يُعاد ثاني مرّة، كلّه نفس المِقدار يجئ، ولا يزيد بعد ذلك، وإلّا هذا الزائد تُعطيه مَن أو ترميه؟! في الجنّة ما في هذا، 

  • (قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلً) [الإنسان:16-17]. 
  • (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) [الإنسان:6-7]. 
  • ثمّ قال: (وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا *  قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا) [الإنسان15-16]. 

نفس القَدْر، لا يزيد شيء ولا ينقص شيء، تمام! الله أكبر!(وَكَأْسًا دِهَاقًا (34))

في الجنّة والعيشة هُناك، لا تسمع لغو، أي لا يوجد كلام فارغ، الله! الله! الله!، أي هذا من البلاء ومن العذاب عليكم أن تلغَوا في الدّنيا، قال: هُناك، الدّار مُنزّهة عن اللّغو، (لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا)،  كلّ الكلام يُسمع نافع، طيّب، مُفيد، الله أكبر!، (لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35))، يعني أنواع المآثم والكَدَر اختار منها لفظة الكِذّاب، لأن الكذِب رأس البلايا والشّرور، لِذا كان الشاعر يقول:

لِي حِيلَةٌ فِي مَنْ يَنَمْ *** وَلَيْسَ فِي الكَذَّابِ حِيلَة

مَنْ كَانَ يَخْلُقُ مَا يَقُولُ *** فَحِيلَتِي فِيهِ قَلِيلَة

ولذا جاء أنّ المؤمن لا يكْذِب، فمصدر البلايا والشّرور الكذِب، (لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35))، لا أحد يكذِب على أحد، ولا أحد يشتم أحد، ولا أحد يسبّ أحد، ولا يوجد قول إثم أصلاً، الله!، (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا) [الواقعة:25-26]، كلام تسمع طيّب، سبحان الله!

أما علمتَ أنّ الكلام الطيّب يُؤثر حتّى على الكائنات مِن حواليك؟! ليس على نفسيّتك وحدها؟! 

  • من أظهر ما يَقوى فيه ويظهر ويتجلّى فيه التّأثر بالكلام، الماء! الماء! تكلّم بكلام طيّب في الماء، يتأثّر الماء؛ حتّى تركيبة عناصره تتأثّر، سبحان الله!
  • هات ماء من بئر واحدة، من مكان واحد، مِن منبع واحد، مِن عين واحدة، في كأس، قل في هذا: طيّب! طيّب! طيّب!، وقل في كأس آخر هذا: خبيث! خبيث! خبيث!، حلّله ثاني يوم، تَجِدْه اختلف، هذا خَبُثْ وهذا طَاب؛ من الكلام. 

وإذا كان الكلام يؤثر حتّى في الكائنات مِن حواليك، فكيف في نفسيّتك وذاتك؟! ولهذا في الجنة: 

  • (لَّا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ) [الطور:23]. 
  • (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا) [الواقعة:25]. 
  • (لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35)). 

لا نهرة ولا سبّة ولا شتم ولا غيبة، ولا شيء مِن الشّرور بأصنافها، ولا مُخاصمة ولا مُسابّة ولا مُجادلة ولا شيء من هذا أبداً، (لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً)، قال أنا جازيتهم ورتّبت لهم هذه الأشياء، 

  • (عَطَاءً حِسَابًا)، يعني عطاءً وافيًا كافيًا. 
  • (عَطَاءً حِسَابًا)؛ مُجازياً لأعمالهم التي عمِلوها، يعني معْدودة على عدد حسناتهم وأعمالهم الصّالِحة.
  • (عَطَاءً حِسَابًا)، حسابا بمعنى كافياً تامّاً، عطاءً ربانيًا؛ حسابًا وافياً، كاملاً، تامّاً، الله أكبر!

 (جَزَاءً مِّن رَّبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36))، مَن هو هذا الرب، يختم السورة بهذه الصِّفات العظيمة، وفي مثل هذا اليوم تقوم السّاعة، لكن لا يُدرى في أيّ سنة ولا تحديد وقتٍ، ولكن في يوم الجمعة تقوم السّاعة، لذا كانت قراءة النّبيّ في يوم الجمعة، في السور التي فيها أخبار الساّعة وأخبار القيامة كمثل:

  • ألم السجدة في الصّبح. 
  • ومثل (هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ) [الانسان:1].

أخبار القيامة والآخرة في هاتين السورتين، فيه تقوم؛ حتّى أنّه من يوم الجمعة، يُشفق كلّ الحيوانات إلّا الإنس هؤلاء والجنّ لا يبالون.

 فالله يبارك في أيّامنا، وخير يوم طلعت عليه الشّمس يوم الجمعة، وجمعة رمضان تفوق غيرها، وهذه الثّالثة من الجُمع من رمضان، وبقيت واحدة من الجُمع.

بارك الله لنا ولكم في أيّام رمضان المعدودات ولياليه المُنوّرات، وجَعلنا وإيّاكم مِن الشّاربين كؤوس المحبّة والمعرفات، والصّادقين مع الله في أهل الإنابة والإخبات، ربطنا بخير البريّات، ربطا لا ينحل في الدّنيا والآخرات. 

 بسرِ الفاتحة 

وإلى حضرةِ النَّبي محمد صلى الله عليه وسلم

 اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه، 

الفاتحة

لاتنسوا قراءة مثل: 

  • سورة الكهف.
  • وكثرة الصلاة على المصطفى محمد ﷺ. 
  • والحضور إلى الجمعة مُبكّراً وأقلّه قبل دخول الخطيب، قبل أن يدخل الخطيب. 
  • وقراءة الفاتحة سبعاً، والإخلاص سبعاً، والفلق سبعاً، والناس سبعاً بعد صلاة الجمعة، قبل أن تُغيّر مجلسك من تشهد يوم الجمعة، قد ورد في ذلك أجر كبير وثواب عتق رقاب وحفظ إلى الجمعة الأخرى.

بارك الله لي ولكم في جُمعتنا وأيّامنا وليالينا وجعلنا من الصّالحين المصلحين.

تاريخ النشر الهجري

23 رَمضان 1438

تاريخ النشر الميلادي

18 يونيو 2017

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام