تفسير سورة النَّبَأ -3- متابعة السورة من قوله تعالى: (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً)

تفسير جزء عمَّ - 105 - مواصلة تفسير سورة النبأ {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً}
للاستماع إلى الدرس

يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير قصار السور، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم من العام 1438هـ.

نص الدرس مكتوب:

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِّلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَّابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30))

 

 الحمد لله الذي أكرمنا بتنزيل الكتاب، وتوجيه الخطاب، والفهم والمعرفة والألباب، وصلّى الله وسلم وبارك وكرّم على عبده المصطفى سيّد الأحباب، وعلى آله وصحبه خير آل وخير أصحاب، وعلى مَن تَبعهم بإحسان إلى يوم المآب، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين أطيب الأطياب، وعلى آلهم وصحبهم والملائكة المُقرّبين وجميع عباد الله الصّالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمته إنّه أرحم الرّاحمين. 

وبعد،،، 

فإنّنا في نعمة الاتّصال بذي الجلال ومُفيض النّوال، وباسط المِنَنِ الجِّزال، عبر تأمّلنا لقوله خير مقال، وللتّنزيل والإنزال الذي خصّ به سيّد أهل الكمال، عبده محمّد الذي ختم به الإرسال، تأمّلنا معاني عظيمة في سورة النّبإ العظيم، الذي يختلف فيه النّاس اختلافات، ومرجع اختلافاتهم إلى سَواد وظُلمات، آفات النّفوس والأهواء والشّهوات، وكل مَن تخلّص مِن ذلك، فلا شكّ عنده في يوم المِيقات، وينتهي هذا الاختلاف كبقيّة الاختلافات، في يوم الفصل،  الذي قال عنه الحق جل جلاله: (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17))، يوم الفصل:

  • القضاء بين العباد فيما كانوا فيه يختلفون.
  • الحُكم الباتّ الذي لا يُعقّب، (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [السجدة: 25].

 فشاءت حكمته بعد أن جعل للمُكلّفين عقولًا ومَدَارك، -اختلفت- وتسلُّطًّا للشّهوات والآفات، يمنع ما عندهم من النّصيب من العقل والمعرفة عن الاستقامة، أو مُضِيّهِ في مساره الصّحيح، إلّا مَن رحم وزَكّى نفسه، ولم يأذن للشّهوات والأهواء أن تَغلُب عليه، فإنّه يهتدي بما آتاه الله، مِن وعيٍ وعقلٍ وإدراكٍ وفكرٍ وفهمٍ، إلى الحقّ والحقيقة، ويصدُق في وِجهته إلى ربّ الخَلِيقَة. 

شاءت حكمة الله، كما أشرنا في قوله تعالى: (وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) [هود:118-119]، أن تبقى هذه الاختلافات على مُضيّ الأوقات، وأن لا يكون إنهاء جميع الاختلاف في الحقائق الكبرى، والفصل التّامّ الكامل بين العباد إلّا يوم القيامة، (لِيَوْمِ الْفَصْلِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ) [المرسلات:13-15]، وكرّر الحقّ تبارك وتعالى، ثمّ قال سبحانه في ضمن تلك الآيات، في سورة المرسلات، يقول جل جلاله وتعالى في علاه: (هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ * وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ * هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ) [المرسلات:35–38]، هذا يوم الفصل، هذا يوم القضاء. 

فمن سبقت لهم سوابق السّعادة، فما ينتهي إليه الفصلُ في ذلك اليوم، يأخذونه من اليوم علم يقينٍ أو عين يقينٍ أو حقّ يقين؛ ثم يقول قائلهم كسيّدنا أبي بكر وسيّدنا علي بن أبي طالب –رضي الله عنهم– "لو كُشِف الغطاء ما ازددتُ يقينًا"؛ فإذا حضروا في يوم الفصل، لم يَختلّ شيءٌ ممّا علموا، ولا ممّا عَايَنُوا، ولا ممّا تحقّقوا، وسُقِيت أرواحهم وقلوبهم أيّام كانوا في الدّنيا، فقد شاهدوا الأمر كأنّهم يرونه رَأْيَ عين، عليهم الرضوان.

 في ذلك يُذكر عن سيّدنا أحد شهداء بدر الأربعة عشر، عليه الرّضوان والرّحمة، عند عودة النّبيّ ﷺ، سألته أمّه: أين ابني؟، قال: "احتسبيه عند الله"، قالت: "قل لي أهو في الجنّة أم في النّار؟"، قال: "إنّها جنانٌ كثيرة، وإنّ ابنك أصاب الفردوس الأعلى"، سيدنا حارثة رضي الله عنه. 

يُروى أنه سأله ﷺ مرةً فقال: "كيف أصبحت؟" فقال للنّبيّ: "أصبحتُ مؤمنًا بالله حقًا يا رسول الله"، لم ير شيئًا من النّعم أعظم مِن الإيمان الذي رُزِقه وانتهى به إلى اليقين، قال له ﷺ: "إنّ لكلِّ قول حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟" قال: "يا رسول الله! عَزَفَت نفسي عن الدنيا فاستوى عندي ذَهَبُها ومَدَرُها"، لا يصل إلى هذا إلا مُزكّى مُنقّى، "استوى عندي ذَهَبُها ومَدَرُها، وأصبحتُ كأنّي أرى عرش ربّي بارزا، وكأنّي أنظر أهل الجنة يتنعَّمُون فيها، وأسمع أهل النّار يَتَعَاوَوْن فيها، قال عبدٌ نوّر الله قلبه عرفتَ فَالْزَمْ". أدركت الحقيقة، ولم يكتفِ بهذا، قال: "يا رسول الله! ادعُ الله أن يرزقني الشّهادة في سبيله"، قال: "اللّهمّ ارْزُق حارثة الشّهادة في سبيلك"، زيادة على ذلك لمّا تكلّم وخاطبه النبي عمره كان 17 سنة، فكان أحد الأربعة عشر الذين استُشهِدوا يوم بدر، وأصاب الفردوس الأعلى، ولن يصيب الفردوس الأعلى إلّا أهل حقّ اليقين، عليهم رضوان الله تبارك وتعالى. 

ذاكم يوم الفصل، فيطول ويقصُر كلام النّاس وأفكارهم عن الكون والوجود وغاية الإنسان وسعادته وحقيقتها ونهايته، أنظار وأفكار كثيرة مُتقلّبة؛ منها عند الهندوس، وعند البوذية، وعند الدهريّة، وعند الملاحدة، وعند النصارى، و عند غيرهم من أهل الاتجاهات على ظهر الأرض، وسينتهي كلّ هذا الاختلاف عند مُعاينة الحقيقة في يوم الفصل: 

  • في يوم الفصل نعرف لمن الفضل. 
  • في يوم الفصل ندري من أهل العقل. 
  • في يوم الفصل نقطع بحقيقة أن الخلّاق واحد، وأن محمّد أمجد الأماجد، صلى الله وسلم عليه وعلى آله. 

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ)؛ البتّ، القضاء، الحُكم الذي لا مُعقّب له بين النّاس في جميع ما يختلفون، (كَانَ مِيقَٰتٗا (17)):

  • مؤقّت بوقت يأتي فيه.
  • وميقاتًا بظهور الحقيقة.
  • وميقاتًا لتعذيب المعذّبين، وتنعيم المنعّمين.

(فَيَوْمَئِذٍ لّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ) [الفجر:25-26]، أي أن أنواع النّعيم التي مرّت خصوصًا على الأجسام في عالم الدّنيا من الماديّات، وأنواع الأتْعاب أيضًا جسمانيّة في عالم الدّنيا، تصير عند ذلك اليوم كأنّها مجاز، وحقيقة النّعيم هناك، وحقيقة العذاب هناك، الله! الله! في ذاك اليوم، (فَيَوْمَئِذٍ لّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ * يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً) [الفجر:25-28]، قد صدقتِ وأدركتِ الحقيقة وخضعتِ للرّب، لكِ الرّضى ولكِ العطاء، 

ولكن النفوس الأخرى كيف يُصنعون بها؟ 

  • (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ) [الرحمن:41]. 
  • (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) [القمر:48]، اللّهمّ أجرنا من النّار. 

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ (17)), الحكم والقضاء الذي لا تعقيب له، (كَانَ مِيقَاتاً (17))، ما خبرُ هذا اليوم ياربّ؟ قال: (يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ (18))، يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ؛ النّفخة الثّانية، (فَتَأْتُونَ (18))، تأتون، تأتون، بترتيب الذي خلقكم، أتى بكم أولًا وتأتون ثانيًا، (فَتَأْتُونَ (18))، لكن لستم على صفة واحدة ولا رُتبة واحدة ولا حال واحد

(أَفْوَاجًا (18))، زُمرًا زُمرًا، جماعات جماعات، كيف؟ بحسب التّناسق والتّناسب المعنويّ بين الأشخاص من المكلّفين يتحوّلون إلى زُمر زُمر، كما هم في عالم الدنيا زُمر زُمر زُمر، وأفواج وجماعات، جماعات، جماعات، وكلّ واحد يقول: اِلْحَقْ بآل هذا، واِلْحَقْ بآل هذا، واِلْحَقْ بِهُنَا وهُنَا، وهذا الحزب الفلاني، وهذا الاتّجاه الفلاني، وهذه الحكومة الفلانيّة وهذا، وهذا، أفواج هم في الدنيا وفي القيامة أفواج تُناسب هذه الأفواج التي في الدّنيا، فمن كان قلبك أقوى احتكامًا بهم من الأفواج فأنت معهم في ذاك اليوم، أنت معهم في ذاك اليوم، فانتبه لقلبك!، لا تُربطْ حبلك بفسقة ولا سفلة ولا ساقطين يسقطون بك في ذاك اليوم فتكون معهم، ابْحث لك على أهل فوق، ابْحث لك على أهل حضرة الرّب، ابحث لك على أهل القرب من ملك الملوك الذي يحكم ويفصل، فارْبط قلبك بهم. 

(يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18))، حتّى جاء عن سيّدنا مُعاذ أنّه سأل سيدنا محمد ﷺ عن القول (فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا)، فبكى ﷺ، وقال: "سَأَلْتَ عَنْ أَمْرٍ عَظِيم"، وذكر له أنّ النّاس في ذاك اليوم؛ فيهم من يُحشر على وجوههم يمشون، أقدامهم أعلى ورؤوسهم أسفل يمشون عليها، وفيهم الذين يلبسون ثياب مشتعلة بالنّار، وفيهم الذين على صور الخنازير، وفيهم الذي على صور الكلاب، وذكر أحوال تحصل في الموقف يوم القيامة، وذكر أنّها نتيجة الأعمال التي كانوا يعملونها.

(فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18))، ثم يقول أيضًا سبحانه وتعالى: (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا * وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا) [الزمر:71-72]،  فطوائف الخير وطوائف الشّرّ بينهم الرّوابط، في الدّنيا وفي الآخرة، هؤلاء زُمر وهؤلاء زُمر، وهكذا. 

يقول الحقّ سبحانه وتعالى: (يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18))، في الحديث الصّحيح يقول: "أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأَرْضُ يَوْمَ القِيَامَة"، صلى الله عليه وعلى صحبه سلّم، قال: "فَأَقُومُ مِنْ قَبْرِي فَأَرَى مُوسَى مُعَلَّقًا بِقَائِمَة مِن قَوَائِمِ العَرْش"، لِمَ؟ لأنه لم يَصعق، قال: "حَصَلَتْ لَهُ صَعْقَةٌ مِنْ هَيْبَةِ الجَلَالِ الرَّبَّانِي"، لمّا (قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا) [الأعراف:143]، فجُوزِي بهذه الصّعقة، أنّه عند الصّعقة التي تعمّ أهل السّماوات والأرض، يكون من المُستثنين يكون محلّه قائم عند العرش، منتظر النّفخة الثّانية. 

يقول: (فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ): منهم هذا موسى، (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ) [الزمر:68]، منهم موسى (إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ)؛ أمّا الذين يُصعقون كلّهم، فلا يفيق أحد قبل محمّد ﷺ، يكون أوّل من تنشقّ عنه الأرض؛ ثمّ جاء في الأخبار، أنّ المؤمنين حواليه بالمدينة يُحشرون لِيَلتقوا به ويَمْضوا معه، ومن بمكّة كذلك. 

ثم النّاس على مراتب قُربهم المعنويّ يتلاحقون خلفه للوصول إلى أماكنهم في المحشر، قال سبحانه: (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا)، هؤلاء وَفْد، كل واحد منهم يُصاغ مما يتناسب مع أعماله -نجيبة- يَركب عليها عند الخروج من القبر، هذا عملك الصّالح اركب عليه، فمنهم تطير بهم مُباشرة إلى ظلّ العرش، ومنهم مَن تمرّ به إلى مقعد مُهيأ له، (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا) [مريم:85-86]، على وُجوههم بعضهم يمشون والعياذ بالله تبارك وتعالى. 

يقول سبحانه: (فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاء (19))، مِن مراحلها، أن تُفَتّح، فُتِحت السماء في كل قراءة من القراءات سبع، وفي قراءة، (وَفُتِّحَتِ السَّمَاء فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19))، بِداية الانفطار والانشقاق تَتَفتّح أبواب كثيرة، يَنزل منها الملائكة، ثمّ تَمُور مَْوْرًا، (يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاء مَوْرًا) [الطور:9]، تدور بقوّة ثم تتشقّق نهائيًا وتنفطر نهائيًا وينتهي شأنها، والكواكب هذه الملايين التي يتحدثون عنها، ويَصِلون إلى شيء مِن أخبارها الحسيّة، تَتَنَاثَر كلّها، (إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ) [الانفطار:1-2]، لا إله إلا الله! 

فمن كان قُصارى علمه يغترّ بها في الدّنيا، يُراقب الكواكب ويقعد في الفضاء سنة، وسنة ونصف، ويرجع للأرض؛ وهذا قصارى علمه وقت انتثار الكواكب كلّها، ما الذي يكون مقدار علمه؟! أنت وهذا الكون الذي اغترّيت به انتهى! أين المرجع؟ مَن لك؟ هل علمتَ الذي خلقها؟ وخلقك؟ ما علمت! أرسل لك رسولًا، أنزل لك كتابًا، ما علمت؟ دع وكالة "ناسا" تنفعك! وَصَلْتَ جاهل ماعندك شيء! مغرور بكائنات ونسيت المُكوّن، ما عندك أيّ شيء مِن علم، ما مقدار علمك اليوم الذي تقولون عليه، واكْتَشَفْنَا..

تناثرت وذهبت كلّها وبعد ذلك؟ هذا العلم الذي مُغترّ به في الدّنيا، وترى نفسك من أكبر علماء الأرض؟ الله أكبر! وبعد ذلك ما علمت مَن خلق الأرض، ولا مَن خلق الكواكب، ولا مَن خلقك أنت؟ وسمعك وبصرك أين مستودعهم؟ من أين جاء؟ نسيت هذا كله؟! فما أجهلك! ما أجهلك! فما نفعك، هذا الشيء الذي كنت أنت متعجِّب فيه، ومتردّد إليه، ومستعمل مناظيرك، تناثر وذهب وانتهى، الذي هو فوق ما قدرت تصل إليه، انْفَطَرْ وتَشَقَقْ؟! 

  • (إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ) [الانفطار:1-2]، الله أكبر! 
  • (إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ * وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ) [الانشقاق:1-5]. 
  • (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ) [التكوير:1-4].
  • فكلّ من يعتمد على شيء من هذه الأشياء مثل مَن يعتمد على سراب، (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ) [العنكبوت:41]، هو أوهن شيء تتخذه لك! أنت عُدّة وذخيرة ومرجع ترجع إليه! 
  • وهكذا، يقول: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [النور:39]. 

فالحمدلله على نعمة الإسلام، الحمد لله على نعمة الإسلام، اللّهمّ ثبّتنا عليها، واجعلنا من خواصّ أهلها، وحقّقنا بحقائقها، يا ربّ العالمين. 

(وَفُتِحَتِ السَّمَاء فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ (20))، (وسُيّرت الجبال) وقُلِّعت، ودُكّت بالأرض، ثم صارت كالعِهن المَنْفوش، ثم نُسِفَت نَسْفًا، فصارت سرابا، كان جبل، كان جبل، ما عاد يوجد جبل، كان جبل، يا الله! كان جبل، ما عاد يوجد جبل، سراب، أين كان؟ أين هو؟ نُسِفَتْ؛ كنت ترى ماء كثير بالسّراب ولا يوجد ماء، تصل إليه ما تجده، الجبال هكذا تصير، الله! 

(وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20))، (يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18))، فاجعلنا مع فوج المقرّبين والصّالحين والصّدّيقين، يا أكرم الأكرمين! 

(وَفُتِحَتِ السَّمَاء فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20))، هذه أخبار يوم النّبأ العظيم. 

(إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21))؛ المُراد بها النّار كلّها، طبقة جهنّم وما تحتها، هذه أُولَى طبقاتها جهنّم، التي يُعذّب فيها عُصاة المُوحِّدين الذين ماتوا على الإيمان، وعندهم ذنوب لم يعفُ الله عنها، فيُعذّبون في هذه الدَّرَكة؛ الطّبقة الأولى من النّار.

(إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21))، مِرْصَادًا له معاني:

  •  أُرصِدت وأُعِدّت للمجرمين، (لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22))، مآب الطاغين والمجرمين. 
  • مرصادا؛ سجنًا يُسجَن فيه هؤلاء الطغاة، (لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)).
  • مرصادا؛ بالرّصد لكلّ أحد، لابد من المرور فوقها؛ أهل النّار يدخلونها، وأهل الجنّة يمضون فوقها بالمرور على الصراط، (وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) [مريم:71-72],

هذه الآية أبكت سيّدنا عبد الله بن رواحة، عندما عيّنه النبي ﷺ في غزوة مؤتة، وقد كان أرشدهم بأن ينزلوا إلى المَشرِفيّة، أواسم قريب من هذا، فما عرفوه، الذي وقعوا فيها أرض مؤتة، التي دارت فيها المعركة، لمّا عيّنهم قال: "يَحْمِلُ الرَّايَةَ زيد بن حارثة، فَإِنْ قُتِل فجعفر بن أبي طالب، فَإِنْ قُتِل فَعبد الله بن رواحة، فَإِنْ قُتِل فَلْيَرْتَضِي المُسْلِمِون مَنْ بَيْنَهُمْ رَجُلًا"

واحد من اليهود يقول لبعض المسلمين: تُصدّقون نبيِّكم؟ قالوا: كيف؟! هو الصادق، قالوا: الثّلاثة سيُقتلون هؤلاء، ولو سمّى النّبيّ مائة وقال: قُتِلْ، قُتِلْ، فسيُقتلون كلّهم. 

سيّدنا عبد الله بن رواحة لاحظته زوجته يبكي فبكتْ، قال: "ما يُبكِيكِ؟"، قالت: "إنّما بَكيتُ لبُكائك، فإن كُنتَ لا تريد الخروج، فاعْتذر لرسول الله"، قال: "وَيْحَكِ، ما على هذا أبكي، ولكن آية في كتاب الله : (وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا) [مريم:71-72], قال أيقنتُ بالورود، ولا أدري بالصَّدَر بعد الوُرود، أأكونَ من الّذين اتقوا، هل أنْجُو أم لا!. انظر الى خوف الصحابة رضي الله عنهم، قال هذا الذي أبكاني!،

ولما كانوا بعد ذلك في الطريق، وبلَغهم أن الجّماعة استعدوا لهم وجاؤوا لهم بمائة ألف، ثم مائة ألف، ثم خمسين ألف، 250 ألف، والمسلمون منهم ثلاث آلاف من الصحابة. لما كانوا في مَعَانْ في طريقهم في أرض الأردن، قالوا: "نَكْتُبُ لِرَسُول الله نُخْبِرُهُ بِالوَاقِع"، فترادّوا الكلام بينهم قال عبدالله بن رواحة: "يا قوم، لِمَ؟ وقد أرسلكم ﷺ لتُؤدوا هذه الرسالة، إن الذي تخافونه للذي خرجتم من أَجله، امضوا"، فشجّع الجيش وقوّاهم ومَضَوا، رضي الله عن عبدالله بن رواحة، أبكته هذه الآية؛ ثم أُرِِيَ ﷺ سريره في الفردوس الأعلى، سرير زيد بن حارثة، سرير جعفر بن أبي طالب، سرير عبد الله بن رواحة، رآهم صلى الله عليه وآله وصحبه وسلّم بعدما قُتِلوا، في الفردوس الأعلى، عليهم رضوان الله. 

يقول: (إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21))، بالرَّصَد على الطّريق، تمرّ عليها لا بدّ، إن كنتَ من أهلها ادْخُل، وإن كنت من أهل الفوز مُرْ، اعْبر على الصراط، (إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21))، فهي بالرَّصَد، لجميع المكلفين

  • ومِرْصَادًا: مكان مُعَد مُهيَّأ مُرصد للكفّار والفجّار والأشرار الذين يمضون وراء غيّهم في هذه الحياة، ولا يبالون. 
  • كَانَتْ مِرْصَادًا: سجنًا يُسجَن فيه الفُجّار والأشرار. (إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21))، اللهم أجرنا من النّار، 

(لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22))،  لكلّ مَن طغى، جاوز حدّه، في الاعتداء والعصيان 

مَآب: مَرجع ومَنزل ومُكُث ومُستقر، (إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22))، مَرجع ومُستقر لهم، ومكان ينزلون فيه.

(إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23))، أزمنة بعد أزمنة بعد أزمنة، بعد أزمنة، بعد أزمنة بلا نهاية؛ أحقابا، الأحقاب هو الزمن الطويل، أي أزمان بلا تناهي.

(أَحْقَابًا)، جمعُ حُقُب، والحُقُب؛ مدّة كم؟ من أصحّ ما جاء فيه، أنه بضعٌ وثمانون سنة، كلّ سنة ثلاثمائة وستون يوم من أيّام الآخرة، اليوم كألف سنة من أيّام الدنيا، اليوم كألف سنة من أيّام الدنيا، ثلاثمائة وستين يوم، أي ثلاثمائة ألف سنة، وستين ألف سنة، هذه سنة واحدة من الثّمانين، أي أن السّنة بالنّسبة لسنين الدنيا، ثلاثمائة وستين ألف سنة، هذا واحد، ضع مثلها بضع وثمانين؛ هذا حُقُب واحد.

(لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23))  حُقُب بعد حُقُب، حُقُب بعد حُقُب، حُقُب بعد حُقُب، بلا نهاية، اللّهمّ أجرنا من النار. 

كم عمر الواحد منهم؟ إذا كان هذا مدة الحُقُب الواحد، حتى الأعمار الطويلة قبلنا من الأمم، لا حد عمّر هذا العمر ولا عاش هذا العمر، ثمانين سنة كل سنة ثلاثمئة وستين يوم، اليوم كألف سنة من أيام الدنيا! من تعمَّر؟! من تعمَّر هذا العمر؟! لماذا هذا الغرور في العمر القصير، بعد ذلك أمامه العمر الطويل في العذاب كله؟ اللهم أجرنا من النار. 

(لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)): 

  • (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ) [الزخرف:77]، يا لطيف! 
  • (وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ * قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ) [غافر:40-41]. 
  • وإذا نادوا الجَبّار: (قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ) [المؤمنون:108]، لا إله إلا الله! 

(لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23))؛ أزمنة مُتطاولة، جاء بهذا القدر الكبير من الزمن بصيغة الجمع، أحقاب، متتالية من دون حَصْرٍ ولا انتهاء، (وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) [البقرة: 167]، إنّما يخرج من عُذِّب على المعاصي، ومات وهو في قلبه ولو مثقال ذرّة من إيمان، أمّا غير أولئك فلا خروج من النّار، لا إله إلا الله! 

  • (لّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا)، لا شيء يخفّف عليهم شدّة الحرّ، ولا شدّة الحريق الذي هم فيه، 
  • (لّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا)، أي لا يُنازلهم أيّ تخفيف ولا أيّ راحة.
  • (لّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا)، ومِن معاني البرد النّوم، لا يقدرون أن يناموا من شدّة العذاب، في أتعاب الدّنيا ينامون، يخِفّ التّعب، ويذهب؛ لكن هذا اليوم ما فيه نوم.
  • (لّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا)، قالوا بعد أن تذوق أجسامهم حرارة تلك النّار، لو أُخرِجوا إلى نار الدّنيا لقالوا: ما أبردها وناموا فيها! هذا لأنها صغيرة بالنّسبة لتلك، فُضِّلت عَلَيْهَا، سَبعين جزءً، قال: يا رسول الله! إن كانت لَكَافِيَة؟ قال: "فّإنّها فُضِّلَتْ عَلَيْهَا سَبْعِينَ ضِعْفًا"، سبعين جزءً، ما مقدار الحرارة هذه؟ 

(لّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا ولا شرابا (24))، لا يخفّف عليهم العطش الذي هم فيه، (إِلاَّ حَمِيمًا (25))، يزيدهم عطش، يقطّع أمعاءهم، لا حول ولا قوة إلا بالله! عذاب فوق العذاب. 

(إِلاَّ حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25))، يقول جلّ جلاله وتعالى في علاه، أمّا الحميم: 

  • فإمّا الماء المَغلي بالنّار.
  • وقيل أنه القيح والصّديد، الذي يخرج من فروج الزّناة والزّانيات، يغلى في النار، يجمّع ويغرف منه الزبانية يَسْقُون أهل النار.

إذا قرّبوه من الوجه شوى الوجه، وإذا شربوه قطّع الأمعاء، وذلك أنّهم يُطعمون الزَّقّوم، فيصير شوك في حلوقهم فيغصّون به، فيتذكّرون أنّهم كانوا في الدّنيا إذا غصّوا بلقمة يَسِيغُونها بالماء؛ فيستغيثون يريدون ماء: 

  • (وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا) [الكهف:29].
  • (وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ) [محمد:15].

يقول الله: هذا العذاب الذي يلاقونه، (جَزَاء وِفَاقًا (26))، جزاءً مطابقًا موافقًا لأعمالهم، أعمال سيّئة، عواقب سيّئة، أعظم الذّنوب هي الكُفر والشِرك بالله تعالى والتكذيب برُسُله؛ فأعظم عذاب، هذا مع هذا متطابق.

  • (جَزَاء وِفَاقًا)، مُطابقًا لأعمالهم، أساؤوا العمل، فلهم سوء الجزاء، قبُحَ منهم العمل فلهم العذاب القبيح، عَظُم منهم الذّنب فلهم العذاب العظيم، والعِياذ بالله تبارك وتعالى. 
  • (جَزَاء وِفَاقًا)، مُطابقًا لأعمالهم، بل لكلّ عمل جزاء، إلا ما عفا الله عنه، (مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا) [الأنعام:160].  

(جَزَاء وِفَاقًا (26))، هذا مقابل هذا، (إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا (27))، لا يؤمنون بالحساب، لا يصدّقون بالحساب، لا يستشعرون أنّ وراءهم مُحاسب، يُحاسب على الصّغير والكبير والنّقير والقطمير؛ 

  • (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ) [الصافات:24]. 
  • (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ) [الغاشية:25-26]. 

هؤلاء كذّبوا، كذّبوا! (لا يَرْجُونَ حِسَابًا (27))، يعني لا يؤمنون بالحساب، كما قوله: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ)، أي يُؤمن بلقاء ربّه، (فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا) [الكهف:110].

(لا يَرْجُونَ حِسَابًا)، لم يكونوا يهابون عذابًا ولا يَرجون ثوابًا، (لا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا)، الواضحة البيّنة والدّلائل القاطعة وما أرسلنا به الرّسل، (كِذَّابًا)، يعني تكذيبًا على لغة أهل اليمن، كِذّاب، يعني تكذيبًا كبيرًا فظيعًا، كبيرًا شديدًا، (وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28))، تكذيبا، لا إله إلا الله!

يقول: كيف تكذّبون بهذه الآيات؟ أتاكم محمّد، َمَن نظر في وجهه عَلِمَ أنه ليس بوجه كذاب، بمجرد ما ترى وجهه يدلّك على الرّبّ، ما هذه المكابرة والمعاندة منكم؟ 

(وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28))، قال الله ظنّوا أنّ شيء مُهمل، أو ضائع أو يفعلون فيه ما شاؤوا، هم تحت القهر والحِكمة والإحاطة، (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29))، مكتوبًا مثبوتًا في الصّحف، وعلى أيدي الملائكة الكرام، 

  • (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) [الانفطار:10-12].
  • (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ* وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) [القمر:52-53].

(وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَابًا (30))، جاء في الخبر أنّه سُئل رسول الله ﷺ عن أشدّ آية في القرآن، قال: (فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَابًا).

 اللّهمّ أجرنا من عذابك، اللّهمّ أجرنا من عذابك يوم تبعث عبادك، واجْعل مآلنا الجنّة ومآبنا الجنّة، في زمرة حبيبك محمّد، سيّد أهل الفطنة، يا أرحم الراحمين! يا أكرم الأكرمين!

يقول سبحانه وتعالى: (فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَابًا (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31))، نجاة من كلّ ما أنتم فيه، ومكان فوز وعطاء ونِعَم كبيرة

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (30)). اللّهمّ اجعلنا من المتقين، ألحِقنا بالمتقين، هب لنا ما وهبته للمتّقين، احْشرنا في زمرة سيّد المتّقين، برحمتك يا أرحم الراحمين!

واقفين على بابك، لائذين بأعتابك، نسألك وأنت صاحب الفصل في ذاك اليوم، تفصل بين عبادك، اللّهمّ فاجعل مآلنا الجنّة، في زمرة المصطفى، وألحِقنا بالمتّقين الأصفياء، برحمتك يا أرحم الراحمين! نسألك ذلك، ونَرتجيك يا مولانا، ونُؤمّلك لتُنِيلَ لنا ذلك، يا من لا يقدر عليه غيره، ألحقنا اللّهمّ بركب المتّقين، ولا تخيّب رجاءنا والحاضرين والسّامعين.

يارب، احشرنا في زمرة المتّقين، واجعلنا في المتقين ممّن جعلت لهم مفازا، (حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35))، معهم يا ربّنا اجْعلنا، بمحض فضلك يا منّان! ياوهّاب! فإنّهم ما جاؤوا إلّا وقوفًا على بابك، ولا جلسنا في المجلس ولا تأمّلنا هذه الآيات إلّا لَيَاذًا بأعتابك، سائلين منك راجين في ثوابك، و طامعين في عطائك، خائفين من عقابك، هو الذي لا يُطاق ياربّ، لا نُطيق العذاب الخفيف في الدّنيا؛ فكيف نطيق العذاب الشّديد في العُقبى!؟ 

اللّهمّ ارزقنا الرّجعة إليك، والإنابة إليك، والتّوبة إليك، واغفر لنا ما مضى، واحْفظنا فيما بقي، وألحقنا بالمتّقين، بوجاهة المتّقين وسيّد المتّقين.

 بسرِ الفاتحة 

وإلى حضرةِ النَّبي الأمين

اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه، 

الفاتحة

تاريخ النشر الهجري

22 رَمضان 1438

تاريخ النشر الميلادي

17 يونيو 2017

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام