(535)
(363)
(339)
يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير قصار السور، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم من العام 1437هـ.
﷽
(كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَٰذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21))
الحمدُلله ربِّنا وإلهنا المُتوالية عطاياه، المُتتابعة مُنوحاته وفُتوحاته وهِداياته وهداياه، لا يُستطاع حصْر ما أعطاه ولا عدّ ما أنعم به وأسْداه، أرسل إلينا عبده المُجتبى مُصطفاه محمد ابن عبدالله؛ فهدانا إليه ودلّنا بإذنه عليه، اللهم فأدم الصلوات والتسليمات مِنك عنّا على حبيبك الأسنى، سيدنا محمد وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار ومن سار على سبيلهم ودربهم في الحسِّ والمعنى، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين معادِن الفضل والسّنا، وعلى آلهم وصحبهم وعلى الملائكة المقربين، وعلى جميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك ياأرحم الراحمين.
وبعد..
فمع تسارُع انتهاء الأيام والليالي، نرجو أن نُثبَت مع من يُسارع إلى مولاه؛ طلبا لرحمتِه ورضاه باجتماعنا مُتأمّلين مُتدبّرين خطابه تعالى وتعليمه وإرشاده على لسان خير عباده، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وأهل وِداده،
نُواصل اجتِماعنا لهذا التأمّل ليكون حبل توصّل، إلى ما يكون به حقيقة التجمّل، في يوم لقاء الحق عزّ وجل، ونتدبّر ونتأمّل معاني الكتاب العزيز، وقد مررنا على معاني في سورة المطففين، حتى ذكر الله -تبارك وتعالى- لنا أخبار من تنكّب واعتدى وأثِم وكذّب بيوم الدين، وأنّهم وصلوا إلى ذلك الحِجاب وتلك الخَيْبة بِعدم ظهور الحقيقة لهم؛ بكسْب الذنوب وارتِضاءهم بالمعاصي،
يقول جلّ جلاله: (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم) -غلب على قلوبهم، غطى- (مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)) من الذنوب والسيئات.
وعلمنا أن الذنب لا يكون إلا في حالة شُغْلٍ عن الله، والشُغْل عن اشْتِغال بغير الله وفي ذلك ظُلمة، فإذا أَلِفها الإنسان، فكلّما أكثر من عمل ساد عليه وطغى عليه أثر ذلك العمل، فكاسِبوِّ الذنوب تطغى الظّلُمة عليهم حتى تُظْلِم قلوبهم، -أعاذنا الله- وتصل إلى الرّان، ومنها بعد ذلك إلى الطّبع؛ أن يُطبَع على القلب، وبعد ذلك أن يُقْفَل والعياذ بالله -اللهم أجرنا من مُظلّات الفتن وموجبات الحسْرة يوم الوقوف بين يديك-.
يقول: (كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ (15)) أهل كسْب الذُنوب، أهل الرّان على القُلوب مُهددون بالقُطعان والهِجْران والحِجاب عن الرحمن، ومهما حُجِبتَ عن أي شيء، فيمكن تجِد العِوض عن ذلك وتجِد الحلّ لكن إذا حُجِبت عن الله، فمن لك؟! إذا حُجِبت عن ربك فمِن لك؟! من لك؟ فهذا أشد شيء هُدّد به أهل الذنوب، هدّد به أهل الرّان على القلوب، ومنهم المُتمادون في التطفيف في الكيل والوزن، (كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ) محجوبون عن ربهم لا نصيب لهم من قُرْبِه ولا رؤيته -جلّ جلاله-.
وبذلك جاء عن الإمام مالك بن أنس وعن الإمام الشافعي، إمامان من أكابر أئمة دين الله تعالى وخواص أعلام أهل السُنّة؛ أنَّ في هذا دليلٌ على انْكِشاف الحِجاب عن المؤمنين، فإذا كان الفجّار محجوبون فإن الأبرار غير محجوبين، فهم يُمتّعون بالنظر إلى وجه الله الكريم، كما جاءت به الأحاديث الصحيحة، ثم إنّ مِن الفِرق المُنكِرة لرؤية الله تعالى لاختلاط ذلك عليهم لمُقتضى لا ينتهي إليه العقل أن المرئي:
والرؤية بهذا المعنى منْفيّة، منْفيّة لا تصح بالنسبة للحق -تبارك وتعالى- لا في الدنيا ولا في الآخرة، حتى عند أهل السنّة، و الرؤية التي أثبتوها هي الرؤية التي أثبتها رسول الله، وأرادها رسول الله، وقصدها الرسول ﷺ في قوله: "إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ" وأُخذ ذلك المعنى الذي تحدّث عنه النبي من آيات نزلت عليه، منها (كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ (15))،
وذلك أن تفسير (كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ (15))؛ محجوبون عن رحمته، مُهانون بِعدم الإذن لهم بالدخول على الربّ، تأويلٌ بغير دليل؛ خروج عن ظاهِر الكلام بغير دليل، ولكن نقول لهؤلاء: إن الرؤية التي تتخيلونها هي عندنا أهل السنة أيضا منْفيّة، لا رؤية للحق تعالى فيها جِهة ولا فيها تكْييف ولا فيها تصْوير، لكن التي أرادها الحق ورسوله هي التي نُثْبِتها كما أثبتها الله ورسوله، وذلك معنًى قويم صحيح، في الرؤية لا يختلط بشؤون الرؤية التي نُعطاها في هذه الدنيا.
ولذلك طلب الرؤية من شدة شوقِه مُتعجِّلا سيدنا موسى في الدنيا، فلو كانت الرؤية مُستحيلة ومُمتنِعة ما كان يجهل ذلك النبي كليم الله: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ) [الأعراف:143]، يعني إلى هذا الحد والمُستوى بعد مُرور سيدنا موسى بالمراحِل هذه كلّها في عُمْرِه وتنْبئةِ رسالته إلى هذه المُكالمة، ولا يزال يجهل وصف من أوصاف الله؟! أعوذ بالله من ذلك.. ما كان يجهل من الأوصاف التي يجب معْرِفتُها على المُكلّفين شيء -عليه السلام- (قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ).
ولكن الحق لمّا أن جعل هذا العطاء العظيم الواسع مُخصص للآخرة، ويُهيئ له المؤمنين بتنشئتهم تنشئة أخرى قال: هنا لا يحصِل.. ولكن (قَالَ لَن تَرَانِي وَلَٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) [الأعراف:143]، كشف حِجابا مِن سبعين ألف حِجاب مِن عظمته عن الجبل فانْدكَّ الجبل (فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا) [الأعراف:143]؛ ولهذا المعنى أيضا جاء في الخبر عن نبينا "أن دون الحق تعالى سبعين ألف حِجاب لو كشف حِجابا منها لأحرقت سُبُحات وجهه كل شيء تُرِى بصره" وهذه الكائنات كُلّها لن تثبُت.
فإذاً، فتلك القوة لم يُمد بها أحد قبل الآخرة إلا محمد في ليلة الإسراء والمعراج، وكانت من دون أن يطلُب؛ لتُمكّنه، وهو أشد شوقا من سيدنا الكليم موسى ولكنّه أمكن مِنه فلم يطلُب، فأُعطي من دون أن يطلُب، ثم قيل له: مُرّ على الطالِب قبلك -موسى- الذي لم يتمكّن ليرى من رأى، قال: "فجعلتُ أرجفُ بين موسى وربي"، يقول ﷺ: 'ارجِع بين موسى وربي"، يقول: "كم فرض عليك"؟ قال: "خمسين صلاة"، قال: لا تطيق أمتك، ارْجِع إلى ربك فاسأله التخْفيف -يرجع-، سيدنا موسى يرى أنوار، وإذا كنّا سنقرأ الآن في الآيات عن أهل الجنّة (تعْرِف في وجوهِهم نضرة النعيم) فما رأيك؟ وكيف يكون وجه محمد؟ وقد: (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ) [النجم:8-9]، (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ) [النجم:11]، فكان يستجلي سيدنا موسى، ويرجع ثاني مرة، ثالِث مرة، رابِع مرة، إلى تاسِع مرة، "خمس" قال: اسأل ربك التخفيف، ارجع إلى ربّك.. قال: "استحييت من ربي"، فقال الحق: "أمضيتُ فريضتي، وخففتُ عن عبادي، هنَّ خمس ولهنَّ أجرُ الخمسين"، (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ) [ق:29].
فهؤلاء محجوبون عن الله تعالى، نعوذ بالله، ولما تذاكر بعض الصالحين في الصبر، ما أشدّ الصبر؟
بعضهم حاضر، ما ارتضى شيء مما يقولون، قال: ما تقول في الصبر؟! قال: أشدّ شيء الصبر عن الله، في احد يقدر يصبر عن الله؟ قال: الصبر عن الله أشدّ شيء، لا يُقدر..
(فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) [البقرة:175]، هؤلاء المحجوبون عن الله تعالى هذا أشد، ولذا قال بعض العارفين في سؤاله للرب: إلهي مهما عذّبتني بشيء فلا تُعذّبني بِذُلّ الحِجاب، فلا تُعذّبني بذلّ الحِجاب! .. مساكين الذين يعيشون في الحِجاب في هذه الحياة، لا يشْعُرون بحقائق الإيمان واليقين والمعرِفة، وتمُرّ أعمارُهم هكذا.. قد رثيَهم بعض أهل الصلاح قال: مساكين أهل الدنيا؛ خرجوا من الدنيا ولم يذوقوا ألذّ شيء فيها، قالوا: وما ألذّ شيء فيها؟ قال: معْرِفة الله، ما ذاقوها.. يذوقوا تفاحة أو برتقالة أو طماطم، ژو يشرب له ببسي! لكن ما ذاق معْرِفة الله، مسكين.. فماذا تُغْني هذه الأذواق؟!.
يقول الله: (كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ (15))، ولما رأى بعض الصالحين جماعة في غفلة ولهو، والمؤذّن يؤذّن وقت صلاة المغرب وهم غافلون، يقول: الله أكبر الله أكبر ولا ينْتبِهون قال:
حُجِبوا و حسْبِهم الحِجاب عذابُ *** يا ليتهُم سمِعوا النداء فأجابوا
عكِفوا على كسْب الذُنوب وليت إذ *** عكِفوا عليها بعد ذلك تابوا
ثم قال: إنما يُتخيّل لهم في نُفوسِهم، ويُخيّل لهم الشيطان من راحة في شيء مِن هذه الأفعال والإعراض عن الله تعالى، أمر حقير، وتصوّره غير سليم..
ماذا يفيد صفا المعاش و بعدهُ *** غُصص المعاد وكرُبَة وحِسابُ
دقِق بفكرِك يا فطين فإنها *** عبر بها قد حارت الألباب
حُجبوا وحسبهم الحجاب عذاب.. فنسأل الله أن يكْشِف عن قلوبنا الحِجاب وأن يفتح لنا الباب.
قال عن هؤلاء القوم: (كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ (15)) يوم القيامة (لَّمَحْجُوبُونَ)، كما قال في الآيات الأخرى: (وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [آل عمران:77]، محجوبون نهائيا، مقطوعون عن الله، -نعوذ بالله من غضب الله-.
حتى صورة السجود لله لا يستطيعونها: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ) -يعني يظهر الشِدّة والجِد- (وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ) [القلم:42]، تصير كاللوح الواحد والحديدة الواحدة، رؤوسهم وظهورهم وأرجلهم لا تقدر على السجود: (وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ۖ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ) [القلم:42-43]، قادرون على أن يسجدوا في الدنيا ما رضوا يسجدوا، فالآن ما عاد يقدرون.. يسجد المؤمنون وهؤلاء لا يسجدوا لا يقدروا.. يقول: (وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ * فَذَرْنِي) -يقول الحق: اتركني- (وَمَن يُكَذِّبُ بِهَٰذَا الْحَدِيثِ) ماذا ستعمل لهؤلاء الطائفة؟ قال: (سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ ۚ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) [القلم:43-45]، فويل لهؤلاء المعُاندين الجاحِدين.
يقول تعالى: (كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ (15)) وإنما يكون الحِجاب عن الشيء؛ إمّا عن العلم به، أو عن رؤيته، عن العلم به لا.. لا يحجبهم، كلهم عرفوا ربهم وكلهم قالوا: آمنا، حتى فرعون عند الغرق قال: (آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [يونس:90]، وكلامك هذاك؟!
كل هذا الكلام ما عاد شيء له قيمة! (لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ)! كله كذِب.. كذّب نفسه بنفسه ورجع..لكن عند الغرغرة لا ينفع الإيمان، قال: (آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [يونس:90]، هم أولئك موسى وقومه؛ هو ربهم، هو ربي هو ذا ولا رب غيره، وربوبيتك أين ذهبت؟! وأيضًا تقول؛ ربكم الأعلى! ليس ربكم.. فقط، ربكم الأعلى، والآن كيف؟ أين ذهبت؟ عند الغرق ذهبت؟! ولا شي.. هذه حقيقة الكفر، هذه حقيقة الكفر بكل أصنافه.. هي هذه حقيقته لا شي.. لا شي (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا ۖ وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ ۖ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [العنكبوت:41]، ليس تحتها شيء، وسواءً كانت أصنام، وإلا أفكار، وإلا أحزاب، وإلا تكنولوجيا، ولا أي شيء صد عن الله وكذب به هذا هو نفس الشيء، ثم يرجع لا شي خلاص ما عاد.. وسنين وأنتَ وأنتَ (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ)، (سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ) [الأعراف:127]، (ولتعلمنّ أينا أشد عذابا وأبقى) [طه:71]، والآن في الغرغرة، يقول: (لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ) [يونس: 90]، وكلُّ الكلام هذا كذب؟! كم من خطاب؟ كم دعايا؟ كم من تحدي؟ كله ذهب؟! كيف ما ذهب؟ ذهب.
بقي كلام موسى، كلام موسى حق إلى اليوم، كلام موسى حق عند الموت، كلام موسى حق في البرزخ، كلام موسى حق يوم ينفخ في الصور (هَٰذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) [يس:52]، والكلام الثاني الذي خالف الأنبياء كُلّه باطل، كُلّه رايح، ليس تحته شيء (وَمثل الَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا) [النور:39]، من بعيد عندما تراه، تقول: ماء كثير ضخم.. ايوا ضخم، تعال واشرب، لما تصل الى عنده، تجده تراب.. لايوجد ماء، ولا قطرة.. (حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ۗ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [النور:39]، -جل جلاله-.
(كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ (15)) إذًا غير محجوبين بهذا.. علِموا وآمنوا كّلُهم، لكن محجوبون عن ماذا؟ عن رؤيته.. هذه الرؤية التي قلنا بالمعنى الذي أراده الله ورسوله بعيدة عن الجسْمية، بعيدة، بالتنْزيه التام الكامل لله -تبارك وتعالى- عن أن يُحد أو يُحصر في جهة، أوأن يُشابه شيئا من الكائنات، تعالى الله عن ذلك عُلُوًّا كَبِيرًا.
لكن إطلاق لفظ الرؤية على معنى بعيد عن هذا التصوّر شيء، ونحن نستعمل ذلك في لُغتنا العربية من دون أمر لأن يكون في جهة أو في جسمانية، يقول: أنا رأيتُ المسألة هذه تكون كذا، رأيت المسألة، قل لي عرضها كم؟! ما لونها ؟! رأى المسألة.. رأيت؟ ما هذا؟! .. قال: رأيت، هذه اللغة التي جاء بها القرآن، فهناك معنى للرؤية لا يتعلق بالجسمانيات ولا يتعلق بالأشكال ولا بالجهات كذلك، لكنه انكشاف للأمر واتضاح له عظيم. فكذلك أن ينالوا من شريف القُرب مِن الرحمن وانكِشاف حُجُبٍ بينهم وبينه حتى يشْهدوا من عِلُوّه وجلالِه وجمالِه وكمالِه ومعاني أسمائه وصِفاتِه؛ ما يُعبّر عنه بالرؤية هذا الذي أثبته الحق ورسوله.
(كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16)) وهل تطيق النار أن تُؤلِم وتُعذب إلا من حُجِب عن الله؟ أما من لم يُحْجب عن الله فالنار لا تطيقُه، ولا تطيق تؤذيه ولا تُعذِّبُه:
بل يُروى أن النار تقول للمؤمن عند المرور على الصراط: "مر أحرقني نورك" امش، وشاهِد هذا أن النبي يقول عن الله تعالى: "إنَّ رحمتي علت غضَبي". فنور المؤمن من رحمة الله، والنار من غضب الله، والرحمة تعْلو الغضب وتسْبِق الغضب، فلهذا لا تُطيق النار هذا النور وتقول: ابْعِد -روح- ايها المؤمن؛ لأن نورك يُضاد النار فكذلك يقول الحق تعالى: (كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16)) فلا تُطيق النار إلا تعذيب من حُجِب عن الرب -جلّ جلاله- وذاك حقيقة العذاب، فكفى به عذاب، كيف إذا أوذي إليهِ تحريق أيضا الأجساد بالنار، فالبواطن محْروقة بألم الحِجاب، وجيء للأجساد وعُذِّبت بالتصْلية بالنار، عذاب فوق العذاب.
(ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16)) يصْلونها، يُلازِمونها ويُحْرقون بها، يُشوَون فيها تشْويه. (ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ)، (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا) [النسا:56]، يعني على قدر إجرامُهم وكفرِهم تكْبُر أجسادهم من أجِلْ أن تحترِق أكثر، فكبار الكفار يبْلغ سِنّ الواحد مِنهم كجبل أحد -ضرس الكافر في النار كجبل أحد-، يبلغ مسيرة جِلده -غلظ جلده- مسيرة ثلاثة أيام، غلظ الجلد من أجِلْ أن يذوق الحريق -والعياذ بالله-.
أمّا المؤمنون فكما صح في الأحاديث "أنهم يدخلون الجنة يُنشؤون نشأة آخرة على صورة أبيهم آدم سُتون ذراعا طول وسبعة أذرع عرض" -جعلنا الله من أهل جنّته-.
(ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ) -لهم على ألسن الملائكة- (هَٰذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ (17))، كنتم تضْحكون على الأنبياء والرسل وعلى أتباعِهم وتكذّبون بالنار.. هذا هو الذي كنتم تكذّبون به، أنتم الآن فيه.. الله.
ما الذي أوْقعكم في التجرّي على إلهكم؟ ما الذي أوصَلكم إلى هذا السوء في مُعاملة خالِقُكم؟ كنتم تكذّبون بهذا خذوه الآن (هَٰذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)) كما يقول في الآية الأخرى: (اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ ۖ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الطور:16].
يقول سبحانه وتعالى: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ * يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا * فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ * يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَىٰ نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَٰذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَٰذَا أَمْ أَنتُمْ لَا تُبْصِرُونَ * اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ ۖ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ * فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ ۖ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ) [الطور:7-20].
يقول تعالى: (ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَٰذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)) ومن عادة ربِّنا إذا ذكر الصنف المبْعود المطْرود، يذكر الصنْف المُقرّب المسْعود، إذا ذكر الجنة ذكر النار، إذا ذكر أهل العذاب ذكر النعيم وهكذا..
(إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22)) يقول سبحانه وتعالى: (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18))، كلا: حقا إن كِتاب الأبرار لفي عليين، أو ردْعغ لهم بهذا التكذّيب الذي هم عليه (إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ) أخبارهم صِفاتهم أحوالهم أعمالهم جزاءاتهم مثوباتهم آخِرتهم (إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ) ما يُكتب عنهم (لَفِي عِلِّيِّينَ (18))، لفي عِلْيين: في عِلو، في رِفْعة، في شرف يتصل به في عالم الحس، أنّ الذي يُكْتب عنهم محفوظ في أمّ الكتاب، ويعْملون الأعمال فترفعُها الملائكة وتُسلِّمُها إلى من فوقِهم، فيأخذها منهم المُقرّبون ويحْفظونها لهم هُناك، ولها علاقة بالسموات:
وفي هذا كله جاء تفسير عليين عن الصحابة والتابعين:
والسماء الرابعة من جملة عليين، قال الله عن سيدنا إدريس (وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا) [مريم:57]، في السماء الرابعة، أخبارهم ما بين السماء الرابعة والسماء السابعة وعند العرش ومع المُقرّبين مِن الملائكة، ومُقرّبي كلِّ سماء يزفّون بأعمالِهم وأخبارهم، إذا طلعت من الأرض، يزُفّونها إلى من قبلهم، الله!! هؤلاء أخبارهم.
أولئك أخبارهم في سجّين، وهؤلاء أخبارهم في عليين، فانظر الفرق ما بين الفريقين، اليوم يغرونك يصلّحون شيء مُقارنة بين البِلاد الفُلانيّة والبِلاد الفلانيّة في التفاوت بينهم.. انظر! ربي يذكر التفاوت بين الفريقين:
وبعد ذلك هذا أمر دايم وذاك مُنقضي، ما اسرع مايغرونك ويُحرِّكونك! وهذا الربّ يذْكُر الفوارق الكبيرة بين الفريقين.
(كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18)) اللهم الحِقنا بهم (وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19)) أمر عُلو ورِفْعة وإكرام وإجلال وعظمة كبيرة، يا هنيئا لمن عظّمه ربه، وأكرمه ربُّه، ورفع قدْره ربُّه! رفيع الدرجات سُبحانه (نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ) [يوسف:76].
يقول: (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19)) يعني ما أعظم ذلك وأجلّه (كِتَابٌ مَّرْقُومٌ (20))، مكتوب، معلوم، عليه سيما الرّفعة والشرف والكرامة، وذاك مرقوم عليه سيما الضِعة والمهانة وهذا مرقوم أيضاً، كِتاب عليين كِتابهم مرقوم (يَشْهَدُهُ) يحضره ليس إبليس وجنده مثل أولئك (يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21))، فأخبار هؤلاء عند المُقرّبين مِن الملائكة كثير، فلان فلان فلان كم تذكر الملائكة فلان فلان.
وعندنا في الصحيح انه ﷺ أخبر: إذا أبرز محبّةً مِنه لِعبد من عِباده في الأرض، لم يكن قد سبق إبرازها مِن قبل، وأبرَزها الحق، يُنادي جبريل: يا جبريل، إنّي أُحِبُّ فُلان بن فلان -أنظر فلان ذاك الذي في الأرض؛ بشر من البشر-، إنّي أُحِب فُلان ابن فلان فأحِبّه، -لبيك يا رب- فيتعبّد جبريل بمحبّته، قال: ثم يأمره أن يُنادي في أهل السماء يا أهل السماء؛ إن الله قد أحب فلان ابن فلان فأحِبوه، قال: فيُحبه أهل السماء ويوضع له القبول في الأرض، هذا صِنف من المحْبوبين.
وصِنفٌ يُنادى عليهم في عالم الأرواح من قبل أن يأتوا، أن فلان المحبوب سيولد في وقت كذا مكان كذا، وفلان المحبوب سيعيش في مكان كذا، وفلان المحبوب سيموت في يوم كذا، ويأتيه كذا، خبر محبته مُنتشِرة مِن قبل، وبعضهم يُخْبئ الله نصيبه من المحبّة حتى يبْرُز على ظهر الأرض ويعمل بالصالِحات والطاعات ويتقرّب بالنوافل وبعد ذلك يظهر محبّته تعالى؛ تعال ياجبريل إنّي أُحِب هذا.. فهؤلاء الذين يلحق ظُهور محبّته لهم.
وأمّا المحْبوبون الكِبار قد عندهم أخبار الأنبياء وأخبار المُقربين وأخبار المُقربين الكبار مِن قبل ما يخلقون، وقبل ما يأتون إلى الأرض هم محبوبين، وملائكة السماء مُتعبدة بِحُبِهم، فكيف لا نُحِبُهم نحن! ونحن نُحِبُهم مِن أجله -سبحانه وتعالى- ولهذا في الحديث الصحيح: الحُبُّ في اللهِ والبغضُ في اللهِ مِن أوثقُ عُرَى الإيمانِ، قال النبي في دعائه: نُحِب بُحُبِك الناس ونُعادي بعداوتك من خالفك من خلْقِك.
(كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21))، صحّ أخبارهم مُنتشرة في العالم الأعلى، وهكذا حتى أهل البرازخ يرون أنوار لم ترَها الملائكة، يقول: ما هذا؟ فيقولون: هذا نور عمل فلان بن فلان الذي سيقْدُم علينا في يوم كذا، يقول: هذا إنسان محبوب عند الله في الدنيا والبرزخ، يقولون: هذا فلان سيقْدُم علينا البرزخ في يوم كذا كذا سيمرُّعلينا، فيترقّبون مجيئه من قبل، لهذا لما رأى الفقيه المقدّم شيْخه -علي بن أحمد با مروان- يقول له: كيف رأيت أهل البرزخ؟ قال رأيت لك ذكرًا بينهم، ورأيتهم يتمنّون مجيئك كما يُحِب أهل حضرموت الرُطب ومجيء الرُطب والخريف، قال: رأيتُ لك ذكرًا في ذاك العالم -سبحان الله-، وهكذا يفعل الملِك بمن يُحِب.
اللهم إنّا نسألك حُبك وحُب من يُحِبك وحُب عمل يُقرِّبُنا إلى حُبك، نزّه قُلوبنا عن التعلّق بمن دونك واجعلنا من قومٍ تُحِبهم ويُحِبونك، يا أرحم الراحمين يا أرحم الراحمين يا أرحم الراحمين. ولهذا بات الصحابة يدوكون ليلتهم، ليلة أن أعطاهم خبر عن محبّة، وقال: "لاعطِيَنَّ الرَّايَةَ رجلًا غَدًا يُحِبُّ اللَّهَ ورَسولَه، ويُحِبُّهُ اللَّهُ ورَسولُهُ"، فباتوا يدوكون ليلتهم، داعي العِشق حرّكهم، ما عاد جاءهم النوم،
وكانوا يعلمون أن سيدنا علي مُتخلّف بمرض في المدينة وما لحق الغزوة، في تِلك الليلة وصل، ووصل بمرضِه، بل قد أشتدّ عليه الرمد في تلك الليلة حتى أصبح لا يستطيع فتح عينيه من شدة الرّمد، فلما الْتفتَ إليهم، قال: أين علي؟ قال الذين علِموا بحاله: نزل بالخيمة جنبكم، وصل البارحة، هنا موجود، قال: أدعوه، وجاءوه وقالوا: النبي يدعوك، قال: واحد يأخذ بيدي -امشوا بي- لا يقدر أن يفتح عينيه، أمسكوا بيده يقودونه مثل الأعمى حتى قدّموه عند النبي، بصق في يديه وقرأ ومسح عينيه، فتّح ما به شيء.. رجعتْ العين كما هي، ثم لم تألمه عينه إلى أن مات، من ذاك اليوم؛ لا ألم، ولا رمد، إلى أن توفي -صلى الله على الطبيب-، عمِل له عملية سريعة بسرعة عجيبة -سبحان الله-! لا تخدير لا تفتير ولا شيء -سبحان الله- ﷺ.
وأعطاه الراية؛ امضِ ولا تلتفت، وفيها قال له: "ادعهم إلى الإسلام، فوالله لأن يهدي الله بك رجلًا واحداً خيرٌ لك من حُمر النعم"، لكن الصحابة يقول سيدنا عمر: ما تمنيت الإمارة منذ أسلمت إلا تلك الليلة.. -ليس من أجِلْ الإمارة، لكن من أجِلْ؛ "يُحِب الله ورسوله ويُحِبه الله ورسوله".
فنسأل الله المحبّة مع الُلطف والعافية، وأن يرزقنا نصيبا وافراً؛ يا الله بِذرّة مِن محبّة الله، نفنى بها عن كلّ ما سِوى الله، ولا نرى مِن بعدِه سِوى الله، الواحد المعْبود رب الأرباب، على بِساط العِلْم والعِبادة يا رب العالمين، لا تجعل فينا محْجوبًا عنك ذاك اليوم، بجاه حبيبك محمد سيد القوم، وباقي رمضان أسْعِدنا فيه سعادة كُبرى تُزيح فيها الحِجاب، وتفتح لنا الباب، وتُدخِلنا مع الأحباب يا فتّاح افْتح لنا بابك، واجعلنا من جُمْلة أحبابك، في خير ولطف وعافية.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
24 رَمضان 1437