تفسير سورة الملك -5- من قوله تعالى: (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ ..(13))

تفسير الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الملك، من قوله تعالى: (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13)).
نص الدرس مكتوب:
﷽
(وَأَسِرُّواْ قَوۡلَكُمۡ أَوِ ٱجۡهَرُواْ بِهِۦٓۖ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ (13) أَلَا يَعۡلَمُ مَنۡ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ (14) هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ ذَلُولٗا فَٱمۡشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزۡقِهِۦۖ وَإِلَيۡهِ ٱلنُّشُورُ (15) ءَأَمِنتُم مَّن فِي ٱلسَّمَآءِ أَن يَخۡسِفَ بِكُمُ ٱلۡأَرۡضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمۡ أَمِنتُم مَّن فِي ٱلسَّمَآءِ أَن يُرۡسِلَ عَلَيۡكُمۡ حَاصِبٗاۖ فَسَتَعۡلَمُونَ كَيۡفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدۡ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ فَكَيۡفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَ لَمۡ يَرَوۡاْ إِلَى ٱلطَّيۡرِ فَوۡقَهُمۡ صَٰٓفَّٰتٖ وَيَقۡبِضۡنَۚ مَا يُمۡسِكُهُنَّ إِلَّا ٱلرَّحۡمَٰنُۚ إِنَّهُۥ بِكُلِّ شَيۡءِۭ بَصِيرٌ (19))
الحمد لله مُكرمنا بالقرآن الكريم والنبي العظيم الهادي إلى الصراط المستقيم، اللهم صلِّ أفضل الصلاة وأزكى التسليم على عبدك الهادي إليك، الدّال عليك، سيدنا المجتبى المصطفى محمد وعلى آله الأطهار معادن الأسرار، وأصحابه الأخيار السُّرج والأنوار، وعلى مَن تبعهم بإحسان، واقتصّ الآثار على ممرّ الأعصار، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين ذوي المراتب العلية الكبار، وعلى آلهم وصحبهم والملائكة المقربين، وجميع عبادك الصالحين ذوي الأنوار، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين، يا كريم يا غفار.
أما بعد،،،
فإننا في نعمة الله علينا في تأمل آياته وكلماته وتعليماته وتوجهاته وما أوحاه إلى خير بريَّاته، مررنا على الآيات الكريمة في سورة الملك ومررنا على قوله جل جلاله:
- (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ ۖ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13))، ذات الصدور؛ التي خلقها وخلق السِّر فيها، كيف لا يعلم ما تسرُّونه وهو خالق ذلك السِّر وخالق محل السِّر الذي تسرُّون فيه السِّر، وما تُسارّون به بعضكم البعض، هو خالقكم وخالق أسماع بعضكم البعض وخالق الإسرار من بعضكم لبعض، كيف لا يعلم؟!
- (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ ۖ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) ذات الصدور .. ذوات الصدور نفسها وما يُخلَق فيها من الأسرار والخواطر هو خالقها، هو يعلمها، كيف لا يعلم ما تُسرون وما تعلنون؟!
(إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ (14))، وخالق كل شيء يكون عالمًا عِلمًا تامًا مُحيطًا بالذي خلق، ولمّا كان الإنسان المخلوق مُعطى مَعنًى من الاختيار والحركة والسكون والسعي؛ كان له الكسب والاكتساب ولم يكن له الخلق، الخلق له تعالى؛
- قال: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ) [الأعراف:54].
- قل (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ) [فاطر:3]، لا خالق إلا الله.
هذا الكسب، وإنما قد يُنسب أحيانا معنى الخلق على سبيل المجاز للتسبّب في أيّ تَكسُّب أو تصنيع، أيّ تلوين إلى غير ذلك؛ هذا الخلق على سبيل المجاز يبقى مع ذلك الفاعل والمُكتَسِب، جهل بكثير من شؤون ما يفعله ويكتسِبه؛ لأنه غير خالق.
فحركة الإنسان الذي يقول: أنه يخلق الإنسان حركته، حركة الإنسان مبنية على قوى ممدودٌ بها في باطنه تستلزم في عالم الحِسّ، والجسد صحة معينة وانبعاثات عامة، المتحدثين لا يعلمونها، ويعلم مَن يعلم منها من المتخصصين في هذه العلوم شيئاً، هم غير خالقين لهذا، لا يطَّلعون على دقائق أفعالهم -الله كبر-.
وإذا نُسب إلينا هذا الكلام، مَن مِنّا معاشر المُتكلمين يعلم عدد حروف كلماته؟ لو كان خالق فعرِف؛ ولا يغيب عليه عددها ولا هيئتها ولا كيف تخرج، كيف تخرج من مخارجها، من طرف الشفة إلى غاية الحلق؟ أول حرف يخرج من طرف الشفة مثل الباء والميم، آخر حرف الهمزة، عند الحلق وبينها مخارج، لمّا أُخرجها أنا لا أُحس بهذا، وعلمي إذًا ضعيف، لأنني لست خالقًا للكلام، بل أنا منطوق عُلّمت النطق فأُنطقتُ، (قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) [فصلت:21] جلّ جلاله.
فالخلق يستلزم العِلم: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ ..(14))، الخالق يعلم كل ما يَخلق، وهذا النائم عندنا أيضًا يتحرك ويطلع وينزل، وأحيانا يقوم ويمشي وما هو حاسس بنفسه ويرجع، وبعد ذلك يُقال له: أرأيت أنك قمت؟ يقول له: عجيب!، ما علمت، فهل خلق هذا الفعل؟!، لو كان خالق لعلم، ما يعلم. الله أكبر!
لهذا قلنا: العلم للرحمن، وكرر علينا ربنا في القرآن مرة بعد الثانية: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)، (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة:216]. ولكن من الذي يعقل ويدرك أن علمه وعلم المخلوقات حادث ومحصور وقابل للزوال؛ لكن العلم له هو أزلي، دائم، لا يقبل الزوال ولا التغيير ولا فيه تَخلُّف قط كما علم -الله اكبر-. فالعلم لله، فليترك أهل المعلومات الغرور بمعلوماتهم التي هم يعجزون عن الإحاطة بحقائقها؛ فسلّموا الأمر لبارئه ولصاحبه.
يقول تعالى: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ (14)):
- لطيف الصنع.
- لطيف التدبير.
- لطيف العلم؛ يشمل علمه كل دقيق مهما دقّ.
- لطيف! لطيف البصر؛ يبصر النملة السوداء في الليلة الظلماء، ولو كانت وسط صخرة صماء رُميت بها في أعماق البحر فكان الله يراها ويسمع دبيبها ويرى أرجلها ويرى عروقها ويرى المخ في ساقها؛ نملة وسط صخرة صماء في ليلة ظلماء وسط اعماق البحر، لطيف!.
(وَهُوَ اللَّطِيفُ) ما هذه الدقة في الإدراك والعلم!! (الْخَبِيرُ (14))، غاية في العلم والإدراك، خبير، الخبير بالشيء الذي تمكَّن علمه به وقوي علمه به، خبير، (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ).
(أَلَا يَعْلَمُ) -هذا الخالق- (مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا (15)) مُذللة .. مُسخرًة ..مُمهدًة. (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا) نبني فوقها؛ مسجد، بيت، مزرعة.. ولا تتأبّى أبدا، لا تقول! لا تبني فوقي هنا بيت، ابتعد!، ذَلُولًا -الله أكبر-.
(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا..(15)) تمشي فيها، وفي محل ترمي فيه القمامة، ولا تقول لك شيء، ومحلّ تضع فيه الزينة؛ كله تحت أمرك، ليس فقط تحت أمرك، بل مسخرة لك، ليس بقدرتك أنت، هل قدرتك أنك لَما وُجدتَ، صنعتَ الأرض وخلقتها وذللتها أو ماذا؟! رُكِّبتْ هكذا لِتَجَدها مُذلّلة.
(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا) -له الحمد- (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا..(15)) جوانبها، أنحائها، وطرقها، وعبِّدوا الطرق واصنعوا ما تستطيعون. (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا).
(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا) ولو أراد أن يهزّ أي بقعة من بقاع الأرض لَاهتزّت بأصحابها، ربما تبلع الملايين في لحظة؛ انتهوا، ما عاد أحد منهم، كانوا على ظهر الأرض ثم ماتوا، قليل زلزلة وانتهوا، -لا إله إلا الله- ليس في الدقيقة .. بل في الثانية يُنهي من شاء؛ ولكن ذلّلها للعباد له الحمد والمِنّه.
(فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ (15)) من رزق مَا رَزَقَكُمْ، مَا يَسَّرُ وَسَخَرُ، وَمَا أحَل، أي: إذا ذللّ لكم الأرض وأعطاكم رزق فيها، أتتصورون أنكم مُستقلين؟!، انظروا أن النشور إليه، هناك مرجع سترجعون إليه، أي: فتصرَّفوا في المشي على ظهر الأرض والأكل من الرزق، تَصرُّف من يُوقن أنه يرجع إلى من ذلل له الأرض ويسّر له الرزق، لا تطغوا ولا تبغوا، فقط نحن ذللناها لكم، رفعتم رؤوسكم ونسيتم إلهكم، وقلتم: لنتحكّم فيها، ونأخذ حق الآخرين ونطلع وننزل ونؤذي ونقتل ونرفع ونُقيم الحروب؛ ذللناها لك، امشِ فيها بقانون من عندنا وأوامر؛ لأن مَشيك فيها محدود ومحصور ومنتهي، سيقع المرجع إلينا، أنا الذي ذلّلت لك الأرض فستعود إليّ، وأنا الذي يسّرت لك الرزق فترجع إليّ .
(فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)) استحضروا أن النشور إليه، ليس فقط أكل ومشي في الأرض على ما تشتهون وعلى ما يُنظّم بعضكم لبعض، أنا خلقتكم وخلقت الأرض، كيف تتصرفون فيها كما شئتم؟! ما خلقتموها؟!
- فامشوا فيها بأدب.
- اعرفوا قدر الرب.
- ولا تتجاوزوا حدودكم.
لا خلقتموها ولا ذلّلتموها، ولا الرزق أنتم أوجدتموه؛ غاية الأمر أنكم تتسببون فيه سبباً، وأنا الرزاق؛
- وخالقكم وخالق الرزق.
- وخالق سبب الرزق.
- وخالق قُدرتكم على التسبب.
- وخالق إمكانياتكم أن تتسببوا.
(وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ..(15)) فإذا تسببتم فلا إشكال في هذا التسبب مهما كان فيما أبحتُ لكم وأحللت لكم من التسبب في أخذ الأرزاق؛ وكل ذلك إذا قام على وجه الشرع لا يُنافي التوكل، إذا لم يكن القلب مُوَلّعًا بالأسباب مُعتمدا عليها.
والنبي ﷺ يذكر لنا مثال في الطير يقول: "لو توكلتم على الله حقَّ توكُّله؛ لرزقكم كما يرزق الطيرَ: تغدوا خماصًا وتروح بطانًا" لماذا قال: "تغدو"؟ قال: إن توكلها على الله؛ لكن لا ينافي التوكل أنها -تتسبب- تغدو، لا تجلس في موضعها وسط العش؛ بل تخرج منه، تغدو، تجد الرزق وترجع؛ ولكنها متوكلة على الله، لا أحد من الطيور يقول: بكرة كيف آكل؟ إلا بني آدم هؤلاء الذين أرادوا أنفسهم أعقل؛ أما هؤلاء أبدا لا أحد منهم منزعج والذي لا يعرف الطيران، تأتي له أمه وأبوه بالأكل إلى عنده، ولا يقول أنا بعد ذلك بكرة كيف أعمل من أين آتي به؟ وإذا أراد الله -طائرا أو غيره- فقدَ أباه أوأمه، يريد أن يرزقه أو سببه في الغدو، وأراد أن يرزقه يجيء رزقه إلى عنده، بطائر آخر، بسبب آخر، بأي سبب.
لهذا كان سبب توبة ذو النون المصري يقول: ما سبب توبتك و إقبالك على الله؟ قال: أراني الله آية وأنا أمشي في الطريق وقعدت تحت شجرة وإذا الشجرة فيها قنبرة عمياء -قنبرة: نوع من الطائر- قنبرة وسط الشجرة وكانت عمياء؛ تأملت وإذا بها عمياء، يقول: قنبرة وسط الشجرة عمياء، كيف ستطير؟ من أين ستأكل؟ والشجرة لا يوجد فيها أكل لها، وبينما أنا جالس إذا بالقنبرة وقعت على الأرض -سقطت- وانفتحت الأرض بسكرجتين (إنائين) واحد فيه سمسم وواحد فيه ماء، وأنا أنظر، قال: أكلت السمسم، وشربت من الماء، ورجعت إلى محلها في الشجرة وانطبقت الأرض، فقلت: ما نسي القنبرة على الشجرة بقدرته وهو خالقها وأوجد لها هكذا، أوجد لها رزق من الأرض، أمام عيني رأيت، قال: فلزمت الباب حتى قابلني، و قلت: حسبي هذا يكفيني، يكفيني آية رأيتها في الوجود. وكم في الكون كله، ملآن آيات لكن،
- (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) [البقرة:171].
- (وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ) [يوسف:105] -نعوذ بالله من غضب الله- رزقنا الله بالاعتبار بالآيات.
(وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ..(15)) أتظن أنّ غيره يرزق؟ قل: (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) [فاطر:3]، إذا أمسك رزقه فلا تنفع الآلات، لا تنفع الأجهزة، إذا أمسك رزقه لا نبتت الأرض، لا ينزل الماء من السماوات، ما أنشأ سحاب، تعالوا يا أهل القُوى، كيف ستعملون؟ هاتوا الأجهزة .. هاتوا الآلات .. هاتوا الطائرات، ما ستصنعون؟ منذ شهور هو يرزق من عنده، من عند غيره لا يوجد .. لا يوجد من عند غيره؛
غرور فقط مع الناس، كما يذكر لنا الحق تعالى في كلامه: (وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)) مشيِكم في الأرض واكلكم من الرزق منوط باستحضار النشور والمرجع إليه، ما أنتم على كيفكم، على هواكم تتصرفون في الأرض، قال: لا .. لا .. لا.. لا.. لا (إِلَيْهِ النُّشُورُ)؛ انتبهوا: امشوا وكلوا، مشي وأكل من يُوقن أن المرجع إلى مَن ذلّل الأرض وأنزل الرزق؛ الله.
قال: (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)) نشوركم: أي جمعكم وخروجكم من قبوركم وبعثكم. يقول: (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) والنبي بذكرنا بهذا فكلما تنام وتقوم قل: "الحمدُ لله الذي أَحْيَانا بعْدَ ما أماتَنا، وإليه النُّشُورُ"، والمرجع والنشور إليه، بعد ذلك نقوم، الله، أي أن:
- النشور: خروجنا من القبور، قيامنا، هذا هو النشور.
- وجمّعنا: حشر، نشر وحشر -الله أكبر-.
(وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)) يُعلمنا ﷺ:
- لما نذكر الله في الصباح نقول: "وإليه النشور".
- لما نذكر الله في المساء نقول: "وإليه المصير".
المصير إليه والنشور إليه والمرجع إليه والأول منه والآخر إليه؛ الله؛ هذه الحقيقة، وإن تجاهلناها، هذه الحقيقة:
- (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون:115].
- (ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَٰلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ) [فصلت:23-22].
- (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم ۚ بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) [الزخرف:80].
يقول تعالى: (وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ (16)) هذا الذي ذللها لكم، ما يظهر لكم آيات من وقت إلى وقت: خسف هنا، زلزال هنا، هزة أرضية هنا؛ من أجل أن تعلموا أن لا تأمّنكم أنفسكم ولا الأرض ولا حكوماتكم، إذا أراد أن يزلزل زلزل، إذا أراد أن يخسف خسف -الله أكبر، لا إله إلا هو-.
(أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ..(16)) ما معنى (مَّن فِي السَّمَاءِ)؟ مَّن فِي السَّمَاءِ: الله تعالى جعل السماء:
- مظهر علو ورفعة.
- والرزق جعل منها.
- ونزول العذاب منها.
- ونزول الرحمة منها.
- بترتيبه في هذه الكائنات.
(أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ..(16)) في السماء سلطانه وعظمته ورحمته وقدرته وعذابه حتى الرزق الذي نأكله قال: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) [الذاريات: 22].
(أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ..(16)) مظهر ملكه وتقديره وترتيبه وتدبيره -جلّ جلاله-: (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) [السجدة:5]، وهو الذي دبره، كله من عنده، (ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ)، وهو الذي نزله، وهو الذي يرجعه -الله أكبر-.
سبحانه يقول: (فِي السَّمَاءِ) ولا يحمل (أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ..(16)) أن معناه من الظاهر أن الإله -سبحانه وتعالى- يَحلُّ في السماء، يحلُّ في السماء! هذا أمر مستحيل، مستحيل!
- فوق السماء عرش،
- والسماء أصغر من العرش.
أنت تعبد إله يُحصر في مكان، يعني؟! العرش أكبر منه يعني- ما هذا الكلام؟! الإله الحق الذي نعبده؛ السماء محتاج إليه والأرض محتاج إليه، والعرش محتاج إليه، وليس هو ذات كذات المخلوقات الجسمانية تحتاج إلى مكان أصلا، الأماكن كلها محتاجة إليه، وهو غني عن المكان وهو خالق المكان، والغني عن الزمان وخالق الزمان، "كان الله ولا مكان وهو الآن على ما عليه كان". -لا إله إلا هو- جل جلاله وتعالى في علاه هذا.
يقول سبحانه وتعالى: (قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) [الأنعام:12] لمن؟ يعني ملك من؟ -الله- الآن هذا الذي يعتقد بخبالته أن الله في السماء، يقول: الله يملك الله! لمن ما في السماء والأرض؟ (قُل لِّلَّهِ)؛ يعني: الله يملك الله!! أنت تأتي كلام بعقلك أو بلا عقل؟! من في السماء مملوك لله، والحق جلَّ أن يَحلّ في شيء؛
- (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ) [الحديد:4].
- (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ) [الأنعام:3].
- و ماذا بعد ذلك؟ (مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ ) [المجادلة:7].
واحد يُأوّلها ويُقلّبها، واحد يفتحها علي ظاهر لا يليق بالجبار، ماهذا اللعب؟! ما هذا اللعب بآيات الله؟ من قال هكذا؟ من أين جئت بهذا التصور؟ أمحمد قال لك؟ صلى الله على الأطهر الطاهر المطهر المُسبح بحمد ربه سيد المُسبحين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم؛ بل قال لك:
- (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى:11].
- وقال لك ﷺ: "كانَ اللَّهُ ولَمْ يَكُنْ شَيءٌ غَيْرُهُ، وهو الآن على ما عليه كان".
- وقال لك صاحبه -أبو بكر الصديق-:
لايعرف ﷲَ إلا ﷲ فاتّئدوا *** والدين دينان إيمانٌ وإشراكُ
وللعقول حدودٌ لا تجاوزها *** والعجزُ عن دَرَكِ الإدراك إدراكُ
إلا في إنسان عنده من الخبالة ما يتصور أنه يجعل نفسه هو سيد جميع الأكوان والمُكون، ويريد أن يدخل الأكوان والمُكون في تصوره وتحت عقله، إله الآلهة أنت أو ماذا؟! أنت مخلوق، عبد ضعيف، الكائنات نفسها لا تستطيع أن تستوعبها تحت حواسك، اتركوا المكون، الكائنات نفسها، الكائنات؟! أنت! أنت نفسك: (وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) [الذاريات:21].
أدْخل وتصوّر واضبط عدد الخلايا التي في بصرك، أدخلها تحت عقلك، هل رأيتها في حياتك مرة؟ّ! لم ترَها، وأنت تصدِّق أن عندك ألوف من الخلايا في عينك، ولا رأيتها في عمرك! ومصدق القول أن علماء التشريح قالوا لك هذا، ياأخبل! يا أهبل!، وتريد بعد ذلك أن تُصور عدد الكائنات، ما زلت ما وصلتْ الى عند بصرك، ما قدرت أن تستوعبه وتتجاوز الكائنات، وتتكلم على المُكون؟!؛ ما أبعدك عن العقل!! ما أبعدك عن العقل!! اعقل! الكبير يحيط بالصغير، فهل الصغير يحيط بكبير؟ فما هذا العقل الذي عندك؟ هل أنت تريد إله أصغر منك ؟! فكيف يكون إله؟! لن يكون إله هذا؛ أصغر منك، أنت إلهه وليس هو إله -لاإله إلا هو -جلّ جلاله وتعالى في علاه-؛ لكن إذا أراد الله أمرا، سلب تلك العقول، العقول لم تعد تتكلم بعقل ولا منطق، بل تبجُحات طويلة عريضة وكلام، ليس له مجال في العقل، ليس له مجال في الإدراك، ليس له مجال في المنطق.
يقول سبحانه وتعالى: (أَأَمِنتُم مَّن فِي ٱلسَّمَآءِ أَن يَخۡسِفَ بِكُمُ ٱلۡأَرۡضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16))، تمور، تتحرك بقوة، كما قال عن السماوات إذا جاء الموعد في القيامة: (يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا) [الطور:9] -لا إله إلا الله-.
- (أَمۡ أَمِنتُم مَّن فِي ٱلسَّمَآءِ أَن يُرۡسِلَ عَلَيۡكُمۡ حَاصِبٗا (17)) ريح تحمل حجارة حصباء، كثيرة، تقلعها وتمشي بها الرياح.
- (أَمۡ أَمِنتُم مَّن فِي ٱلسَّمَآءِ أَن يُرۡسِلَ عَلَيۡكُمۡ حَاصِبٗا ) كما أرسل على قوم عاد وكما أرسل على قوم لوط.
(أَمۡ أَمِنتُم مَّن فِي ٱلسَّمَآءِ أَن يُرۡسِلَ عَلَيۡكُمۡ حَاصِبٗاۖ فَسَتَعۡلَمُونَ كَيۡفَ نَذِيرِ (17))، نَذِير يأتي بمعنى: المُنذِر وبمعنى: الإنذار، نذير .. فعيّل.
- (فَسَتَعۡلَمُونَ كَيۡفَ نَذِيرِ (17)) إِنْذارِي لَكُمْ بِمُحَمَّدٍ وَمَا أَنزَلْتُ عَلَيْهِ، كَيْفَ نَتِيجَتهُ بَعد ذلك، كيف نذير؟ كيف المُنذِر؟.
- فَسَتَعۡلَمُونَ كَيۡفَ نَذِيرِي، ستعلمون كيف هذا الذي بعثتُ لكم نذير؛ صدقه وتحقيق ما قاله ومكانته عندي، فستعلمون رسولي الذي أرسلت إليكم أنه الصادق، أنه الذي يقول الحق، أنه يكون ما قاله ﷺ، تعلمون صدقه ومكانته عندي وقدره لدي.
- (فَسَتَعۡلَمُونَ كَيۡفَ نَذِيرِ) كيف قدْر المنذر الذي أنذركم عني بهذا (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا) [الأحزاب:45].
- (فَسَتَعۡلَمُونَ كَيۡفَ نَذِيرِ) أي كيف نذيري، رسولي الذي أرسلته إليكم منذر، تعلمون من هو محمد هذا؟ ما مقامه؟ ما مكانه؟ ما صدقه؟ كل ما أنبأ به أمام عيونكم حق، والظالم منكم (يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا) [الفرقان:27]. وإذا اشتد بكم كرب الموقف ذهبتم إلى عند رسلي من واحد إلى واحد حتى يردونكم إلى هذا السيد ﷺ، ويقول لكم: أنا لها.
- (فَسَتَعۡلَمُونَ كَيۡفَ نَذِير ) سترون من هو الذي تكذبون به وأرسلت إليكم نذير.
- (فَسَتَعۡلَمُونَ كَيۡفَ نَذِيرِ) أو إنذاري الذي أنذرتكم وحذرتكم على لسان عبدي محمد، وكتابي الذي أنزلت إليكم، فستعلمون نتيجة هذا الإنذار وحقيقته لكل من كفر ولكل من كذّب ولكل من عصى وخالف، فستعلمون كيف إنذاري؛ أنه حق وصدق .
(وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18))، هل هم هؤلاء أول طائفة جاءوا على ظهر الأرض؟ أم ماذا؟ كم أمم مرت قبلهم؟ (وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ)، قال الله:
(فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18))؛ كيف كان تغييري لأحوالهم؟ وإنهاؤهم؟ وإنهاء ما جاءوا به؟
(فَكَيْفَ كَانَ نَكِير) نكيري، كيف أنكرت عليهم ما فعلوا؟ فجعلت لهم العواقب التي عرفتم: (فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا) [العنكبوت:40] -لا إله إلا الله-
(فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18)): (أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) [ق:15]، (وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ) [القمر:41]، ذكر لنا قوم نوح، ثم ذكر لنا قوم هود، ثم ذكر لنا قوم صالح، ثم ذكر لنا قوم لوط، ثم ذكر لنا قوم سيدنا موسى عليه السلام، وقال لفرعون:
- (كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ* أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُولَٰئِكُمْ) [القمر43-42].
- (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ) [الروم:9].
- (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ۖ وَلِلْكَافِرِينَ) [محمد:10].
في أي وقت كان! كيف كان عاقبة الذين من قبلهم؟! لأنه ليس هناك وقت تنقص فيه قدرته، ليس هناك وقت تتغير فيه صفاته وحالته -سبحانه وتعالى- (وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا) [محمد:10] مثلها، (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) [الأحزاب:62]، وعند ساعة الصفر -كما يسمونها ويقولون- عند إحقاق الحق وإبطال الباطل وقت الاشتداد، عند ذلك يقول: (وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) [الفتح:22] لايوجد وليّ .. لا يوجد نصير، أين ما ادّخروه من أسلحة وما قاموا به؟! وإذا بطّلتها، من يعمرها؟ (لايَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) [الفتح:23-22]؛ هذه قصة بني آدم على ظهر الأرض في كل زمان، يغتر من يغتر، يتكبر من يتكبر، والواقع هذا هو فقط، لايوجد غيره.
في أعماركم القصيرة ما رأيتم من تبختر ومن قال: سوف نعمل كذا ونصنع كذا وبعد ذلك وقعت له القلبة أمام عيونكم، ما شفتم؟! ما رأيتم؟! لا تُعرضوا عن آيات الله؛ هذه سنة الله في هذه الأرض: (وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) [الفتح: 23].
يقول: (وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ..(18)) ومَن من قبل نوح؟ ما بين ادم وادريس إلى نوح؛ أمم وطوائف ذهبوا وقرون بعد نوح (وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَٰلِكَ كَثِيرًا) [الفرقان:38]، كما شكلك، وكما شكلك عشر مرات، خمس مرات، جاءوا وراحوا. (وَقُرُونًا بَيْنَ ذَٰلِكَ كَثِيرًا * وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ ۖ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا) [الفرقان:39-38]. مَن عصوا الرسل وأهلكهم -لا اله الا الله- ونحن أتباع محمد، والذي نصر المرسلين لن يخذل محمداً -لا والله- يقول: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا * وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا) [الفتح3-1].
فكل الأصفياء والأوفياء في كل قرن وزمان من أمته ممن هُدوا صراطاً مستقيما، وأُيّدوا من الله بالتأييد والنصر في أنفسهم أو في أولادهم أو في أتباعهم و أظهرهم الله، كلهم تحت دائرة: (وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا * وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا) [الفتح:3-2] ولا يزال الأمر كذلك، ولا يزال الأمر كذلك؛
- وحتى يخرج عيسى ابن مريم عليه السلام وينصر هذا النبي المصطفى ويجد أنصاراً مِنّا في هذه الأمة مثل حواريّيه وخير منهم.
- وهكذا إلى أن يخرج يأجوج ومأجوج ويأخذون فترة اغترارهم وافترائهم واجترائهم ويُهلكون في حياة عيسى بن مريم وهو على ظهر الأرض ويُهلكهم الله.
- ويعود إلى الأرض قيام حكم شريعة محمد ﷺ، خلافة نبوة على يد نبوة؛ عيسى يخلف محمد بن عبد الله.
- ثم يموت سيدنا عيسى ويبدأ إدبار الخير على الناس، وتقوم العلامات الكبرى:
- من خروج الدابة.
- ومن طلوع الشمس من مغربها حين تُقفل أبواب التوبة -والعياذ بالله-.
- ثم هبوب الريح التي تخطف من في قلبه مثقال ذرة من إيمان.
حينئذٍ لا يبقى إلا كفار أبناء كفار تقوم عليهم الساعة -والعياذ بالله تبارك وتعالى-؛ فتقوم الساعة: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ۖ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) [غافر:52-51].
يقول: (وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18))، كَيْفَ كَانَ نَكِيرِي عليهم؟ كيف كان تغييري لأحوالهم؟ كيف كان تبديلي لهم؟ كيف كان إفنائي لوجودهم؟ (فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18))؟.
يقول الله: والآيات أمامهم من كل مكان، لماذا؟ لأنهم (ألم يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ) -تمشي في الجو- (صَافَّاتٍ) -باسطات اجنحتهن- (وَيَقْبِضْنَ) واحد .. اثنين، تصفّ تروح وتجي؛ مرتاحة في الهواء، وابن آدم لا يستطيع، مرتاحة في الهواء، (صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ۚ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَٰنُ ..(19)) أفعال المخلوق الاختيارية تحت فعله، تحت ترتيبه -سبحانه وتعالى- تحت خلقه، (مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَٰنُ) هو مكّنهن من هذا، لكن لا يمسكن أنفسهنّ ولا يمسكهن الهواء ولا أجنحتهن: (مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَٰنُ) جل جلاله.
- ولما ذكر في هذه الآية: (صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ..(19))؛ إشارة إلى أن هذا الإله الحق تولّى بسطهن وتمكينهن وإلهامهن فعبّر بـ(الرَّحْمَٰنُ).
- في سورة النحل هناك يقول: (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ) [النحل:79]؛ لم يذكر فيها القبض والبسط، مسخرات في السماء (مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ) [النحل:79].
هناك ألوهية، مظهر ألوهية، سُنّة ألوهية، وهنا ذكر فيها ما أعطتهم من الرحمة من إلهام القبض والبسط، قال: (إِلَّا الرَّحْمَٰنُ ..(19))؛ هنا ذكر الرحمن، هناك ذكر: (إِلَّا اللَّهُ) [النحل:79]؛
- هناك في الآية ذكر قال: (مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [النحل:79].
- وهنا قال: (مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَٰنُ ۚ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ(19))، عليم وخبير، ويُبصر ببصره -سبحانه وتعالى- مطلق كل شيء.
(إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ(19)) يُبصر كل شيء، لا فرق بين الحسيات ولا المعنويات، ولا الصغار والكبار، ولا النور ولا الظلمة؛ كله سواء عنده. يُبصر كل شيء -لا إله إلا هو، لا إله إلا هو-.
رزقنا الله كمال الإيمان كمال اليقين، وبارك لنا في هذا القرآن وفي تنزيله وفي المُنزل عليه، وسَرى لنا سرايات من أسرار الإنزال والتنزيل والمُنزل عليه إلى ساحات قلوبنا وإلى أعماق أسرارنا، ونوُّر بذلك بصائرنا، وصفّى سرائرنا، وجعلنا ممن يعي عن الله خطابه، ويفقه عنه كلامه ويُدرك إشارته ويتأدّب بآداب المخلوق مع الخالق والعبد مع الإله الرب، مُقتديًا بخير العبيد وأكرم المخلوقين في كل توحيد ويقينٍ وإيمانٍ وقولٍ وفعلٍ وحركة وسكون ونية ومقصد.
اللهم ارزقنا حسن متابعته، وعوائد اجتهاده في العشر الأواخر من رمضان، أعدها علينا في رمضاننا وفي أواخر رمضاننا بعائدة تصل بها الروح بالروح والسر بالسر والقلب بالقلب و الجسد بالجسد، اتصال نورٍ يندرج فيه الصغير في الكبير، ونسير في أحلى مسير، ونكون في الرفقة والمعية يوم المصير، وأنت راضٍ عنا يا لطيف يا خبير، يا سميع يا بصير، ياحي يا قيوم يا قدير.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد
اللهم صلي وسلم وبارك عليه وعلى الأصحاب
الفاتحة
26 رَمضان 1440