(535)
(339)
(363)
تفسير الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الملك، من قوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)).
﷽
(الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ۖ مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَاوُتٍ ۖ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ ۖ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5))
الحمد لله مُكرِمنا برمضان الذي أقبل على الرحيل، ونقص الأيام ومعنا زبدته في هذه العشر وياليته يبقى، ولكن لا سبيل لنا إلاَّ للاغتنام ما أتاح الحق لنا.
كان بعض مشايخنا يعمل درس في رمضان بعد الفجر بعد الأذكار إلى أن تطلع الشمس، ويقول إنه مِن أعظم الدروس، ويندر في العالم وجود مثله؛ لأن أكثر الناس في هذا الوقت ينامون بعد صلاة الفجر في رمضان، وببركته يسَّر الله لنا هذه المجالس كُنْا نحضر عنده ما بين العشرة وخمسة عشر والعشرين ونجلس حتى تطلع الشمس ونُصلي، فالآن يسَّر الله لنا المجلس المُبارك بِعشرات وعشرات ومئات، اللهم لك الحمد والله يتم النعم وينمي الخير في الأمة ويضاعفه.
الحمد لله مولانا الملك الحي القيوم الباقي الصمد الفرد الذي ليس كمثله شيء، أحاط بكل شيء علما وأحصى كل شيء عددا وخَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَنا أَيُّنا أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ.
نشهد أنه الله الذي لا إله إلاَّ هو وحده لا شريك له، منه مبتدأُ كل شيء وإليه منتهى كل شيء، ونشهد أنَّ سيدنا ونبينا وقرة أعيننا ونور قلوبنا محمداً عبده ورسوله وحبيبه وصفيه وخليله ختم به النبيين وجعله سيد المرسلين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين وأكرم الأولين والآخرين عليه -جلَّ جلاله وتعالى في علاه- وجعله المأمون الأمين، اللهم صلِّ وسلم وبارك وكرِّم على جامع الأسرار، معدِن الأنوار سيدنا المختار محمد بن عبد الله، الرحمة المهداة والنعمة المسداة وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار ومَن على سبيلهم ومنهجهم سار على ممر الأعصار وعلى آبائه وإخوانه مِن الأنبياء والمرسلين أهل المراتب الرفيعة الكبار وعلى آلهم وصحبهم والملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين ذوي الأنوار وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا كريم يا عزيز يا غفار.
وبعد،،،
فإننا في توالي نِعم الله علينا في تأمّل آياته في بكُورات وغدوات أيام الشهر الكريم الذي لم يبقَ معنا إلاَّ خاتمته وأواخره في هذه العشر التي كان نبينا فيها كثير الاجتهاد، عظيم العِبادة، حاضِر الفؤاد، مع الرَّب -جلَّ جلاله- كثير المُناجاة، وله دمعات مِن عينه تخرج، وله سجدات مع الرَّب طويلة، وله سؤال فينا ونحن في بركة ما سأل بارينا، نقطف مِنها هذه الثمار فيما خاطب فينا الجبّار أن يُبْقيَ فينا هذا الخير على الاستمرار، فجزاه الله عنّا مِن نبي ورسولٍ ومُبلِّغ ومُعلِّمٍ وناصِحٍ ورحيمٍ ورؤوف وشفيق؛ خير الجزاء وأفضل الجزاء وأعظم الجزاء وأتم الجزاء بما هو أهله، وبما ربه تعالى أهله.
وصلْنا في أوائل سورة المُلك وتأمّلنا بعض معاني قول ربنا:
(تَبَارَكَ ..(1)) الذي يزيد في كلّ وقت ولمحة إنعامه وإفضاله وإحسانه وجلاله، يزيد في كلّ لمحة ونفس على العِباد؛ تجلّيه وهدايته وإكرامه وفضله، (تَبَارَكَ).
(تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ..(1))،
بااحلف يمين قطَّاعـــة *** ما حد يحرك باعة
في معصية أو طاعة *** إلاَّ إن حركهـــا الله
(تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) ورأينا صور المُلك الظاهري والحقير والزائل، وصور المُلك الرفيع الشريف الدائم، ولكن كلها بيده، فالمُلك له وحده على الحقيقة.
(تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ..(1))، ورأينا غرور الناس بالمُلك القصير والحقير على هذه الدنيا وتقاتلهم على ذلك؛ منهم على أرض، ومنهم على بترول، ومنهم على صناعة ومصانع؛ يتقاتلون، وكله مُلك صوري زائل منقطع، وما أشد غرورهم في هذا! على الشهوات، على الأموال، على السلطة، كل النزاع الحاصل بين الناس في الدنيا، أيعقلون؟ لو يعقلون ما كانوا هكذا، ولكن أكثر الناس لا يعقلون.
وفي الذين لا يعقلون مَن يوصف؛ بالمفكِّر، والمخترِع، والصانع، هل هو لا يعقل!! العقل غير متمكن فيه، لا يعقل حقيقة الخلق والوجود، والمصير، والنهاية ما يعقل! ما يعرف لِم خُلق بالضبط! أكثر الناس لا يعقلون، فهم في غرور، وسيأتي معَنا في الآيات: (أَمَّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَٰنِ ۚ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) [الملك:20].
لكن يتألم القلب أكثر لما يحصل مِن المؤمنين مِن الناس، مسلم هو ولكنه مثل الكافرين مغتر بغرورهم: (إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) [الملك:20]، ليس المؤمنين؛ عيب مسلم يشبه كافر في الغرور! بالزائلات والفانيات، ويظن أنه له جُند يُنصر مِن دون الرحمن:
في غرور الناس، كل ذي عقل لا يعرف قدر هذا الكلام عن الحق والدار الآخرة؛ فهو مغرور بالإطلاق، تعرف بالإطلاق؟ يقع في الشرق، يقع في الغرب، يقع عربي، يقع أعجمي، يقع رئيس، يقع مرؤوس، الذي لا يعرف قدر هذا الكلام في عظمة الله والدار الآخرة مغرور، وفي هذا الغرور ذكر الحق:
وبعد ذلك قال: إن المغرورين هؤلاء أكثر الناس في كل زمان (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ) -والنتيجة واحدة ولا يعتبرون- (فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَٰنِ ۗ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِم مُّعْرِضُونَ * أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِّن دُونِنَا) [الأنبياء:41-43]، لا إله إلاَّ الله.
(تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1))، قدرة مطلقة لا يعجزه شيء: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) [يس:82]، ومعنى أن يقول (كُن) أي يريده.. يريده، فعبَّر عن الإرادة بـ (كُنْ) كاف ونون، إنما يقول له (كُنْ فيكون).
(الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ ..(2))، وذكرنا أنواع مِن الحياة، كذلك موت الاجساد، وموت القلوب، والحياة النكدة التي لاهي حياة طيبة سليمة، ولاهو موت يسكن صاحبه مِن العذاب: (لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ) [الأعلى:13]، يعني لا حياة طيبة رائقة سليمة، ولا موت يسكن فيه وينتهي مِن العذاب -لاحول ولا قوة إلاَّ بالله- وكله خلقه -جلَّ جلاله-.
(الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ ..(2))، والموتُ والحياة بالنسبة لنا أمر معنوي نرى آثاره؛ صفتان تتعاقب على الأجسام الحيوانية، فيها:
كان يتحرك فاصبح لا يتحرك، كان يبصر ما يبصر، كان يتكلم ما يتكلم، يصير مثل الجماد -الله-.
وهذا الموت والحياة معنويان، ونرى منها آثار حتى فيما يُعبر عنه بالحياة في الجمادات -وما ذكرنا في الأمس- في النباتات وما إلى ذلك،
والناس في عالم الآخرة يعرفون المعنويات ويشهدونها كما يشاهدون الحسيات في الدنيا، هم في الآخرة يشاهدون الأعمال التي قد مضت معنوية؛ هذه الصلاة، هذا الصوم، هذه الزكاة، هذا الكذب، هذه الخيانة، هذه قطيعة الرحم؛ يُشاهد. المعنويات تصير مشهودة مِن جهة الموت، يشاهِد، بمجرد ما تقع عيونهم على ذلك الكبش الذي جعله الله حاملًا للأمر المعنوي الذي هو الموت يحسون أن هذا هو الموت، فيتمناه أهل النار ويهتز أهل الجنة، ما هذا؟! هل تعرفونه؟ يقولون: نعم هذا الموت، ويقال: يا يحيى تقدَّم، فانحر هذا الكبش، سيدنا يحيى يأخذ المُدْية ويذبح، وبذبحه لذلك الكبش -الخروف- يُبعد الله إرادة الموت لأحد مِن أهل الجنة ومِن أهل النار، انتهى، لا يريد الله أحدا منهم أن يموت، لا يكون هناك موت.
ويحيى هو الذي يذبح الموت؛ لأنه أُميت في الله، مِيِتةً شنيعة، وُضِع المنشار على الشجرة وهو فيها حتى جاء الى رأسه، وشُقّ نصفين بالمنشار، وكان هو الذي يأمره الله بذبح الموت، وفيه اسم يحيى بمعنى الحياة، فلا تمر على أهل الجنة ساعة أسرَّ لهم منها، عندما يُنادى: يا أهل الجنة خلودًا فلا موت، قد قضى الله أن ينتهي الموت، ولم يعد أحد يموت؛ لا مِن أهل الجنة، ولا مِن أهل النار، بهذا التمثيل الذي يعطيهم إياه: "يا أهل النار خلودًا فلا موت"، فلا تمر بهم ساعة أشد عليهم منها؛ خلودًا فلا موت.
(خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ ..(2))، ولنطلب المراتب الرفيعة في الحياة، ولنستجب لدعاء مَن أؤتمن مِن قِبل خالق الموت والحياة أن يحيينا حياة القلوب والأرواح: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)، هل تريد أن تحيا؟ تريد أن تحيا؟ محمد أمامك أوامره، إإتمرْ بها، ونواهيه انتهِ عنها، واحرص على سنته؛ إذا أنت حي؛ حي القلب، حي الروح، حياة كريمة، حياة طيبة، حياة رفيعة، حياة شريفة؛ (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) [الأنفال:24]؛ ولذا يقول الإمام الحداد:
بحرمة هادينا ومحيي قلوبنا *** ومرشدنا نهج الطريق القويمة
(خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)) ننظر في خلق الموت، الإنسان مثلًا بعد أن يحييه رتَّب أسباب مِن عنده، قبل أن يوجد مخترع، قبل أن توجد تكنولوجيا، قبل أن يوجد دول تتكلم على أسباب الموت سواء: ذبح، أو فقدان تغذية، أو أي سبب يتصل بجريان الدم، أوبشان القلب، أوبشان الكبد، هو رتبها. فقل للمتقدمين المتطورين: اتركوا هذه الأسباب التي رتبها الحق، هاتوا موت من غير هذه الأسباب، موِّتوا واحد مِن دون هذه الأسباب: لا تضربوه برصاص، ولا تذبحوه بسكين؛ هذه أشياء الله رتبها مِن قبل أن تأتون أنتم! أنها تقتل.
اتركها، نحن نريدكم أن تأتون بموت فقط مِن دون هذه، لا يقدرون يُحْدثون شيء جديد، الذي جعله الله سبب قبل أن يخلقوا هو سبب، غير هذا لا يوجد، ولو كان تخويف، ولو كان غيره، أسباب جعلها الله مِن قبل أن يخلقوا هم، لكن الآن لم نطلبهم بموتهم، طلبناهم فقط بسبب آخر للموت لم يقدروا عليه؛ إلاَّ الأسباب التي وضعها المميت -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-.
وهكذا،، فيقول: هاتوا لنا سبب آخر يحيي لنا الشجر، مثلا النمو في الهواء مِن دون تراب مثلا، نريد شجرة، نحن في عصر حديث الآن، الناس تقدّموا وتتطوّروا، نحن مازلنا نستخدم التراب طول العمر؟! نزرع في التراب، ونأتي بالتراب ولا يوجد غيره! نريد شجرة بلا تراب، بلا ماء، وإن كان تأتون بمكان لايوجد فيه هواء؛ فهو أحسن.
ما بيدهم شيء أصلًا، أسباب وضعها ويمشون وراءها ويقولون: اكتشفنا .. اخترعنا؛ (هَٰذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ) [لقمان:11]، الله .. الله -جلَّ جلاله- (حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ* إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [الجاثية:1-5]، مَن رتبها؟ مَن كوَّنها؟ مَن؟ (هَٰذَا خَلْقُ اللَّهِ) [لقمان:11]؛ (تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ۖ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ) [الجاثية:6].
(تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) أنزه، أتقى، أخلص، أصوب، أطيب، أحسن حضورًا، أكمل زهادةً؛ (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) ولا يقوم حُسنٌ في العمل حتى يقوم على علم، وعلى تقوى، وعلى متابعة، في هذا كان يقول الإمام عبد الرحمن السقاف عليه رضوان الله تعالى:
كيف يمكن أن يكون أحسن عمل؟ عالِم عامل مخلص مقتدي، ورع، (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)، (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)) -جلَّ جلاله-.
أهان الله فرعون، ويتبعونه قومه، (يقدُم قومه يوم القيامة فأوردهم النار) أرأيتَ كيف هي المهانة؟! (وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ)، وكيف وقع حالهم؟ ما مِن عز حصلوا؟ (وَأُتْبِعُوا فِي هَٰذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) [هود:98-99]، يا الله.
وهكذا،، والنمرود كذلك وقال: انا احيي واميت، وسيدنا ابراهيم وقف أمامه مباشرة، يا نمرود وقال: (فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ) [البقرة:258].
يا مغترّ بالأشياء التي أتيْتها مجازاً، نسبياً، سأكلّمك؛ أنت تدَّعي أنك إله مثل إلهي! إلهي يأتي بالشمس كل يوم، طالعة مِن المشرق، هات أُلوهيتك وغدًا هاتها مِن المغرب (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ)، بُهت، كل كافر يُبهت لمَّا يذكر الحق، (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [البقرة:258]، (وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ) [الأنبياء:70]، الإهانة تتبعهم؛ جموع ونيران، وأعدَّ لها العُدد، وأدخل إبراهيم وسطها ولا يُحرق إبراهيم، ويخرج حي حتى قميصه أبيض، ما هذه الإهانة؟!.
مرت الأيام على النمرود وجاءت له بعوضة ودخلت أذنه أو أنفه، يريدونها أن تخرج ما تخرج، وألم .. صياح. لايوجد شئ يُفَِتِّر لهذا الألم، لا شيء في قدرتهم لتخفيف الألم إلا بالدقّ، يأتون بطرف النعال يدقونه، يسكن الألم قليلا، يخف الألم قليل. رأيت المهانة كيف؟
وذاك في الماء يطلع وينزل، (قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ) [يونس:90]، وصاحبهم قارون انخسف في الأرض (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ) [القصص:81]، فما هو العز عند هؤلاء؟!
(وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ)، من يهن الله فماله من مكرم، وكفار زماننا الذين يعادون الرسالة وقد بلغتهم مثلهم؛ (وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) [الحج:18]. اللهم أعزنا بطاعتك، أعزنا بمحبتك، أعزنا بمتابعة نبيك، (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) -والجهل بهذا نفاق- (وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [المنافقون:8]، الجهل بأنّ العزة لله والرسول والمؤمنين نفاق، المنافقون لا يعلمون، المؤمن يعلم أن العزة لله ولرسوله والمؤمنين.
يقول: (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ..(3))، فكل مَن يطلبنا نترك شيء مِن دين الله ونتبعه، نقول له:
ما خلق شيء (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الزمر:62]، (..أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ..) -أروني، أروني- (..أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ) [الأحقاف:4]، لا خلقوا شيء مِن الأرض، ولا لهم شرك في السماوات. طيب، عرفنا هذا إن الله الذي خلق، نترك أوامره مِن شأنكم، لماذا؟! لماذا؟! ليس لكم حق تتألهون علينا! تستعبدوننا؟ (اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ) [الشورى:36]، (..لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا ۖ فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ ۖ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا) [ طه:72-73]، لا إله إلاَّ هو، إنا آمنا بربنا.
(الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ..(3))، طباقًا؛ جمع طبقة، طبقة فوق طبقة فوق طبقة، بين كل سماء وسماء مسافة خمسمائة عام، غُلظ كل سماء مسافة خمسمائة عام طبقتها، طبقة فوق طبقة.
(خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ۖ مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ ..(3)) السماوات الخاصة وبقية أجزاء الوجود (مِن تفاوت) مِن عدم اتساق وانتظام في نظام واحد، يقول سبحانه وتعالى: (لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [يس:40]، يسبحون ولكن في نظام وترتيب:
فبالنسبة للسماء (فَارْجِعِ الْبَصَرَ ..(3)) فيما علا فوقك، جهة السماء، وكلما علا يطلق عليه سماء في اللغة، وإن كان بصرك لا يصل إلى طبقات السماوات، لكن بينك وبين السماء فضاء واسع فيه عجائب يكفي، أنظر إليه، انظر ارفع رأسك وانظر أين الخلل، هات. أين النقص؟ اين الفجوات؟ أين الشقوق في الكواكب والنجوم أو في الأجرام؟ هل يوجد شق؟ خلل؟
(فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ (3)) مِن خلل؟ مِن شق؟ مِن تزعزع؟ أنظر هل يوجد فُطور؟ (هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ)، هيا فكِّر، وأمعن نظرك وانظر: (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ (3))، -لا إله إلا الله- (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ)، مرة بعد أخرى (يَنقَلِبْ) -يرجع- (إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا)، لا يقدر أن يحصل على خلل، فهو ذليل، (وَهُوَ حَسِيرٌ (4))، كليل عيي (..يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4))، لا يحصل شي نقص، ولا يحصل ما يُبحث عنه مِن خلل أبداً.
(فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ) -يرجع وهو حسير- (خَاسِئًا)، غير ظافر بشيء مما أراده، (وَهُوَ حَسِيرٌ (4)) عيي كليل. الله.
(فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4))، أولاً: ينظر للسماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج، شقوق. كم مضى على السماء؟ نريد أن نعرف مع التقدم الآن: ما هي الشركات التي تتولى صيانتها؟ شركات تتولى صيانتها! تذهب تعمل صيانة لنفسها، هذا سقف عالي قوي مائتين سنة، ثلاث مئة، ألف، ألفين، مليون، مليار سنة مِن دون صيانة؟! ما يسقط؟! ما يتشقق؟! ما يضعف؟!
كان يتعجب بعض الذين أخذهم نوع مِن الفطرة والعقل الإنساني وهو نصراني، كان يقول: يتعجب في الناس الذين يستغربون من المعجزات ويستغربون من كرامات الأولياء يقول: الذي هم عايشين فيه مِن الوجود؛ كله معجزة، كله معجزة: هواء، دم، أرض، سماء؛ كله معجزات آيات غريبة، كيف يتم؟ كيف يكون؟ قال: كل عاقل يعرف أن القدرة التي أقامتها ليست عاجزة أن تضيف شيء أو تحذف شيء منه، فمن الذي يحصل مِن الأشياء التي لا تعتادها تستنكرها! الذي تعتاده هذا كيف هو؟!
هيا قل لي: أنت كيف تسمع؟! معقول؟! تسمع كلام هذا الذي كلمك الآن؟ بأُذن كذا فيها صماخ وغشاء وطبلة، تسمع؟! كيف تسمع؟! لِم لا تسمع بأصبعك؟ لِم لا تسمع ببطنك؟ مِن هذا المكان الصغير تسمع؟! كلام كثير، نصف ساعة ونحن نتكلم وأنت تسمع؟! أين الزر الذي يُشغِّله؟! وهل يشتغل بكهرباء أم بغاز؟ بطاقة شمسية؟ كيف تسمع؟ وعلى طول مستمر؟ آية مِن الآيات، وينسى! عادي عنده، هذه آية من الآيات؟! والذي خلق السمع هذا، بعد ذلك قال لك واحد أمر غريب في بلدك، حصل أقل مِن عظمة السماء يقول: لا، مش معقول، مش معقول بغينا مصحة للعقول، اذهب وداوِ عقلك.
إذا ما عقل عقلك عظمة الذي كوَّن هذا الوجود أمامك وعرفت أنه له القدرة المطلقة وهو على كل شيء قدير -جلَّ جلاله- فكيف تستغرب؟! والناس كان بعقولهم يستغربون، لو أحد قال أيضًا ان أحد يسمع مِن مسافة بعيدة! يقول: لا مش معقول هذا، الآن عندهم النت، وهذا معقول كيف؟ أمس ليس معقول واليوم معقول! عقلك أنت يحتاج تصليح،
لا تقول لشيء معقول أو غير معقول، الناس الذين لا يؤمنون والكفار وأمثالهم مِن مئات السنين وسنين يقول لك: غير معقول أن واحد يتكلم في حضرموت ويسمعونه مِن أمريكا، من أين هذا؟! غير معقول، ما كان موجود تليفونات، ولا الأقمار الصناعية، ولا كان موجود تلفزيون، ولا كان.. والآن معقول! أمس غير معقول واليوم معقول! ما العقل هذا؟! أنا أريد عقل يعرف ما المعقول، فقط كلام واحد، هذه العقول.
سيدنا عمر وسط المنبر في المدينة المنورة: "يا سارية الجبل"، وذاك في نهاوند ويسمع صوت، هل هذا معقول؟! أو ليس بمعقول! عند عمر معقول، عند الصحابة معقول، لكن ماذا نصلح في عقلك أنت؟!
أمس غير معقول واليوم معقول، صلَّح عقلك، خلِّ عقلك يعرف بالضبط ما هو المعقول، وما ليس معقول. سيدنا علي كان حاضرا في الجمعة، وسيدنا عمر في خطبة الجمعة يخطب، الذي بجانب سيدنا علي يقول: ما بال أمير المؤمنين؟! ضحك سيدنا علي قال له: إنه سيرجع، سيكمل الخطبة، أكملَ الخطبة، وهابوا يسألونه، حتى قدِم الجيش مِن نهاوند وسارية فيها، يخبرونهم الخبر، قالوا: كنا في يوم الجمعة في المعركة ودار جماعة مِن الكفار علينا مِن ورائنا، كانوا سيخرجون علينا مِن الجبل ويقضون علينا، فما شعرتُ إلاَّ بصوت عمر يخرق مسامعنا يقول: يا سارية الجبل.. يا سارية الجبل، فالتفتُّ فرأيت العدو، فقاومتهم ونصرنا، فهمتوا ماذا قال؟
سيدنا أبو بكر صاحب العقل، عقل عنده، قالوا له: هل تصدقه أنه ذهب إلى بيت المقدس ورجع في ليلة واحدة! قال: "أصدّقه فيما هو أعظم مِن ذلك" رأيت عقل أبو بكر؟! ماذا قال؟ "يأتيني بخبر السماء في العشية" أخبار تجي غدوة وعشية مِن السماء، أيهما أقرب؟ السماء أو بيت المقدس؟! قال: "يأتيني بخبر السماء كل صباح، وكل عشية" أنا مصدِّقه في ذلك، هذه العقول.. هذه العقول.
أما عقولهم! بعدما يجيء اختراع جديد تُصدِّق، بعدما يجيء اختراع جديد تُصدِّق، نحن قد عرفنا بمعرفتنا بالله طلاقة قدرة الخلَّاق.
جاءوا مرة يتكلمون عند النبي وذكروا قصة ذئب يتكلم، قالوا: "سبحان الله ذئب يتكلم؟! النبي قال: إني أؤمن بهذا أنا وأبو بكر وعمر"، ولم يكونا في المجلس ما كانا في المجلس. قال: "أنا وأبو بكر وعمر نؤمن بهذا"، أي أن مستوانا في الإيمان والعقل والمعرفة تجعل هذا الشيء عندنا داخلا في حيز القدرة قريبا مِن الله
قالوا: (أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) [فصلت:21]، هل هو لا يعرف أن يجعل إلا آدمي يتكلم أو جني؟! وإذا أراد السارية تتكلم تتكلم، إذا أراد الكتاب أن يتكلم يتكلم، إذا أراد الاصبع يتكلم يتكلم.
في القيامة: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَا) [يس:65]، (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا ۖ قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) [فصلت:21]، -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-. هكذا.
(وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ )، هذه السماء التي لم تجدوا فيها عيبا، بل بالعكس تجدون بهاء وجمال وحسن في خَلْقنا. (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ ..(5))، ترَونَ آثار النجوم أمامكم، والإنسان -بعينه البصرية و بنظره المعتدل- قد يصل إلى إدراك خمسة آلاف نجم، وإذا أضاف إليها التلسكوب..فإذا هو عالم كبير، زينة مرتبة ومنظمة. لا يصطدم في واحد -لا اله الا الله- فالذين يتخاصمون هؤلاء، هم بعض الحيوانات، والذين أعطاهم الاختيار هؤلاء مِن بني آدم والجن هم الذين تحصل بينهم مضاربة، أما الكون فهو يمشي بنظام لا يوجد شئ يصطدم فيه- لا إله إلاَّ هو جلَّ جلاله-.
وهكذا يأتي معنا إن شاء الله بيان بقية السورة البديعة العجيبة الغريبة العظيمة. سورة المُلك التي جاء عن عائشة فيها أن النبي ﷺ ما كان يتركها -سورة الملك- يقرأها كل ليلة قالت؛ في السفر والحضر، بل ما كان ينام حتى يقرأ سورة السجدة وتبارك ﷺ كل ليلة -صلى الله عليه وصحبه وسلم- ولمَّا حدّثهم مرة عن فضلها قال: لم يبق معهم صغير ولا كبير حر ولا عبد إلاَّ حفظ سورة تبارك.
جعلنا الله مِن أهلها، وجعلها مانعة لنا، ومؤنسة لنا، ولا نرى وحشة قبر، ولا عذاب قبر، ولا عذاب آخرة. إنه أكرم الأكرمين.
وبارك لنا ولكم في بقية هذا الشهر الكريم، والله يُعوِّضنا عن المصاب فيما فقدنا مِن الأيام، وفيما قصرنا في الليالي الماضية والأيام الماضية، وبقي القليل معنا الله يغنِمنا إياه، ويرزقنا سبحانه وتعالى تداركه، ويرزقنا سبحانه الفوز فيه، ويرزقنا اغتنام فوائده وموائده، وجوده على أهلِهيه فيه. اللهم وفر حظنا مِن رمضان وأيامه ولياليه، واجعلنا عندك مِن خواصِ أهليه، اجعل كل يوم لنا خير مِن اليوم الذي قبله برحمتك يا أرحم الراحمين وجودك يا أجود الأجودين.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
21 رَمضان 1440