(228)
(536)
(574)
(311)
تفسير الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ لسورة الفاتحة وقصار السور بدار المصطفى ضمن دروس الدروة الصيفية العشرين في شهر رمضان المبارك من العام 1435هـ.
﷽
(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَٰهِ النَّاسِ (3) مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6))
الحمدلله مُكرمِنا بأنوار القرآن، الذي ابتدأ نزُوله في رمضان، و بتَلألؤِ تِلك الأنوَار التي تَجلو كُل رَان، وتُطَهِّر الظَاهِر والباطن عن الأدْرَان. لهُ الحمدُ وهو الكريمُ المنان، والرحيمُ الرحمن، ونَسْأَلُهُ أن يُصليَ و يُسلمَ أفْضل الصَّلواتِ على من أنزلَ عليهِ القرآن سيدِ ولدِ عدنان محمدِ ابن عبداللهِ الرحمةِ المهداة والنعمةِ المسداة، والسراجِ المنير، والبشيرِ النذير، وعلى آلهِ وأصحابهِ، ومَن سَارَ في مَنْهَجِهم خَيرَ مَسير، وعَلى آبَائهِ وإخْوانِهِ مِن النَبيينَ والمُرْسَلين، وآلهم وأصْحَابِهم، وتَابِعيهم بِإحْسَانٍ الى يَومِ الدين، وَعَلينَا مَعَهُم وفِيهم بِرَحْمَتِه انه ارحم الراحمين.
وقَد مَررنا عَلى مَعَانِي مُتَعلقة بِفاتِحة الكِتَاب، رَبَطَنا اللهُ وَإيّاكُم بالفَاتِحة وجَعَلنا مِن الغَانِمين لِخَيْرَاتِها وأَسْرَارِها وَبَرَكَاتِهَا، ونَنْتَقِلُ إلى أنْ نَتَأمل بَعْضَ مَا قَصَّ اللهُ عَلينَا فِي خَواتِيم القُرآنِ الكَرِيم، وكانَ مِما حَملَتْ لنَا الفَاتِحَة عَنْ أَخبارِ مُلْكِ يَومِ الدِّين، أَنَّهُ الميزانُ الذِي يَرجِع إليه شَأن مَن يَعِيش عَلى ظَهرِ هَذهِ الأَرْض، فَكُلُّ مَن مَضى عَلى ظَهرِ الأَرْضِ بِظُلمٍ لأَحد أَو اعْتِدَاءٍ عَلى أَحد، أَو إِضَاعَةٍ للحُقُوقِ وَالوَاجِبَاتِ أَو انْتِهَاكٍ لِلحُرمَات، لَو لَم يَكُنْ يَومُ الدِين ومُلكٌ فِيه لِمَنْ خَلق، لضَاعَت الحُقُوق ولَفَسَدَت الدِيَانَات ولَظُلِمَ الخَلق، وَلكِن اَلحَق -سُبْحانه وَتَعالَى- قال لَك: مَهمَا تَسلَّط عليْكَ من اِدَّعى اَلمُلك أَو اِدَّعى اَلقُوة والْغَلبة فَإِنَ دَعْواهم لِذَلك الصُّوريِّ المنْقضي الزَّائل ستنْتَهي وستَجْتَمع أَنْت وإيَّاهم والْمَلكُ مُلكِي وَسَأُرِيك حقَّك فِيهم ومِنْهُم.
وَفِي هذَا جاءنَا فِي الخَبر أنَّ اَلله إِذَا جَمعَ اَلخَلقَ فِي القِيامة نَادَى مُنادِيًا أنَّ اَلله مَلِك اَلمُلوك، العادل اَلذِي:
إِذًا فلَا يَحسب مِن ظَلَم أو ضَيَّع الواجبات أو مَضى وَرَاء الشَّهواتِ المحرَّماتِ فِي الدُّنْيَا أَنَّه رَبِح وَأنَّه فاز وَأنَّه سَعِد، أو أَنَّه أَفلَت مِن الجزَاء، فيوم الدِّين مُقْبِل على اَلكُل، وهناك الجزَاء على اَلنقِير والْقطمير؛ (وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا) [النساء:49]. فَفِي قَولِك: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)، (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [الفاتحة:4]، كمالُ تَطمين وَبَعْثٌ لِلْيقِين وَتَثبِيت على أن تَخْتَار مَنهَج الحَق وَإِن كَانَ ذَلِك بِمِجِاهِدةٍ مِنْكَ لِلنِّفْس وقهْرٍ لَهَا فَفِي ذَلِك عِزُّك الأَكْبر وَشَرَفُك الأَفْخَر وَنَعِيمُكَ الأَعْظَم الأَدْوَم الأَبْقَى المُخَلَّد (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [الفاتحة:4]، إِلى غَيْر ذَلِك مِن الحِكَم.
كمَا أَنهُم ذَكرُوا فِي:
وجَمَعَ بِهَذا ما تَفرّق فِي المعاني، فَإِن القُرآن نَزَل عَليْه، والإسلام الذِي جَاءَ بِه، والطَّريقة هُو اَلذِي شَرعَها، والصَّحابة اتْباعه، وَلِهذَا قال بَعْض المُفسِّرين فِي قَولِه: (وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا) [الأنعام:153]؛ أَنَّه خِطَاب مِن اللهِ لَنَا، يُشيرُ إِلى نبيِّه يَقُول (وَأَنَّ هَٰذَا) -لِنَبِيهِ المُصْطَفَى- (صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ) كَمَا قَال فِي الآيةِ الاُخْرَى: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّون ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [آل عمران:31].
أَمَّا سُورَةُ النَّاس اَلتِي خَتم الله بِهَا الكتَابَ اَلعزِيز، فَفَيها تَشريفٌ للنَّاس، تَكريمٌ للنَّاس، مِنَّةٌ مِنهُ عَلى النَّاس، فَلَولا شَرَفُهم مَا خَتَم كِتَابَهُ بِذكْرِهم، وَذِكَرِ سُورَةٍ مُسَماة بِاسْمِهَم -سُورَة النَّاس- خَتَمَ الله بِهَا كِتابه عزَّ وجلَّ، وَفِي هذَا التَّشْريف أيْضًا جاء الختْم لِاسْتنادٍ إِلى الرُّبوبيَّةِ والْملْكيَّةِ والْألوهيَّةِ لَهُ، فِي دَفْع شرِّ الوسْواس الخنَّاس، أيْ شرفُ النَّاسِ قَائِم على سلامتهم مِن أن يَأخُذهم عَدُو.
فَختَم الله تَعالَى كِتَابهُ بِسورةِ النَّاس، وَفِيهَا التَّحَرُّزُ والاسْتجارة بِه مِن شرِّ الْوسْواسِ الْخنَّاس، وللاسْتجَارة مِن شَرِّ الْوِسْواسِ الْخنَّاس، ذَكَر الرُّبُوبيَّة والْمُلْكيَّة والْألُوهيَّة، قَال: (بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَٰهِ النَّاسِ (3))، والمُسْتَعَاذُ بِهِ وَاحِد؛ (مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4))، قبْلهَا فِي سُورَةِ الفلق، المُسْتَعَاذُ وَاحِد والذِي يُطلَبُ التعَوْذُ مِنْهُ ثَلاثة أو أكثر:
عجيب.. ذَاكَ طَلَبُ ما يُحمَى ويُحرَسْ بِهِ البَدن والحال والدُنيا فِي الفَلق، فَلمَّا جاء إلى طلب مَا يُحْرَس بِه الدِّين عَظّمَ الأَمْر وجاء بـالرُّبوبيَّة والْمُلْكيَّة والْألُوهيَّة، فَعَظُم مَا يَحتَرِس بِه لِأنَّ الأَمْر خَطِير، مَا هُو مِثْل هَذَاك، فِلو أُصِبْتَ :
وَسَلِمَ دِينَك فالْأَمْر يسير سهْل، لكِن المُصِيبَة إِذَا فَسَدَ عَليْك الدِّين فَإِن عاقِبَتك كُلهَا تَنْهد وتَنْهَار، وَلِهذَا عَظَّم الأمْر فِي شَأْن الاسْتعاذة مِن الوَسْواس الخنَّاس؛ لِأَنه يَتَرتَّب عليْه سَلامَةُ الدِّين، وَذلِك الأعْظم وَذَلِك الأهمُّ، وحَفِظَ عليْنَا اَلقُرآن خِطابه لِلْمصْطفى بِقَولِ: (قُل)؛ لِيبْقى حَاضِرًا فِي الأذْهانِ دائمًا، أنَّ القوْلَ قَوْلَ اَلله وأنَّ مُحَمدًا مَأمُور، مُبلِّغ عن الله يَقُول مَا قَالَهُ لَهُ اَللَّه.
وَقد سَمِعنَا فِي كَلَامِ الله: (وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ ۙ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَٰذَا أَوْ بَدِّلْهُ ۚ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ۖ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [يونس:15]، (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [الزمر:13]. وهكذَا يَأمُر اَلله نَبيَّه يَقُول لَنَا: أنَا أَخَاف إن عَصيت، فَكيْف يَأتِي وَاحِد بَعدَه مَا يَخَاف إن عَصَى؟ وَنبِي اَلله هُو المَعْصوم مِن العِصْيان، فلَابُدَّ مِن قِيَامِ الخَوْف عِنْدَ الإنْسان دائمًا، (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [الزمر:13]، فاحْذر أن تَعصِي وتَسْتسْهل بِالْمعْصية، هذَا سَيِّد المعْصُومين يَقُول لَه الله: قُلَّ لَهُم، أَعلَن لَهُم أَنَّك تَخَاف، فيَا جَاهِل قَلِّد لِمنْ يَعرِف وَإذَا قد هذَا يَخَاف أمامك، فكَيْف مَا تَخَاف أَنْت؟ (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [الزمر:13]؛ فَلِهذَا بَقِي الاحْتفاظ بـ (قُل).
مِن أَجْل أن نَعلَم أنَّ الأمْر نَازِل مِن فَوْق، وأنَّ مُحمَّد آخذٌ ومسْتَلم ومبلِّغ عن الله (قلَّ أَعُوذُ بِربُّ الفلق) [الفلق:1]. فَما بَقيَت لَنَا السُّورةُ (بِسْم الله الرَّحْمن الرَّحِيم، أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2))، قل: (قُل) أَولًا. (قل أَعُوذُ بِربُّ النَّاس). ثُمَّ (قُل)؛ لِتسْتَشْعر أَنَّه خِطَابٌ مِنْ رَبِّ الأَرْبَاب، تَوَجَّه لِسَيدِ الأحْباب، ثُمَّ أُذِن لَكَ أَنْ تَطِيبَ مَعَ مَنْ طَاب فِي أَخْذِ هَذَا الخِطَاب اَلشَرِيف اَلكَرِيم اَللذِيذ الطَّيِّب الحَسن، اَلذِي لَولَا لِسَانُ جد الحَسَنْ مَا نَطقْتَ بِهِ أَنْتَ ولَا غَيرَك مِن إِنْسٍ ولَا جِنَّ (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ) [مريم:97]؛ وَلِهذَا جاء فِي عَدد مِن الآيَات الاحْتفاظ بلفظ قُل قُل قُل؛ لِنعْلمْ أَنَّه رَبانِيٌّ إِلهيّ، جَرَى مِن حَضرَةِ الرُّبوبيَّة لِتسْتلمَهُ الذَّات المُحمَّديَّة، فتُبْلغنَا إِيَّاهُ طريًّا صافيًا خالصًا، فَنتصِلُ بِالْموْلى عَبْرَ هَذَا اَلْباب وَهُو رفيعُ الجَنَاب، مَنْ أُنزَل عَليْه الكِتَاب، سَيِّد الأحْباب.
فَلفْظةُ (قُل) تَتصِلُ بِسرِّ المُعْجزة وَسِر الخُصُوصِيَّة فِي الكِتَاب اَلعزِيز؛ فَلِهذَا إبتُدِئتْ بِهَا سور وَتَميزَت السُّور المُبْتَدَئة (بِقُلْ) فِي كوْنهَا حِصْنًا وحِرْزًا وحِفْظًا إِلى غَيْر ذَلِك، وَسمُوها (ذَوَات قل).
ثُمَّ جَاءَت وسط السُّور آيَات قُل كذَا قُل كذَا قُل كذَا، وَهِي تَحمل هذَا المَعْنى اَلذِي أَشرْنَا إِلَيه، وَمَعانٍ أُخر؛ أَنّ النَائبَ عَنْ حَضْرَة الرَب فِي المَقالِ والبَلاغ سَيد الأَحَباب (وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ) [الأحزاب:46]، قُل .. قُل .. قُل ..قُل، وإذا جَاءَ سُؤَال مِنهُم يَقُول لَهُ: (قُل)، قُل لُهم كَذا، قُل لُهم كذا، قُل لُهم كَذا، إِلا فِي السُؤَال عَن ذَاتِ اللهِ وقُربِه: "أقريبٌ ربُّنا فنُناجيَهُ أَمْ بعيدٌ فنُنادِيَهُ؟"، فَأَنْزل: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي) [البقرة:186] مَا عَاد قَال لُه "قُل" قَال اسْتَلِم الجَوَاب مِني مباشرة، أَعِطِيهم الخِطَاب مِني (فَإِنِّي قَرِيبٌ)، (فَإِنِّي قَرِيبٌ)، طَوَى المَسَافة سُبحانه وتَعالى بَينَنَا وبَينه عَلى يدِ رَسُوله، فَما عَاد جَاءَتْ بِلفْظَة "قُل" وَلِكن جَاء جَوَاب مِنْ الحَضْرَة مُبَاشَرة يُنَادِيَنا بِه (فَإِنِّي قَرِيبٌ)، (فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) [البقرة:186].
يقول تعالى: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)؛ أحْتَفِظُ، أحْتَرِسُ أسْتَجِيرُ، أسْتَعِزُّ بِربِ النَّاس، رَبِ النَّاس؟ ورِبِ الجِن مَنْ؟ رَب السَماءِ وَرَبِ الأَرض وَرَبِ الطُيور والحَيَوانَات، مَنْ فِي عَاد وَاحِد ثَانِي؟ هُو رَبُّ كُل شِيء سُبْحَانَه وتَعَالى، ولَكِنَهُ خَصَّصَ النَّاس هُنا، لِحِكَم.. تَشْرِيف لِهَؤُلاءِ النَّاس لِأنَّهم أَشْرَفُ خَلقهِ وتكريمهِ ولأَنَّ القَضِية أَيْضًا مُتَعلِقَة بِصَلاح دِين النَّاس وَنَجَاة النَّاس، وَكانَ يَقُول للذي يَقَع عَليه الخَطَر يَرْجِع إلى مَنْ بِيَدِه الأَمر، فَالسَيد يَقُول: أَنْت رَبي وَمَالِكي وَإِلَهِي فَخَلصْنِي مِنْ هَذَا الشَر؛ لأَنِّي عَبْدك مَربُوبك مَملُوكك وأَنْت رَبِي وَمَالِكِي وَإِلَهي؛ (أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَٰهِ النَّاسِ (3))؛ فَكَان مُنَاسب أن يَخُص النَّاس فِي هَذا المَقام.
قَبلها فِي سُورة (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)، كُل مَفلوق وكُل مَخلوق، لَكِن لمَّا كَان في المَسْألة خُصُوصِية خَصَّص المَزِيّة وَالخُصُوصية بِبَنِي آدَم؛ بِالناس؛ (أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَٰهِ النَّاسِ (3)) جَل جَلالُه وتَعَالى فِي عُلاه؛
ثم قد يمْلكك ولكنه ليس بإله، ولكن بطريقة السيطرة والتسلط من هنا ومن هناك، ويقول أنا ولي أمرك وأنا.ملكك. وهو مخلوق مثلك لا خَلق، ولكن هذا (إِلَٰهِ النَّاسِ)؛ موجدهم من العدم، خَالقهم، مُنشئ الأسمَاع والأبَصار لهُم، خالق الأرض لهم وموطِّدها وخالق السماء من فوقهم وبانيها مُثبتها، الله (إِلَٰه) .. (إِلَٰه) .. (إِلَٰه). وإذا قلنا رب وإذا قلنا ملك، فعلى حقيقة ما هو على تَسلُّط من كذا ولا بأي سبب آخَر، هَذا حَقيقة؛ ربُّنا وملكنا؛ لأنه إلهنا فَمن حيثُ كَوننا خَلقه وصَنعته وعِباده، فنِعم الرب ونِعم الملك ونِعم الإله سبحانه وتعالى.
(قُل أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَٰهِ النَّاسِ (3))، ومن المعلوم إذا قال: (رَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَٰهِ النَّاسِ (3))؛ دخل في ذلك الأنبياء، وهم أفضل الخلق على الإطلاق ودخل سيّدهم وإمامهم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه و سلم. وعِندَ ذِكر الإله بربوبيته لشيء مخصُوص يكون في هذا التَخاطب سر مخصوص يليق بهذا الخطاب؛
ولهذا نأتي إلى الأدعية النَبوية فنجد فيها أحياناً يقول: "رَبَّ جِبْرِيلَ"، "وَوَرَبَّ مِيكَائِيلَ"، "وَرَبَّ إِسْرَافِيلَ"، ثم باقي الملائكة ما هو ربهم؟ وربُ السماء وربُ كل شيء جلَّ جلاله، لكن يذكر هؤلاء على وجه الخصوص، الله أكبر، "اللهمَّ ربَّ جبريلَ وميكائيلَ ورب محمَّدٍ أَجرني منَ النَّارِ"، هكذا يقول: "ورب محمد أجرني من النار"، إلى غير ذلك مما ورد.
فهنا أيضاً ذِكْرُ الناس على وجه الخصوص: (قل أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَٰهِ النَّاسِ (3))، والاستجارة بهذه العظمة كلها من هذا؟!!: (مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4))؛ لأن النجاة كُلها مرتبة على هذا، والفوز مرتب على هذا، والخُلود في الجنة مُرتب على هذا، إذا سَلِمتَ من شر الوسواس الخناس.
فلك في هذا التعوّذ حِصن حَصين، وهو مع كونه وَسوَاس -شيطان-؛ أي كثير الوسوسة، فاعل الوسوسة؛ أما مصدر الوسوسة "وِسوَاس" بكسر الواو، أما فاعلُها "وَسوَاس" فكأنه مع قرب اللفظ من المصدر كُلُهُ وسوسة، من أصله وسوسة.
فهو المتخصصُ بالوسوسة، كثيرُ الوسوسة للناس، بدايةً من أبينا آدم وأمنا حواء، قال تعالى: (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍۚ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ) [الأعراف:20-22]، فرَّت ثياب الجنة؛ إشارة إلى أن ثياب الجنة ونعيمها لا يصلح للعصاة، فمن عصى ما صلحت له الجنة، فرَّت الثياب منهما (بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ ۖ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ * قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا) [الأعراف:22-23]، فلجأوا الى الله فوقاهم شر الشيطان (وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف:23]، (ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ) [طه:122].
(مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ ..(4))؛ مع كونه وسواس فهو أيضاً خَنَّاسِ، ما معنى خنَّاس؟ مائل مبتعد عند ذكر الله. إذا ذكرْت الله خنس، فلا يزال يوسوس عليك ومعه جند كثير، و مع كل إنسان قرين، يُقرَن به من الشياطين، يُولد بولادته ويموت بموته، هذا القرين الملازم لك على طول، ومعه جندٌ كثير بعد ذلك من الجنّ ومن الإنس، (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِيّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنّ) [الأنعام:112].
(مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4))؛ يخنس إذا ذكرتَ الله، فكلما حَلَّ في القلب ذكر الله، هرب الشيطان، ما يقدر إلا على الغافل، بل وَرَد أنه لا تُصادُ سمكة في البحر إلا وقت غفلتها عن ذكر الله، ولا يُصاد طائر في الهواء إلا وقت غفلته عن ذكر الله، قال سيدنا جعفر الصادق: "إن الصواعق تصيب المؤمن وغيره، ولا تصيب الذاكر لله"، وقت ذكرك لله ما تصيبك الصاعقة، "إن الصواعق تصيب المؤمن وغيره، ولا تصيب الذاكر لله"، فكذلك الشيطان ما يقدر عليك إلا وقت غفلتك، وقت انصراف قلبك عن ذكر عظمة ربك وتسبيحه وتقديسه وتنزيهه وتحميده وتكبيره؛ يمسكك، أما إذا صرفت قلبك إلى تكبير الله إلى تحميد الله إلى تسبيح الله ما يقدر؛ يخنس، يترقّب الفرصة، فلما تغفل يوسوس لك؛ وقال تعالى: (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) [الزخرف:36]؛ يعش: يغفل، يغفل عن ذكر الرحمن (نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا).
فجعل الله لنا حصنٌ قريب، تلازم ذكر الله ما يقدر عليك، ولكن:
أكبر حِصن أن يمتلئ القلب بشهود ألوهية الرب وربوبيته وملكيته سبحانه وتعالى، من أين يقدر عليك؟ (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) [الجحر:42]، حتى يصير كما قال النبي عن سيدنا عمر: "إيهٍ يا ابْنَ الخَطَّابِ، والذي نَفْسِي بيَدِهِ ما لَقِيَكَ -رآك- الشَّيْطَانُ سَالِكًا فَجًّا قَطُّ، إلَّا سَلَكَ فَجًّا غيرَ فَجِّكَ" يخلِّي الطريق كلها لك، ويبحث له عن القلب الذي يقدر عليه، أما القلب الحاضر مع الله الممتلئ باليقين، هذا ما يقدر عليه، "إن الشيطان ليفرق من ظلِّ عمر"، ظلالهُ قبل ما يبرز، يهرب منه إبليس.
يقول: (مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4))؛ يخنس إذا ذُكر الله، في الحديث:
فكم منا يدخل المسجد ولا يقول هذا الذكر!! يخرج من البيت ولا يقول هذا الذكر!! وبعد ذلك يشتكي من الشيطان! أنت فتحت الأبواب له، وتجيء تشتكي! قفّل بابك، العوام عندنا يقولون: اغلق بابك ولا تتَّهِم جارك، اغِلِق بابك ولا تتهم أحد يجي عندك، وهذا قرينك؛ غلِّق بابك ما يقدر عليك؛ قم استعذ بالله، اما إذا ولجْتَ في الذكر وغصْت في معناه فتجوْهر قلبك بنور الذكر، فهو محجوب عنك تماماً؛ (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُون) [النحل:99-100].
(مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5))، جاء في الحديث أن النبي ﷺ كان راكبًا ومعه واحد رديف من الصحابة، فعثرتْ الدابة فقال الصحابي: "تَعِسَ الشيطانُ"، فقال النبي ﷺ: "لا تقل ذلك"، ولكن قل: "بسم الله، فإنك إذا قلت ذلك تعاظمَ الشيطان، وقال: أنا بقدرتي صرعته"، وهو لا يستطيع عمل أي شيء، يدري بنفسه ولكنه يتعاظم، قال: ولكن إذا قلت: بسم الله ذاب حتى يصير كالذباب، تصاغر حتى يصير كالذباب.
فقل: بسم الله، كما يفعل بعض الناس، كان يسب الشيطان -يسبَّه فقط بالكلام- قال بعض العارفين: إيّاك أن تسبَّ الشيطان في العلانية وتطيعه في السرِّ، تسبه وتلعنه في العلانية بكلام طويل وبعد ذلك يتبعه على طول ويمشي وراءه، تسبَّه وتلعنه في العلانية وتطيعه في السرّ، ولكن بدل هذا الكلام على الشيطان، استعذ بالله واذكر الله؛ يبعد عنك الشيطان قل: بسم الله. وهكذا لا يقوى على ذكر الله سبحانه وتعالى.
ويروى أن سيدنا عيسى سأل الله تعالى أن يُرِيَه كيفية وسوسة الشيطان لابن آدم؛ فأُري صورة الآدمي وللشيطان خرطوم يمده عليه جاثمٌ عليه، إلى صدره، فإذا ذكر الله خنس وابتعد، حتى إذا غفل أعاده إليه ووسوس، فإذا قَبِلَ وسوسة الشيطان ألقى إليه خاطر بعد خاطر بعد خاطر، وألقاه الشيطان إلى شيطان إلى شيطان، يتبادلونه الشياطين في الخواطر، فإذا ذكر الله؛ رجع، كَفَّوا عنه ودنا منه المَلك، فإن الله كما وكّل لكل واحد منا شيطان يوسوس له، وكّلَ ملك أيضاً يصاحبه ويرافقه طول عمره، من الولادة إلى الوفاة، والمَلك موكل بإلهامه الخير، مُقابل هذا،
فعندنا ملك وشيطان، وإلهام ووسوسة، وتوفيق وخذلان؛
(مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5))، الصدر هو ساحة القلب، فإنه يصعب عليه الوصول إلى القلب مباشرة ولكن في الساحة، فإذا رضيها القلب ودخل عليها، يستحلِّهُ بعد ذلك على حسب، وإلا فالقلب محترم ومحل نزول الخير والمَلك أقدر عليه من الشيطان، ولكن إذا صاحبهُ سيَّبهُ،و ترك إلهام المَلك وراح وراء وسوسة الشيطان؛ سَلّم قلبه للشيطان والعياذ بالله تعالى فتسلّط عليه، ويقوى تسلّطه:
وعند الغضب يقول إني أوسوس لابن آدم في صدره فإذا غضب طرْتُ إلى رأسه فصرتُ ألعب به كما يلعب الصبيان بالكرة، ولهذا من آكد الأحوال التي يتفقد الإنسان فيها نفسه، حالة الغضب، وفي الخبر القدسي: "ابن آدم اذكرني اذا غضبت، اذكرك إذا غضبتُ فلا أمحقك فيمن أمحق"؛ لهذا قالوا: إذا غضبْتَ فتذكر غضب الله عليك وتَوَقَ غضب الله بتسكين غضبك.
(الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)) يوسوس في صدور الناس (مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4)) (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6))، أيضاً الموسوسين من الجن والموسوسين من الإنس، وأما شيطان الجن فبمجرد ما تذكر الله يخنس عنك، ولكن شيطان الإنس هذا لا يخنس، إلا إذا اعتصمت بالإيمان وزجرته، يتوقف ويتردد، وإلا مصيبة من المصائب، هو آدمي مثلك يظهر في صورة الصديق والناصح ويزيّن؛ لا هذا كذا وهذا كذا، لذلك كثير من الناس، ضُرُّهم من شياطين الإنس أكثر من شياطين الجن، يضرونهم شياطين الإنس أكثر من شياطين الجن والعياذ بالله تعالى.
وقد جاءت (مِنَ) في القرآن بمعنى (ب) قال تعالى: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) [الرعد:11]، يعني بأمر الله، وكذلك هذا الشيطان يوسوس بجنده المهيئين للوسوسة من الإنس والجن، ينشرهم على الناس وعلى الجن. (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) فهو موسوس بالجِنَّة وموسوس بالناس على الجِنّة، على الجِّنة وعلى الناس يوسوس، فالله يكفينا شر الجِنة والناس.
(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَٰهِ النَّاسِ (3) مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6))
بأسرار هذه السورة احفظنا يا حفيظ واكفنا شر الوسواس الخناس وجنده من الجنة والناس، واجعلنا في حفظٍ وحراسةٍ منك يا أكرم الأكرمين حتى نحظى بالمودة والإيناس، ونرقى إلى أعلى مراقي القرب منك والدنو إليك مع خيار عبادك الأكياس، اللهم احفظنا واحرسنا وكن لنا وتولّنا.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صلِّ عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
06 رَمضان 1435