(535)
(363)
(339)
يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير قصار السور، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم من العام 1438هـ.
﷽
(عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا(7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9))
الحمدُلله مولانا الكريم، مُكرمنا بالتّعريف والتّبيين والتّفهيم والتّعليم، وصلّى الله وسلّم على عبده المُجتبى المُصطفى ذو الخُلُق العظيم، الهادي إلى الصّراط المُستقيم، يَسّر الله لنا القرآن بلسانه ووضّح لنا الحقائق بِبَيانه، فصلِّ اللّهمّ وسلّم وبارك على عبدك المصطفى سيّدنا محمّد، وعلى آله وأصحابه وأهل محبّته ومودّته، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين وعلى آلهم وصحبهم، وعلى ملائكتك المُقرّبين وجميع عبادك الصّالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الرّاحمين.
أمّا بعد،،،
فإنّنا في تواصل الغَدوات في سبيل ربّنا إن شاء الله، مُتفهمين لمعاني ما أنزل، وبلاغات النّبيّ الذي له أَرْسل، وَاصَلنا تأمّلنا في معاني السّور الكريمة حتى انتهينا إلى سورة النّبأ.
والنَّبَإِ: هو الخبر، وأعظم الأخبار ما تعلّق بحقيقة الخَلق والوُجود والمصير والنّهاية؛ إمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النّار، فهذه أعظم الأخبار المتعلّقة بجميع المكلّفين من بني آدم، والجنّ أوّلهم وآخرهم لن يُصادفوا خبراً أعظم مِن ذلك ولا أهمّ ولا أخطر عليهم ولا ألصق بهم ولا أشدّ مُزاولة له من هذا الخبر.
يقول الحقّ -تبارك وتعالى- في بداية السّورة: بسم الله الرحمن الرحيم (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1)) عن أيّ شيء يتساءل هؤلاء؟ (عن ما) حذفت النّون وأُدغمت في الميم: (عَمَّ)، كقوله: (من ما):ممّ، (مِمَّ خُلِقَ) [الطارق:5]، كقوله: (بمَ) أي بما، (فيمَ): فيما؛ فيحذف منها الألف.
(عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1)) عن أيّ شيء يتساءل هؤلاء؟ هذا التّساؤل الذي أشار إليه، هو أكثر وأكبر ما يدور في أذهان المكلّفين على ظهر الأرض، (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ) عن أيّ شيء يتساءلون؟
أجاب الحقّ، قال: (عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2))، الخبر الكبير، العظيم، الجليل، تساؤُلهم عنه، (النَّبَإِ الْعَظِيمِ) ماهو؟ الخبر العظيم ماهو ؟
ما يقولون هذا؟ (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3)) هم على اختلاف فيه ما بين مصدِّق ومكذِّب.
(عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3))؛ ولذلك خلقهم ربُّك ليختبرهم؛ فمن مصدِّق ومن مكذِّب، فهم على اختلاف ولا يزالون مختلفين إلّا من رَحِم ربُّك و لذلك خلقهم، فمن رَحِمهم الله تعالى اتّفقوا على عظمة الله وقرآنه وصِدق محمّد وبيانه وعلى أنّ البعث بعد الموت حقّ، اتّفاقهم واجتماعهم على هذا، إذا تمّ على وجهه؛ يقتضي أن يُذَوِّبَ ما بينهم من أنواع الاختلافات؛ فلا يَبقى إلّا اختلاف طبعيّ أو مشروع ذوقيّ فيما يتعلّق بسِعَة العلم وتفريع المسائل؛ وليس ذلك باختلاف مذموم ولا مسبّب للبُعد المشؤوم ولا للفُرْقة ولا للنِّزاع ولا للخِصام ولا للتَّباَغُض ولا للتَّباعُدِ:
فالذين رَحِم ربُّك على قدر الرّحمة لا يختلفون، ولمّا كان انْصباب الرّحمة الرّبانية فيمَن اهتمُّوا بشأن بَوَاطنهم وقُلوبهم مع الله؛ كانوا أبعد النّاس عن الخِلاف والنِّزاع:
(الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3)) تمامًا نَظِيرَ الاختلاف الذي كان قبلهم، كم بعث الله أنبياء؟ من عهد آدم ومن بعد آدم الى النّاس، والنّاس:
(وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ) [غافر:5]، همّت كل أمة برسولها:
ولكن لا يَقدِر أحد منهم أن يُنفِّذ شيء من ذلك، إلا عندما يأت الوقت الذي ينتهي فيه أجل هذا أو يؤذن فيه به رحيل هذا، ودون ذلك فمهما همّوا مرة بعد مرة فلن يقدِروا.
(وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ ۖ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ ۖ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ) -النّتيجة- قال الله: (فَأَخَذْتُهُمْ)، الأمم هؤلاء كلّ الذين همّوا بِرُسلهم أخذناهم، فهل يَنظر مَن بعدهم إلّا سنّة مَن قبلهم، (فَأَخَذْتُهُمْ ۖ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ * وَكَذَٰلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ) [غافر:5-6]؛ فلذا يُنكرون.
ما هذه الرسالة؟ ما هذه النّبوّة؟ ما البعث بعد الموت؟ ماذا؟ حتّى يتطاول بعضهم ويتكلّم بجهالة وسذاجة ويجد عقولا سَخُفت، يقول: الذي أخّركم أنتم، إيمانكم بالآخرة والحياة الثانية، النّاس تطوّروا وأنتم كذا:
(عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3)) كذلك من بَعده ﷺ إلى اليوم أكثر التّساؤلات تدور بين النّاس في هذه الشؤون الكبرى:
يتساءلون في هذا، و يتبجّح المتبجّحون من الجُهلاء بالإنكار وعدم الاعتراف، وبالتّطاول بالإلحاد، مساكين، لاعرفوا أنفسهم، ولا عرفوا الكون من حواليهم ولا عرفوا خالقهم، ولا إلى أين سيذهبون، والحُجَج أمامهم واضحة بيِّنة، والرّسول قد جاء بالحقّ والهُدى من الرّبّ جلّ جلاله وتعالى في علاه، كتابهُ المُعجزة العظيمة بين أيديهم، ما يُشابهه أيّ كتاب؛ لا لأحزاب ولالحضارات ولالاجاهات في شرق الأرض وفي غرب الأرض، من أيّامه إلى اليوم.
أحضروا كتاب يُشبه هذا الكتاب! هيه! اعْقَلْ، واضح أمامك مثل الشّمس، ما هذا الاستكبار؟! ما هذا العناد؟! وزيادة على ذلك تتبجّح أنّك عِلْمِي و علماني و ملحد، أجهل الجاهلين أنت، والله أنّك أجهل الجاهلين، لا عرفت نفسك ولا وجودك ولا الكون ولا مُكوِّنك؛ جاهل، أبله، بليد، و كلّ شيء يُناديك بهذا؛ ثم تتبجّح، بماذا؟
(عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3)) واختلافهم كذلك، يقول سبحان الله حتى في باطلهم، هؤلاء الذين يُنكرون الخالق وهم -سبحان الله- من أقلّ الخلق عقلاً؛
لكن أنّ الله هو الخالق وإليه المَرجع، هذا هو ما قاله آدم و شيث بن آدم ومن بعده إلى المؤمنين في هذا الزمان، حقّ واضح، يقين ليس فيه اختلاف، ولا فيه نزاع.
لكن أصحاب الفلسفات والنّظرات والإلحاد كلّ يوم لهم كلام، و فرقة لها كلام، وفرقة لها كلام ثاني، و لا يستحُون يسمّونه علم. العلم هو إدراك الأمر على ما هو عليه، يُمكن إدراك الشّيء على ما هو عليه بعشرين قول! واحد يقول: كذا، وواحد يقول: كذا؛ هذا لعب! ليس علم! هذا الجهل بنفسه، لكن العلم ما جاء به الأنبياء صلوات الله عليهم.
(عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1))، ما التساؤلات هذه الواقعة فيهم، (عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2)):
وكما قال في قوله: (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) [ص:67-68]، قيل القرآن، وقيل القيامة، فالبعث بعد الموت، نبأ عظيم.
(الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3)) هذا الاختلاف فيما بينهم، كما هي مُخالفتهم للمؤمنين الذين يقومون على العلم وإدراك الأشياء من حيث ميزان الخالق لها ووَحْيُه، وهؤلاء يُنكرون، وبينهم البين المُنكرون يختلفون كذلك (قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَىٰ مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [القصص:49]، ماهذا؟. (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ ۖ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا) -سيّدنا موسى وسيّدنا هارون- (وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ) [القصص:48].
(قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَىٰ مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) أحضروا لنا طريقة! أحضروا لنا حقيقة! مَا لَكُمْ؟! (فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ)، هذا اتّباع الهوى، قامت عليه حضارات الباطل كلّها والضّلال، اتّباع هوى، لهذا كلّ يوم لهم رأي، وكلّ يوم لهم قرارات تختلف، ينقذون أنفسهم بأنفسهم: (فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ۚ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى) [القصص:50]، مِن أين؟
الله الهادي الخالق، وبانقطاع عن الله لا تأتي بالهدى، من أين تأتي بالهدى؟ من أين مصدر هُداك؟! وأنت منقطع عن خالقك الذي خلقك، الهُدى يجيء من أين؟! عندك عقل وعند الثاني عقل وعند الثّالث عقل، وتتضارب العقول بينها البين، و أجهلكم من يرى أنّه أعقل، (قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَىٰ مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ۚ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [القصص:49-51]، نبيّ بعد نبيّ، رسول بعد رسول، حتّى جاء خاتم الأنبياء، هذا الوحي الذي أُنزل عليه، يُقرأ في الشرق، يُقرأ في الغرب، يُطبع في كلّ مكان، ما هذه العظمة؟ (وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ).
يقول: (عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا)، رَدْعٌ لهم عن هذا، أو بمعنى حقًّا، (سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5))، سينتهون إلى إدراك الحقيقة، إذ تظهر لهم؛ فلا يقدرون على إنكارها ولا على الجحود بها.
(كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5))، حقًا وقطعًا تأكيد للكلام أولًا و ثانيًا..
(كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5))، العلم الكبير هذا مُقبل علينا وعليهم كلهّم، مَن آمن ومَن كفر سيُقبل، وسيعلم الكل:
الحقيقة ستظهر وكلٌّ يُقرُّ بها؛ سواء فرعون، أو النمرود، أو قوم عاد، أو قوم هود، أو مُلحد، أو يهودي، أو نصراني، أو مجوسي، أو بوذي، أو هندوسي؛ الذي يَكُنْ.
ستظهر الحقيقة و سيُقرّ بها الجميع، لكن:
كما قال الله في فرعون: (حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ) [يونس:90]؛ هذا هو إله موسى وقومه أنا تبَعهم، لست أنا بإله ولا ربّ أعلى، ولا شي ولا أحد إله، إلّا ذاك ربّهم الذي وصّلنا الآن الى وسط الماء.
قال الله: هذا الإيمان ما عاد يُقبل، كم له موسى سنوات يَدعوك؟! ما رضيت، الحين في الغرق! (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) [يونس:91] هل هذه حالة فرعون وحده؟ والنّمرود وهامان وقارون والشّياطين في وقتهم والذي قبلهم والكفّار الذين ماتوا البارحة والذين ماتوا أمس، كلّهم قالوا هكذا، العُتاة العصاة، (قَالُوٓا ءَامَنَّا) [البقرة:14]، محمّد حقّ، محمّد صدق.
(آلآنَ) [يونس:91]، بعد انتهاء الفُرصة، بعد الغرغرة، بعد خروج الرّوح، ما ينفع شيء، ما عاد ينفع؛ كلٌّ يؤمن، وما من مكلَّف يصِل إلى القبر إلا ويُسأل:
قال نبيّنا:
كم حصل هذا! قديماً وحديثاً وكلّ هؤلاء الكفّار خصوصاً عتاتهم وطُغاتهم عند الموت، يقولون: آمنا آمنا سنتّبع محمّد، بعد ماذا؟ (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ).
(عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5))، قال الله: انظروا بعقولكم، بعيونكم، شاهدوا آياتي الدّالّة على؛
(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6))، من الذي مهّدها؟ أنت تمشي على الأرض، مَن مهدّها لك؟ مَن رتّبها لك؟ مَن حشاها بما تحتاج؟ مَن جعل فيها لباسك وطعامك وشرابك ومنامك؟ مَن؟ قل لي أيّ شركة؟ قل لي أيّ مؤسسة؟ قل لي أيّ دولة؟ قل لي أيّ حضارة؟ مَن مهّد الأرض لك؟
(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7))، وطّدنا بها الأرض لئلا تَمِيدَ بكم، كيف وضعنا هذه الجبال بهذا الشكل، هنا وهنا ووزّعناها؟ ونريد نعرف أيٍّ مِن الحضارات والحكومات كوّنت الجبل؟ مَنْ مِنْ المُتطوّرين كوٌنوا الجبال؟ ممكن؟!
(وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ) نفس الخلق والإيجاد لكم، من أين جاء؟ ما هذا النّسيان؟ ما هذا الجحود؟ ما هذا التّعَنُّت؟ ما هذا العناد؟ ما هذا التّناقض مع الواقع المشهود المحسوس؟.
(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8))، أصنافاً، لونّاكم نحن، صوّرناكم نحن، كوّنّاكم نحن، قدّرنا طولكم وعرضكم، قدّرنا أسماعكم وأبصاركم، مِن أين جاء؟ مَن الذي شارك في هذا؟.
وبعد ذلك كل واحد بشكل مختلف عن الثاني وفيه فوارق! كم عددكم؟ مليون! مليونين! عشرة! كلّهم ما اتّفق: (وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ) [الروم:22]، ما هذه القوة! وما هذه العظمة!
الشكل في العموم واحد، ولكن كلّ واحد يختلف عن الثّاني..
ما العظمة هذه! أي مصنع بالصّورة هذه! حتّى لو أتيت لنا بِعُلَب فقط، ملايين كلّ واحدة تختلف عن الثّانية، سيذهب عقلي! كم أعمل لك؟
سبحان الله، كلّ واحد بِبَصْمته، وتجيء بمليار بصمة، ولا واحدة تُطابق الثانية، (بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ) [القيامة:4]، وقالوا الآن يمكن أحد يغالط، إِذن سنصنع بصمة للعين، اصْنَعْ بصمة العين، كلّها عينين ولا هذه توافق هذه، ولا عين توافق الثانية، مليون، مليونين، ما القدرة في الصّنعة هذه! ما هذا الصّانع الحكيم! جلّ جلاله وتعالى في علاه.
(وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9)) مَن الذي رتَّب هذا النّوم؟! وقَدَّر لكم وأعطاكم فيه راحة وقوّة وحركة من جديد؟ وكلّكم تَنامون، قولوا لي، هذا صنع أيّ حضارة؟ عرَفنا أنه ليس مِن صُنعِكم؟ نطلب منكم أن تبدّلوا النّوم، أحضِرُوا للبشريّة شيء ثاني غير النّوم، !يرتاحون به في حياتهم، لا يقدرون أن يبدلوا؛ هم مقهورون، هم تحت أمر هذا المُوجد المكوّن، ويُكابرون و يَنكرون، لا إله إلّا الله!
أنا أسألكم الآن، هذا النّوم، السّبات للبشر، مِن عهد كم؟! أقلّ شيء، قولوا النّوم موضة قديمة ما عاد نريده، نحن أناس متطوّرين ما نريد القديم، ستردّني لآلاف السنين إلى عند آدم، و بعد ذلك لا يقدرون يغيّرون..
بينما المُتخلّي عن كثير من هذه الهموم التي اشتغلوا بها، نومه هنيء، في وقته ينام، حتّى في الشارع يريد أن ينام ينام مبسوط، والآخر وَرَاءه قصور، وَوَرَاءه دُور، وَوَرَاءه أموال، يريد النوم ما يجيء له النّوم والفُرُش الوَطِيئَة والأَسِرَّة، أين الطبيب؟ وأين الأدوية؟ ما ينفع .
ذات مرة بعض الملوك مرَّ، رأى واحد من الصّالحين فقير، جاء وجلس تحت شجرة، فكّ كيس عنده ومعه كوز ماء، أخرج ماء قليل في الإناء، وأخْرج كِسرة يبلِّلها بالماء -خبز- وأكلها، وأخذ يترنّم بأبيات -مبسوط الإنسان- نام، و الملك في القصر ينظر، وهو عنده قلق والنّوم ما يجيء له إلّا بالتّعب، وهذا في الأرض تحت شجرة و يأكل ويشرب و ينام.
قال لبعض الجنود: "إذا قام ذاك الرجل من نومه أحضروه"، جاء، قال: "جئت تحت الشّجرة هذه وكان عندك أكل و شراب"، قال: "نعم هذا أكلي وشربي"، قال: "ما هذا الغناء، كنت تغني"، قال: كنت أقول:
مَاءٌ وَخُبْزٌ وَظِلُّ *** هَذَا النَّعِيمُ الأَجَلُّ
-يستشعر النّعمة عنده-
جَحَدْتُ نِعْمَةَ رَبِّي*** إِنْ قُلْتُ أَنِّي مُقِلّ
قال: إذا قلت أنا فقير، جحدت نعمة ربّي، الماء عندي والخبز عندي والظّلال عندي، يتعجّب الملك في حالة هذا الإنسان، أحضروا له شربة ماء، فقال للملك: "يا حضرة الملك لو مُنِعت هذه الشّربة إلّا بنصف مُلْكِك، أَكُنْتَ تُؤَدِّيه؟"، قال: لو صِدق ما وجدته، ضروري أسلّم نصف ملكي، أوأعطش وأموت، قال: "شربتها وبعد ذلك ترسَّبت فيك وما عاد يخرج البول إلّا بنصف الملك الثاني، هل كنت لو حصل هذا تُسلِّمه؟"، قال: "لو وقع بهذه الصورة، أنا مضطرّ أسلّمه"، قال: "فملكك لا يساوي شربة وبولة؟! لو منعك الله هذه الشربة ومنعك البولة سينتهي مُلكك هذا كلّه"، فكَّر الملك في كلام الرّجل، وانْصَرَفْ.
قال للحرّاس: ستخرج امرأة في اللّيل لا أحد يتعرّض لها، ولبس ثياب المرأة وخرج يتجوّل في الملك كله وسافر له وذهب، وقع في طريقة هذا الإنسان؛ رآه مرتاح ومبسوط، وهو بالملك مُتعب وفي حالة من حالات الذّعر والقلق ، لا إله إلا الله! هذا في الدّنيا؛ لكن راحة الأتقياء والمؤمنين أعظم وأعظم هناك.
(كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9)) وبث الحقّ آياته التي نُشاهدها في كلّ يوم، قال: "انظروا عظمتي! انظروا قُدرتي أمام عيونكم! أنا ما تركته من بعيد وراءكم، تحتاجون طول تفكير، قُدّام عيونكم، هذه قدرتي، هذه عظمتي، لماذا؟ لِمَ تنكرون؟ (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1))، ما هذه التّساؤلات؟ لا إله إلا الله!
فَوَا عَـجَـباً كَيْفَ يُـعْـصَى الإِلَهُ *** أَمْ كَـيْـفَ يَُجْـحَـدُهُ الجَـاحِدُ
وَلله فِــي كُــلِّ تَـحْـرِيـكَـةٍ *** وَ تَـسْـكِـيـنَةٍ أَثَـرٌ شَــاهِدُ
وَفِـي كُـلِّ شَيْءٍ لَـهُ آيَـةٌ تَـدُلُّ *** عَلَى أَنَّـهُ الـوَاحِدُ -جلّ جلاله-
وكلٌّ سيعلم، قَصَدَ مجلس مِن مجالس الخير والعلم وحضر فيه متوجّها إلى ربّه، سيعلم نتيجة هذا، والآخر قَصَدَ مجلس سوء أو غفلة أو تعصُّب على أحد من النّاس بغير حقّ وإيذاء، (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5)) الله أكبر!
(وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ) [النجم:40-41]؛ فالله يجعل مآلنا خير وعاقبتنا إلى خير، وارزقنا كمال الإيمان بك وكمال اليقين، يا ربّ!
يا من آياتك باهرة، ويا مَن براهينك ظاهرة، و يَا مَن أياديك للكلّ غامرة وقاهرة، يا ربّ الدّنيا وربّ الآخرة، يا مَن بِيَدِه الشّؤون الباطنة والظّاهرة، صفِّ سرائرنا ونوِّر بَصائرنا، زِدْنا إيماناً ويقيناً، واجْعل لنا مِن عِنَايَتِك مَا بِهِ جميع شرور الدّنيا والآخرة تقينا، يا أرحم الرّاحمين، يا أرحم الرّاحمين إيماناً كإيمان حَارِثَة بيوم البعث والنّشور، وكإيمان أهل بدر عليهم رضوانك، يا عزيز! يا غفور! اللّهمّ إيماناً كَإِيمَانِهِم ويقيناً كَيَقِينِهم وَمُتَابَعَةً لِحَبِيبِكَ محمّد كَمُتَابَعَتِهِم فضلاً ومَنًّا وجوداً وكرمًا، برحمتك يا أرحم الراحمين!
ما بَقِيَ لنا مِن أيّام رمضان فاجْعله زيادة في الإيمان، اجْعله زيادة في اليقين، ياربّ اغْمرنا وإيّاهم إذا تقضَّتْ علينا عَشْرُنا الأواسط؛ فاجعله لهم ذخيرة من فيض فضلك في العشر الأواخر، يبلغون بها المطامع وفوق المطامع في الدّنيا والبرزخ واليوم الآخر، يا عزيز! يا فاطر! يا قويّ! يا قادر! ياأوّل! يا آخر! يا باطن! يا ظاهر! يا حيّ! يا قيّوم! يالله! ياأرحم الرّاحمين! واصْلح شؤون الأمّة أجمعين.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ الحبيب محمد ﷺ
اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
20 رَمضان 1438