(535)
(339)
(363)
تفسير الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الملك، من قوله تعالى: (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(6)).
﷽
(وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ ۖ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَىٰ قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ ۖ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ۖ فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17))
الحمد لله مُكرِمنا بالتنزيل الحكيم والقرآن العظيم، نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، بيده ملكوت كل شيء وهو السميع العليم، ونشهد أن سيدنا ونبينا وقرّة أعيننا، ونور قلوبنا محمداً عبده ورسوله، الهادي إلى الصراط المستقيم، السراج المُنير، والبشير النذير، والرؤوف الرحيم، اللهم أدِم صلواتك على ذي الخُلق العظيم عبدك المُصطفى سيدنا محمد، وعلى آله المُطهّرين وأصحابه المُكرمين، ومن سار على سبيلهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، وعلى آلهم وصحبهم والملائكة المُقرّبين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد،،،
فإننا في نعمة تدبُّرِنا لكلام ربنا -جلّ جلاله- في غدوات الشهر الذي أوشك على الرحيل بارك الله لنا في باقيه، وصلنا في التأمّل إلى ما ذكَّرنا الحق -جلّ جلاله- في كتابه عن أخبار المصير والآخرة:
فذكر أمرًا فضيعًا شنيعًا هو واقع لا محاله مُقبل على كل من كفر، وبلَغته دعوة الله العلي الأكبر فأدبر واستكبر -والعياذ بالله تبارك وتعالى- مما لا يُطاق، وهم أحوج من في الأرض أن يُنبأوا بالانتباه مِن مُستقبلِهم؛ فإنهم الذين ضيّعوا المُستقبل، وهم الذين أتعبوا أنفسهم للمستقبل الشنيع الشديد عليهم، فَأَضْيَعُ النَّاسِ لِمُسْتَقْبَلِهَا عَلَى ظهر الْأَرْضِ مَنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَةُ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ فَلَمْ يُجِبْ وَلَمْ يَتَّبِعْ، هؤلاء أَضْيَع النَّاسِ لِمُسْتَقْبَلِهِمْ.
يقول سبحانه وتعالى: (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقٗا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ ..(8)) تتفرّق ويتفلّت بعضها من بعض من شِدّة الغيظ، وغضبها على من كفر بربِّها وعصى الله تعالى.
(كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَىٰ قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9)) ورجعوا على أنفسهم باللوم حين انتهى وقت المُغالطات والمُخادعات والأهواء والشهوات، ماتوا ورجعوا إلى الإنصاف:
(لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ) في وقت لا ينفع فيه الاعتِراف (فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ) -يخافون- (رَبَّهُم بِالْغَيْبِ) ربّهم بالغيب، والخشية: هو خوف ناشئ عن علم لوقوع محذور، أو فوات مرغوب فيه، (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)):
(إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12))، (مَّغْفِرَةٌ) لكل ما سلف منهم، (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) لا يُتصوّر كِبَره، ولا حدَّ له، فلا عين رأت ولا أُذن سمِعت ولا خطر على قلب بشر: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، فالذين يخشون ربهم بالغيب أحسن مَن على ظهر الأرض مُستقبلاً، لهم المُستقبل، لهم المُستقبل الأعظم، ولهم في المُستقبل الأعظم أمرٌ أبى الله أن يُحيط به علم أي نفس؛ (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة:17]، قال: أنا أعددت لهم وأخفيت أشياء فوق ما يخطر على كل أحد، فجعل الله تعالى وسط الجنّة إمدادات مِنه تنال أصحابها من حين دُخولِهم، ثم تستمر معهم لا يُدرِكُ كُنهها الملائكة الموكّلون بالجنّة، ولا يخطر على بالهم؛ لأنهم يعلمون عجائب وغرائب من النعيم العظيم في الجنّة، ولا يدرون بحقيقة ما سيُقابل الله به الداخلين إليها من الفضل والإحسان؛ بل ذلك يُمدهم الحق به، فيستمر إمداده في زيادة أبداّ سرمداً بما لا عين رأت.
حتى الداخل نفسه إلى الجنة لو رأى الآن ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولاخطر على قلب بشر، سيرى في الغد ما لم يخطر على قلبه الآن، ولا ما رأته عينه الآن، ولا ما سمعته أذنه الآن -الله أكبر- وسيرى بعد غد ما لم يكن في الغد قد رآه ولا خطر على قلبه، وهكذا في كل وقت، والحق يُمِدُّهم بما لم يخطر على بال أحدهم، هو نفسه لا يعرف فضله ولا غيره -لا إله إلا الله- سبحانه المُنعم، يا رب اجعلنا من اهل جنتك يا أرحم الرحمين.
وهكذا جعل الله في ذكر الجنة والنار إمدادا في الدنيا بما يوجب النعيم ويُنجي من عذاب النار، حتى أن:
ولذا أكثرَ الله في كتابه من ذكر الجنة والنار ومن أخبارهما، وَاعْتَنَى بِذِكْرِ ذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا سَمِعْتَ مَا يُسْقَاهُ الصُّحَابَةُ فِي مَجَالِسِ نَبِيِّنَا: وَإِنَّا نَكُونُ بَيْنَ يَدَيْكَ فَتُذَكِّرُنَا بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ حَتَّى كَأَنَّا نَرَاهَا رَأيَ العِينَ ثم نُنكر قلوبنا إذا خرجنا من عندك، قال: "لَوْ تَدُومُونَ علَى ما تَكُونُونَ عِندِي وفي الذِّكْرِ، لَصَافَحَتْكُمُ المَلَائِكَةُ علَى فُرُشِكُمْ وفي طُرُقِكُمْ"، أي انكشفت الحُجُب كلّها عنكم، وصُرتم تعيشون بحال آخر، والملائكة من الغيب تظهر لكم، وتصير تسلّم عليكم في الشوارع فضًلا عن المساجد والبيوت، في الشوارع سيُلاقونكم الملائكة ويظهرون لكم ويصافحونكم لو دُمتم على ما أنتم عليه عندي، وفي هذا أن دوام الحضور مع الله يهتِكُ حُجُب الغيب.. دوام الحضور مع الله يهتك حُجُب الغيب؛ ولذا كان الإمام الحداد يقول عن أصلين:
قال: فمن أحكم هذين الأصلين إنهتك حِجابُ قلبه، وأبصر غيب ربه؛ "لو تدومون على ما أنتم عليه عندي لصافحتكم الملائكة في الطرقات".
مع أنه وقع لهم رؤية الملائكة في بعض الأحيان وفي بعض الأوقات:
وهكذا تقع الرؤية للملائكة، لكن الانكِشاف الجليل: "لصافحتكم الملائكة في الطرقات"؛ هذا مُترتّب على حضور قوي دائم مع الله تعالى، حصل لبعض الأفراد؛ كسيدنا عمران بن حصين رضي الله عنه، فكانت تُكلِّمه الملائكة، ويأنس بهم ويخاطبونه، ويقول في ذوات من عنده: اخرجوا عنّي، إني أحدِّث من لا تحدِّثون -رضي الله عنه.
وهكذا شؤون الحُضور مع الله، من أعظم ما يجلِبُها:
فذِكْر الجنّة والنار:
حتى أن النفس لا يؤثّر فيها كثير من الأذكار وكثير من العِلم كما يؤثّر فيها استحضار الموت، -النفس- لا يؤثر فيها مثل استحضار الموت، ويخاطب الإنسان نفسه يقول:
يقول: الموت، الآن ستموتين -يمكن قريب- تبدأ تتأثر، تعرف أن المسألة، وهو في كل وقت عُرْضة أن يموت؛ لكنه يغفل كثير.
ويأتينا تذكير الحق بهذه الحقائق: (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ ..(12)) على درجات في المغفِرة على قدر صِدقهم، على قدر خشيتهم ورحمة الله بهم، ومنها أعالي المغفرة لمن عصمهم، ثم من حفظهم من الأولياء فيحوُل بينهم وبين الذنوب فلا يقعون فيها.
أعلى درجات الستر: الغفر، أنه لا يصل إليه أصلًا ولا يقرب منه، ثم بعد ذلك يسترها عليهم ليُذهب ضُرّها وشرّها وعذابها ومُقتضاها عنهم على درجات، ومنهم من ينال رُتبةً شريفةً في الغفر فتشمل جميع سيئاته صغيرها وكبيرها، ثم مِن غفْرِه له يستره حتى إذا أراد -في مُقابلة عند العرض عليه- أن يُذكِّره ببعض ذنوبه؛ نشر عليه كنفه فلا يدري الملائكة ما يقول له، يقول: تذكر فعلت كذا في يوم كذا؟، وتذكر كيف فعلت كذا وفعلت كذا؛ ويخاف العبد، ستْرهُ وصل إلى أين -سبحانه وتعالى-؟ مغفرته وصلت إلى هذا المستوى العظيم! درجات في المغفرة.
حتى أشار النبي لأنواع من المغفرة، أن من الأعمال الصالحة ما يُغفر له ذنوب ثمانين كبيرة. قالوا: ان لم تكن عنده هذه الكبائر؟ ما عنده ذنوب ويفعل هذه الأعمال الصالحة؟!. قال: من ذنب أهله، من ذنب أقاربه؛ يغفر لهم، يعني تصل المغفرة إلى من حواليه -سبحان الله- درجات في المغفِرة، (لَهُم مَّغْفِرَةٌ)، ثم (وَأَجْرٌ) يكفي أن الكبير سمّاه كبير: (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)) -الله أكبر-.
يقول -جلَّ جلاله-: (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ ۖ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13)) فالذي تظهرونه والذي تخفونه عند الرب سواء،
(أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ (14) إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(13)) ذات الصدر، يا الله؛
وكان بعض المشركين في مكة كُلّما جلسوا وتكلّموا عن النبي ﷺ يُخبِره جبريل بما قالوا عليه، فيتعجّبون: من الذي قال لمحمد هذا؟! فصار بعضهم لما يجلس إلى بعض، وأرادوا أن يتكلّموا على النبي، يقول: أسرُّوا قولكم حتى لا يسمعكم ربّ محمد هذا. حتى لا يسمعكم ربّ محمد،؛ سيبلغه بعد ذلك -كلما قلنا شيء ما ندري الا وهو عند النبي- ﷺ.
(وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أو اجْهَرُوا بِهِ ۖ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(13)) صدرك هو الذي خلقه، وما يُنازِل الصدر وما يصل إليه وما يحلُّ فيه وما يخرج عنه، هو الذي خلقه، كيف ما يعْلمه؟ كيف خالق لا يعلم خلقه، ممكن؟! خالق لا يعلم ما خلق! هل هذا معقول؟! صانع لا يعرف ما صنع، هذا معقول؟! لا يكون هذا! هو الذي انشأ وكوَّن وفطر، ثم لايدري؟! عجيب كيف لا يدري؟! .. (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) الخالق الذي خلق، ألا يعلم؟! -الله أكبر- (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)):
وهم استمر عندهم هذا -المشركين- حتى هاجر النبي، ثم لمّا جاء في فتح مكة، وإذا قد سيدنا بلال يؤذن في الكعبة، فجماعة من مشركي مكة، الذين لم يدخل الإيمان قلوبهم، يقول: ما كنت اظن يتمادى بي العمر حتى أرى هذا الإنسان فوق الكعبة
وقال الثاني -عندهم ابو سفيان-، قال: أنا لو تكلّمت لأخبر عنّي هذا الحجر، يعني صار اخبار تصل لمحمد من عالم الغيب -يعرفون- لا اله الا الله، وهكذا.. دعاه النبي قال: انت قلت كذا، انت قلت كذا، انت قلت كذا، يقول: من بلّغ محمد ﷺ!؟
جالسين في ناحية من جهة الحِجر، مجموعة منهم، يقولون: محمد وأصحابه أوْهنتْهم حمى يثرب -تعبانين جاءتهم الحمى هناك في المدينة- فإذا النبي يرمُل، انظروا اليهم! كأنهم الضِبا، ما بهم وهن هؤلاء، ما بهم وهن، ما أوهنتهم الحمى؛ ولهذا كان بين الركنين اليمانين لا يرمل، يمشي مشْية العدل؛ هناك هم في الشق الثاني لا يرونه ﷺ، ولكن استمر على هذا.
لما جاء في حجة الوداع رملَ في نفس الأماكن، لا أحد من المشركين هناك، وماعاد في مكة إلا مسلمين، ولكن عمل الرمل فثبت إنها سُّنة من سننه ﷺ للرجال.
يقول تعالى: (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أو اجْهَرُوا بِهِ ۖ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13)) هل الآن لمّا خطرَ على بالك ولمّا كلّمك ذلك الشخص، علِم؟! فهو من قبل ما يخلقك، من قبل ما يخلق صاحبك، ومن قبل ما يخطُر الخاطِر، وهو عالم.. و هو عالم: (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) [الطلاق:12]؛ فالعلم لله، لا يغتر أحد بعِلم، كلّ من كان غير الله كان عدماً ثم وُجد، وحدث له العِلم وبِحدود محصورة، فتسميته علم أشبه بمجاز؛ لكن الله سمّاه عِلم، ولكن مهما علِم كلٌّ من هؤلاء من خلقه شيء، فقد خفي عنهم أشياء (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) [يوسف:76] إلى أن يأتي علم الله فهو الذي (أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا).
(أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) -جل جلاله-:
العِلمُ للرحمٰن جلّ جَلالهُ *** وسِواهُ في جَهلاتِه يتَغمْغمُ
ما للتُرابِ وللعُلومِ -أنت من حفنة من تراب جئت والبشر هؤلاء كلهم-
ما للتُرابِ وللعُلومِ وإنِّما *** نسْعى لِنعْلم أنّنا لا نَعْلمُ
يعني نكْسب من العِلم ما نوقِن به أنّ جميع معْلوماتنا ليست شيء أمام عِلم الله تعالى، وأنّه لا يُحيط بالعِلم إلا الله،
نسْعى لِنعْلم أنّنا لا نَعْلمُ
من أعظم من علّم الله من خلْقِه:
العِلمُ لله: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ..(15)) أبداها وأنشأها وهيّأها، هل شيء من القُوى شارك معه؟ هل شيء مِن الحضارات؟ هل شيء من الدول؟
(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا ..(15)):
وكان بشير بن كعب يقول لجارية عِنده: إن عرفتِي معنى (مَنَاكِبِهَا) أنتِ حرّة. قالت له: هي الجبال، وفي قول: إنّها الجوانِب والنواحي، وقول: إنها الجبال- فجاء يسأل العُلماء الآن ما المُشكلة مع الجارية؟ -وهو لا يريد مُفارقتها- فبعض أهل العلم قالوا له: ليس معناها الجبال، والبعض الآخر قالوا له: معناها الجبال، - قد خرجت من مُلكك- فذهب يُشاور سيدنا حُذيفة سأله أو سيدنا قتادة رجع إليه -من الصحابة-، قال له: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، وهذا واحد من الأقوال التي يُفسّر بها المناكب -أخرج عمّا يريبك إلى ما لا يريبك، ابعد عنها-. وهكذا أرشده؛ وهذا فتاوى الأتقياء الصالحين، والذين ربتهم يد محمد ﷺ، يشفقون على الناس ويجرون بهم مجرى الاحتياط والحذر والورع حتى لا يخسروا.
قال: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا ..(15)) وبذلك جاء أسفار المُسافرين وتجاور المُجاورين ممّن صحّت نياتهم، وقد كان في القرون الماضية عند المؤمنين لا يعرفون السائحين في الأرض إلا أصناف من الأصفياء والأولياء والعُلماء والمُتقرّبين إلى الله -تعالى- يُسمّونهم "سُوّاح" كانوا يُسافرون لتزكية النفس، لطلب العِلم، و للقاء الأخيار والأكابر، فهؤلاء الذين كانوا يُعرفون بالسُوّاح إلى أوقات قبل حضارتهم هذه.
والآن السُوّاح أصناف، كل قذر وكل وسخ وكل صغير وكل كبير.. بأي غرض وبأتفه شيء، ولأنواع الشُرور هم سُوّاح، ملأوا الأرض .. مُكشوفين .. مُبهذلين؛ سُوّاح، خمّارين شاربين؛ سُوّاح، وكلها الدنيا سُوّاح -ولاحول ولاقوة الا بالله-، ولاينقطع في الأمة السائحيين بالخير والذين لا يُسافِرون إلا بالقصد الحسن إلى المكان الطيب وهكذا.
و أصل السياحة في الأمّة: الصوم والجِهاد في سبيل الله، وهي مُراده بقوله: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ) [التوبة:112] أي يجاهدون في سبيل الله ويكثِرون الصوم، الصوم سياحة لكن بالروح والفكر، لمّا تضيق مجاري الشيطان فيك تسيح روحك، وكانوا يعدّون الصوم سياحة، والجهاد في سبيل الله سياحة.
يقول: (افَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا ..(15)) امضوا في الأرض:
(فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ..(15)) كُلُوا مِن رزق الذي قدّر فيها أقواتها، والذي هيىأها بِكُلّ ما تحتاجون إليه؛ طعام، شراب، غذاء، لباس؛ كله موجود مِن الأرض، كوّن لكم الكوكب وكل ما تحتاجونه فيه -سبحانه عز وجل-؛
كل حاجات الإنسان موجودة عنده، لا يحتاج أن يذهب الى كوكب آخر، فقط في شيء من الفضول والزهو بالنفس، وإلا كل ما تحتاجه لتعيش حياتك قويمة سليمة موجود في نفس الكوكب الذي خلقك الله فيه -سبحانه عز وجلّ- وزودها بكل ما يحتاجه الإنسان.
يقول: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ) برؤيتكم الصحيحة للواقِع، اعْلموا أن لكم مرجع إليه، بدأكم وترجعون إليه، (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ): (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ۖ ذَٰلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ) [التغابن:9] ويوم القيامة ويوم الواقعة ويوم الحاقة إليه، (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) -جلّ جلاله- (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)).
وهكذا يُذكِّرُنا الله بالحقائق العظيمة يقول: (أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16)) أنتم ترون ما يُحدث من الزلازل، ما يُحدثه -سبحانه تعالى- من الانفجارات في الأرض، ما يُحدثه من البراكين، انظروا كيف يعمل! وكيف تأمنوا أنّه يخسف بكم الأرض؟! الواحد منكم فقط يخاف إذا قالوا: أن هناك جماعة يتابعونه، أو فريق سيقتلونه! في أي وقت أنت إذا أراد، يُحرّك الأرض من تحتك، يُنزل شيء فوقك، يُسقطك من هنا، ستذهب في أي لحظة، ليس شرط أنّه فريق آدمي يتابعونك، أنت في وضعك وحالك عُرضة لكل هذا، لكنّك تنسى، لما يجيء لك أحد من مثلك؛ بشر يترصّد، تقول: كيف أعمل؟ يبدأ يتذّكر الآن، أنت في كل لحظة مُعرّض أن تنقطع نياط قلبك، فأنت في كل ساعة؛ من الأرض، من السماء، من جنب، من قلب، من عين، من رأس، من وريد من أي شيء يأتيك في أي وقت، القادر فوقك، لا إله إلا الله.
يقولُ: (أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا) ريح فيها حِجارة ورِمال (أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ۖ فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17)) إنذارت الحق وتخويفاته ووعيده ستعلمونه وسينكشف لكم حقيقته عند ذاك، وعندما يصل أحدكم إلى مصيره وغايته، لا إله إلا الله، وهكذا يُذكّرنا الحق بهذه الحقائق.
الله يجعل لقلوبنا إنابة وخشية وحسن نظر وفقه عنه -سبحانه تعالى- فيما أوحاه، واستعداد للقاه إنه أكرم الأكرمين، بارك لنا يا رب في بقيّة رمضان وارزقنا فيه حسن الاستعداد للقائك، نخرج من رمضان بنور تقوى، نستقيم به على المنهج الأقوى في السِرّ والنجوى حتى نلقاك وأنت راضي عنّا برحمتك يا أرحم الراحمين وجودك يا أجود الأجودين.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
25 رَمضان 1440