(535)
(363)
(339)
يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير قصار السور، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم من العام 1438هـ.
﷽
(وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ (14))
الحمد لله مُكرِمنا بالآيات البَيّنات، وإرسال خير الأنبياء خاتم الرسالات، اللهم أدِم منك عنّا الصلوات والتسليمات، على حبيبك المصطفى محمد وعلى آله وصحبه القادات، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الميقات، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أئمة الأئمّة في الهدى والثبات، وعلى آلهم وصحبهم والملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصالحين، يا مجيب الدعوات، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين يا بارئَ الأرَضين والسماوات.
وبعد،،،
فإنّنا في تأمُّل آيات ربنا -جلّ جلاله- انتهينا إلى سورة النازعات، وابتدأها -الحقّ تعالى- يَحلف ويَقسم فقال: (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5)) والحقُّ -تبارك وتعالى- يحلف بما شاء من خلقه، وحرَّمت عندنا الشريعة الحلف؛
وفي القرآن أقسام كثيرة بمظاهر قوته وقدرته وصنعه في هذا الوجود.
يقول تعالى: (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1)) لأهل التفسير أقوال في معنى (وَالنَّازِعَاتِ) أوضحُها وأقربُها: أن الحقّ يقسم بسيدنا عزرائيل -ملك الموت- ومن معه من الملائكة المُوكَّلين بقبض أرواح بني آدم، ثم جميع الحيوانات.
فالنّازعات هم المُوكَّلون من هؤلاء الملائكة بِقبض أرواح الكفار والأَشرار من بني آدم؛ ينزعون أرواحهم نزعًا بالإغراق -قوة المد وشدة النزع- من تحت كل شعرة وتحت كل ظفر!. (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1))؛ وذلك أنَّ جميع الكفار والأشرار مُتشبّثون بهذه الحياة، ولا يُحبون مفارقتها، ولا الخروج منها.. ويشتد الأمر أنه عند نزع الروح يُعرض عليهم أسوأ جزاءاتِهم على أعمالهم القبيحة وسوء المصير؛ فيشتد الأمر عليهم ويَوَدّون أن لا تَخرُج أرواحُهم من أجسادهم.. وقد حضرت الساعة فلا بد من ذلك؛ فتنزعها الملائكة، فكأنَّهم يريدون إبقاءها والملائكة ينزعون فيشتد الكرب عليهم!! ويصعب خروجها غالباً من الشعر والبشر واللحم والعظم؛ فتنزع نزعاً..!
بل جاء في بعض الأخبار أنه: كُلّما نَزعوها من أماكن ردُّوها إلى بعض الأماكن، ثم أخرجوها؛ فيشتد الكَربُ كثيراً على من لا يحب لقاء الله، ولا يحب الله لقاءه مِنَ الذين ضّيعوا الفرصة في الحياة الدنيا! فلم يتخذوا إلى الرحمن سبيلا، ولم يتخذوا مع الرسول سبيلا؛ فلهم الحسرة والنَّدامة عند خروج الأرواح من الأجساد.
(وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1)) ومن الأقوال في معنى (وَالنَّازِعَاتِ): أنّها نَفْسُ الأنْفُس، ومنها ما ذُكِر في النجوم، وهذا أوضح الأقوال أنّهم الملائكة ينزعون أرواح الكفار.
والمُوكّلون منهم بقبض أرواح المؤمنين -أقسم بهم- في قوله: (وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2)) فإن كل مؤمن عند خروج روحه يُبَشَّر بمنزلته في الجنّة، ومكانته عند الله؛ فيفرح بذلك، فتكاد روحه أن تخرج من نفسها تُساعد الملائكة! فما كان نزع الروح منه أو أخذ الروح منه؛ إلا كالنّشاط، أو كأنّما يُنشط من عقالٍ، فبذلك يقول "كالشعرة تخرج من العجين" بسهولة ويسر..
فكذلك عامة المؤمنين تخرج أرواحهم على أيدي الناشطات من الملائكة؛ الذين يُنشِطون الروح نشطاً ويسهل خروجها ومفارقتها الجسد؛ يحبون لقاء الله ويحب الله لقاءهم..
ولما ذكر ﷺ هذا الحديث: "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه"، أشكل على بعض الصحابة، فقالت أم المؤمنين يارسول الله: كل الناس يكرهون الموت.. قال: "ليس ذاك إنَّ المؤمن يُبشَّر عند خروج روحه بما أعدَّ الله له فيفرح فيُحبُّ لقاء الله ويُحبُّ الله لقاءه، وإنَّ الكافر يبشر بالعذاب وسوء المصير فيكره لقاء الله ويكره الله لقاءه".
وقد قال سيدنا بلال: وهو في خُروج رُوحِه من الجسد، وأحسَّت أنَّه يموت -زوجته- وهو بالشام فقالت: "واكرباه واكرباه" .. ففتح عينيه وهو في سكرات الموت وقال: "لا، بل واطرباه واطرباه غداً ألقى الأحبة محمدا وحزبه"، قال: أَذهبْ إلى عند أحبتي تقولين واكرباه! أين الكرب؟ -عليه رضوان الله تبارك وتعالى-.
وهو الذي تكرر معنا ما روى ابن عساكر عليه -رحمة الله تعالى- عنه في أنَّه بعد وفاة النبي ﷺ وقف عن الأذان، ثُمَّ استأذن أبابكرٍ للذهاب إلى الشام؛ لأنّه جعل كُلّما يمشي في شارع من شوارع المدينة يتذكر أنه مشى في هذا الشارع مع رسول الله، كانت رجله تحط هنا.. يستوحش الفراق! إذا دخل بيت جال في خاطره وذكَّره؛ أنه قد دخل معه في هذا المكان وجلس في هذا المكان، فضاق صدره من وحشة الفراق، فاستأذن أبابكر أن يسافر إلى الشام، فأذِنَ له الصدّيق، وسافر وأقام سنة! فلاح له في الرُّؤيا رسول الله ﷺ: "يا بلال ما هذه الجفوة؟ أما آن لك أن تزورنا؟".
وأصبح الصباح تحدوه الأشواق، وشدّ الرّاحلة إلى المدينة، فرح به سيّدنا أبوبكر وجماعة الصحابة، عَرَض عليه الأذان، قال: ما أذَّنت بعد رسول الله، عَرَض عليه سيدنا عمر وجماعة من الصحابة، وبينما كان جالسا في المسجد أقْبَل الحَسن والحُسين هاجت به الذكرى، تذكّر عندنا كانوا يخرجون مع جدّهم في هذا المكان، وكان أحدهم يجلس على رجله، وأحدهم يجلس على كتفه، وأحدهم يحمله على ظهره؛ فقام إليهما يحتضنهما ويقبلهما.
أيا بلال أذِّن لنا كما كنت تؤذن لرسول الله، قال: أما أني لم أؤذن بعده لأحد، ولقد طلبها مني كبار الصحابة ولكن إن رددتكما ما أدري ما أقول لجدّكما، سأُؤَذّن هذا اليوم.
جاء وقت الظهر؛ فارتفع في مكان في المدينة وناح بالصوت، الصوت مباشرة؛ حَرَّك قلوب أهل المدينة! يعهدون هذا الصوت في حياة النَّبي، الرجال، النساء، الصغار خَرَجوا من الدِّيار، فيهم من يقول: أبُعِثَ رسول الله؟ رجع إلينا النبي؟ يَبْكون يَبْكون! حتى ما رُؤيت المدينة أشَد بكاءً بعد يوم وفاته، من اليوم الذي أذَّن فيه بلال. وبلال ابتدأ في الأذان وضجّت المدينة، ووصل إلى عند قوله: وأشهد أن محمداً رسول الله؛ فخنقته العبرة لم يستطع أن يكمل.. خرج! ضجّت المدينة، خرج الناس من ديارهم والدُّموع تهطل؛ متذكرين أيام كان بينهم رسول الله! ثُمَّ عاد -عليه الرضوان- إلى الشام حتّى جاء وقت الوفاة، وهو الذي قال عند الوفاة: "واطرباه واطرباه.. غدًا ألقى الأحبة محمدا وحزبه ".
فكذلك تكون الحالات عند الوَفيات، أغلب من غَلبَ على قلبك حُبُّه؛ سيخطر عليك في تلك الساعة! إنْ كان رفيع وإن كان وضيع، إن كان شريف وإن كان حقير، إن كان خَيِّر وإن كان شرير، الذي يغلب على قلبك محبته؛ هو الذي سيخطر على بالك وستتهيأ لمرافقته، فاحذر على ساحة قلبك أن يحلّ فيها محبّة منافق أو كافر أو فاجر أو فاسق أو بعيد عن الله -تبارك وتعالى-.
هذا أشد الأسباب التي تُلحقك بأهل ذلك المسلك؛ فانظر شأن قلبك وهو الوجه الذي يراه ربك!
ذُكر لنا أن بعض الذين اغترُّوا أيّام الشيوعية هنا؛ ببعض أفكار الشيوعية، وشيء من التجرؤ على الدين وإيذاء الناس وعدم المبالاة، أنَّه حضرته الوفاة؛ فكان بعض الذين حضروا عنده يقول: لا إله إلا الله، فيقول له: أسكت دع هذا الكلام! آتني بالسيجارة؛ ومات.. ما يحب لا إله إلا الله!
فيا ربّ ثَبّتنا على الحقّ والهدى *** يا ربّ اقبضنا على خير ملة
وأحسن خاتمتنا عند الوفاة، وفي الأُمّة من قال عند الموت: "حبيب جاء على فاقة، لا أفلح من ندم" وهكذا.
(وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3)):
(وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4)) تَسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنّة، وتسبق إلى الإيمان والعمل الصالح تسبق بني آدم ومن سواهم، وقيل أنها الخيول أيضا وقيل غير ذلك .
(فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5)) الملائكة الذين وُكّلوا بتدبير الأمور بحسب تقدير الله -جل جلاله وتعالى في علاه-
ولكنَّهم جميعاً لا يُقَدّمون ولا يُؤَخّرون إلّا بأمر الله، ولا يَأخذون ولا يَتركون إلّا بأمر الله.
ولكن شأن الحكيم العظيم -جلّ جلاله- أنْ جَعَل في تقديره وترتيبه؛ إيكال بعض الأشياء إلى بعض، فيُقيم الأشياء ببعضها.. يقيم الأشجار ببذر يُبذر في الأرض وهو القادر على أن يُنبت الشجر من دون بذر! لكن رتّب هذا على هذا والكل خلقه، كذلك تدبيرات الملائكة لا يخرج شيء عن ترتيبه وتقديره وتدبيره -جل جلاله وتعالى في علاه- ولا يستطيع مَلَك الموت -سيدنا عزرائيل- أن يُقدم قبض روح أحد لحظة ولا أن يؤخرها لحظة! إنما هو مأمور..
وفي ذلك سَمِعتُم ما كان، أن بَرَزَ سيدنا ملك الموت مرة للنبي سليمان يُكَلّمه، كان عنده بعض أصحابه فلمّا خرج من عنده قال: يا نبيّ الله، من كنت تكلّم؟ قال: أرأيته؟ قال: نعم، قال: ذلك ملك الموت، قال: رأيته يَنظر إليّ كثير! قال: سواء أن ينظر إليك أو لا ينظر إليك؛ إنما هو مُوَكَّل من قِبل الله. قال -لسيدنا سليمان-: أريد منك طلب… ماذا تريد؟ قال: تأمر الرّيح أن تنقلني إلى الهند، أخرجنا من فلسطين، أريد أن أذهب الى الهند، وهذا مسكين يرى، وما الفرق بين الهند و فلسطين! قال له كذلك: كم بيننا؟ قال: مسيرة شهر في يوم واحد.
بعد يومين أو ثلاثة أيام جاء ملك الموت، وصل له الى هناك وقبض روحه! لمّا نزل عند سيدنا سليمان مرة أخرى، يسأل يقول: يا ملك الموت كنت عندي قبل أيام، كان عندي واحد من أصحابي ورآك وعَجِبَ من نظراتك، قال: نعم كنت أنظر إليه؛ لأنّه أَطْلَعَ الله اسمه عندي في الصحيفة أنّي أقبض روحه بعد ثلاثة أيام في الهند، وأنا رأيته عندك! فأنا أتعجب هذا سيصل إلى الهند متى؟! لأنّ مسافة شهر كامل بيني وبينه، وأنا مأمور بقبض روحه! قال: لمّا جاءت اللحظة وجدته في المكان الذي حدده الله لي في مكان في الهند.
قال: هو أراد أنْ يهرب منك؛ طلب منّا أن نُرسله بالرّيح، فأرسلناه إلى المحل الذي قد عيّنه الله له: (قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ) [آل عمران :154] لا إله إلا الله.
ولهذا يقول: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ) [الجمعة:8] وما قال يلاحقكم، بل هو من أمامك، ستجده ملاقيك! أي أنك أنت تمشي إليه، الموت الذي تفرون منه إنّه ملاقيكم، ولم يقل أنه يلاحقكم؛ من ورائكم! يأتي يجري من ورائك، هو أمامك (فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ) ما تمشي إلّا لأجَلَك، من حين ما وضعتْ بك أُمَّك أنت تخطو إلى الامام، إلى الأجل! في كل لحظة تقدم إلى كذلك، ما يمكن ترجع كذا ولا كذا أبداً، إلى الأجل على طول، كل لحظة تُقَدّمك إلى الأجل! كل لحظة إلى الأجل! إلى آخر لحظة ..انتهت المسألة.
عندما تُخرَج الرُّوح فتجتمع في الصدر لخروجها؛
الكل في تلك الساعة يتوب، الكل في تلك الساعة.. لم يعد ينفع إلّا ما مضى من أيام صحته ونشاطه وشبابه، وفرصته التي أعطاه الله إياها: (فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَٰكِن لَّا تُبْصِرُونَ) [الواقعة: 83-85].
يقول الله للخلائق أجمعين: (فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ)، يعني: لم يكن نَبِيُّنا صادقًا فيما أخبركم أنّكم تَرجِعون إلينا وتُحاسبون، فترجعونها؟! إرجِعوا روح واحد! بقوّتكم بإمكانيّاتكم.. في أيّ زمان، في أي دولة، في أي بلد، ترجعون روحا واحدة، تريد أن تَخرُج؛ رُدّها! هات الإمكانيّات كُلّها (فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [الواقعة:86-87] لا يمكن ترجع! وإلى أين تذهب؟
(فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيم * وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الَْيمِينِ * فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الَْيمِينِ * وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ) -ضِيافة؛ لكن من حميم!- (فنزل مِّنْ حَمِيم * وَتَصْلِيَةُ جَحِيم * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) [الواقعة:88-96].
(فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5)) ولا يستطيع سيدنا ميكائيل ولا من معه من ملايين الملائكة؛ أن يزيدوا في عدد قُطرِ المطر؛ قُطرة! .. ولا أنْ يُنقِصوا قُطرة إلّا ما قدّره الله، فيخرج هذا هو بالضبط! حتى كل قطرة؛ هذه تقع في البيت الفلاني، وهذه تقع في الحيوان الفلاني، وهذه تأتي في رأس فلان، وهذه تأتي في إصبع فلان؛ كل واحدة في محلها، كما قدّرها الله! مملكة فوقها ملك، حي قيوم؛ قائم على مملكته، لا شيء يمشي من نفسه كذا! (مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا) [هود:56].
فكم يَغترّ الناس في الدنيا، يقول صنّاع القرار! يصنعوا قرارا، مختبرين مساكين اختبرت.. انصرفت عقولهم وترتيبهم؛ لترتيب أمور رَأوا أنّهم هم رتّبوها، وهم خَدَمة القضاء والقدر، مسؤولون عمّا تصرفوا فيه، ثم لا يكون إلا ما أراده العليّ الأعلى؛ سبحانه! (وَمَا تَشَآءُونَ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَٰلَمِينَ) [التكوير:29].
(فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5)) وأين جواب القسم؟ مأخوذٌ من سِياق الكلام:
(يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6)):
(يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) وهذه ليست مُجَرَّد زَلزلة أرضيّة! كل شيء تزلزل، كل شيء ذهب؛ الشمس كُوّرت، النجوم انكدرت، الجبال سُيّرت، العِشار عُطّلت، الوحوش حُشِرت، لا إله إلا الله! (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ) [الفرقان:25]، (إِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ) [الانفطار:2-3].
وبعد مدة مقدار أربعين سنة، يُنزِل الله فيها ماءً للكرة الأرضية؛ من أجل عجْب الذَنَبْ من كلّ حيوان -عظم صغير قريب من حبة الذرة، في آخر العمود الفقري عند العُصْعُصْ- هذا العظم -سبحان الله- لا ينهضم ولا ينسحق ولا يحترق! هذا هو يبقى هكذا.. بمجرد أن يصيب هذا الماء الذي ينزله الله هذا العظم يُرجِع الجسد الذي كان عليه كما هو! لهذا دائماً الله يُشَبّه عَوْد أجسام النّاس وحشرهم؛ بالأرض الميتة تحيا بعد موتها -نبات-!
فكذلك لمّا ينزل هذا المطر من السماء؛ يملأ الأرض، فلا يبقى أيّ عَجَب ذَنَب إلّا نَبَت عليه جسد.. أمّا الأجساد المُحترمة: كأجساد الأنبياء، والشهداء؛ فمحلها كما هي في بطن الأرض! ماعاد يحتاج لها إنبات من جديد، فهي كما هي.. لكن بقيّة الأجساد التي تآكلت وصارت تراب؛ ترجع كما كانت بقدرة الله! وإذا في بطن الأرض ملايين ملايين ملايين من بني آدم، وأجساد جن، وأجساد حيوانات وسط الأرض!.
تمرّ المدة: (تَتْبَعُهَا ٱلرَّادِفَةُ (7)) يُحيي الله إسرافيل، قم ياإسرافيل… لبيك ربي، انفخ، وقد تجمّع في هذا الصور -القرن العظيم- الذي لا يعلم قدر عِظمه إلا الله! جميع أرواح الكائنات الحية كلها، أرواحها وسط الصور.. يقول انفخ. فإذا نفخ؛ طارت كل روح مباشرة إلى جسدها! لا تقول "ريموت" وإلا.. ، فأمر أعظم من ذلك؟! يَرُدّ كُلّ روح إلى جسدها الذي عاشت فيه في الدنيا ولا يُخطيء! لا إله إلا الله.
لذا يتعجب في التفكير -العلاء ابن المعري- يقول:
صَاحِ هَذِهْ قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْبَ *** فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟
خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْـ *** أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ
رُبَّ لَحْدٍ قَدْ صَارَ لَحْدًا مِرَارًا *** ضَاحِكٍ مِنْ تَزَاحُمِ الْأَضْدَادِ
ولكن هؤلاء يُحشرون إلى الرحمن وفدا؛ وهؤلاء يُساقون إلى جهنّم وردا.. يخرجون هؤلاء في نور؛ وهؤلاء في ظلمة.. وإنْ كانوا من قبر واحد.. "فليست العبرة بالمكان ولكن بالمكين". وهكذا يجمع الله الأولين والآخرين.
(يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا ٱلرَّادِفَةُ (7)) النفخة الأولى ثم النفخة الثانية،
(يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا ٱلرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9)) يَظهر عليهم ويُقرأ في أبصارهم، شدة ما نازلهم! ونَسَب الأبصار إلى القلوب؛ لأنّه من أعظم ما يَظهر من آثار القلب على الأعضاء، ما يَظهر على العينين! الذي في قلبك يظهر على عينيك! (أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ).
ثمَّ ذكر ما يخوض فيه الذين نَقَصت عُقولهم عن إدراك واقعهم وحياتهم وحقائق الكون الذي حواليهم، فيتعجبون كيف نرجع؟ كيف نبعث؟ كيف نحشر؟ (يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ) -تُرد إلينا أرواحنا ونحن- (في الحافرة (10)) -من الحُفَر؟ من القبور بعد أن نَخِرت عظامنا؟!- (يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ) -رجعة- (خَاسِرَةٌ (12)).
قال ربي: (فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فإذا هم بالساهرة (14)) على ظهر الأرض، زجرة (مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍۢ وَٰحِدَةٍ) [لقمان:28]، يقول الله- جل جلاله-، وما الذي يصعب ويعجز عن قدرة الحق القادر -سبحانه وتعالى-.
آمنا به.. وسألناه أن يجعل خاتمتنا خيراً، وأن يحشرنا مع الصالحين من عباده أهل الخير، في زمرة سيد أهل الخير نبيه محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، يا أكرم الأكرمين توفّنا مسلمين وألحقنا بالصالحين.
ربّ أحينا شاكرين وتوفنا مسلمين *** نُبعث من الآمنين في زمرة السابقين
ربّ أحينا شاكرين وتوفنا مسلمين *** نُبعث من الآمنين في زمرة السابقين
ربّ أحينا شاكرين وتوفنا مسلمين *** نُبعث من الآمنين في زمرة السابقين
برحمتك يا أرحم الراحمين
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
12 رَمضان 1438